تأريخ مكّة دراسات في السياسة والعلم والاجتماع والعمران - ج ١-٢

أحمد السباعي

تأريخ مكّة دراسات في السياسة والعلم والاجتماع والعمران - ج ١-٢

المؤلف:

أحمد السباعي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الطبعة: ٠
ISBN: 9960-660-17-6
ISBN الدورة:
9960-660-18-4

الصفحات: ٧٩٣

منع بيع الرقيق وثورة الاهالي : وفي اوائل عام ١٢٧١ تبلغ كامل باشا من دار السلطنة امرا بمنع بيع الرقيق علنا في الاسواق تنفيذا لمعاهدة خاصة بين عثمانيا وبعض الدول الاوربية فامتثل كامل للامر وبلغه لدلالي الرقيق فلما علم الاهالي بذلك تنادوا بالجهاد واجتمع طلبة العلم في بيت رئيس العلماء الشيخ جمال شيخ وطلبوا اليه ألا يرضخ لما يخالف الشرع وان ينتقل معهم الى دار القاضي ليمنع صدور ذلك الأمر فلما مشت جموعهم في الشوارع انضم اليها الجمهور ونادوا بالثورة واشتبكوا مع الاتراك في قتال عنيف وامتد القتال الى المسجد الحرام فقتل فيه عدة اشخاص من الفريقين فلما انتهت الاخبار الى الشريف عبد المطلب بالطائف غضب للامر وجمع جموعه من القبائل لاعانة الاهالي في مكة ضد الترك فخف الاتراك الى جدة وتحصنوا بها واعلن كامل باشا في جدة ان المراسيم السلطانية قد وصلت اليه بعزل عبد المطلب وتولية الشريف محمد بن عبد المعين بن عون ثم استدعى عبد الله بن ناصر بن فواز بن عون من مكة واقامه وكيلا عنه وذلك في اواخر ربيع الاول عام ١٢٧١ (١).

وفي هذه الأثناء وصلت جموع عبد المطلب الى مكة فأعد كامل باشا في جدة عدته لقتاله في جيش من الاتراك وبعض العرب بقيادة عبد الله بن ناصر فمضى الجيش حتى عسكر في بحره ثم تقدم الى الشميسي وكتب عبد الله بن ناصر الى رؤساء القبائل وكبار الأشراف في مكة يطلب انضمامهم اليه فأجابوه وشعر عبد المطلب ان جموعه بدأت تتفرق فخف الى الطائف بعد أن ترك الميدان في مكة يحتله عبد الله بن ناصر.

__________________

(١) خلاصة الكلام ٣١٧

٦٠١

واستنفر عبد المطلب القبائل في الطائف من بني سعد وغامد وزهران وسفيان (١) وثقيف فاجتمعت لديه جموع كثيرة استأنف بهم الهجوم على مكة فلم ينجح فعاد الى الطائف وجمع جموعا اخرى أعاد بها الكرة فلم ينجح مرة اخرى فرجع الى الطائف وذلك في اوائل شعبان عام ١٢٧١.

وفي ٨ شعبان رست في جدة الباخرة التي تقل الشريف محمدا بن عبد المعين بن عون فشد ذلك من عزم المقاتلين له واقاموا الزينات ابتهاجا بمقدمه ثم ما لبث على اثر وصوله مكة بأيام ان قاد الجيوش المحاربة الى الطائف فتحصن عبد المطلب فيها اياما ثم هاجموه هجوما شديدا في رمضان عام ١٢٧١ وأسروه ثم ارسلوه مخفورا الى دار السلطنة فعفى عنه الخليفة وأقامه في احد القصور بالاستانة وبذلك انتهت امارته للمرة الثانية بعد حكم خمس سنوات (٢)

محمد بن عبد المعين بن عون للمرة الثالثة : وهكذا تولى الامر للمرة الثالثة محمد بن عبد المعين بن عون عام ١٢٧١ وقد استتبت له الامور ثم ما لبث ان عزل كامل باشا من متصرفية جدة وولى مكانه محمود باشا الكردي ثم عزله وولى مكانه نامق باشا فوصل الى مكة في اوائل عام ١٢٧٤.

وفي ١٣ شعبان من هذه السنة ١٢٧٤ توفي محمد بن عبد المعين بن عون (٣) على اثر مرض لم يمهله الا اياما وبذلك انتهى حكمه للمرة الثالثة بعد اربع سنوات تقريبا.

