تأريخ مكّة دراسات في السياسة والعلم والاجتماع والعمران - ج ١-٢

أحمد السباعي

تأريخ مكّة دراسات في السياسة والعلم والاجتماع والعمران - ج ١-٢

المؤلف:

أحمد السباعي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الطبعة: ٠
ISBN: 9960-660-17-6
ISBN الدورة:
9960-660-18-4

الصفحات: ٧٩٣

وإلى يسارنا ونحن في المسعى طريق الساعين الى المروة وفي المروة دور لآل عتبة بن فرقد ودار كبيرة لآل ياسر في واجهتها الحجامون والحلاقون وإذا مضينا في المسعى مصعدين في طريق المدعى انتهينا إلى رحبة واسعة كانت تحط فيها عير الحنطة والسمن والعسل والحبوب لتباع فيها وهي ما نسميها اليوم المحناطة وفيها دور لبني عبد شمس ودار أبي سفيان وهي في مكان «القبان» اليوم ، وقد أشار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليها عندما قال يوم الفتح : «من دخل دار أبي سفيان كان آمنا» ثم دور لأولاد العباس تصل الى قريب من المدعى ، ثم دور لأولاد الحارث ، ثم طريق الى يسارنا يمضي إلى جبل الديلم وهو يشرف على القرارة (١) اليوم ثم نمضي في استقامتنا الى طريق المعلاه لنمر على دور لبني غزوان وأخرى لأولاد الحارث ابن عبد المطلب.

ونبدأ خطا ثالثا من باب بني شيبة متوجهين غربا إلى دار الندوة لنجد البيوت تتكاثف قبل الرواق الى جانبها دار لشيبة بن عثمان ودار لخزانة الكعبة ودار لصاحب البريد ودار لبيت المال ودار للخطاب بن نفيل ثم نصعد شمالا الى جهة الرواق الذي فيه باب الزيادة الى باب الدريبة فتصادفنا دور لبني خزاعة بينها زقاق الحذائين نسلك منه إلى سويقة ثم ننعطف منه الى المروة ومن جهة أخرى دور لآل زرارة من تميم ثم يمضي بنا الشعب الى قعيقعان في مداخل ما نسميه الشامية اليوم فإذا توجهت إلى يمينك توجه بك درب الى ناحية الديلم بالقرب من القرارة اليوم ثمّ تصعد إذا شئت على تلال في مكان الفلق كانوا يصعدونها لينزلوا منها إلى مكان سوق المعلاه اليوم ولم يفلق هذا الطريق إلا

__________________

(١) يذكر الأزرقي أنهم كانوا يسمونها قرارة المدحي ولعل أطفال قريش كانوا يلعبون فيها المدحي وهو ما يشبه «البرجو» عندنا.

٤١

الزبير بن العوام في عصره وسنعرف فيما بعد أنه فلقه ليتصل الطريق بين بساتينه بجوار المعلاه اليوم وبيوته التي اشتراها بجوار سويقة.

وإذا أردنا أن ننتقل من شق مكة الأعلى الى شقها الأسفل تعين علينا أن نجعل نقطة ابتداء تخطيطنا ما بعد صحن المسجد أمام باب أجياد متوجهين الى الشرق ثم الى الجنوب الشرقي.

كانت منازل بني عائذ تبتدى من صحن المسجد فيما يوازي ركن الكعبة اليماني ممتدة غربا الى ما يحاذي بئر زمزم ثم تصعد في الشرق نحو باب علي وكانت دور بعض كبارهم شارعة على مكان المسعى على يسار القادم من الصفا يريد المروة أي في ما يحاذي باب علي اليوم تقريبا.

وكانت منازل عدي بن كعب تبتدى من صحن المسجد متوجهة إلى الصفا من ناحية والى أجياد من ناحية أخرى قبل أن ينقلوا الى أسفل مكة.

وفي الطريق الذي يبدأ من باب الصفا متوجها جنوبا إلى باب أجياد كانت سقيفة لبني عائذ وسوق للبزازين «القماشين» وبالقرب من ذلك كان البيت الذي اتخذه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتجارته قبل البعثة مع شريكه السايب بن السايب.

فإذا انتهيت إلى باب أجياد ووقفت حيث تكون القبلة في ظهرك ومداخل أجياد في وجهك امتد امامك شعبان أحدهما عن يمينك الى ما نسميه اليوم بئر بليلة وكانوا يسمونه أجياد الكبير وامتد الشعب الثاني على يسارك الى ما نسميه اليوم السد وكانوا يسمونه أجياد الصغير ولست أعني بالامتداد ما يتبادر الى ذهنك من نفاذ الجادة واستقامتها بامتداد الشعوب.

فقد كان العمران يتخلل الجادة ويعرقل استقامتها .. كان بنو تميم ينزلون حوالي

٤٢

باب أجياد وتمتد بيوتهم من جهة الغرب الى قبيل حدود المسجد يومها وهو حدود صحن الكعبة اليوم وكان بنو مخزوم ينزلون في فوهة أجياد الكبير مكان الرواق الجديد اليوم .. وكان جماعة من الأزد ينزلون خلف ذلك مما يتصل بمكان الصحة العامة وخلفها كان منزل أبي جهل بن هشام لا يبعد عن ذلك كثيرا ، وفي أجياد الصغير الى الجادة المتصلة بالسد كانت منازل لآل عدي بن عبد شمس وفي أجياد مكان للحواتين ودار لعبد الله بن جدعان التي كان فيها حلف الفضول والتي تعاقدت فيها القبائل متفقة بأن لا يقر في مكة ظالم وفيها دور لآل سلمة بن هشام وفيها بئر يجمع بين أجيادين احتفرها آل سلمة مع جماعة من جيرانهم ، وكان يردها السكان في فوهة الشعب بأجيادين وأكاد أعتقد انها البئر الموجودة اليوم قبيل عمارة المستشفى لأنها تجمع بين طرفي أجيادين.

