تأريخ مكّة دراسات في السياسة والعلم والاجتماع والعمران - ج ١-٢

أحمد السباعي

تأريخ مكّة دراسات في السياسة والعلم والاجتماع والعمران - ج ١-٢

المؤلف:

أحمد السباعي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الطبعة: ٠
ISBN: 9960-660-17-6
ISBN الدورة:
9960-660-18-4

الصفحات: ٧٩٣

الى تركيا فوافاه التأييد.

ولم يدم امر سعيد بن بركات طويلا حتى بدأ الخلاف بينه وبين الأشراف ولعل أهم ما دعا الى ذلك أنه امتنع عن دفع حقوقهم في واردات مكة وهي ثلاثة ارباع المحصول وكان الأشراف قد اتصل بهم ان الخليفة في تركيا كتب اليهم بعد التعيين بدفع تلك الحقوق فأخفى ما وصله عند ذلك فاشتد شغب الاشراف ضده وطالبوه بالحضور الى مجلس الشرع فصالحهم ورضي أن يدفع لهم.

ويبدو ان الاشراف استطاعوا على اثر ذلك ان يتصلوا بحقوقهم مباشرة فقد شرع كل فريق يندب لنفسه جباة ويتخذ له عسكرا لحراسة جبايته حتى استخدم بعضهم نحو مائتي موظف جعلهم جنودا لحماية قومه وحصته في الواردات.

وتكلف الأشراف بحراسة أجزاء خاصة بهم في البلاد مقابل شركتهم في الواردات فكان كل فريق منهم يتخذ لعمله عساكر حراسا (١) كما لو كانت البلدة موزعة بين اكثر من حكومة وامنها مسؤول من أكثر من شخص.

ولا استطيع أن افهم اي معنى لهذا النظام ولماذ سنه الاتراك وكيف وافقوا عليه ان لم يسنوه وأي غرض كانوا يقصدون من ورائه كما لا ادري متى سن ذلك لأن مؤرخي مكة لم يذكروا شيئا يتعلق بذلك قبل هذا وعلى كل حال فقد اضطربت الاحوال واصبح في مكة أكثر من مسؤول كما أصبح لكل مسؤول ادارته الخاصة وموظفوه وجباته وعسسه فاشتد الاحتكاك بين هذه الادارات وعانى الشريف سعيد من توزيع الاختصاص ما لا يطاق.

وأراد أمراء الحج في موسم ١٠٩٤ أن يجمعوا بين المتخاصمين فلم يوفقوا

__________________

(١) منائح الكرم للسنجاري «مخطوط»

٤٤١

لان الشريف سعيدا كان يمانع ان يتخذ الاشراف لأعمالهم جنودا مختصين بهم وكان الاشراف يرون ان ذلك حق لهم تقرهم عليه حقوقهم في واردات البلاد بموجي مراسيم خاصة (١).

وزاد الامر شغبا وذلك أن والي جدة التركي استولى في هذه الاثناء على بعض الغلال الواردة للاشراف لدى وصولها جدة فاغتنم الاشراف فرصة مجيئه الى الحج ومنعوا خروجه من مكة حتى يدفع لهم ما اغتصبه فتفاقم الشر واصر الأشراف حتى نزل الوالي على امرهم وسلم اليهم ما يستحقونه وتعهد بعدم العودة الى ما كان.

واستغل اصحاب الفساد اضطراب الاحوال في مكة وعجز الشريف سعيد عن توحيد السلطة فراحوا يعبثون بالامن في الاسواق وضج الناس وكثرت حوادث القتل والاغتيال وعمت الفوضى (٢).

وفي هذا العهد صدر امر الخليفة العثماني بابعاد الشيخ محمد بن سليمان المغربي الذي تقدم ذكره في عهد بركات من بلاد الحرمين وكان قد ابعد قبل الى المدينة ثم عاد الى مكة فتبلغ فيها أمر ابعاده ولكنه أبى الا أن يقضي حجه فلم يقبل منه وأرسل الشريف سعيد اليه بعض خدمه لاخراجه بالقوة وكان يسكن في مدرسة تطل على الحرم بجانب مدرسة الداودية فامتنع عن الخروج واتصل بعض اصحابه بالشريف ثقبة بن قتادة واستغاث به فتوسط في نقله الى بعض املاكه في خليص (٣) ولما وافت أيام الحج

__________________

(١ و ٢) منائح الكرم للسنجاري «مخطوط»

(٣) وادي خليص شمال عسفان

٤٤٢

أدى مناسكه ثم غادر البلاد ولم يعد اليها (١).

هدايا سلطانة اشي : وفي هذا العهد وصلت هدايا قيمة من الذهب وبعض الطيوب النادرة من «سلطانة آشي» وقدر كبير من الصدقات لفقراء مكة فتقبلها الشريف سعيد على انها مهداة له لان اباه بركات كان قد ندب أحد خاصته ببعض الهدايا الى الهند فمر مندوبه بسلطانة آشي فحملته تلك الهدايا الا ان الاشراف ابوا الا ان يأخذوا حصتهم ـ ثلاثة أرباع تلك الهدية ـ فرفض اجابتهم ثم اضطر لما رأى من شغبهم الى مهادنتهم فأعطاهم نصيبهم منها ثم وزع على الفقراء حقوقهم في الصدقة بحضور الاشراف (٢)

ولما كثرت أعمال الشغب على النحو الذي ذكرنا انفا واتصلت الاخبار بعاصمة الخلافة ـ استامبول رأى اصحاب الامر فيها ان خير ما يمكن عمله هو عزل الشريف سعيد عن الامارة ولم يمض فيها اكثر من سنة واحدة.

