تأريخ مكّة دراسات في السياسة والعلم والاجتماع والعمران - ج ١-٢

أحمد السباعي

تأريخ مكّة دراسات في السياسة والعلم والاجتماع والعمران - ج ١-٢

المؤلف:

أحمد السباعي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الطبعة: ٠
ISBN: 9960-660-17-6
ISBN الدورة:
9960-660-18-4

الصفحات: ٧٩٣

أن يستغني عن الغاء المكوس لأنها مورده الوحيد لهذا ما لبث أن اعاد المكوس الى ما كانت عليه بعد أن خفف بعضها وما لبث أن عاد الى عنفه مع مناوئيه.

ويورد الفاسي (١) بيان المكوس التي كانت مقررة في ذلك العهد على اساس النقد المسعودي في اليمن مما يدل على أن مكة كانت تتعامل به ذلك الحين وقد جاء فيه ان المقرر على حمل الجمل من الحنطة (٢) هو مدان بكيل مكة وهي نظرية

اقتصادية تعمل بها أكثر حكومات اليوم لتحد من واردات الخارج وتشجع الانتاج الداخلي.

يمضي الفاسي في بيان التعرفة الجمركية فيذكر أن المقرر على الحمل البصل هو ثلاثة دنانير مسعودية وهو مقرر فادح اذا قارنا ذلك برخص الأسعار في العالم في ذلك العهد ثم يذكر المقرر على السمن والعسل والخضروات وهو ما يوازي ٢٠% من أثمانها أما التمر فمقرره على السلة (٣) الواحدة دينار مسعودي ولم يذكر لنا الفاسي ثمن السلة لذلك العهد لنستطيع تحقيق نسبة ما يؤخذ منها.

ثم يعلق الفاسي على هذا فيقول أن الناس كانوا يقاسون شدة من ذلك وقد بلغه أن بعضهم استورد شاة فلم تساو المقدار المقرر عليها ومنه نعلم أن هذه المقررات كانت فادحة بنسبة أثمانها في زمانها واذا استطعنا أن نعذر أصحاب الأمر يومها في فرض المكوس لتغطية النفقات الضرورية فاننا لا نستطيع أن نعذرهم في تقرير النسب المرهقة والذي أظنه أن نظرتهم الى المكوس كانت اوسع

__________________

(١) شفاء الغرام ٢ / ٢٤٩

(٢) الحمل بكسر الحاء هو وسق بعير ويقدر في الحنطة وامثالها بأردب أي ستين كيلة من كيل مكة اليوم

(٣) السلة : بالفتح : كمية من تمر العجوة تزن ـ غالبا ـ قنطارا ونصف القنطار موعنة فى ماعون من سعف النخل أو نحوه ، فهى فى الحجاز كالقلة عند أهل هجر. (ع)

٣٢١

من أن تختصر على تغطية نفقات الدولة وأن لهم مطالب خاصة بهم لا تسعها الا المقررات الباهظة والواردات الضخمة.

على ان هذه الشكاوى من فداحة الضرائب لم تقف عند حد التذمر المحلي فقط فيما يظهر اذ لا بد أنها تعدت الى اوسع من ذلك حتى اتصلت بحاكم مصر شعبان بن حسين بن الناصر قلاوون المتولي عام ٧٦٤ فأراد أن يفعل شيئا مفيدا لسياسة بلاده فقرر أن يكلف خزانة مصر بعض الهبات لحكومة مكة فيربح ثواب ذلك عند الله والتاريخ ويوثق الصلة بينه وبينها وقد أمضى ذلك فعلا لأننا نجد الفاسي (١) يذكر في حوادث سنة ٧٦٦ أن سلطان مصر رسم لحكومة مكة ثمانية وستين ألف درهم من بيت المال وألف أردب قمح سنويا مقابل الغاء المكوس على الحاج في كل ما يحمل اليها من المتاجر عدا ما يصطحبه تجار الهند والعراق من البضائع وقد قبل عجلان صاحب مكة ذلك وطابت نفسه به.

ويلاحظ القارى انهم لم يدرجوا حاج الهند والعراق في المعفين من الرسوم ولعله يدرك أن السبب في هذا كون العراق هو القطر المنافس بالنسبة لنفوذ المصريين في مكة ومن المظنون أنه كان ينافس بتجارته تجارة الاقطار الاخرى والمصريين منهم خاصة ولا استبعد أن الحكومة العراقية كانت تكلف خزينتها كثيرا في سبيل عرض السلع الخاصة بها في مكة بأقل من أثمانها كما كانت تفعل اليابان في عز مجدها من سنوات سلفت كما لا أستبعد أن الهنود كانوا يستعملون لترويج بضائع العراق بجانب بضائعهم.

وقد ظل الغاء المكوس بالنحو الذي أسلفنا جاريا في مكة يعمل به جميع الأمراء الى مدة طويلة.

__________________

(١) شفاء الغرام ٢ ك ٢٤٩

٣٢٢

وعلى الرغم مما كانت تحاوله مصر لتثبيت علاقاتها بمكة وما كانت تنفقه في سيل استمرار الدعوة لها على منبرها فان سياسة عجلان معها كانت أشبه ما تكون بسياسة اللاعبين على الحبال فقد كان يقبل هباتها ويدعو باسمها على المنبر ولكنه يخالف مقترحاتها في بعض ما يعن له وكأنه أراد ألا تثبت عليه تبعية.