وإذا تركت أجيادين ماضيا في الشارع العام إلى الجنوب نحو المسفلة بدأت بسوق الحزورة بجوار باب الوداع ورأيت الدروب تمضي على يمينك إلى قرب المسجد عند حدود المطاف ومن أشهرها درب الحناطين وأعتقد انه كان سوقا للحنطة فالحانط هو في اللغة كثير الحنطة وموقع هذا الدرب صالح لبيع منتجات الجنوب من الحنطة في مكة وفي هذه الجهة كانت تنزل بطون من آل صيفي وفيها دور لآل عبد الدار واخرى لجماعة من بني مخزوم وإذا مضيت متجها في السوق الصغير كنت بجوار دور لبني أسد بن عبد العزى.

وأحسبني لا أطمع في أن أعرف القبائل النازلة في الشبيكة (١) أو حارة

__________________

(١) جاء في كتاب معجم البلدان لياقوت ان الشبيكة موضع بين الزاهر ومكة وفي القاموس انها بين مكة والزاهر وانها بئر هناك مما يلي التنعيم وقد عاش صاحب القاموس في مكة في أوائل القرن التاسع الهجري فيفهم منه أن مكة في عهده كانت دون الشبيكة وان الشبيكة بئر بين مكة والزاهر أو نفهم ان بئر الشبيكة بعيدة عنها في الطريق الى الزاهر.

٤٣

الباب أو جرول لأنها كانت قليلة السكان إلا في جهات قليلة من جرول الخضراء وهي الجزء الأدنى المتصل بأطراف المسفلة من ناحيته الخليفة وإذا كانت الشبيكة قد سكنت في عهدنا الذي ندرسه بجماعة لم أتبين أسماءهم في بطون المطولات من كتب التاريخ فلا أعتقد أنها حظيت بشيء من التكاثف الذي حظيت به المنازل الأخرى.

وقد نعثر على بعض المنازل في سفح ذي أعاصير ولعلنا نستنتج من قرائن الأحوال أن ذا أعاصير هو جبل عمر ولكننا لا نستطيع أن نعتقد أن هذا الجزء حفل بالمنازل إلا في أعوام متأخرة عن هذا العهد لأن النزلة سميت باسم عمر ابن الخطاب ولو كانت لبطن أو قبيلة لأطلق عليها في الغالب اسم نازلها قبل عمر بن الخطاب.

كما أننا لم نعثر الى جانب ذلك على شيء يسير من العمران في الثنية التي نهبط من خلفها الى جرول الخليفة وكانوا يسمونها الحزنة وهي ضد السهلة ونسميها اليوم الحفائر (١) ولم تكن الحفائر قد فلقت يومها لتخترم الطريق من الشبيكة الى جرول الخليفة لأن الذي حفرها وسهلها للمشاة هو خالد البرمكي في عهد بني العباس ليجعلها تختصر الطريق الى بستان له بناه فيما بعد في جرول الخليفة أو جرول الخضراء كما يسمونها.

وإذا تركنا كل هذا ومضينا في طريقنا في ظل أعاصير أي جبل عمر نحو الهجلة صادفتنا الحتمة وهي صخرات لا بد أنها كانت سوداوات لأن الحتمة

__________________

(١) وكانت تسمى الممادر ، حيث كانوا يأخذون الطين منها للبناء. (ع)

٤٤

في اللغة هي السواد وعند هذه الصخرات كانت دار الأزلام ومنها يبدأ منبطح السيل أسفل مكة.

ولعلنا إلى هذا الحد استطعنا أن نرسم خطوطا تقريبية لمكة الجاهلية ولا يفوتنا في أذيال هذا البحث أن نشير إلى الضواحي التي كان يحلو للمكيين أن ينتجعوها في الأصائل من شهور القيظ وهي عادة نرى أثرها إلى اليوم في المتنزهين من أبناء مكة في أطراف الضواحي وكأنما هم يمثلون بذلك عادة عرفها أجدادهم من نحو (١٥٠٠ سنة) تقريبا.

ومن أشهر المتنزهات في مكة الجاهلية (١) الليط .. والليط في رأى بعض المؤرخين (٢) هو أسفل مكة فيما يقرب من بركة ماجل متنزهنا اليوم ، ويقول الأستاذ رشدي الصالح ملحس في حاشيته على تاريخ الأزرقي أنه يرجح أن يكون خلف القشلاق العسكري أي فيما يلي جرول الخليفة ولست بالذي يستبعد صحة القولين فان الوادي بعد بركة ماجل يتصل بالجادة التي تنتهي خلف القشلاق فلم لا يكون الليط عبارة عن امتداد من جرول الخليفة الى أطراف المسفلة؟

وكانت في الليط اقحوانه (٣) يجلس أهل مكة حولها في العشي يلبسون الثياب المحمرة والموردة والمطيبة وفي هذا يقول الحارث بن خالد :

من ذا يسائل عنا أين منزلنا

فالأقحوانة منا منزل قمن

إذ نلبس العيش صفوا ما يكدره

طعن الوشاة ولا ينبوبنا الزمن (٤)

__________________

(١) يرى بعضهم ان الجاهلية كلمة يراد بها نقيض العلم كما يرى بعضهم انها تعنى الاخلاق السفيهة انظر فجر الاسلام ص ٦٩.