__________________

(١) بنو سفيان : فرع من ثقيف. (ع).

(٢) افادة الأنام للشيخ عبد الله غازي «مخطوط».

(٣) تذييل شفاء الغرام للشيخ عبد الستار الصديقي ٣١٣

٦٠٢

وبوفاته أقيم نامق باشا وكيلا للامارة الى ان تصل المراسيم بالتعيين الجديد (١).

وكان الاشراف قبل هذا لا يقبلون توكيل الاتراك فقد كانوا في اوائل عهدهم الى القرن الحادي الهجري تقريبا يقيمون الامير الجديد ويكتبون بذلك الى دار السلطنة فيوافيهم التأييد ثم اختلف الامر بعد القرن الحادي عشر فجعلوا يقيمون الامير وينتظرون التأييد او تعيين غيره اما في عهد العثمانيين الثاني فقد تغير الامر كثيرا وأصبحنا نرى الوالي التركي يتولى الوكالة حتى يصل تعيين من تختاره السلطنة للامارة.

فتنة جدة في عهد نامق : وفي اثناء وكالة نامق في جدة في عام ١٢٧٤ حدث حادث له جسامته المهولة ذلك ان تاجرا في جد اسمه «صالح جوهر» كان يملك مركبا في البحر وكان يرفع على سارية المركب علما انجليزيا فاراد في احد الايام ان يستغني عنه بعلم عثماني فكبر على القنصل الانجليزي ذلك فمنعه فلم يمتثل فاندفع القنصل الى المركب وانزل العلم العثماني وجعل العلم الانجليزي مكانه بعد ان اهان العلم العثماني فثارت ثائرة المسلمين في جدة وهجموا على بيت القنصل فقتلوه ونهبوا بيته وفعلوا مثل ذلك بكثير من الفرنجة في جدة فلما علم نامق باشا بالامر اسرع الى جدة وسجن المتهمين بالحادث ثم كتب الى دار السلطنة بما حدث.

ومضى شهر وبعض شهر ثم اصبح الناس في جدة على اصوات قنابل يدوي هزيمها فلما استوضحوا الأمر علموا ان مركبا حربيا انكليزيا على كثب من الميناء يقذفه بقنابل مهلكة ، ففزع الاهالي في جدة وخرجوا هاربين في جموع كثيفة الى مكة.

__________________

(١) خلاصة الكلام للسيد احمد زيني دحلان ٣٢٠

٦٠٣

واتصلت الاخبار بالناس وهم في منى أيام التشريق فعم الفزع واشتد القلق ودعا نامق باشا كبار العلماء والاعيان والاشراف الى مجلس لبحث الامر فاشار المجتمعون عليه باستنفار القبائل من كل نواحي الحجاز لقتال المعتدين ، وقالوا ان مئات الالوف من هذه القبائل تستطيع رد العدوان في سبيل الله فأبي نامق ذلك عليهم وأشار بأن تصحبه لجنة منهم الى جدة لمقابلة قائد المركب الحربي ومفاوضته في الامر فقبلوا.

وانتهت اللجنة الى جدة واجتمع أعضاؤها بالقائد واستطاعوا اقناعه بتأجيل الامر حتى تصدر أوامر الخليفة بما يجب.

وفي اواخر المحرم ١٢٧٥ وصلت الى جدة لجنة مختلطة من بعض الأتراك والانكليز والفرنسيين تحمل امرا من الخليفة الى نامق باشا بتفويضها في تحقيق الحادث وتنفيذ ما تحكم به حكما قاطعا.

واظهر التحقيق ان باعث الحركة هو الشيخ عبد الله المحتسب وكبير الحضارم سعيد العامودي وقاضي جدة عبد القادر شيخ والشيخ عمر باديب والشيخ سعيد بغلف وشيخ السادة عبد الله باهرون والشيخ عبد الغفار والشيخ يوسف باناجه ، فحكمت اللجنة بقتل المحتسب والعامودي كبير الحضارم ، ونفي بقية الاشخاص الى خارج البلاد ، كما جرى الحكم بقتل ١٢ شخصا من عامة الناس ادينوا باشتراكهم في اثارة الفتنة.

٦٠٤

وبموجب ذلك نفذ الاعدام فيمن ذكر على ملأ من الناس في أوائل ربيع الاول عام ١٢٧٥ كما نفذ حكم النفي في الباقين (١).