كما كان يستثير عنادها احيانا فيدعو لغيرها معها وفي هذا يحدثنا الفاسي (١) في حوادث سنة ٧٧٢ أن عجلان أمر خطيب مكة ابا الفضل النويري أن يدعو للسلطان اويس بن حسن صاحب بغداد في منبر مكة. قال : وقد أهدى السلطان قناديل جميلة للكعبة وهدايا فخمة لأمير مكة عجلان وقد ظل الدعاء لصاحب بغداد مدة لا يدري الفاسي مقدارها.

وعلى العموم فقد كان عجلان من أمراء مكة القلائل الذين استطاعوا أن يثبتوا شخصيتهم في الحكم وأن ينهجوا في سياستهم نهجا خاصا له أثره الطيب في علاقته بمصر وغيرها.

وينقل لنا ابن خلدون في تاريخه ديوان العبر ان عجلان كان معروفا بالعدل بين الرعية متجافيا عن الظلم وأنه أبطل ما كان عليه قومه من التعرض للتجارة والمجاورين.

ويذكر ابن فهد (٢) أن عجلان عندما تزوج أم السعد بنت القاضي شهاب الدين أمهرها سبعين ألف درهم ثم ما لبث أن طلبت اليه طلاقها لأنه يتوسع في بعض أموالها فطلقها.

وشب لعجلان ولد اسمه أحمد وقد أنس منه الطموح الذي شعر به في فتوته

__________________

(١) شفاء الغرام ٢ ك ٢٤٩

(٢) اتحاف الورى لنجم الدين ابن فهد القرشى «مخطوط»

٣٢٣

يوم استعجل الحكم في حياة ابيه فأراد أن يعالج طموحه دبلوماسيا فأشركه في الحكم وجعل له ربع المتحصل يصرفه في خاصة نفسه ولعله أراد بذلك أن يتركه يستعين بذلك المال في تهيئة الأبهة التي تشبع غريزته في الطموح ، فركن الولد الى هذا عدة سنوات كانت نهايتها عام ٧٧٤ ثم ما لبث أحمد أن انفرد بالحكم دون أبيه بعد أن اتفق مع أبيه على شروط منها : ألا يقطع اسمه من الخطبة والدعاء له على زمزم وغير ذلك وقد حلف لأبيه على المصحف العثماني (١) ووفى بما حلف وظل على ذلك الى أن توفي عجلان في عام ٧٧٧ فاستقل أحمد بالامر (٢). ونحن نميل الى الرواية السابقة عن ابن ظهيرة.

أولاد عجلان : اشتهر من أولاد عجلان خمسة هم : أحمد ـ وعلي ـ ومحمد ـ وكبيش ـ وحسن ـ وقد رأينا أحمد يشارك أباه فى الحكم ثم يستقل به قبل وفاة أبيه عجلان فى سنة ٧٧٧ وقد كتب الى سلطان المماليك بذلك فأيدوه ، وقد قرىء التأييد في المسجد وأقسم أحمد يمينا بالعدل وطاعة السلطان.

وجرى أحمد على سنة أبيه في اثبات مراسم العدل واحياء معالمه حتى شاع ذلك عنه في الآفاق على ألسنة الحجاج والمجاورين ، وقد ذكره الدحلان (٣) فقال انه كان شجاعا وانه جمع من الاموال والخيل ما لم يجمعه احد من اسلافه.

ويذكر الفاسي (٤) ان احمد استعان بابن صغير له اسمه محمد سنة ٧٨٠ ولكن هذا الابن لم يظهر له أثر في الحكم لصغر سنه.

__________________

(١) هو المصحف الذى كتب فى عهد عثمان بن عفان ومنه يستدل على وجوده فى مكة لذلك العهد.

(٢) افادة الانام للشيخ عبد الله غازى «مخطوط»

(٣) خلاصة الكلام ٣٣

(٤) شفاء الغرام ٢ / ٢٠٧

٣٢٤

وظل احمد بن عجلان على علاقته الطيبة بحكومة المماليك الأتراك في مصر يدعو لهم على منبر مكة ويتقبل هداياهم ، ثم ما لبث أن بلغه خبر سقوط حكومة مماليك الأتراك في عام ٧٨٥ وقيام حكومة المماليك الشراكسة على أنقاضهم بقيادة ابي سعيد برقوق الذي نادى بنفسه ملكا على مصر على أثر إستيلائه عليها ولقب نفسه بالملك الظاهر برقوق (١)

عندئذ أرسل من يمثله لدى البلاط الجديد ويقدم تهانيه ويعرض صداقته فسر الملك الجديد بهذه الرسالة الطيبة وأيد علاقته بأصحابها وعاد المندوبون الى مكة يحملون الهدايا والخلع ورسائل الود (٢).

وأعتقد أن المخصصات السنوية التي رسمها مماليك الأتراك ظلت على حالها ترسل الى مكة ، كما ظل الغاء المكوس معمولا به لأن أحدا من المؤرخين لم يحدثنا بعودة المكوس الى ما كانت عليه قبل الالغاء.

ووصل الى مكة في هذا العهد محمل من اليمن صحبة الحجاج اليمنيين عام ٧٨١ (٣) ولعل صاحب اليمن بلغته بعض القلاقل في مصر فأراد ان يغتنم الفرصة للدعاية لنفسه في مكة.

__________________

(١) كان مماليك الأتراك يستخدمون في أعمالهم مماليك الشراكسة ويولونهم كثيرا من الثقة فلما تقادم العهد وبدأ الضعف ينساب الى كرسي الحكم كانت شوكة الشراكسة المماليك اشتدت وقوى نفوذها فثاروا ضد اصحاب الملك أسيادهم من الاتراك كما ثار الاتراك من قبل ضد اسيادهم الأيوبيين وقد نجحت الثورة بقيادة رئيسها ابي سعيد برقوق الشركسى الذي اعلن نفسه ملكا على أثر انتصاراته فى عام ٧٨٥ ولقب نفسه بالظاهر برقوق وبهذا دخلت مكة فى علاقة جديدة مع مماليك الشراكسة فى مصر بعد مماليك الاتراك.