(٢) انظر اخبار مكة للأزرقي ٢ / ٢٢٥.

(٣) الاقحوانة نسميها اليوم عباد الشمس.

(٤) أخبار مكة للأزرقي ٢ / ٢٢٥ وما بعدها.

٤٥

ومن متنزهاتهم شعب خم (١) وهو يتصل بالمسفلة اليوم وكان مزروعا فيه عدة بساتين تتصل بالليط ثم تتصل بجرول.

وكانوا يخرجون الى حائط الحمام بجوار المعلاه فقد كان لهم هناك نخيل وزروع وكانت بساتين تمتد الى الخرمانية بقرب ما نسميه المعابدة ثم تمضي الى المحصب في الطريق المؤدي الى منى.

وكان لهم في المحصب دكة يجتمع المتنزهون فيها أصيل (٢) كل يوم وكانت تشرف على نخيل باسق وبساتين تحتضنها شعاب الوادي الممتدة الى منى.

وكانت لهم بساتين في وادي فخ ونسميه الشهداء اليوم وأخرى بوادي طوى في امتداده من الحجون الى ريع الكحل وبساتين غير هذه في ضواحي مكة العليا (٣) إلى مزدلفة فعرفة (٤) وكانت المنازل في المناطق التي ذكرناها لا تتكاثف على قاعدة المدن الحاضرة بل تتفرق وتفصل بينها مساحات خالية على عادة العرب في بناء قراهم ومدنهم ، أما الناحية المتصلة بالمسجد فكانت تضيق بنزلائها لتنافسهم في مجاورة الكعبة.

وقد بنى القرشيون في أواخر عهدهم ما يشبه السور في أعلى المدعى وبوبوه ولم يثبت أنهم بنوا مثله في ناحية اخرى منها.

__________________

(١) هو جنوب مكة بيسير تخرج إليه من أجياد الكبير ، ولعلهما خمان (ع)

(٢) هي الاقحوانة ، وتسمى اليوم الروضة ، وعن كثير من هذه المواضع راجع (معجم معالم الحجاز) (ع).

(٣) راجع أخبار مكة للأزرقي ج ٢ ص ١٨٣ باب ما جاء في العيون والصفحات التي تليها عن العيون والرباع والشعاب.

(٤) تبعد المزدلفة عن مكة ١٣ كيلو ومنها الى عرفات ١٢ كيلو.

٤٦

الناحية الدينية : وشاعت في عهد قصي عبادة الأصنام واتخاذها آلهة في طقوس انتقلت اليهم من خزاعة أو جرهم كما أسلفنا في الفصل السابق وقد ذكروا أن عمرو بن لحي في عهد خزاعة أمر بعبادة صنمين كانا منصوبين على الصفا والمروة (١) فلما كان عهد قصّي حولهما من موضعهما فجعل أحدهما بلصق الكعبة والآخر في موضع زمزم فكان أهل الجاهلية من قومه ينحرون عندهما ويتمسحون بهما واشتد شيوع عبادة الأصنام بمرور الأيام حتى كان الأصنام يطاف بها في مكة فيشتريها أهل البدو فيخرجون بها إلى بيوتهم وما من رجل من قريش إلا وفي بيته صنم إذا دخل يمسحه وإذا خرج يمسحه تبركا عدا أصنام الكعبة التي ظلت قائمة في مواضعها من التبجيل الى عام الفتح ومن أشهر أصنامهم «هبل» (٢) وكان منصوبا في جوف الكعبة «والعزى» وهي بوادي نخلة الشامية (٣) «واللات» وهي في الطائف (٤) ومناة» (٥) وهي في «قديد» على ساحل البحر الأحمر شمالي مكة ونقل عن قريش أنها كانت تقول في طوافها : (واللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى تلك الغرانيق العلا وان شفاعتهن لترتجى) وكان لهذيل صنم يسمونه سواعا تعكف على عبادته.

__________________

(١) ابن هشام ١ / ٧٨ والمسعودي ٣ / ١١٤.

(٢) ذكر جرجي زيدان في أنساب العرب أن لفظ هبل لا اشتقاق له في اللغة العربية وهو يرى أنه كلمة عبرية أو فينيقية ثم يقول وكان الكلدانيون يلفظون الكلمة «بل» وهي اسم الاله عندهم ، أقول من هذا ربما صح قول من قال ان العرب قبل قريش استعارت عبادة الأصنام من جيرانها الفينيقيين أو العبريين أو غيرهم.

(٣) نخلة الشامية تمتد من وادي فاطمة الى المضيق وتتصل بها نخلة اليمانية وهي في طريق الطائف من واد يسمونه اليوم اليمانية. (ع) : والعزى : معلوم مكانها اليوم في شعب يقال له سقام يصب في نخلة الشامية في الجنوب.

(٤) هي قرب مسجد ابن عباس من مغيب الشمس (ع)

(٥) انظر تحديدها في (على طريق الهجرة (ع).

٤٧

وكانوا ينحرون عند صنم لهم يقال له الغبغب وكانت لهم أقداح في الكعبة إذا اختصموا في شيء أو اعتزموا أمرا استقسموا بها فإذا خرج القدح مكتوبا بأمر أو نهى عملوا به كما يفعل أصحاب «الخيرة ـ أو القرعة» اليوم (١).