عودة الحكم الى ذوي زيد ـ أحمد بن زيد : وفي هذه الأثناء كان الشريف احمد بن زيد موجودا في تركيا لأنه استوطنها على اثر فراره يوم العيد من منى بصحبة اخيه سعيد بن زيد كما مر معنا سنة ١٠٨٣ فرأى الخليفة ان يعهد اليه بالامارة ليحل محل سعيد بن بركات فصدر مرسومه بذلك وقد قيل ان الشريف أحمد عرضت عليه أثناء اقامته في استامبول ولاية طرسوس كما عرضت عليه امارة اخرى بجهة «الروملي» فلم يقبل واحدة منهما وقال ان تفضلتم بولاية بلادنا والا فاني باق تحت انظار السلطنة الا ان السلطنة ما لبثت ان اضطرته الى قبول ولاية كرك كلية فظل فيها نحوا من سنة ثم عاد الى الاستانة وظل بها الى

__________________

(١) افادة الانام للشيخ عبد الله غازي «مخطوط»

(٢) خلاصة الكلام للسيد الدحلان ١٠٤

٤٤٣

ان تم اختياره لامارة مكة في عام ١٠٩٥ (١).

وقيل ان السلطان عندما قابل الشريف احمد يوم تقليده الامر صافحه بغاية الاجلال وهو يكرر اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد .. ثم قال له يا شريف أحمد ان الحجاز خراب واريدك لتصلحه (٣) وهكذا عاد الحكم الى ذوي زيد بعد ان غادرهم اثني عشرة سنة.

وتوجه الشريف احمد على اثر هذا الى الشام ليصحب الحج الشامي.

وانتهت الاخبار الى مكة بقدوم الشريف احمد فاسرع الشريف سعيد الى استحضار الشريف مساعد بن زيد وقال له في مجمع من كبار الاشراف ان عمك الشريف احمد في طريقه الى مكة ليتولى امرها بدلا مني وسأغادر مكة بناء على ذلك بعد ان استودعك أهلي ليظلوا في صيانتك حتى يتم ترحيلهم فقبل مساعد ذلك.

وفي صبيحة الليلة التي سافر فيها الشريف سعيد انعقد مجلس في المسجد خلف مقام الحنفي حضره سائر الاشراف ووالي جدة والقاضي والمفتي والعلماء ووجوه الناس وقرروا اقامة «مساعد» في الامارة وكالة عن عمه الى ان يصل عمه مكة (٢).

ووصل الشريف احمد الى مكة في ٢ ذي الحجة ١٠٩٥ ودخلها في موكب حافل وجلس للتهنئة على عادتهم في ذلك ومدحه الشعراء الذين مدحوا من قبله وسيمد حون من بعده.

__________________

(١) خلاصة الكلام للسيد الدحلان ١٠٤

(٢) منائح الكرم للسنجاري «مخطوط»

٤٤٤

وما لبث احمد ان نشر لواء العدل فاستقر الناس بعد اضطرابهم وأمنت الطرق (١).

حادثة الشيخ القلعي : وفي هذا العهد جرت الحادثة المشهورة بحادثة القلعي وتتلخص في ان المصلين بالمسجد الحرام ظلوا في فجر يوم ١٥ ربيع الثاني عام ١٠٩٧ ينتظرون حضور الامام المختص بالصلاة وهو الشيخ تاج الدين القلعي فأبطأ فتقدم للصلاة بالناس احد الحاضرين من المجاورين.

وكان والي جدة وهو شيخ الحرم لذلك العهد أحمد باشا مع المصلين فلما علم بابطاء الشيخ القلعي غضب لذلك واستدعاه الى مدرسة الداودية وأمر بضربه على رجله.

فلما علم الأئمة بما نال زميلهم اشتد سخطهم واتصلوا فورا بامير البلاد أحمد بن زيد وطلبوا اعفاءهم من الامامة جميعا أو ترد كرامتهم اليهم بتأديب أحمد باشا.

فطلب الامير اليهم ان يتقدموا الى مفتي البلاد الشيخ عبد الله عتاقي زاده باستفتاء رسمي في ذلك ليوقع بامضائه على ما يقضي به الشرع فلما تقدموا به وقع المفتي بوجوب تعزيز من اهان اهل العلم.

فكتب الأمير باحالة الافتاء الى القاضي الشرعي فاستحضر القاضي الباشا وحكم عليه بالتعزيز الا ان الباشا استرضى الشيخ القلعي وصحبه الى بيته وطيب نفسه فتنازل عن دعواه.

وأسرها الباشا للمفتي فلم تمض مدة حتى تقدمت شكوى الى الباشا بصفته

__________________

(٢) منائح الكرم للسنجاري «مخطوط»

٤٤٥

شيخ الحرم بان المفتي احدث لبيته مجرى «قصبة» في جدار المسجد فانتدب من يشرف على ما أحدث فقرر المشرفون ان «القصبة» غير محدثة فلم يقنع حتى اطلع عليها. وقد قيل انه لم يجد شيئا محدثا ولكنه رغم ذلك استحصر المفتي وسبه وضربه حتى ادماه وداسه برجله فذهب المفتي الى الشريف يشكو ما حدث وذهب الباشا ملتجئا ببيت القاضي «وهو من الاتراك في العادة» فأرسل الشريف الى القاضي يطلب حجز الباشا حتى يقضي الشرع فيه وضج الاهالي في مكة وتألبوا جماعات حول بيت القاضي واخذ بعضهم يحصب النوافذ بحصباء الحرم.