(٢) اتحاف الورى لابن فهد القرشي «مخطوط»

(٣) شفاء الغرام للفاسى ٢ / ٢٥٠

٣٢٥

وظل احمد بن عجلان على أمره في الحكم ثم عاد فأشرك معه ابنه محمدا في عام ٧٨٧ واستمر بعدها الى ان وافته منيته عام ٧٨٨ (١)

ويذكر الدحلان أنه مات في جوف الكعبة في عهد احمد هذا اربعة وثلاثون رجلا من شدة الزحام وذلك في سنة ٧٨١ (٢).

ومن الحوادث الهامة التي وقعت في عهد احمد أنه قبض على جماعة من بيته واقار به فيهم عنان بن عمه مغامس وسجنهم مقيدين في الحديد في سجن اجياد ثم ما لبث ان نقلهم الى سجن العلقمية بالمروة ، وذلك أن الظاهر برقوق رسم لهؤلاء مبالغ يستوفونها من أحمد فلم يوافق فثار النزاع وانتهى بالقبض عليهم ، وكتب اليه صاحب مصر أن يطلقهم فامتنع وقد حاول هذا النفر الفرار من سجنهم بعد ان ربطوا بعض ثيابهم بأحد الشبابيك ثم انتقلوا الى منزل مجاور فتنبه الحراس لهم وادركوهم الا عنانا الذي خلص الى خارج السجن ولم يشعر به احد وقد اتجه في فراره الى سوق الليل فصادفه كبيش بن عجلان جادا في البحث على ضوء المصابيح فاختفى منه ، ثم خلص الى بيت لاحد معارفه في شعب علي فخبأه في صهريج له وقد نمي ذلك الى كبيش فاسرع الى اللحاق به فاختبأ عنان في بيت امرأة يعرفها في المعابدة ، ولما جاء كبيش الى حيث اختبأ أكدت المرأة أنها لا تعرفه حتى اقتنع كبيش وعاد ، ومن ثم خرج عنان الى وادى خليص حيث كانت قد اعدت له ناقلة سريعة ركبها وولى هاربأ الى مصر فنزل ضيفا على اصحابها من مماليك الشراكسة يتحين الفرص للثأر ولم يمكث غير قليل حتى بلغ غايته من الثأر ، واستطاع أن يصل بمثابرته الى مركز الحكم في مكة بعد

__________________

(١) خلاصة الكلام ٣٠٤

(٢) المصدر نفسه

٣٢٦

أن تركها شريدا (١).

وبموت أحمد بن عجلان في عام ٧٨٨ انفرد بالحكم بعده ابنه محمد وتولى الوصاية عليه عمه كبيش وكان يدير دفة الحكم ويشرف على جميع اعماله (٢).

ولم يدم حكم محمد بعد ذلك أكثر من مائة يوم فقد أصابه مقذوف ناري في حفلة المحمل من موسم ذلك العام (٧٨٨) فقتله وذلك انه دعى الى حفلة استقبال المحمل ، وكان من رأي عمه الوصي أن لا يجيب الدعوة ولعله شعر أن بعض عناصر الأشراف من بني عمومته غير راض عن حكومته لهذا خشي أن يغتالوه في غمرة الاحتفال فاوصاه بعدم الحضور ، ولكن الصبي الأمير أبى الا ان يحضر وقد حضر فأصابه مقذوف ناري أثناء اللعب في الاحتفال وقد قيل ان الذي اغتاله في الحفل كان دسيسة بدافع من امير الحج المصري (٣).

كما قيل أن القاتل كان من بعض الباطنية ولم يتضح أكان الباطني من اشراف مكة لنعرف علاقة ذلك بسياسة الاشراف أم كان أجنبيا دفع الى القتل بدافع ديني لا علاقة له بالأشراف الا أننا وقد مررنا بالحادثة التي ذكرناها عن فرار عنان من سجن عمه احمد بالصورة التي مرت بنا نستطيع ان نربط بين الحادثين برباط وثيق.

ولا يكلفنا الدحلان (٤) عناء هذا الربط لأنه لا يلبث ان يذكر لنا على اثر مقتل

__________________

(١) افادة الأنام للشيخ عبد الله غازى «مخطوط»

(٢) شفاء الغرام للفاسي ٢ / ٢٠٦

(٣) منائح الكرم للسنجارى «مخطوط» وقال عبد القادر الجزيرى فى درر الفوائد المنظمة ص ٣١٤ : وكان امير الحاج المصرى آق بفا المارديني ، ولما وصل مكة خرج اميرها محمد بن احمد بن عجلان بعسكره الى ان حضر عند المحمل فاحاط به الترك الذين حوله فلما اخذ يقبل خف جمل المحمل على العادة وثب عليه باطنيان فجر حاه جراحات مات بها من فوره ، وحمل الى المعلاة.