عبد الله بن محمد بن عبد المعين : وكان العثمانيون قد اختاروا لامارة مكة قبيل هذا الحادث عبد الله بن محمد بن عبد المعين وكان يقيم في الاستانة كعضو في اعضاء مجلس الدولة برتبة وزير ، فلما بلغ الامر في اواخر عام ١٢٧٤ وعلم بحادث الفتنة رأى ان يؤخر سفره الى ان ينتهي أمر الكارثة ، وهكذا بقي في الاستانة ولم يصل الى جدة الا في ربيع الأول عام ١٢٧٥ بعد فراغ اللجنة من اعمالها وتنفيذ ما حكمت به.

ميزاب الكعبة : واصطحب معه الى مكة ميزابا للكعبة محلى بالذهب صنعه العثمانيون ليجعلوه مكان الميزاب القديم وقد احتفل بوضعه في مكانه من الكعبة على اثر وصول الامير وأعيد الميزاب القديم الى الاستانة ليحفظ في معرضها.

يحاولون زيارة مكة :

وقابلت اللجنة المختلطة عبد الله بن محمد بن عبد المعين على اثر وصوله ، ورجته ان يمنحها زيارة مكة فاعتذر من ذلك ولما ألحت في طلبها أصر على الرفض في اسلوب رقيق والذي يستحق الملاحظة ان عبد الله بن محمد اصطحب معه الى مكة موظفا تركيا في رتبة فريق اسمه زكي باشا ، وقد ذكر الدحلان انه بعث به كمعاون للامير (٢) وفي هذا ما يدل على مبلغ ما تطورت اليه سيادة الاتراك في مكة.

وفي عام ١٢٧٧ زار المدينة والي مصر سعيد بن محمد علي باشا ، فسار الشريف

__________________

(١) خلاصة الكلام ٣٢٢ وما بعدها

(٢) المصدر نفسه ٣٢٣

٦٠٥

عبد الله الى المدينة لاستقباله واحتفى به حفاوة عظمى ولما غادر المدينة الى مصر صحبه اليها حيث اقام فيها الى شوال من ذلك العام ثم عاد الى مكة (١).

وفي عام ١٢٨١ صدر أمر الاستانة بقتال بعض العصاة في عسير فسار امير مكة على رأس جيش من العرب والترك لقتالهم وأعينوا بجيش من مصر بطلب من العثمانيين ، وقد مضى الجيشان حتى خيموا في المخواة فصالحهم امير عسير وبذلك عاد الجيش المصري الى بلاده كما عاد الشريف الى مكة من طريق غامد بعد ان أقام مدة في بلاد غامد (٢)

ومن طريف ما يرويه الشيخ محمد سعيد الحضراوي في كتابه تاج تواريخ البشرأن اهل عسير لما خرجوا على الطاعة وعصوا كتبوا الى الشريف عبد الله ابن محمد بن عون يقولون :

اذا كان يمنعك حر المصيف

وكرب الربيع وبرد الشتا

ويلهيك حسن زمان الخريف

فأخذك للعلم قل لي متى

فأجاب الشريف عبد الله :

اتيتك مستقبلا للمصيف

لذاك تدرعت قلب الاسد

__________________

(١) افادة الأنام «مخطوط»

(٢) تاج تواريخ البشر للشيخ محمد سعيد الحضراوي

٦٠٦

قناة السويس

وغزا بأمر السلطنة في عام ١٢٨٥ بعض القبائل شرقي مكة فأطاعت ، وفي عام ١٢٨٦ بدأ العمل في مصر في حفر القناة ليتصل البحر الاحمر بالبحر الابيض المتوسط وقد ذكرنا ان الرشيد في العهد العباسي فكر في حفر هذه القناة فاشار عليه بعض مشيريه بألا يفعل لتبقى بلاد العرب حصينة بموقعها الطبيعي.

كرنتينة في مكة : وفي هذا العهد انتشر بعض الوباء في المدينة وكان فيها زوار الرجبية من اهل مكة فلما عادوا حجزتهم الحكومة في كرنتينة (١) أعدتها بالزاهر وذلك في عام ١٢٨٨ (٢).