رأى الباشا أن يلتجىء بعد هذا بالشريف احمد امير البلاد فأصلح الامر بعض الاصلاح واسترضى المفتي مؤقتا ثم كتب الى الخليفة في تركيا فجاء الامر بعزل احمد باشا عن ولاية جدة ومشيخة الحرم (١).

اجلاء النصارى عن جدة : وفي هذا العهد أصدر شيخ الحرم والي جدة أمره بان لا يبقى في جدة غير مسلم وشدد في تعقبهم فغادر جدة غير المسلمين عن آخرهم ولم يبق منهم الا من اعلن اسلامه (٢).

وغزا الشريف أحمد القبائل العاصية في شرق البلاد فطوعها ثم انتقل الى الشمال حتى انتهى الى المدينة ثم عاد الى مكة فدخلها في هلال ذي الحجة محرما فطاف وسعى بالليل ثم خرج الى الزاهر فبات ليلته ليدخل مكة في الصباح في موكبه الرسمي على جري عادتهم.

__________________

(١) خلاصة الكلام للسيد أحمد زيني دحلان ١٠٨

(٢) افادة الانام للشيخ عبد الله غازى «مخطوط»

٤٤٦

وفي اواخر ربيع الثاني عام ١٠٩٩ مرض الشريف احمد وفي ١٢ جمادي الاولى ١٠٩٩ توفي الى رحمة الله عن عمر يناهز ٧٤ سنة وكانت ولايته هذه أربع سنوات الا ثلاثة ايام

ازالة النواتىء : وفي هذا العهد امر احمد باشا نائب الشرع بلكات العسكر الانكشارية في عام ١٠٩٨ ان يمروا من باب الصفا الى المروة ليزيلوا النواتىء والظلل ثم ركب في اثرهم فدخل الى سويقة والشامية وأمر بازالة نواتىء الدكاكين فيها (١).

سعيد بن سعد : وكان ابن اخيه سعيد بن سعد بن زيد يخصه بمحبته ويعتمده في كثير من اعماله وربما امره بالجلوس في منصته بديوان الامارة فلما توفي العم اجتمع كبار العسكر وبعض الاشراف والاعيان لدى قاضي الشرع واتفقوا على تنصيب سعيد وقد نصبوه وكتبوا بذلك الى مقر الخلافة في تركيا.

وكان الشريف احمد بن غالب ـ من ذوي بركات ـ يقيم في هذه الاثناء في ينبع فكتب الى صاحب مصر وهو من الاتراك يبذل ما لا يقدره الدحلان (٢) بمائة كيس ويطلب اليه العمل على توليته مكة ووهبه غير ذلك مالا كان مجتمعا في مصر لفقراء مكة يبلغ نحو ٧٥ ألف قرش!! فكتب صاحب مصر الى والي جدة بموافقته على تنصيب الشريف أحمد فامتثل والي جدة ونادى بذلك في جدة واتصلت الاخبار بالشريف سعيد في مكة فأبى ان يسلم وقال ان والي مصر لا يحكم الا مصر وصعيدها وان دون مكة السيف او يصدر الينا الامر من السلطان.

__________________

(٢) منائح الكرم للسنجاري «مخطوط»

(٣) خلاصة الكلام ١١٠

٤٤٧

وتحرك عسكر جدة بصحبة الشريف احمد بن غالب متوجهين الى مكة فلما انتهى الى النوارية (١) وكان ذلك في اواخر رمضان عام ١٠٩٩ كتب الى الشريف سعيد يطلب اليه مغادرة البلاد فلم يمتثل وفي غرة شوال تقدم العسكر الى مكان العمرة عند مسجد عائشة فشعر الشريف بدنو الخطر ورأى بعض انصاره يتخلون عنه فغادر البلاد عن طريق الطائف.

احمد بن غالب : ودخل الشريف احمد بن غالب مكة في ثاني شوال ١٠٩٩ في موكب حافل وهنأه المهنئون وامتدحه الشعراء على جري العادة.

وفي شهر ذي القعدة وصل مرسوم سلطاني يتضمن أن والي مصر كتب الى الخليفة بان الاشراف متفقون على تنصيب احمد بن غالب وان الدولة توافق على تأييده فقرىء المرسوم في الحطيم وزينت مكة ثلاثة ايام.

ومن أعمال احمد انه اعلن للتجار والاغنياء ان يقدموا زكاتهم الى دار الامارة لتتولى صرفها (٢).

وما اهل عام ١١٠١ حتى كان الخلاف قد نشب بين الشريف أحمد وكثير من الاشراف فأعلن ذوو زيد عصيانهم وتوجهوا الى ينبع فنادوا فيها بامارة محسن ابن الحسين بن زيد واعلن جماعة من ذوي عبد الله ـ العبادلة ـ العصيان وتوجهوا الى القنفذة فاحتلوها وقطعوا الطريق الى اليمن ثم اعلن العصيان ذوو حارث ثم اعلنه غيرهم من الاشراف وقد اجتمع هؤلاء باحد أولاد مبارك بن شنبر واعتصموا بالحسينية على كيلو مترات من مكة.