(٤) خلاصة الكلام ٣٤

٣٢٧

محمد أن الذي قتله أمير الحج المصري ثم يقول : وقيل قتل في سوق منى بسكين مسمومة ، وقيل انه مات في احتفال المحمل ثم يسرد عبارته بالشكل الذي يتراىء فيه ارتباط الحوادث فيقول «وذلك أنه كان في جيش ابيه جماعة من اقاربه الأشراف ـ وهم الذين ذكرناهم ـ فلما توفي ابوه سأله سلطان مصر أن يطلقهم فأبى ثم كحلهم وهو يريد أنه سمل عيونهم بمسامير محماة فأضمر السلطان ولاية عنان بن مغامس «غريم ابيه» الذي فر من سجنه وهكذا سيره مع أمير الحج المصري وأمره بألا يظهر أمره الى بعد أن تجري مراسيم استقبال المحمل في مكة بحضور أميرها محمد فلما حضر محمد الاحتفال انطلق مقذوف ناري اصاب الامير فارداه قتيلا ـ وهكذا ثأر لنفسه من ابن عمه وبه ارتبطت حوادث اليوم بحوادث الامس ونادى على الاثر عنان بن مغامس بنفسه اميرا.

وقد دافع اخوان المقتول من أولاد عجلان وأصحاب حزبهم فلم يجدهم ذلك وهجم الترك بسلاحهم حتى انتهوا الى أجياد فأوقعوا في من ثبت من أصحاب محمد وكان ذلك في ذي الحجة من العام المذكور ٧٨٨.

عنان بن مغامس : وهكذا تولى الامر عنان بن مغامس (١) وقد استعان في حكمه بنفر من بني عمه هم احمد بن ثقبة وعقيل بن مبارك وعلى بن مبارك على امل ان يساعدوه في استقرار الامور ولكن الامور ابت ان تستقر ، لأن كبيشا عم الامير المقتول ووصيه أثارها شعواء ضد المتولين الجدد في أوائل العام ٧٨٩ وساعده اولاد عجلان اعمام المقتول ، وقد اتجهت الثورة الى جدة فاستولى عليها

__________________

(١) من اوليات عنان في مكة انه اعفى سدنة الكعبة من الاموال التي كان يحصلها منهم أمراء مكة قبله وكانوا يأخذون منهم جانبا من كسوة الكعبة أو خمسة الاف درهم عوضا عن ذلك مع ستارة الكعبة وثوب مقام ابراهيم عن ، كتاب افادة الأنام للشيخ عبد الله غازي»

٣٢٨

العم كبيش ونهب الثائرون اموال التجار في جدة من الحضارم واستولوا على الغلال التابعة لمصر فيها (١) ولعل الثائرين ارادوا بذلك أن يمونوا ثورتهم بأموال التجار من الأهلين وبالغلال الخاصة بحكومة مصر من الشراكسة الذين اغتالوا أميرهم الصغير واختاروا خلفه من غير ولد عجلان وقد أعانهم على الثورة بعض أقارب عنان المتولي الجديد في مكة ، وقد مضت الثورة تأخذ طريقها من جدة الى مكة مكتسحة أمامها جميع ما صادفها ، وقد عبث العبيد فيها باموال العرب النازلين في الطريق والمسافرين به ، ثم انتهى الثوار الى وادي فاطمة حيث ظلوا يعدون عدتهم للهجوم على مكة واستخلاصها من حكم عنان (٢).

علي بن عجلان : وانتهى الخبر الى الشراكسة في مصر فندموا على نقل الحكم من اولاد عجلان ، وأرسلوا مرسوما جديدا بتولية الابن الثاني لعجلان وهو علي بن عجلان فكان انتصارا لأولاد عجلان الثائرين وقد جمع اولاد عجلان جموعهم ليدخلوا مكة مع كبيش رأس الثائرين ، ولكن عنانا وأنصاره من اولاد رميثة أبوا أن يخضعوا لمرسوم الشراكسة وتقدموا للدفاع عن حكمهم في مكة ، فكانت موقعة شديدة سالت فيها الدماء غزيرة بين الفريقين في شعب اذاخر (٣) وقتل فيها كبيش وكبار من أنصاره وذلك في ٢٩ شعبان سنة ٧٨٩.

وأهل رمضان فتنادوا بالهدنة وعاد آل عجلان الى وادي فاطمة (٤) وآل رميثة

__________________

(١) شفاء الغرام للفاسي ٢ / ٢٠٧

(٢) وتوجد ذرية عنان اليوم وهم الاشراف ذوو عنان في قرية الخوار بين خليص وساية ، وهم فلاحون أقرب الى البداوة منهم الى الحضارة (ع)

(٣) شعب يتصل بأعلى المعابدة الى الزاهر ويسمى اليوم «خريق العشر»

(٤) هو وادى مر المعروف ويبعد عن مكة نحو ٢٣ كيلومتر

٣٢٩

الى مكة ، وطالت الهدنة حتى وافى الموسم من تلك السنة ٧٨٩ وجاءت وفود الشراكسة تحمل اليهم حلا جديدا من مصر : هو ان يشترك في الحكم عنان من اولاد مغامس وعلي من اولاد عجلان ، ويبدو ان عنانا لم يعجبه هذا الحكم فانتقل بأنصاره الى الزيمة من وادي نخلة ، ثم سافر الى مصر لمقابلة ملك الشراكسة ، وبذلك استولى علي بن عجلان على مكة وانفرد بولايتها (١).

وفي أثناء سنة ٧٩٢ عاد عنان من مصر يحمل مرسوما جديدا يخوله حق الاشتراك مع علي بن عجلان فرضي علي بالشركه وكان قد استرضى اكثر الاشراف في المدة التي غاب فيها عنان ، فلما عاد لمشاركته في الحكم كانت ميول الأشراف قد اتجهت الى علي بن عجلان بقدر ما كانت ميول الشراكسة تتجه الى عنان (٢).