فتنة حوا : وهي فتنة ليس فيها من الشدة التي كانت تعرفها الفتن في عهودها القديمة وتتلخص وقائعها في ان رجلا اسمه «حوا» اشتبك مع بعض عسكر الاتراك في سوق المعلاة فصاح يستنجد بالاهالي فأعانوه على العسكر الاتراك وضربوهم وسرت العدوى الى بعض الاسواق فثارت الفتنة بين الاهالي والعسكر وظلت طيلة اليوم ، ثم تداركها قبيل المساء الشريف عبد الله على رأس عسكره حتى اخمدوها وتألف في اليوم الثاني مجلس من العلماء والاعيان وقواد الاتراك حضره الأمير والوالي وقد حكم المجلس بتأديب بعض أصحاب الفتنة ونفي بعضهم الى خارج البلاد مددا متفاوتة (٣).

__________________

(١) محجر صحي يوقف فيه الناس حتى يتأكد خلوهم من المرض. (ع)

(٢) افادة الأنام

(٣) خلاصة الكلام للسيد احمد زيني دحلان ٣٢٥

٦٠٧

وفي عام ١٢٨٨ نقض الصلح أمير عسير فجهز العثمانيون عليه جيشا قويا احتل بلاده بعد ان قتله وبعض اقربائه وأسر بعضهم فرحلهم الى دار السلطنة (١).

التعليم العسكري : وفي هذا العهد أصدر الشريف عبد الله امرا على الاهالي بمكة بحضور التمرينات العسكرية وتلقي دروسها فامتثل الاهالي لذلك وشوهد العلماء وطلبة العلم والأعيان وأصحاب الحرف وأهل الحارات ينزلون الى ساحة التعليم صفوفا متراصة تتلقى تعاليم الجندية على أساتذتهم من الضباط الاتراك وذلك سنة ١٢٩٤ وهي فكرة كنت اتمنى لو دامت فليس افضل من ان تعيش الامم قوية بسواعد ابنائها لا تظللها الاجواء الحالمة في الزوايا ولا ترضيها حياة الكسل الى جوار مباني الاربطة والتكايا.

ولم يدم أمر التعليم العسكري مع كل أسف الا نحو أربعة شهور ثم الغي ولعل منشأ الفكرة في ذلك هو اشتباك العثمانيين في قتالهم مع الروس في هذا العهد.

واشترك في التدريب العسكري أولاد الشريف عبد الله وبنو عمومتهم برياسة عون باشا «امير مكة فيما بعد» واتخذ المدربون لباسا خاصا قوامه قميص وبنطلون من قماش كانوا يسمونه «ملا» وجعلوا العقال فوق «الصمادة» البيضاء غطاء لرؤوسهم (٢).

وفي منتصف جمادي الاخرة من هذا العام ١٢٩٤ توفي الشريف عبد الله في الطائف ودفن بها بعد ان قضى في حكمه نحو عشرين سنة وبوفاته اقام الوالي التركي أخاه الشريف عونا الرفيق وكيلا في الامارة الى ان يصدر مرسوم الخلافة بتعيين من يراه الخليفة (٣).

__________________

(١) خلاصة الكلام للسيد احمد زيني دحلان ٣٢٥

(٢) المصدر نفسه ٣٢٦

(٣) تذييل شفاء الغرام للشيخ عبد الستار الصديقي ٣١٣

٦٠٨

وفي هذا العهد بنت احدى المحسنات دار أبي سفيان وقد كان قبل ذلك كدوة وذلك في عام ١٢٨٢ ه‍ (١)

اعلان الدستور العثماني

وفي هذه الاثناء كان قد شعر بعض المفكرين في الاستانة ان الدولة التركية في حاجة الى اصلاح الحكم فأسسوا حزب الاحرار الذي انضم اليه كثير من رجال الدولة على رأسهم الصدر الأعظم مدحت باشا وكان من لمتحمسين للحرية والاصلاح.

ورأى رجال الحزب أن صلاح الدولة رهين باقصاء الخليفة عبد العزيز واعلان الحكم الدستوري في الدولة تحت ملكية خليفة جديد يملك ولا يحكم ويقبل مبادىء الدستور فاستمالوا اليهم السر عسكر «حسين عوني باشا» وناظر البحرية وكبار الضباط واستطاعوا في أواخر عام ١٢٩٣ أن يحاصروا سراي السلطان بقوة من رجال الجيش في البر وبقطع من الاسطول في البحر امام السراي من جهة اخرى وبذلك تقدم مندوبهم الى السلطان يبلغه ان الامة خلعته وان قوات الجيش المحاصرة للسراي مستعدة للعمل اذا رفض الاذعان فأراد السلطان ان يستخف بالامر الا انه ما لبث ان شعر انهم جادون فأسلم نفسه اليهم وبذلك نقلوه الى قصر آخر وجعلوا عليه الحراس وقد ظل فيه أياما ثم عمد الى زنده فقطع بعض عروقه بمقراض وترك دمه يسيل الى ان مات ويعتقد بعضهم ان رجال الحزب اغتالوه في القصر.