وقسم المؤرخون ديانة العرب الجاهلية الى قسمين حلة وحمس والحمس هم أصحاب التشدد فيما يتدينون وربما دلت اللفظة على معنى التحمس كما يبدو من اشتقاقها والحمس قبائل من أشهرها كنانة وخزاعة والأوس والخزرج وغيرهم وكانت قريش من أبلغ من تشدد في ديانة الحمس وقد بلغ من تشددهم أن الرجل إذا أحرم بالحج أو العمرة لا يدخل دارا أو فسطاطا أو حائطا «بستانا» وقد تعرض له الحاجة فلا يدخل بيته بل ينقب نقبا في ظهره وينادي بأهله ليخرجوا له ما أراد وكانوا يحرمون بعد الاحرام على أنفسهم السمن واللبن والزبد ولبس الوبر والشعر والاستظلال به وغزله ونسجه (٢).

وكانوا إذا وقف الحاج من العرب في عرفات يأبون أن يخرجوا إليها من حرمهم فيكتفون بالوقوف عند نمرة تقديسا لحرمهم ، ويقولون نحن الحمس أهل الحرم فلا ينبغي لنا أن نخرج الى عرفات فنعظم بذلك غير الحرم.

وكانوا يفرضون على مخالفيهم من أهل الحلة أن لا يطوفوا إلا إذا لبسوا ثوبا أحمسيا يشترونه منهم أو يستأجرونه أو يستعيرونه فإذا لم يجدوا تعين عليهم أن يطوفوا عرايا نهارا للرجال وليلا للنساء بعد أن يتركوا ثيابهم خارج المسجد

__________________

(١) انظر كتاب الأصنام لابن الكلبي ص ٢٥ وما بعدها.

(٢) أخبار مكة للأزرقي ١ / ١١٥ وما بعدها.

(٢) المصدر نفسه.

٤٨

فلا يمسها أحد حتى يعودوا إليها (١) وكان بعض فتيان مكة يتربص للنساء العرايا فإذا أعجبته احداهن دخل معها في الطواف عريانا وقد يؤول أمرهما إلى الزواج ، وقد ألغى الاسلام هذه العادة ، وكانوا يفرضون على أهل الحل أن لا يأكلوا من طعام جاءوا به من الحل ما داموا في مكة ، وبذلك كانوا يفرضون الأكل في مكة عليهم من بيوت الضيافة أو يشترونه من أسواق مكة.

وكانوا إذا بلغت الفتاة سن الزواج ألبسوها ما يزينها وخرجوا بها سافرة إلى المطاف ثم أعادوها الى بيتها لتبقى حبيسة فيه لا تخرج إلا الى بيت من تزوجها وهم يريدون بطوافها ذلك عرضها سافرة على أعين الخاطبين ولعلهم اختاروا ليأمنوا في جوار البيت نظرات الفاسقين. وكان الطائف يبدأ بأساف فيستلمه ثم يستلم الركن الأسود ثم يجعل الكعبة على يمينه فيطوف بها فإذا ختم طوافه سبعا استلم الركن ثم استلم نائلة.

وكانوا يختنون أولادهم ويكفنون موتاهم ويغتسلون من الجنابة وقد تباعدوا في المناكح من البنت وبنت البنت والأخت وبنت الأخت كما يتزوجون بالصداق والشهود ويطلقون ثلاثا.

وكانوا يبالغون في الغيرة على نسائهم حتى اشتط بعضهم فكره البنات ومنهم من وأدهن مبالغة في الحرص على العرض وقال قائلهم في ذلك «دفن البنات من المكرمات» وأنكر ذلك كثير من عقلائهم ومن أشهر المنكرين زيد ابن عمرو بن نفيل القرشي الذي قيل أنه أحيا ستا وتسعين موءودة.

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقي ١ / ١١٥ وما بعدها.

٤٩

وكانوا يدخلون الكعبة لابسي أحذيتهم حتى سن لهم الوليد بن المغيرة خلعها وكانت الحوائض من نسائهم لا يدنين من الكعبة ولا يتمسحن بأصنامها بل يقفن بعيدا عنها ، وربما عن لأحدهم أن يصلي فيتوجه إلى الكعبة ويبدأ صلاته فإذا ركع كرر ركوعه عدة مرات حسبما يتسع له وقته وكذلك يفعل في السجود دون أن يكون لعدد الركعات أو السجدات ضابط محدود.

وشاعت الى جانب عبادة الأصنام ديانات أخرى أهمها الدهرية التي قال أصحابها وما يهلكنا إلا الدهر ، والصائبة وهم عبدة الكواكب والنجوم ، ودان بعضهم باليهودية وآخرون بالنصرانية وكانت جميعها نتيجة الاقتباس واحتكاك قريش بديانات الأمم المجاورة ، ومن أشهر من نظر في الكتب السماوية منهم ورقة بن نوفل ، وزيد بن عمرو بن نفيل وأمية بن الصلت وأمية بن عوف الكناني ، وهاشم بن عبد مناف ، وأنكر بعض هؤلاء ترهات قومهم وعبادة الاصنام وكانوا ينصحون بتركها ويجاهرون بالبحث في ألوهية واحد متفرد بالجلال والعظمة ويعترفون بالبعث والنشور والثواب والعقاب.