وما لبث الشريكان الا قليلا. حتى اتفق جماعة من أنصار علي بن عجلان على الفتك بعنان في المسعى ، فلما بلغ ملك الشراكسة الظاهر برقوق ذلك استدعى الشريكين الى مصر ثم ترك عليا يعود الى الامارة منفردا بينما سجن عنانا عنده.

وظل على امارة مكة منفردا الا ان حكمه الاخير لم يظفر بالاستقرار المنشود لأن اشراف مكة الذين استرضاهم لم يلبثوا ان شعروا بشدة وطأته ، فقد سجن جماعة منهم وأهانهم فعادوا الى مناوأته واشتدت المناوأة حتى نال الناس تعب شديد وكثرت القلاقل والفتن واضطرب الأمن وشعر التجار اتهم غير آمنين فارتحل أكثرهم الى ينبع فرارا من الفوضى ، ودام الامر على ذلك حتى تغلب مناوئوه عليه فقتلوه في شوال سنة ٧٩٧ (٣).

__________________

(١) شفاء الغرام للفاسى ٢ / ٢٠٧

(٢) المصدر نفسه

(٣) منائح الكرم للسنجارى «مخطوط»

٣٣٠

محمد بن عجلان : ولما قتل علي قام بالامر بعده اخوه محمد بن عجلان وهو الابن الثالث لعجلان ولعله اراد ان ينجح في تهدئة الاحوال في مكة وأن يظفر بتأييد الشراكسة في مصر والاهالي في مكة فلم يستطع لضعفه وعجزه عن ادارة البلاد وبذلك تفاقمت الفوضى واشتد النهب والقتل.

واختطف بعض القواد ـ ولعله من الشراكسة ـ شيئا من المسجد الحرام واحتمى ببعض اصحابه فجرى بينهم وبين الحاج قتال شهرت فيه السيوف بالمسجد الحرام واتصل القتال بالشوارع وتحركت قوات امير الحج الحلبي من مخيمها في الابطح فهاجمت القواد في معسكراتهم باسفل مكة الى جهة الشبيكة وجرى بين الفريقين قتال كان الظفر فيه للقواد.

ولم ينته الامر عند هذا فقد اغرت الفوضى بعض اللصوص فقاموا يضعون ايديهم في اموال الحجاج والاهالي وتطور النهب يرم التروية في مكة وعلى الطريق الى عرفات وفي ليلة الافاضة بين المأزمين وفي الطريق الى مزدلفة ثم تفاقم الامر في مكة فنهبت كثير من بيوت الاهالي ووقع السلب في حاج اليمن ولم يستطع محمد بن عجلان لفرط عجزه أن يقمع الفوضى أو يعيد الاستقرار (١)

وفي هذا العام اصطحب الحاج الشامي معه الى مكة محملا من حلب وفيه حج العراقيون بعد انقطاعهم مدة طويلة ، وكان عددهم قليلا فلم يتجاوز ركبهم خمسمائة جمل (٢)

__________________

(١) شفاء الغرام للفاسي ٢ / ٢٥٠

(٢) المصدر نفسه

٣٣١

حسن بن عجلان : وفي هذه الاثناء وبين غمار هذه الفوضى لمع اسم جديد في مكة هو حسن بن عجلان الذي كان من اشد اخوته حزما وايمانا بنفسه ، ولعله لم يكن من ابناء عجلان مثله في قوة الشكيمة والقدرة على ضبط الامور وقد عده أصحاب التراجم من العلماء وأصحاب الفضل (١).

والذي يبدو من ثنايا ما كتبه المؤرخون أن حسنا كان غير راض عن الفوضى في عهد اخيه وانه توجه الى مصر في عهد حكم اخيه علي قبل قتله بعام واحد فدس علي عليه لدى الشراكسة فاعتقلوه ظنا منهم انهم بذلك يساعدون عليا على وجود الطمأنينة في مكة لكن الامر لم يلبث ان بدا على عكس ما يظنون فان الثورة ما لبثت ان اشتد أوارها حتى انتهت بقتل علي وقيام اخيه محمد بعده ، ولعل الشراكسة انتظروا بضعة اشهر ليروا تأثير حكم محمد في تهدئة الاحوال ، فلما خاب فألهم عادوا يفكرون في اسيرهم حسن وعند ذلك اطلقوا سراحه وكتبوا مرسوما بولايته على مكة فشد رحاله الى مكة وتسلم زمامها من أخيه في ٢٤ من ربيع الآخرة سنة ٨٠٩ بدون قتال (٢).

وقد استطاع ضبط احوال البلاد وحسم اسباب الفساد فيها ونظر الى الفوضويين من ابناء عمومته من الاشراف نظرة قوية حازمة اراد بها ان يمهد للموسم الجديد تمهيدا طيبا ليعود الهدوء الى البلاد قبل حلول الموسم فأعد لهم حملة تأديبية قاسية صبحهم بها في مكان بواد فاطمة كان يقال له الزبارة وذلك في ٥ شوال من السنة نفسها وقد نجحت الحملة نجاحا راح ضحيته نحو

__________________

(١) اتحاف فضلاء الزمن للطبري المكي «مخطوط»

(٢) افادة الأنام للشيخ عبد الله غازي «مخطوط»

٣٣٢

أربعين شخصا (١) من الاشراف وانتهى بالهدوء والاستقرار واستطاع التجار الفارون بأموالهم من الفوضى أن يعودوا الى متاجرهم في مكة.