وبذلك عمت الفوضى واضطرب الامن واشتد الكرب وما اهل رجب حتى

__________________

(١) هي بطن سرف بين التنعيم ووادي فاطمة

(٢) منائح الكرم للسنجاري «مخطوط»

٤٤٨

كانت الاخبار قد وافت الى مكة بان العصاة في ينبع والطائف ينادون بامارة محسن بن الحسين بن زيد وأن والي جدة نادى به في اسواق جدة وان الاشراف يجتمعون في الزاهر (١) حيث يوافيهم عسكر جدة لهجوم مكة فأمر الشريف احمد بنصب المدافع في الشبيكة والمسفلة والمعلاة في كل جهة مدفعان ثم اخرج بعض بني عمه في جماعة من عسكره اليمنيين وبعض الاشراف الى جرول لملاقاة اعدائه في بيت الزاهر وندب بعض المقاتلة للدفاع من جهة المسفلة والمعلاة وبقي في بيته ينتظر النتائج.

وندب الشريف محسن بعض الاشراف لمقابلة قاضي الشرع في مكة فلما قابلوه عرضوا عليه صورة مرسوم بتعيين الشريف محسن وقالوا انه صورة طبق الاصل وطلبوا تسجيله فامتنع القاضي حتى يحضر الاصل فثاروا به وضربوه واشتبك اتباع الفريقين في المسجد وفي جوار المحكمة بباب الزيادة وهوجمت بعض بيوت الاعيان والموظفين.

وفي اثناء الاضطرابات ارسل الشريف محسن برسالة خاصة الى الشريف احمد قبل الامير على اثرها ان يغادر مكة فغادرها في ٢٢ رجب عام ١١٠١ بعد ان حكمها سنة كاملة وتسعة وعشرين يوما (٢).

وفي التذييل على شفاء الغرام للعلامة الفاسي (٣) ما يخالف هذا فيقول : ان ذوي زيد تقدموا الى مكة من الطائف فاحتلوا جزءها الاعلى عنوة وأقاموا به يناجزون خصمهم نحو ٢٠ يوما حتى استطاعوا اجلاء أحمد بن غالب عنها.

__________________

(١) هو وادي فخ ونسميه الشهداء أو الزاهر.

(٢) خلائة الكلام للسيد دلاحن.

(٣) تذييل الشيخ عبد الستار الصديقي ٣٠٧.

٤٤٩

والتجأ أحمد بامام اليمن وحاوله ليساعده على استرداد الحكم في مكة فلميقبل ثم ما لبث أن طيب خاطره وولاه حكم بلاد عسير وكانت تابعة لحكم اليمن ثم اضاف إليه بعض الامارات وقد ظل في حكمه نحو ٤ سنوات (١).

محسن بن حسين بن زيد : واستولى محسن على أمر مكة فلم يتسامح مع أنصار خصمه فقد عاقب كثيرا منهم وانتزع مفتاح الكعبة من الشيخ عبد الواحد الشيبي وأعطاه لأخيه عبد الله بعد ان اثبت عبد الواحد في مجلس شرعي أنه اعطى بعض قناديل الكعبة للشريف أحمد وأحضر الصواغ الذين شهدوا انهم صاغوها أسورة وحجولا ... وذكر بعضهم ان الشريف أحمد ضربها نقودا وتداولها الناس (٢).

وتلقى الشريف محسن مرسوم تأييده من الخليفة في استامبول عن طريق مصر فقرىء في حفل عام في الموسم الا أن الاشراف من ذوي زيد وغيرهم ما لبثوا ان تنكروا لمحسن وخرج عليه غير واحد (٣) منهم فقطعت الطرق ونال الناس كرب شديد وظلت قوافل الأرزاق لا تصل الى جدة الا اذا أرسل بمعيتها صنجق جدة من يحرسها فاشتد لذلك غلاء الاسعار واجتمع القاضي مع صنجق جدة في دار الشريف محسن وقالوا له : اذا كنت لا تستطيع تأمين البلاد فتنح عن الامر ، فقال : ان أنصاري من الاشراف يأبون قتال بني عمومتهم من الخارجين فأعينوني بعسكر من المصريين لتأديب الخارجين فرفض كبار العسكر وقالوا ان مهمتنا في مكة وليست في البوادي الخارجة عنها (٤).

__________________

(١ و ٤) المخلاف السليماني ٢ / ٤٠٤.

(٢) تاج تواريخ البشر للحضراوي (الخطوط).

(٣) تذيل شفاء الغرام للصديقي ٣٠٧.

٤٥٠

تفاقم الامر عندما قام بعض الاشراف الخارجين من ذوي زيد يطالبون باعادة الشريف سعيد بن سعد من ذوي زيد الى الامارة ونشط الشريف سعيد للامر لأنه يرى انه أحق بامارته التي سحب منها مؤقتا بناء على رأي ذوي زيد وأن الاولى بهم ألا يختار وغيره بعد ظفرهم وبذلك انقسم ذوو زيد بين معارض ومحبذ وطلب الى الشريف محسن ان يتنازل عن الامارة لسعيد فأبى وأقسم أغلظ الايمان فاشتد الخلاف بين المتنازعين من ذوي زيد وشهرت السيوف وكادت تقع الفتنة لولا أن اخا للشريف سعيد هو مساعد بن سعد أدركهم بحل ظريف يتلخص في ان يتنازل محسن له «أي مساعد» عن الامارة برا بيمينه ، فلما قبل هذا قام بدوره واعلن تنازله لسعيد واراد صنجق جدة ان يمنع سعيدا من دخوله مكة مع أتباعه فاتصل به بعض الاشراف واخبروه أنه سيقتل عند اول حركة يغادر سوق المعلاة لمنع سعيد فتراجع وترك سعيدا يحتل مكة وذلك يوم الاحد ٧ محرم عام ١١٠٣ وبذلك عادت الامارة للمرة الثانية الى صاحبها سعيد بعد ان حكمها محسن سنة وخمسة أشهر وثلاثة اسابيع (٢).