الناحية التجارية : كانت مكة بحكم موقعها في طريق تجارة الطي وبوالغلال وأنواع الأقمشة بين دول الجنوب وممالك الشمال ذات مركز استراتيجي ممتاز ، وكانت أسواقها تزدحم بالتجار صاعدين في الشمال الى الشام أو هابطين في الجنوب الى اليمن كانوا ينقلون من منتوجات أفريقيا عن طريق اليمن ـ الرقيق والصمغ والعاج والتبر ، كما ينقلون من اليمن الجلود والبخور والثياب ، كما ينقلون من العراق توابل الهند ، ومن مصر والشام الزيوت

٥٠

والغلال والأسلحة والحرير والخمور (١) فمهروا في التجارة وتضخمت رؤوس أموالهم وبلغت قوافلهم التجارية ألف بعير في عهد غزوة بدر مضافا إليها خمسون ألف دينار منقولة بين أثقالهم كما بلغت في بعض المرات ألفين وخمسمائة بعير وهي نسبة لها قيمتها المادية إذا قيست بالثروات في عهدها ، وبلغ من ثراء قريش أنها استطاعت في غزوة بدر أن تفتدي أسراها من المكيين بأربعة آلاف درهم للرجل الى ألف درهم إلا من عفا عنهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المعدمين (٢).

وكانت الى جانب هذا من أهم مراكز الصرافة في العالم القديم ، وكان التاجر من أي بلد في الآفاق يستطيع أن يؤمن فيها على بضائعه صادرة أو واردة وربما احتاج إلى كثير من المال لسداد ما تطلبه بضائعه فتقرضه المصارف في مكة كما تفعل البنوك اليوم وربما أفحشت في الفوائد فتضاعف الربا واضطهد المدين حتى جاء القرآن بتحريم الربا عليهم.

الناحية الاجتماعية والعقلية : وو هم بعض المؤرخين في ادراج مكة مدارج القبائل من أحياء العرب ، وحسب آخرون أنها كانت نزلة يمضي عليها ما يمضي على نزل العرب وقراهم في آفاق الجزيرة ولكن شيئا من الاستقراء ينتهي بنا إلى غير هذه النتيجة. فالقرآن سماها في أكثر من مرة «أم القرى» وفي هذا ما يشير الى ميزتها في مستوى من حولها من منازل الجزيرة وقراها والقرآن خاطبها بمعان ليس من يعتقد أنها غريبة عنها فتحدث عن المشكاة والمصباح والزجاج وعن

__________________

(١) الأزرقي ٢ / ٥٥.

(٢) كانوا يتعاملون بدنانير روم بيزنطة وهي من الذهب ، ودراهم الساسانيين وهي من فضة كما تعاملوا بنقود الدولة الحميرية في اليمن ولم تضرب للعرب نقود إلا في العهد الأموي كما سيأتي في حينه.

٥١

المساكن يعرج اليها بالمعارج ، وتحدث عن أنواع من الطيب كالكافور والزنجبيل والمسك وأنواع من الأثاث المترف كالنمارق والزرابي والسرر والفرش المبطنة بالاستبرق والسندس وأنواع الأواني من الفضة كالقوارير والأكواب والكؤوس وأنواع من الحلي كالمرجان واللؤلؤ ، كما حدثهم عن القراطيس والكتب والسجلات والصحف والأقلام والمداد وأشار في كثير من آياته الى النحاس والحديد والفخار والصحاف والجفان والقدور ، ولا يقول انسان ان القرآن كان يخاطبهم بما لا يفهمون مدلوله من الألفاظ وانه كان يشير الى معان غريبة عنهم.

إذن فبيئتهم كانت تعرف هذه المعاني معرفة من اختلط بها واندمج فيها ، وفي هذا من الأدلة ما يقوم بحجتنا على من وهم من المؤرخين وفيه ما ينطق بأن مكة كانت في ذلك العهد قد أخذت بطرف غير يسير من أسباب الحضارة الخاصة بجيلها الذي تعيش فيه.

وليس في هذا ما يدعو الى الاستغراب فقد كان المكيون من قريش يضربون في مناكب الأرض بين اليمن والشام والعراق وفارس والهند ومصر والحبشة ويتصلون في رحلاتهم هذه بالقصور المشيدة والعمران الفخم وألوان من الحضارة تتعدد بتعدد الحضارات التي كانوا يختلفون اليها ، فلا عجب أن تتلاقى في بيوتهم في مكة أكثر الحضارات الشائعة في عهدهم وأن تبدو واضحة في حياتهم.

وكانت مخابئهم إلى جانب هذا تكتنز بالذهب والفضة كما تكتنز بالنقد المضروب من الدينار والدرهم ، وقد ذكرها القرآن في معارض مختلفة نستطيع أن نفهم منها أنهم كانوا يعرفونها معرفة تامة.

٥٢

وكانوا يستعملون الموازين في أسواقهم والمكاييل ، ويعرفون من مفردات أثقالها أنواعا كثيرة كانوا يتعاملون بها ، وليس أدل على هذا من خطاب القرآن لهم (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ* الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ* وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) ويسرد بعض المؤرخين بعض الحوادث الفردية التي يحسبون أنها تحدد معارف القرشيين في علم المال أو تبين مدى حيازتهم له فيذكرون في رواية الصحابي الذي اشترت منه احدى السبايا نفسها بألف دزهم أن رفاقه عندما لاموه على رخص الثمن قال لهم والله ما أعرف فوق الألف شيئا ، ويريدون أن يستدلوا من هذا على تحديد معارف القرشيين في الأموال والأرقام ولعلهم نسوا أن القرآن كان يخاطبهم بأرقى من هذا المستوى وهو يستعرض هول يوم القيامة «في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة» أو يسرد لهم قصة يونس (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) وليس من شك أن قوما أحصوا بعشرات الألوف ومئاتها كانوا على شيء كبير من الغنى ، وكان يصحبه ما يتبع الثراء من الحضارة وما في الحضارة من ترف.