وفي هذا العهد اهدى بعض ملوك الاسلام الى المسجد الحرام شيئا من الخيام وطلب اقامتها في صحن المسجد ليستظل بها المصلون من الشمس يوم الجمعة قريبا من الخطيب وقد قبلها حسن واقامها منصوبة في المسجد الا ان المصلين كان يتعثرون في اطنابها فما لبث أن ابطلها (٢).

وفي هذا العهد مات امير المدينة ثابت بن نصير (٣) فأرسل حسن الى احد أخوة المتوفى واسمه عجلان بن نصير يستدعيه الى مكة فلما حضر فوض اليه أمر المدينة وقبل ان يغادر مكة وافت الانباء بأن جمنازا بن هبة ثار بالمدينة واستولى على ستارة باب الحجرة النبوية وعلى مخازن المسجد بما فيها من هدايا نفيسة وأموال عظيمة ولعله اراد ان يمون ثورته بها.

ولست اعجب لشيء عجبي لمن يهدي الى المساجد نفائس غالية لتربط باسمه في مخازنها في وقت يكون المسلمون فيه احوج الى اثمان هذه النفائس لتنفق في اصلاح مرافق البلاد وانشاء المشاريع وتعميم التعليم.

وقد سير الشريف حسن ابنه أحمد في جيش بلغت عدته مائتان وستون ما بين فارس وراجل واثنان وعشرون مملوكا كما سير عجلان بن نصير الذي أمره على

__________________

(١) اتحاف فضلاء الزمن «مخطوط»

(٢) خلاصة الكلام للسيد الدحلان ٣٧

(٣) يرى الاستاذ البحاثة حمد الجاسر انه ثابت بن نغير ولكني لم اعثر فيما بين يدي من مصادر الا على اسم نصير وذكر المستشرق زامباور في كتاب (معجم الانساب والاسر الحاكمة في التاريخ الاسلامي) اميرا من امراء المدينة المنورة اسمه نعير ـ بضم النون وتصغير الترخيم ـ ابن منصور (ص ١٧٨) (ترجمة الدكتور زكي حسن بك وحسن احمد محمود)

٣٣٣

المدينة في جيش آخر لاخضاع الثورة وقد نجح الجيشان في طرد الثوار واقرار الامن في المدينة لعجلان بن نصير وذلك في عام ٨١١ (١)

وفي عام ٨١٢ منع صاحب اليمن تصدير الارزاق الى مكة لاستيائه من حسن بن عجلان ويورد الغازي (٢) سبب الاستياء فيذكر قصة غريبة خلاصتها ان صاحب اليمن كان قد طلب الى حسن بن عجلان نظم بيت من الشعر في موضوع اقترحه فارسل اليه بذلك فلما لم يهده مقابله شيئا عمد الى العفيف عبد الله الهبي ـ ولعله كان وكيلا لليمن في مكة ـ فأخذ منه خمسة الاف مثقال من الذهب فغضب صاحب اليمن ومنع تصدير الأرزاق الى مكة فشق ذلك على الشريف حسن ووجد من يغريه بغزو اليمن ويعده بجمع الرجال لمساعدته فاستعد لذلك ثم ما لبث ان اشار عليه بعضهم بانتداب السبكي الى اليمن لتسوية الامور فانتدبه وبذلك سويت الامور وعادت الى مجراها الطبيعي او ما يقرب منه.

وفي هذه السنة (٨١٢) وشى بحسن بن عجلان عند الناصر فرج بن الظاهر برقوق صاحب مصر بوشايات ذكر فيها أن حسنا انحرف عن علاقته بالناصر ، فأصر الناصر عزله عن مكة وأوعز الى امير الحج بان يعد عدته من السلاح والجيش والمدافع ولعلها ـ أول مرة وصلت الى الحجاز مدافع ـ وان يعلن ان الغرض من حركته هو اليمن وقد فعل ، ولكن الشريف حسنا لم يخف عليه الامر وقرر الدفاع عن امارته فاستنفر القبائل العربية والاشراف حتى اجتمع له منهم في الطائف ، وليه ، وجبل الحجاز (٣) أربعة الاف واجتمع له في مكة ألفان كما اجتمع

__________________

(١) اتحاف الورى لابن فهد القرشي «مخطوط»

(٢) افادة الأنام «مخطوط»

(٣) هو من سلسلة جبال السراة غرب وجنوب الطائف ويسكنه قبائل من غامد وزهران

٣٣٤

له نحو ستمائة فرس.

وبينما كان قائد الجيش المصري في طريقه الى مكة ارسل الشريف حسن يبلغه : «اني على استعداد لملاقاتك ولكني أرى ان تحرص الا يصيب الحجاج شيء فاما ان تتقدمهم او تتأخر عنهم (١).

وقبل ان تبارح الرسالة مكة وافى رسول مستعجل من الملك الناصر يعلن عدوله عن الحركة وتأييده من جديد لامارة الشريف الحسن .. وكان رسول السلام هو فيروز ساقي الملك الناصر وقد جاء يصحب معه الخلع والهدايا وبذلك عادت الطمأنينة الى مكة وظل الشريف حسن على امارته فيها.

وطلب رسول السلام الى الشريف حسن ان لا يتعرض لجيش مصر فقبل بشرط ان يسلم الجيش سلاحه وآلة حربه في رباط ربيع بأجياد فوافق امير الحج بعد تمنع وظل السلاح محجوزا حتى تسلموه بعد قضاء الحج وبذلك استقر الامر ودخل امير الحج مكة آمنا وزار الشريف حسنا في داره باجياد ومع هذا فقد صادف بعض الخوف في عرفات ومنى لعدم اطمئنانهم لما انتهى اليه الوفاق.