سعيد بن سعد للمرة الثانية : وما استقر الامر لسعيد حتى كتب القاضي ووجهاء الاشراف الى استامبول بما حدث طالبين تأييده فأبطأ وصول التأييد وفر محسن الى المدينة وأثار بعض من فيها ولكنه لم ينجح ، ثم ما لبث أن تم بينه وبين سعيد الصلح على ان يتناول لقاء ذلك حصة خاصة من غلة البلاد.

وفي جمادي الاولى من السنة نفسها ١١٠٣ ورد كتاب من صاحب مصر بموافقته على ما جرى وانه كتب الى استامبول بذلك وينتظر التأييد ثم اردفه

__________________

(١) خلاصة الكلام للسيد دحلان ١١٦.

(٢) افادة الانام «مخطوط»

٤٥١

بكتاب آخر في جمادي الثانية يقول فيه : ان السلطنة ولت امر مكة الى سعد ابن زيد والد سعيد المذكور (١) المقيم في تركيا وذلك قبل وصول خطابنا ويطلب اعتماد ذلك وفي طيه المرسوم الخاص بذلك وأن يكون سعيد نائبا عن ابيه ومساعدا له.

سعد بن زيد للمرة الثانية : وأهل موسم الحج عام ١١٠٣ فأهل معه موكب الامير الجديد سعد بن زيد واحتفل بتأييده في المسجد على جري العادة وتغنى الشعراء والمهنئون أمامه (٢) بالمديح التقليدي المعتاد.

وهي الولاية الثانية له بعد ان تغيب عن مكة نحوا من ٢١ سنة ودخل مكة في ذي الأروام ، فقد لبس عمامته على «قاووق» وكان يغلب على لسانه بعض ألفاظ اهل والشام ، ثم ما لبث أن لبس عمامة الحجاز ، وما كاد يستقر حتى جاءت الاخبار من جنوب البلاد بان احمد بن غالب هاجم القنفذة واحتلها ثم هاجم الليث وانه في طريقه الى مكة فاستعد لملاقاته الا ان احمد ما لبث ان كتب اليه يستأذنه في سكنى مكة بدون قتال فاذن له فأقام ببستانه في الركاني قريبا من مكة (٣).

وفي عهد الشريف سعد عصت بعض قبائل حرب فقاتلها فانتصرت عليه فعاد الى مكة ثم استأنف قتالها في السنة الثانية فانتصر عليها.

وفي عهده خرج عليه جماعة من ذوي عبد الله ـ أشراف العبادلة ـ واعترضوا القوافل في طريق الليث فاضطرب الا من وعاث المتلصصون في مكة حتى اضطر

__________________

(١ و ٢) تذييل شفاء الغرام للشيخ عبد الستار الصديقي ٣٠٧

(٣) افادة الانام «مخطوطة»

٤٥٢

الى مشاركة العسس في حراسة البلاد ثم ما لبث ان سلم العصاة انفسهم.

وظل الشريف سعد في امارته نحو ثلاث سنوات وكان على بره بكثير من الاشراف اذا استثنينا ما ذكرنا وعلى اتفاقه مع الاهالي لا يميل الى ملاينة رؤساء المصالح من الاتراك لديه. وكان شديد الخلاف بنوع خاص مع صنجق جدة محمد باشا ولعل ذلك نتيجة كرهه لموظفي الاتراك المتسلطين.

وقد سعى ضده سنجق جدة لدى دار الخلافة واستطاع ان يستصدر أمرا بعزله وتولية الشريف عبد الله بن هاشم من ذوي بركات فامتنع سعد عن تسليم الامارة فحاصره عسكر صنجق جدة وساعد عليه عساكر أمراء الاتراك ونصبت المدافع عند باب العتيق (١) وفى المسعى وقد مات بفعلها اكثر من مائة شخص ونهب عبيد سعد كثيرا من بيوت الاتراك كما نهبوا رباطا بسوق الليل وبعض دور مكة ثم ثبت للشريف سعد انه لا يستطيع الدفاع فاجلى عن مكة الى الحسينية في جنوب مكة ثم الى اليمن وظل بها يتحين الفرص للانقضاض (٢)

عبد الله بن هاشم : وبذلك تسلم الامارة في مكة الشريف عبد الله بن هاشم من ذوي بركات (٣) فركب من باب السلام وطيف به شوارع مكة والمنادي ينادي باسمه امام موكبه وذلك في اوائل ذي الحجة عام ١١٠٥ بعد فتنة راح ضحيتها عدد كبير من الجانبين عدا من قتل من الحجاج في عرفة وفي مكة وقد وجدت بعض القبائل الفرصة صالحة للنهب فنهبوا كثيرا من الحجاج في طريق عرفة وكثر

__________________

(١) كان منزل سعد فى دار الشفاء من باب العتيق ولعل قاعة الشفاء سميت باسم داره

(٢) افادة الأنام «مخطوطة»

(٣) تذييل شفاء الغرام للشيخ عبد الستار الصديقى ٣٠٧

٤٥٣

الفساد في طريق جدة حتى ان القوافل العائدة بعد الحج كانت لا تجرأ على السفر حتى يصحبها عسكر من مكة ليقوم بحراستها.