كانت بيوت أموية وأخرى مخزومية يضرب المثل بها في الغنى وكان ابن جدعان يتجر في الرقيق وقد أثرى منه ثراء فاحشا حتى شبهوه بقيصرة

بو م ابن جدعان بجنب الحزوره

كأنه قيصر أو ذو الدسكرة (١)

وما ظننا بقوم كان القرآن يعرض أمامهم في صدد التشريع أدق من هذا فيشير الى النصف والثلث والربع والخمس والثمن والعشر في أوامره بتوزيع التركات ، لا ريب أنهم كانوا في بيئة تجيد هذه الكسور ومضاعفاتها.

__________________

(١) معجم البكري ص ٤

٥٣

واستعمل القرشيون في مكة الثياب والسراويل والقمصان والنعال وتختموا بالذهب والفضة ، واتخذوا لخواتهم حبات اللؤلؤ ، كما استعملت القرشيات الخمر والجلابيب والخلاخل التي كن يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن عدا ما تحلين به من عقود وأساور وما تطيبن به من ذي أريج فواح ، وقد قيل أن عبد المطلب دفن في حلتين قيمتهما ألف مثقال من الذهب وأن من قريش من كان يلبس الثوب بخمسين دينارا (١) وهو ما يقابل اليوم ٣٠٠ ريال ، وجاء في القرآن ذكر من ينشأ في الحلية.

وكان لمترفيهم مجالس للسمر ينصبون لها الأرائك ويمدون فيها الموائد ويتفكهون بما طاب من ثمارهم ويتلذذون بفواكه الطائف الطازجة أو مجففات الشام وفلسطين المستوردة لمتاجرهم ويعرفون طعام الفالوذج نقلا عن الأمم المجاورة (٢).

وكانوا يتخذون من ثمرات النخيل والأعناب خمورا يعدونها في مجالسهم في آنية من فضة وأقداح من بلور ، ويدور عليهم ساقيهم بها تفوح منها روائح المسك والكافور أو الزنجبيل.

وكانت لهم حلقات يعقدها القصاصون يتلون فيها عليهم أساطير الأولين أو يقصون عليهم بعضا من نوادر الحياة مما يصادفه الرجل في آفاق الأرض فيجتمع إلى هذه الحلقات كهولهم في أقبيتهم الفضفاضة وشبيبتهم في ثيابهم الموردة أو المحمرة من أغلى الحرير المجلوب من بلاد فارس أو المصنوع في العراق والشام.

__________________

(١) اليعقوبي ٢ / ١٣

(٢) أغاني ٨ / ٣٢٩

٥٤

وكانت مكة في عهد قريش تضم الى هذا ما تضمه عواصم اليوم تقريبا من جاليات أجنبية يهبطون اليها بفنونهم وأموالهم وبعض علومهم فلا تلبث أن تتسع لما يهبط إليها وتفسح لها من المجال ما تفسحه اليوم ، وكثير من كتب السير في مجموعها تحدثنا بأنه كان من سكانها نصارى الروم ووثنيون من فارس وأنه سكنها جاليات من العراق ومصر والحبشة والسريان ، ونحن لا نستبعد أن يكون نزوح هذا الجاليات فرارا من الثورات وألوان الاضطهاد (١) وتحت عوامل اخرى شبيهة بالتي تؤثر في انتقال الموجات البشرية في كل دور من أدوار التاريخ.

ولست أرى رأي من يقول بشيوع الأمية شيوعا مطلقا في هذه البيئة التي ندرسها ولا ممن يرى أن وسائل الكتابة يومها كانت تقتصر على العظام والحجارة لأن القرآن ذكر عن الصحف المنشرة (٢) وسجلات الكتب (٣) والمداد (٤) والأقلام (٥) ما يشير الى معرفتهم بها وأنهم كانوا لا يجهلونها.

ومما يلفت النظر أن القرآن في أوائل نزوله بمكة كان يكتب وينسخ ويذكر ابن هشام في سيرته أن عمر دخل على شقيقته قبل اسلامه وفي يدها صحيفة قرآنية ويؤيد هذه الرواية أكثر المؤرخين ، وهي تدل فيما تدل على وجود الصحف يومها

__________________

(١) ذكروا أن بعض رجالات قريش شعروا باضطهاد بعض الجاليات الأجنبية في بيوت بعض كبار القوم فاجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان وتعاهدوا أن لا يقر ببطن مكة ظالم وأن يكونوا يدا واحدة مع المظلوم ثم جاءوا بماء من بئر زمزم فغسلوا به أركان الكعبة ثم شربوه توكيدا لعهدهم وقد حضر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حلفهم قبل البعثة وقال فيه بعد ذلك لو دعيت به في الاسلام لأجببت (راجع ابن هشام ١ / ١٤٥).

(٢) أن يؤتى صحفا منشر (٥٢ المدثر).

(٣) كطي السجل للكتب (١٠٤)

(٤) قل لو كان البحر مدادا (١٠٩) الكهف.

(٥) من شجرة أقلام (٢٧) لقمان.

٥٥

وأن نسخها كانت تتداول في مكة ، ولا يصح فيما أرى أن تكتب الصحف ويتداول نسخها في بيئة تشيع فيها الأمية شيوعا مطلقا وتقتصر المعرفة فيها على أشخاص معدودين على أصابع اليد كما يذكر بعضهم.