ويقول تقي الدين الفاسي انه كان بين حجاج هذا العام وأن أمير الحج الشركسي لم يثبت عنده يوم الوقوف فدفع بجيشه بعد الغروب من عرفة ثم عاد اليها ليستأنف الوقوف في اليوم الثاني فظن اهل مكة انها خدعة الحرب فحدث الاشتباك واضطرب حبل الامن وكادت الفتنة ان تقع لو لا ان تداركها عقلاء الطرفين (٣).

ويذكر القطبي في حوادث سنة ٨١٥ ان هذا العام كان شديد الجدب على

__________________

(١) شفاء الغرام للفاسي ٢ / ٢٥٣

٣٣٥

الناس وقد بيعت الغرارة من الحنطة بعشرين دينارا ذهبا كما بيعت البطيخة بدينار من الذهب.

وفي هذا العهد قطع الحج العراقي فلم يصل ركبه الى مكة ولا محمله وظل ذلك نحو سبع سنوات وذلك بسبب ما اثير من الفتن في العراق فقد ثار فيها ابن يوسف التركماني فقتل صاحب العراق واستولى على حكمها (١).

فلفل الى مصر : ومن أطرف ما يرويه الشيخ عبد الله غازي في كتابه افادة الأنام أن الفلفل قل وجوده في مكة في عام ٨١٥ كما قل وجوده في مصر (٢) فأرسل صاحب مصر يطلب شراءه من مكة فوجد ان سعر وسق البعير منه يبلغ قيمته ٢٢٠ مثقالا من الذهب بينما كانت قيمته قبل ذلك لا تزيد عن ٦٠ مثقالا ومع هذا فقد امر صاحب مصر ان يحمل اليه ما قيمته ٥ آلاف دينار.

وفي سنة (٨١٦) استأنف الركب العراقي حجه واصطحب محمله المعتاد وهداياه الى اشراف مكة وصدقاته الى فقرائها وقد دعي له بالبقاء والعز على قبة زمزم في ليلة الجمعة ١٦ ذي الحجة من العام المذكور.

وكان لحكومة العراق ترتيب خاص في مسجد مكة يجتمع فيه بعض القراء المرتبين فيقرأ القارىء منهم جزءا خاصا من المصحف ويقرأ آخر غيره وغيره كذلك وبذلك يختمون القرآن ثم توزع العطايا المرتبة على اصحابها سنويا وقد احتفل بهذا المجلس في ذلك العام بعد ان قطع عدة سنوات (٣)

__________________

(١) شفاء الغرام للفاسي ٢ / ٢٥٣

(٢) ذكر صاحب درر الفوائد المنظمة فى حوادث سنة ٧٤٧ ه‍ ما نصه : وعز الفلفل بالقاهرة حتى بلغ الرطل سنة واربعين درهما. ص ٣٠٨

(٣) منائح الكرم للسنجارى «مخطوط»

٣٣٦

وكان الحسن بن عجلان نشيطا في بعض اعمال العمران فقد لاحظ أن البيمارستان الذي بناه المستنصر العباسي بين باب الزيادة وباب الدريبة وقفا لايواء المجانين وعلاجهم ـ وقد ذكرنا في حينه ـ قد تقام عليه العهد فاستأجرهفي عام ٨١٦ من القاضي الشرعي بمكة اجارة مدتها مائة عام!!! باربعين الف درهم ثم اذنه القاضي بصرف المبلغ على تجديدات البيمارستان واعداده لايواء الفقراء والمرضى والمجانين وقد ظل البيمارستان على ذلك حتى خرب ودثر ثم استبدل في اواخر السلطان سليم كما استبدل بجواره رباطان وعمر مكان الجميع المدارس الأربعة الموجودة الى اليوم (١) كما سيأتينا (٢).

الخيول في المسجد : ومن أغرب حوادث هذا العهد أن أمير الحج المصري غضب على احد غلمانه في مكة في عام ٨١٧ فأدبه وسجنه فثار زملاؤه من الغلمان والقواد فهاجموا المسجد الحرام من باب ابراهيم راكبين خيولهم والناس في صلاة الجمعة وانتهوا الى مقام الحنفية فلقيهم الاتراك والحجاج فاقتتلوا قتالا شديدا حتى اجلوهم واستغل بعضهم الفرصة واوقعوا في الناس نهبأ وسلبا وأمر أمير الحج المصري باغلاق ابواب المسجد وتسميرها الا الابواب التي تحاذي منزله عند المدرسة المجاهدية (٣) ليدخل منها هو واتباعه الى المسجد ثم ادخلت خيلة الى المسجد الحرام وجعلت بالرواق الشرقي قريبا من رباط الشرابي فباتت الخيل في المسجد تلوثه بروثها وبولها.

__________________

(١) منائح الكرم للسنجارى «مخطوط»

(٢) هدمت هذه المدارس ودخلت في مشروع توسعة المسجد الحرام.

(٣) مدرسة المجاهدية كانت بين باب السلام وباب الدريبة

٣٣٧

ورأى الشريف حسن ان الحرم قد انتهك وان كرامته قد اهينت فاجتمع بكبار الحجاج والأهالي في مكان له بأسفل مكة وتشاوروا في الأمر ثم اتفقوا على ندب شخص يتصل بأمير الحج المصري ليبلغه استياء الامارة مما حدث وضرورة تسوية الامر واجلاء الخيول عن المسجد وقد قبل أمير الحج هذه السفارة ووافق على وساطتهم في تسوية الامر فجرى الصلح بينه وبين غلمانه وعاد السلام الى ما كان.