والمسؤول في رأيي عن اكثر هذه الوقائع هي السلطنة التركية التي كانت لا تختار لعمليات العزل الا ايام الحج فتترك الحجاج يقاسون من اهوال الفتن ما يقاسون وتتعرض اموالهم وامتعتهم لنهب اللصوص الذين يغتنمون هذه الفرص ليشبعوا رغبتهم في السلب أو يسدوا عوزهم وحرمانهم.

وقبض في هذه الفتنة على وزير الشريف سعد واسمه عثمان حميدان وكان قد اختبأ في بستان في المعابدة يسمى باسمه وقد ظل مأسورا في المعسكر ينتظر القتل ثم استطاع الهرب وفي هربه تخطى سور المعلاة ثم انحدر الى قبور ابن سليمان «السليمانية» (١) وتوجه الى الفلق ثم ذهب ملتجئا بالامير الجديد فحماه من صنجق العسكر لان خصومة الوزير كانت شخصية لا تعنى الامير بقدر ما تعني (صنجق) العسكر (٢).

عودة سعد للمرة الثالثة : وظل الشريف عبد الله بن هاشم على امره عدة شهور ثم وافته الاخبار في غرة ربيع الثاني سنة ١١٠٦ أن الشريف سعدا احتل الليث وانه في طريقه الى مكة بجيش كثيف فاستنصر عبد الله بصنجق جدة واستنفر الاهالي في مكة فوافاه عسكر جدة لمساعدته وأبى الاهلون القتال حتى استصدروا من مفتي مكة الشيخ عبد الله عتاقي فتوى بجواز الدفاع ضد المعتدين.

ونظم صنجق جدة الدفاع فرتب الجند في داخل مكة ونصب المدافع وتقدم الجيش المهاجم من جهة المعلاة وانتشرت عربانه في اعالي الجبال فقتلوا الموكلين

__________________

(١) بنسبة الى الشيخ محمد سليمان المغربى

(٢) خلاصة الكلام للسيد الدحلان ١٢٢

٤٥٤

بالمدافع ثم اعملوا السيف في عسكر جدة حتى اجلوهم عن مواقعهم وادرك الشريف عبد الله ان لا فائدة ترجى فغادر مكة الى جدة ثم الى استامبول حيث توفي فيها في السنة نفسها.

وبذلك عاد الشريف سعد الى حكم مكة للمرة الثالثة (١) وجلس يستقبل تهاني المهنئين ومدائح الشعراء ومشى آلاي الترك ـ الذي حاربه بالأمس ـ بين يديه يحتفي به.

وقد أولم للعربان المناصرين ولائم كثيرة في بستان وزيره عثمان حميدان حضرها بنفسه ثم ما لبث ان تلقى في اواخر رمضان من السنة نفسها ١١٠٦ مرسوم التأييد من الخليفة فأقيمت معالم الزينة في مكة.

وفي اوائل عام ١١٠٧ ندب اخاه محسنا بن حسين لامارة المدينة وفي جمادي الاولى غزا بعض العصاة شرقي الطائف وظل في قتالهم الى ان عاد في ٢ ذي الحجة وفي هذا العام توفي مفتى مكة عبد الله عتاقي فأقيم للفتوى الشيخ عبد القادر أبو بكر الصديقي.

واستقر امر مكة في هذا العهد وامنت السبل واصبح جميع الاشراف على وفاق مع سعد الا جماعة من ذوي عبد الله ما لبثوا ان اختلفوا معه في شأن اعطياتهم وخرجوا مغاضبين فاستدعى بعض الاشراف من ذوي بركات وكلفهم بحراسة الطرق فاطاعوا ثم تلافى أمر ذوي عبد الله وأرضاهم حتى اطاعوا له.

ثم نقضوا الطاعة وتجمعوا في مكان يقال له الحمام «بتشديد الميم» من وادي فاطمة (٢) واجتمع اليهم جماعة من قبائل الروقة ومطير فاستعان سعد باقربائه من ذوي زيد وأصدقائه من ذوي بركات وسار اليهم فعلم أنهم تركوا الحمام في

__________________

(١) منائح الكرم للسنجارى «مخطوط»

(٢) آثار الحمام باقية الى اليوم وكان قد بناه بعض الأشراف حوالى القرن الحادى عشر الهجري بجوار بيوتهم هناك

٤٥٥

طريقهم الى جدة فاتبعهم حتى قضى على حركتهم فاطاعوه واخلصوا له وبذلك عاد الاستقرار الى ما كان (١).

وبذلك استمر في ولايته نحو سبع سنوات.

شرب الدخان : وفي هذا العهد ظهر شرب الدخان في مكة وقد قيل انه انتقل اليها من مصر في عام ١١١٢ ثم ما لبث ان ظهر شرب التنباك (٢) والمعروف عن بعض المؤرخين ان شجرة الدخان ظهرت أول ما ظهرت في عام ٩٩٩.