وبخلع عبد العزيز بايع رجال الحزب السلطان مرادا فلم يدم امر اتفاقه معهم أكثر من ثلاثة شهور ثم أشيع أن عقله اختلط فاتفقوا على اقصائه وتنصيب اخيه

__________________

(١) افادة الانام للشيخ عبد الله غازي «مخطوط»

٦٠٩

السلطان عبد الحميد مكانه في عام ١٢٩٤ وقد ظلت الأحكام تصدر وفق رغبة الدستورين كما ظل عبد الحميد أداة لا عمل لها غير توقيع الأوامر.

وقد اضطربت الأمور على اثر ذلك وشرع الدستوريون يعاقبون كل من يرتابون في اخلاصه لمبادئهم ويقسون على خصومهم من أنصار الملكية ويسومونهم أنواعا من الذل والهوان فكثرت القلاقل والفتن.

الحسين الشهيد بن محمد بن عون : واختار الدستوريون لامارة مكة على أثر انقلابهم شريفا يعتنق مبادئهم هو الحسين بن محمد بن عبد المعين ووافق السلطان على تعيينه فوجهت اليه الامارة وكان يقيم في الاستانة (١) عضوا في مجلس شورى الدولة برتبة وزير وقد ذكر لي بعض المعمرين انه اشترك في الثورة الاتحادية وانه كان يرى رأيهم في هيمنة الدستور وامتداد نفوذه.

وتوجه الحسين الى مكة فوصلها في شعبان عام ١٢٩٤ ثم ما لبث أن غادر أخوه الشريف عون مكة بعد عيد الفطر من السنة المذكورة الى الاستانة (٢) فمنح رتبة الوزارة فيها واحتل مركز اخيه في عضوية مجلس شورى الدولة.

الغاء الدستور : وما لبث عبد الحميد أن تمكن من زمام الامور في مقر الخلافة واستطاع ان يقرب بعض المناصرين للملكية وان يعد عدته لالغاء الدستور.

وقد بدأ اعماله بالقبض على رجل الدستور مدحت باشا وكثير من زملائه فنفاهم كما سيأتي الى الطائف ثم أثارها حربا عدوانية عنيفة ضد أنصار الدستور فأنشأ ادارة خاصة بالجاسوسية شرعت تتعقب أنصار الحرية وتتجسس

__________________

(١) هي مدينة استانبول ، وكانت عاصمة السلطنة العثمانية وكانت عاصمة بيزنطة وكان اسمها القسطنطينية ، ثم سميت اسلامبول مدة وهي اليوم اهم مدينة في تركية (ع)

(٢) تذييل شفاء الغرام للشيخ عبد الستار الصديقي ٣١٣

٦١٠

على أعمالهم وترفع بذلك تقاريرها السرية الى عبد الحميد الذي أخذ يعاقب على الظنة ويبطش للشبهة ويمعن في النفي والتشريد والاغتيال والقتل حتى ملأ سجويه بخصومه وارسل الى قاع البسفور بكثير من ضحاياه بالالوف قضى اكثرهم اغتيالا في السجون.

اعمال عبد الحميد في مكة : واخبرني بعض المعمرين أن أعمال العنف التي شنها عبد الحميد ضد خصومه من الاتحاديين اتصلت بمكة وأنها أنشبت أظفارها أول ما أنشبت بأمير مكة لذلك العهد الحسين بن محمد الشهيد فقد أراد عبد الحميد ان يضع حدا لامارة الحسين وعلاقتها بالاتحاديين فدبر أمر اغتياله ـ كما يذكر هذا المعمر ـ لانه كان يرى رأى رجال الثورة من الاتحاديين كما أسلفنا.

ولم يشر أحد ممن أرخ لمكة الى هذه الفترة التي ذكرها هذا المعمر.

وقد ذكر الدحلان (١) ان الحسين بن محمد طعن بخنجر مسموم في جدة في الوقت الذي كان يترجل فيه عند دار الشيخ عمر نصيف لدخول القصر وقابله رجل من الافغان يأخذ شكل الدراويش وقبل أن يترجل عن فرسه عند دار الشيخ عمر نصيف أقبل عليه كمن يريد تقبيل يده حتى اذا اتصل به طعنه بخنجر مسموم في خاصرته وقد قضى على أثر ذلك ، وبذلك سموه الشهيد.