ومن غريب المصادفات أن الرجل الذى وقعت الفتنة بسببه كان اسمه جرادا وقد اشار شاعر مكي الى هذه الحادثة بهذه التورية :

وقع الغلاء بمكة

والناس اضحوا في جهاد

والخير قل فها هموا

يتقاتلون على جراد (١)

الغاء البدع : ومما يذكره التاريخ في هذا العهد ان علماء مكة اجتمعوا على توقيع عريضة طلبوا فيها الغاء بدع المؤذنين وما يتغنون به من المدائح النبوية فوق المآذن والغاء الاحتفال بليالي ختم القرآن في رمضان ومنع ايقاد مشاعل المقامات في رمضان وهلال ربيع الأول ورجب فقبل ما عرضوه وصدر بالغاء جميع ذلك ولكنه لم يمض على ذلك عامان حتى سعى بعض الكبراء لدى أمراء مكة لاعادته فأعيد ثم أعيد (٢)

رميثة بن محمد بن عجلان : وما لبث الحسن ان عاد الى الخلاف مع الشراكسة في مصر في عام ٨١٨ فندبوا لقتاله جيشا يقوده رميثة بن محمد ابن

__________________

(١) خلاصة الكلام للسيد الدحلان ٣٨

(٢) افادة الانام للشيخ عبد الله غازي «مخطوط»

٣٣٨

عجلان فاستطاع ان يستولي على مكة وان يجلي عمه عنها.

حسن بن عجلان : ولا استبعد ان يكون الحكم في مكة قد شعر بالفراغ الذي كان يملؤه الشريف حسن وأن الشراكسة في مصر شعروا به كذلك لأننا لا نلبث أن نرى الشراكسة يعودون الى تأييد الشريف حسن من جديد في توليته على مكة ولم ينقض على ذلك بضعة اشهر فقد عاد اليها في رمضان سنة ٨١٩ بقوة سلاحه وتأييد الشراكسة وقد تعهد بدفع ثلاثين ألف مثقال لخزانة الشراكسة مقابل تأييده (١)

عاد الحسن الى مكة بنفس الروح القوية التي كان يعمل بها فابى ابن اخيه رميثة ان يسلم له زمام الحكم وتحصن بداخل البلدة واغلق اسوارها فشرع عسكر الشريف حسن يهاجمون السور جهة المعلاة وقد فتحوا فيه ثغرة دخل بعضهم منها وعمد البعض الاخر الى باب السور فدهنوه واوقدوا فيه النار حتى سقط محروقا على الارض وقصد جماعة الى طرف السور مما يلي جبل الشامي جهة المقبرة وهو يحاذي حارة السليمانية اليوم (٢) فاقتحموه على اصحابه واشتد التراشق بالنبال بين الفريقين واستعملت الحجارة كرا وفرا.

وكان عسكر حسن نحو ٣٠٠ فارس واكثر من الف راجل بينما كان عسكر رميثة لا يتجاوز الثلث.

ورأى جماعة من اعيان البلاد وعلمائها ان يسعوا لاخماد الفتنة فتوجهوا الى

__________________

(١) افادة الأنام للشيخ عبد الله غازي «مخطوط»

(٢) يعرف اليوم : بجبل السليمانية لاشرافه على حارة السليمانية من الغرب ، ووجهه الغربي يسمى جبل العبادي. (ع)

٣٣٩

الشريف حسن في عسكره يحملون ربعات من المصحف الشريف (١) وأخذوا يسألونه الكف عن القتال فاجابهم الى ذلك على ان يغادر مكة رميثة واتباعه ، وعلى هذا جرى الصلح واجلي رميثة عن مكة فدخلها الشريف حسن في ٢٦ شوال سنة ٨١٩ وخيم بعسكره حول بركتي المعلاة (٢) ولما حج مضى الى المسجد لابسا خلعته فاستقبله علماء المسجد الحرام وخدمه على ابوابه ولما قصد الى الطواف كان أصحاب المباخر التي تعبق فيها روائح العود يمشون بين يديه وصعد صاحب قبة زمزم الى اعلاها يدعو له أثناء طوافه بالتوفيق والتأييد وقرىء مرسوم الملك بتأييده فوق المنبر بعد فراغه من الطواف.

ثم مضى في موكبه يطوف شوارع البلدة وامر مناديه ان ينادي بالامان وأن يؤجل المناوئون خمسة ايام يغادرون في اثنائها مكة .. وقد توجه اكثرهم الى اليمن يتقدمهم اميرهم رميثة (٣) الا ان رميثة ما لبث ان عاد الى مكة بعد ان اعلن توبته وخضوعه لعمه فاكرم وفادته

وعرف حسن ببعض السيئات الى جانب حميد صفاته فقد ذكر انه كان يحتكر بعض الارزاق لنفسه ثم يبيعها على التجار وقد عاتبه صاحب مصر في ذلك فاجابه : اني لم احتكرها وانما كنت اشتريتها لبيتي وعسكري فلما رأيت اضطرار الناس اليها بعتها اليهم (١).

وعصى بعض اشراف مكة في عام ٨٢٠ علي حسن واعلنوا ولاية بعض بني

__________________

(١) كانوا يقسمون المصحف الى ثلاثين جزء يطبع كل جزء على حدته ومجموع هذه الاجزاء كانوا يطلقون عليها اسم ربعة

(٢) كانت بركتا المعلاة تقعان خلف السور مباشرة

(٣) اتحاف الوري لابن فهد القرشي «مخطوط»

(٤) منائح الكرم للسنجارى «مخطوط»

٣٤٠