الناحية الأدبية : ومارست قريش في جاهليتها ألوانا من الأدب العالي فقد كانت من أبلغ العرب وأفصحها وكان حظها في الخطابة والوصايا والأمثال لا يستهان به ، وقد حفظت لنا أمهات الكتب الأدبية القديمة من أمثال الأمالي وطبقات ابن سعد والعقد الفريد والأغاني وأمثال العرب ومجمع الأمثال وغيرها طائفة كبيرة من نفيس الأدب الذي عاش في عهد قريش.

واشتهرت قريش بشعرائها المبرزين في العهد الجاهلي ، ومن أظهرهم أبو طالب وأبو سفيان وعبد الله بن حذافة وهبيرة بن أبي وهب المخزومي وعبد الله بن الزبعري والزبير بن عبد المطلب ، كما اشتهر حول مكة من شعراء هذيل جنادة وجندب وعروة والمتنخل وأبو ذؤيب وأبو خراش وأسامة بن الحارث والعجلان بن خليه كما اشتهر في بادية مكة ومدنها القريبة ما يطول سرده ولا يصعب متابعته لمن شاء في مظانه من كتب الأدب المعروفة.

ومن الأمثال القليلة التي نوردها فيما يلي يستطيع القارىء أن يكون فكرة مختصرة عن المستوى الأدبي الذي بلغته مكة في عصرها الذي ندرسه.

«من أجمل قليلا سمع جميلا ، أنفك منك وان كان أذن ، إن البلاء موكل بالمنطق ، عند جهينة الخبر اليقين ، الجزاء من جنس العمل ، إذا عز أخوك فهن ، كل خاطب على لسانه تمرة ، الحرب سجال ، حظ في السحاب وعقل في التراب ، ما حيلة الرامي إذا انقطع الوتر ، من خان هان ، كما تزرع تحصد ، من

٥٦

سابق الدهر عثر ، لكل عود عصارة ، ما كل عورة تصان ، غدرك من دلك على الاساءة ، كل الصيد في جوف الفراء ، مكره أخاك لابطل ، كل شاة برجلها معلقة ، زارع لنفسه حاصد لسواه ، لاقرار على زأر من الأسد.

واتسعت أسواق مكة التجارية للتنافس بين مفكريها من الشعراء وأصحاب البيان فكانت ملتقى الخطباء من سائر بلاد العرب ، وكانت مجالا ثقافيا لم يسبق له نظير بين دول اليمن في الجنوب وحكام الحيرة وغسان في الشمال ، وفي مظان التاريخ المطولة من أخبار أسواقهم ما يغنى عن الافاضة.

ومن أشهر أسواق العرب في منطقة مكة : سوق عكاظ ، وقد اختلف المؤرخون في تحديد موقعه ، وأجدني أميل الى ما ذكره صاحب معجم البلدان وهو أنه في واد بينه وبين الطائف ليلة وبينه وبين مكة ثلاث ليال وكانت هناك صخور يطوفون بها وهو وصف ينطبق من أكثر وجوهه على محطة السيل الكبير وبه صخور لا تزال قائمة الى اليوم وهو واد يتسع كثيرا لقوافل العرب (١) ثم سوق مجنة (٢) وهو موضع قرب مكة ، وذو المجاز وهو على نحو ميلين من عرفات (٣)

وكانت قوافل العرب تتجمع في عكاظ الى العشر الأخير من ذي القعدة ثم يفيضون تباعا الى ذي المجنة ولا يبدأ سوق ذي المجاز إلا في «يوم التروية» الثامن من ذي الحجة ويضيف بعضهم الى هذه سوق مكة ومنى ودومة الجندل ،

__________________

(١) خلال السنوات القليلة الماضية صدرت عدة كتب عن سوق عكاظ ، وكتب مقالات كثيرة وتكاد كلها تجمع على أنه شرق الحوية يمين الذاهب الى الرياض من الطائف على نيف واربعين كيلا. (ع)

(٢) أرجح أنه بلدة بحرة ، وانظر معجم معالم الحجاز (ع)

(٣) هو على ١٥ كيلا شمال عرفات ، في شعب ينقض من كبكب غربا ، على يمين المتجد من مكة الى الطائف مارا بحنين ، فيه آثار لا زالت ترى (ع).

٥٧

ولكنها أسواق لا تبلغ مبلغ عكاظ في محافله الأدبية ومجالاته التي كانت تصطفق بمفاخرهم ومنافراتهم ومناقشاتهم ، ويذكر تقي الدين الفاسي في شفاء الغرام أن عكاظ ظلت قائمة الى أن كانت ثورة المختار في مكة عام ١٢٩ فتفرق الناس خائفين ثم تركوها الى اليوم وتركوا بعدها مجنة وذي المجاز واستغنوا عنها بأسواق مكة ومنى وعرفات.

الناحية العلمية : وليس غريبا أن تكون لهم حياة علمية فقد كانت لبيئتهم علوم ألموا بها وبرز بعضهم فيها تبريزا واضحا ترك أثره في معارف الأجيال الى حقبة طويلة من العصر الاسلامي.

كانوا يعنون بأنساب العرب وأخبارهم ويروون من أحاديث الأمم التي سبقتهم أو عاصرتهم أو احتكت بهم في تجارة أو جوار ، وظلموا يتناقلون ذلك في أسمارهم ومجاسهم حتى أصبحت معارفهم في ذلك مادة ثرثرة استطاع بعدهم كثير من المدونين أن يعتمدوا ما تناقل عنهم ويسجلوه كتاريخ معترف به.