وأدرك الناس الافغاني فقبضوه وكانت الظنون قد حامت حول شتى الاحتمالات.

__________________

(١) خلاصة الكلام ٣٢٧

٦١١

لكن الافغاني لم ينبس بكلمة تضيء الموضوع وقد حاول الموكلون به أن يعرفوا الاسباب التي دعته الى ذلك فلم يفلحوا بعد أن أذاقوه مر العذاب.

وكان أعيان جدة قد داخلهم الفزع من أن تحوم حولهم الظنون لان الشريف كان مدعوا الى مائدة بعض كبارهم فأدركته منيته وهو يترجل لدخول بيت الدعوة.

وذكر لي وجيه جدة الشيخ محمد حسين نصيف وهو ابن أخي الشيخ عمر نصيف الذي اغتيل الشهيد عند باب قصره سببا آخر للاغتيال سمعه من بعض المقربين خلاصته ان عبد الله بن محمد بن عون شقيق الشهيد كان في عهد امارته قد اغتال محمد شرواني باشا الداغستاني والي مكة فاراد اخو المقتول أن يثأر لأخيه فلما انتهى الى مكة كان عبد الله بن محمد بن عون قد توفي فطعن اخاه الحسين وهو بهذا يريد ان يقول ان القاتل لم يكن افغانيا بل كان داغستانيا وكان أخا للشرواني باشا.

عبد المطلب بن غالب للمرة الثالثة : واتصل الخبر بدار السلطنة فوجه عبد الحميد الامارة الى عبد المطلب بن غالب للمرة الثالثة وكان يقيم يومها في الاستانة فتوجه منها في ١٧ ربيع الآخر عام ١٢٩٨ (١).

وقد نشرت جريدة الجوائب التركية (٢) تقول : «توجه حضرة السيد الجليل الاثيل مولانا الهمام الكامل عقد آل البيت النبوي المعظم سلالة الاماجد القاطنين ببلد الله الامين والحطيم وزمزم الشريف عبد المطلب بن المرحوم مولانا الشريف غالب».

ويذكر الحضراوي (٣) في تاج تواريخ البشر انه توجه في باخرة سلطانية خاصة

__________________

(١) تذييل شفاء الغرام للشيخ عبد الستار الصديقي ٣١٣

(٢) ننقل الخبر عن تاج تواريخ البشر للعلامة الحضراوي «مخطوط».

(٣) المصدر نفسه.

٦١٢

كلفت الدولة ما يزيد عن ١٧٠٠ جنيه (عثماني) عدا ألفي جنيه تسلمها كنفقات سفر وأنه صحبته في الباخرة لجنة فنية لتخطيط ديار حرب التي كانت تضطرب بالفتن وحوادث العدوان وقد انتهى الى ينبع في ٧ جمادي الاول فأقام اسبوعا ومنها بلغه ان المدينة تعاني من الضنك والشدة كثيرا لقلة ورود الأرزاق اليها نتيجة لارتباك طرق القوافل فأمر بنقل الأرزاق اليها من ينبع فسارت الاحمال في قافلة بلغت ألف جمل فاستقبلت المدينة ذلك بسرور عظيم وهبطت الاسعار حتى بلغت أقة اللحم ثلاثة قروش وكيلة الارز خمسة قروش ونصف وكيلة القمح أربعة قروش ونصف.

وبعد أن أقام عبد المطلب في المدينة نحو اسبوعين استأنف عودته الى ينبع فاستقل الباخرة التي كانت قائمة تنتظره فتوجه بها الى جدة حيث أقام أربعة أيام استقبل أعيان الاهالي في جدة وكبار الوافدين من مكة ثم انتقل الى مكة فدخلها ليلة الجمعة ١٨ جمادي الاخرة ١٢٩٧ ه‍ في حفل عظيم ونزل في قصره بالقرارة (١).