سعيد للمرة الثالثة : ثم رأى ان يتنازل لابنه سعيد عن الامارة فكتب بذلك الى مقر الخلافة فلما وافاه التأييد احتفل بذلك سنة ١١١٣ وبذلك عاد سعيد الى الامارة للمرة الثالثة وجلس في داره بسوق الليل لاستقبال المهنئين.

النكبات في عهد سعيد : وكان سعيد يتميز بشيء من العناد وصلابة الرأي لهذا ما عتم ان اختلف مع بني عمومته من الاشراف (٣) وماطل في حقوقهم فاضطرب عليه الامر وتفاقم وعانى كثيرا من الشدة في سبيل ذلك نحوا من ثلاث سنوات.

فقد خرج عليه جماعة من أشراف آل بركات وآل حسين وآل قتادة وبعض ذوي زيد واجتمعت كلمتهم على الخروج الى وادي مر «وادي فاطمة» فقطعوا السبل وقد ذهب اليهم الشريف سعد «والد الشريف سعيد» فشكوا اليه تأخر

__________________

(١) خلاصة الكلام للسيد أحمد زيني دحلان ١٢٨.

(٢) افادة الانام للشيخ عبد الله غازى «مخطوط»

(٣) تدييل شفاء الغرام ٣٠٨.

٤٥٦

حقوقهم فاسترضاهم ووعدهم فقبلوا الا ان سعيدا أبى الصلح الا بعد ان يخصم ما نهبوه من استحقاقهم فلم يقبلوا وعادوا الى عصيانهم ثم طلب اليهم صنجق جدة ان يخففوا من غلوائهم حتى تنقضي أيام الحج ففعلوا ولما انتهت أيام الحج انتقلوا الى الزاهر وارسلوا الى الشريف يطلبون محاكمته لدى قاض مكة احمد البكري فقبل.

وانكر في مجلس الشرع ان لهم حقوقا معينة وقال انها ليست الا مبرة يتبرع بها امير مكة فغضبوا وأمعنوا في الغضب والعصيان واستطاعوا ان يربحوا الى صفوفهم صنجق جدة وان يجعلوا والد سعيد يعطف على فكرتهم.

وأهل المحرم عام ١١١٦ فأهلت الفتنة بانطلاق عبيد الاشراف الى اعالي الجبال المحيطة بمكة مما يلي تربة العيدروس والشبيكة الى اسفل جبل عمر ومما يلي جبل الشامية الى الجبال المطلعة على المعلاة وقد احتل بعضهم بعض بيوت الاشراف في الشبيكة فنشط الشريف سعيد للدفاع ومضى في جنده الى سوق الصغير فلم يستطيع التقدم فعطف الى سويقة ثم الى الشبيكة فدافع المهاجمين عنها حتى اجلاهم (١).

ثم ارتحل الثوار الى طريق جدة واختار والرئاستهم رجلا من ذوي زيد هو الشريف عبد المحسن بن احمد ونزلوا في غليل ـ من ضواحي جدة ـ الشرقية ـ ثم اتفقوا مع صنجق جدة على دخولها فدخلوها ونادوا بامارة عبد المحسن فيها ثم كتبوا الى المدينة باسمه فيها كما كتبوا الى قبائل حرب وقبائل اليمن والشمال فأطاعوا.

__________________

(١) خلاصة الكلام للسيد أحمد زيني دحلان ١٣٠

٤٥٧

وتقدمت الجموع مع عبد المحسن من جدة الى الجموم ـ من وادي فاطمة ثم انتقلت الى الزاهر وكان قد طمر سعيد آبارها فحفروها وأقاموا يرتبون صفوفهم.

ونشط سعيد للدفاع واستنفر اهل الحارث (١) واستخرج مدفعا كان مدفونا في دار السعادة ارسله الى ذي طوى (٢) ودفع بعض العلماء الى مجلس القضاء لينهوا أمر الخطر الى القاضي ويستصدروا امرا شرعيا بوجوب الدفاع فكتب القاضي حجة بذلك كما كتب سعيد لقائد القوات في جدة يطلبه الى مجلس الشرع ليقيم عليه الدعوى لمساعدة قطاع الطرق على من ولاه السلطان وفي كتابه يقول «فاذا لم تمتثل بالحضور لدى القاضي كفرت!!»

وهكذا يدور الكفر ما دارت اغراضنا ونسمي حكام الأمس قطاعا كما نسمي القطاع غدا حكاما شرعيين ونجد في مجالس القضاء مجالا لاقرار ما نفيناه ونفى ما أقر رناه.

وتكاملت قوى سعيد فخرج في مقاتلته من الجند المصري واليمني وأتراك الانكشارية (٣) وبعض القبائل الموالية بعد ان حصن بعض الجبال بالمدافع ثم تقابل الفريقان في ذي طوى وخرج جماعة من شباب الاشراف المهاجمين يصولون بالسيف ويطلبون المبارزة ودام القتال اربعة ايام فبدا للشريف سعيد انه لا

__________________

(١) اهل الحارات كناية عن السوقة في كل حارة من اقسام مكة وكانوا ولا يزالون يسمون كذلك للتفرقة بينهم وبين الطبقة المتعلمة في كل حارة