وعنوا عناية خاصة بالنجوم ومواقعها وحركاتها وأتقنوا منازلها في البروج وكان الكلدانيون في عهدهم شبه متخصصين في فن النجوم فتفرغ بعضهم للاتصال بهم والأخذ عنهم حتى استقام لهم علم كامل كانوا يعتزون بمعارفه الواسعة.

وتوسعوا في فهم الأنواء والأمطار فكان لهم علم بالسحاب وأنواعه ومواقع المطر بالنسبة لوديانهم وعرفوا الرياح واتجاهات سيرها وسموا أنواعها بما يتفق مع حركاتها فمنها الصبا والدبور والصرصر والعاصف الى غير ذلك من أسماء لا يزال أصحاب الفراسة الى اليوم يطلقونها عليها تقليدا للعرب في جاهليتها.

٥٨

ومارسوا الملاحة في البحر الأحمر وأتقنوا فنها وربطوا أوقاتها بحركات النجوم كما اهتدوا بالنجوم في سيرهم الى المواطن البعيدة من موانئهم وامتدت رحلاتهم جنوب البحر حتى اختلطوا بالمحيط الهندي وغذ بعضهم في المحيط الهندي الى شواطىء بعيدة المنال ذكرها بعضهم في رحلات العرب ، وبذلك استقامت لملاحتهم قواعد ظلت متوارثة واستطاع المسلمون في عصرهم الذهبي أن يستفيدوا منها.

وكانت لهم معلومات في الطب يعتد بها .. معلومات أظهرتهم على جميع العضلات في الجسم فأطلقوا الأسماء عليها مما تجده مفصلا في كتب اللغة ومصادرها الأصلية وانى لهم أن يعرفوا هذه المسميات لو لم يعرفوا مواقعها في الجسم ويدركوا وظائفها فيه وامتدت معلوماتهم تبعا لذلك الى النباتات فعرفوا خواصها وكانوا يستفيدون منها لوصفاتهم ، وعرفوا الى جانب ذلك العلاج بالكي والبتر والفصد والجحامة ، وكان لهم في ذلك حكماء مبرزون اشتهر منهم الحارث بن كلدة الثقفي وقد عاش حتى أدرك معاوية واعتمده المتطببون في عصر معاوية كأستاذ له قيمته العلمية ، ولا نزال الى اليوم نقلد ما ورثناه من طب العرب في بعض مجتمعاتنا حتى المتمدنة منها ونعترف بكثير من آرائهم فيه ولا يزال في باديتنا الى اليوم من يقصده صاحب مرض استعصى على الطب الحديث فيفيدونه بأعشابهم أو فنهم في الكي ، ولا ننكر أنهم استفادوا معلوماتهم من أمم سبقتهم شأن الحياة في مختلف عصورها ولكننا نعرف أنهم أضافوا إلى ذلك ما اكتسبوه بتجاربهم وحذقهم.

ومن معارفهم القيافة والفراسة والرياضة ، ولها قواعد عندهم لا تكاد تجاريهم فيها أمة الى اليوم رغم مرور نحو ألفي سنة على شيوعها بينهم فمن

٥٩

قيافتهم تتبع آثار الضال والهارب انسانا أو حيوانا ومتابعة خطواته مهما اختلطت بخطوات غيره ، وهو فن لم يبلغ حد الاتقان عند غيرهم إلى اليوم ولا يزال بيننا من ورثهم في هذا الفن ويثير الدهشة في أرقى مجتمع متحضر ومن فراستهم الاستدلال بهيئة الشخص وشكله وكلامه على أخلاقه وهو فن يدرس اليوم في الجامعات وربما قصر عن الشأو الذي بلغه في البادية قبل ألفي سنة.

ومن عنايتهم بالقيافة أنهم كانوا يكتشفون مواطن الماء ويعرفون مظانه باستدلالات خاصة لا يستعينون فيها بآلة ، وقد توصلوا بذلك الى مئات الآبار التي احتفروها في مكة يوم كانت مكة لا تجود بقطرة ماء كما احتفروا مثلها في سائر المواطن التي سكنوها من البادية وكانت مظنة لوجود الماء.

وعرفوا الكهانة والعرافة والعيافة (١) فكانوا يستدلون على الحوادث بالنجوم وكان الكاهن يمتاز بينهم بذكاء يعتمد فيه على القرائن ومقارنة الماضي بالحاضر ، وقد استطاع الكهان والعراف لفرط ذكائهم أن يضللوا عامة الناس ويستغلوا غفلتهم فحاربهم الاسلام وأنقذ الناس من براثن ذكائهم.

الناحية الفنية : ونقصد بها حياة الفن اللاهي ، فقد قيل «لم تكن أمة من الأمم بعد فارس والروم أولع بالملاهي والطرب من العرب (٢) ولا نشك أن قريشا في مكة كانت وجه العرب البارز فلا بد أنها برزت في الغناء يساعدها على ذلك ثراؤها وأرباحها وانعدام الرباط المقدس الذي يحد من حريتها.

__________________

(١) الكهانة الاخبار عن المغيبات في المستقبل ، والعرافة اخبار عن المغيبات في الماضي وقيل معناهما واحد ، كما قيل ان الكهانة خاصة بالمستقبل والعيافة خاصة بالماضي ، وكلها ترهات تعتمد على ذكاء المحترف.

(٢) المسعودي ٨ / ٣١

٦٠