ويشير الحضراوي (٢) الى رجال الدوائر الاميرية فيقول ان عبد المطلب كان قد صحبه رجل من الشام يسمى جمال أفندي وآخر من اليمن يسمى محمد جابر وقد قيل أن الاخير كان مأمورا لبعض الجمارك فاعتقل في مكة بتهمة تبديد أموال الدولة في عهد الأمير عبد الله ثم استطاع أن يلحق بالاستانة وان يتصل بالشريف عبد المطلب ويلتحق بمعيته فاصطحبه بعد أن تقلد الامارة الى مكة

__________________

(١) هدم القصر في عام ١٣٨٢ وقام على انقاضه شوارع ودكاكين

(٢) تاج وتواريخ البشر «مخطوط»

٦١٣

وجعله رئيسا لدائرته يعاونه في ذلك كاتب تركي يسمى ايوان افندي وآخر من مولدي المدينة الاتراك اسمه حسين طلعت الى ان قال ما معناه : ان هؤلاء الموظفين استبدوا باعمال عبد المطلب على اثر وصوله الى مكة ومنعوا الناس من الوصول اليه فاستاء الاهالي ورجال البادية ورجال قبائل حرب بالخصوص.

ويذكر الدحلان (١) ما معناه ان الشريف عبد المطلب تقلد امارته الاخيرة بعد ان تقدمت به السن لذلك ارتبكت عليه بعض الامور واستطاع بعض رجال قصره ان يستبدوا بالامر دونه ويوجهوه الى وجهات كانوا يستغلون فوائدها لأنفسهم.

وما كاد الامير يصل الى مكة حتى لاحظ دارا في القرارة تعلو داره بناها الشريف مهدي بن ابي طالب العبدلي في مدى غيابه عن الامارة فأمر باحضار لجنة للاشراف على دعواه في الضرر فوافقته اللجنة فأحضر أبناء الشريف مهدي وقرر أن يدفع أربعة آلاف ريال ثمنا للدار فقبلوا مكرهين فكتب القاضي صكا بذلك ثم أمر بها فهدمت وبذلك بدأ استياء الناس وكثر لغطهم في شأن الامير.

وما لبث عبد المطلب ان قبض على شيخ حارة الغزة محمد الهابط وعبد الله ابن قويحص ومحمد تركي بدعوى انهم يتكلمون في السياسة وأمر بهم فجلدوا في بيته ـ البياضية بالمعابدة ـ حتى فقدوا وعيهم ثم جروا الى الابطح وتركوا فيه حتى مات اثنان منهم ولم يعش الا شيخ الغزة واستمر القبض يوميا حتى اشتد نفور الناس منه.

وقبض على ابراهيم قاضي صاحب ينبغ وعايض بن هليل شيخ قرية السيل وابن حراثيم من أهلها وأرسلوهم مقيدين الى الاستانة.

__________________

(١) خلاصة الكلام ٣٧٢

٦١٤

ولا أستبعد ان تكون اعمال الارهاب هذه حلقة متممة لسلسلة الاضطهاد التي اعلنها عبد الحميد في الاستانة ضد خصومه من أنصار الاتحاد او من يشتبه فيهم فقد رأينا عبد الحميد يختار عبد المطلب لامارة مكة على اثر اغتيال الحسين الشهيد فلا يبعد أن يكون قد كلفه بتعقب من يشتبه فيهم من أنصار الاتحاديين خصوصا وقد رأيناه يرسل بهم الى الاستانة كما لا يستبعد ان تكون بعض اعمال عبد المطلب خاصة به وانه اغتنم لتبريرها فرصة دعوة عبد الحميد ضد الاتحاديين ورجال السياسة تنكيلا بخصومه ومجاملة للارهاب العام في دار الخلافة.

وبلغ من وثوق عبد الحميد بعبد المطلب أن نفى كبار خصومه ويبلغ عددهم نحو ١١ شخصا على رأسهم مدحت وزملاؤه الى مكة ووكل اليه المحافظة على سجنهم واسكات من اقتضت سياسة عبد الحميد اسكاتهم فقد حوكم هؤلاء الخصوم في محكمة عبد الحميد في الاستانة وصدر الحكم عليهم بالقتل الا ان عبد الحميد رأى تأجيل ذلك فاعلن العفو عنهم من القتل واستبدل ذلك بالنفي فرحلوا في محافظة شديدة الى مكة حيث ظلوا فيها يومين ثم استأنفوا رحلتهم الى الطائف حيث سجنوا بها في القشلاق المعروف (١).

ومما يؤيد صلة عبد المطلب بفكرة الملكية واخلاصه لعبد الحميد ما اخبرني به الشيخ حسن عشي وكان من المقربين في قصر الامارة في مكة فقد ذكر ان عبد المطلب كان يقيم في الطائف يوم وصول مدحت وزملائه اليها وانه كان يطل عليهم من نافذته وهم في طريقهم الى السجن ويقول «نصحت لك يا مدحت فلم تقبل».