(٢) هو وادي ذي طوى بين مقبرة الحجون بالمعلاة وريع الكحل وتمتد فروعه الى جرول

(٣) الانكشارية فرقة أسسها ثاني سلاطين آل عثمان «أورخان بن عثمان» بطريقة خاصة فقد كان يأتي بالاحداث من أسرى النصارى فيربيهم على الاسلام تربية ينشئون فيها على خدمة الدولة والعناية بحمايتها عسكريا وكان السلاطين في ذلك العهد يكلون الى هذه الفرقة اهم نواحي الدفاع في المملكة اعتمادا على ما يبثونه فيها من روح وقد تآلفت الفرقة اول ما تآلفت من الف جندي ثم ما لبثوا أن نموا

٤٥٨

صبر له على قوة المهاجمين فاستنفر العامة في المسجد بجوار المحكمة عند باب السليمانية واوعز الى الشيخ سعيد المنوفي من علماء مكة ان يخطب فيهم ليدعوهم لنصرته فما كاد الخطيب يفصح عن غرضه حتى هاج العامة ضده وحصبوه بحصى المسجد.

وادرك الشريف سعيد ان لا امل له في الظفر ورأى ان القوة المهاجمة تتكاثر فاستقر رأيه على مغادرة البلاد فغادرها ليلة ٢١ من ربيع الاول ١١١٦ وفي رواية عن الشيخ ابي السعود السنجاري ان الشريف عبد المحسن بعث اليه ليؤثث دار السعادة «وهي في مكان رواق المسجد اليوم بجوار أجياد» استعدادا لاستقباله فيها قال : وكان الشريف سعد «والد سعيد المهزوم» قائما علينا يشرف على عملية التأثيت (١).

عبد المحسن بن احمد الزيدي : ودخل الشريف عبد المحسن في صبيحة الليلة المذكورة في موكب حافل يتقدمه الآلاي المصري! والتركي! ممن كان يحارب في صفوف سعيد!! فاتخذ طريقه الى المسجد وبعد ان طاف بالكعبة قرىء مرسوم

__________________

وتكاثروا واصبحوا اصحاب كيان خاص في الدولة يعتزون به كما كان العثمانيون يباهون بهم ويرهبون بشدة بأسهم دول العالم وتربية الفريق على هذا النحو تقليد تعلمه اورخان من الروم أصحاب القسطنطينية فقد كانوا يعنون بأسراهم من احداث المسلمين ويربونهم على النصرانية في قواعد خاصة وقد ظل فريق الانكشارية عماد العثمانيين فى أهم نواحى دفاعهم زهاء خمسة قرون الا قليلا. حتى رأى السلطان سليم عام ١٤٠٣ ه‍ ان حاجة العصر تدعو الى تحسينات جديدة في الشؤون العسكرية فأسس نظامه الجديد الذي عصاه فيه الانكشارية ورفضوا قبوله احتراما لما ورثوا من تقاليد واستطاعوا أن يثوروا ضده ونجحت ثورتهم فخلعوه في عام ١٢٢٢ وبايعوا مكانه السلطان مصطفى ولم يدم مصطفى أكثر من عام واحد ثم قتل وتولى السلطان محمود الثاني فما لبث أن أيد نظام العسكرية الجديد فاصطدم مع الانكشارية واستطاع في هذه المرة أن يبيدهم ويقضي على تاريخ فرقتهم.

(١) راجع خلاصة الكلام للسيد أحمد زيني دحلان ١٣٤ وما بعدها

٤٥٩

سلطاني يتضمن بان السلطنة فوضت «صنجق جدة» سليمان باشا فاختار عبد المحسن (١) ثم نهض الشيخ عبد المعطي الشيبي فدعا للأمير بالتأييد! وصوت المبلغ فوق قبة زمزم يؤمن على ما يقول! ثم انتقل الأمير الى دار السعادة يستقبل المهنئين ويستمع الى قصائد الشعراء وزينت مكة ابتهاجا بذلك ثلاثة ايام (٢).

والذي يلاحظه المؤرخ ان تفويض السلطنة صنجق جدة ليختار من الأشراف من يصلح للأمر ظاهرة جديدة لم يعرفها الأشراف قبل هذا العهد الذي نؤرخه والغريب في أمر هذه السياسة أن جدة كانت تتبع امارة مكة وكان ذلك يقتضي ان يكون صنجقها من رعايا الامير في مكة ولكن اسلوب الاتراك في السياسة اسلوب له نوعه الخاص وقد يكونون معذورين بالنسبة للوضع الخاص بأشراف مكة.

عبد الكريم بن محمد بن يعلي : ولم يمكث عبد المحسن في الامارة اكثر من تسعة ايام ثم تنازل عنها لاحد الاشراف من ذوي بركات هو الشريف عبد الكريم بن محمد بن يعلي بعد موافقة الاشراف على ذلك وبذلك ساعد على خروج الامارة من ذوي زيد الى ذوي بركات وقد جرى مرسوم التنازل في حفل عام بالمسجد سجله القاضي وأخذ تواقيع الاشراف بموافقتهم على ذلك (٣).

سعد بن زيد للمرة الرابعة : وفي هذه الاثناء كان الشريف سعد ابن زيد الذي ترك الامارة فارا من المهاجمين ـ وهو والد سعيد ـ لا يزال مقيما في مكة لم يتعرض له المهاجمون فما لبث ان اشتبك في مشادة كلامية مع قائم مقام الأمير عبد الكريم ثم

__________________

(١) تذييل شفاء الغرام ٣٠٨

(٢ و ٣) افادة الانام للشيخ عبد الله غازي «مخطوط»

٤٦٠