__________________

(١) خلاصة الكلام ٣٧٢. وقد تحول القشلاق (الثكنة) سنة ١٣٩٨ الى مجمع للوزارات بالطائف في اشهر الصيف. وأهل الحجاز يسمون القشلاق : (قشلة) (ع)

٦١٥

وكان في معية الصدر الاعظم مدحت باشاز ميله محمود باشا الداماد وكان صدرا أعظم قبله وخير الله افندي شيخ الاسلام وكان قد افتى بخلع عبد الحميد وكان الأخير قد نفي قبلهم الى المدينة ثم الحق بهم عندما وصلوا الى الطائف واعتقل معهم في سجنه.

وقد وصل المعتقلون الى الطائف في سنة ١٢٩٧ وظلوا في اعتقالهم الى ان اغتيل فيه مدحت ومحمود وبقي شيخ الاسلام.

واخبرني بعض المعمرين أنهما قتلا بضغط الخصيتين ضغطا شديدا حتى ماتا وقد اخبرهم بذلك من سمع اصواتهم المكتومة في بعض البيوت القريبة من القشلاق.

وقد ظل جثمان مدحت مدفونا في الطائف حتى أوفدت الجمهورية التركية في عام ١٣٧٠ ه‍ لجنة تولت نقل جثمانه من الطائف الى أنقرة.

ويذكر الدحلان (١) في حوادث عام ١٢٩٧ ان بازان أجياد تمت عمارته فيها وأجريت الى خزانة عين زبيدة.

ويذكر أن عبد المطلب كان يعتمد في اعماله بجدة على وكيله الشيخ حسن هزازي ثم ما لبث أن غضب عليه فسجنه ونقل اعماله الى عمر أفندي نصيف وكيل الأشراف من آل عون.

ويستمر الدحلان (٢) في وصف الشدة التي كان يعامل بها عبد المطلب الرعايا في مكة الى أن يقول وقدمات له ولدان كان قد توليا أعماله بعنف فلم تطل مدتهما ثم ولى حفيده مساعد بن رضا بك قائمقاما فظل نحو أربعين يوما يذيق

__________________

(١) خلاصة الكلام ٣٢٧

(٢) المصدر نفسه ٣٢٨

٦١٦

الناس فيها أصنافا من العذاب والسجن حتى ضج الناس ورجال البادية فنزل عبد المطلب يوما الى القرارة وامر باطلاق جميع المسجونين وولى القائمقامية عليا بن سعد السروري فلم يكن أقل منه عنفا في الحكم ثم ولى حامدا المنعمي فازداد السوء واضطربت البادية برجالها وارتبكت شؤون الأمن.

ويذكر ايضا (١) ان عبد المطلب آثر بالمنافع بعض المقربين اليه في حلقات الفاكهة وغيرها ويقول صاحب افادة الأنام أن رجال ادارته كانوا يحسنون له ذلك مقابل الرشاوي التي يستفيدون بها لأنفسهم.

ولقد كان للفاكهة والخضار سوق شائع بين الدلالين يمارسون فيه عملية المزاد بين البائعين والمشترين فاستطاع ، دخيل الله العواجي أن يحتكر حقوق الدلالة على جميع الخضار والفواكه لنفسه في الحلقة بموجب تقرير موقع من عبد المطلب وبذلك منع جميع المحترفين ثم اباح لهم العمل لقاء مبالغ تحصلها لنفسه منهم وفعل مثل ذلك في حلقات الحشيش والفحم والحطب فقد أقر فيها بعض الاشراف بموجب تقارير خاصة تمنع غيرهم من مزاولة الدلالة الا برسوم يدفعونها لقاء ذلك لصاحب التقرير وفعل مثل ذلك في تقرير تخريج الجمال الخاصة بالجاويين في بيوت معينة تتمتع بمصالحها وحدها.

والواقع ان هذا الاحتكار لم ينفرد بتقريره عبد المطلب وحده فقد شاركه فيه كثير من أمراء مكة قبله من عهد أبي نمي الثاني ولا نزال نشاهد آثار ذلك باقيا الى اليوم في كثير من البيوتات القديمة وقد رزح الأهلون تحت وطأته أجيالا طويلة دون أن يغير ذلك من وضعه شيئا لأن العرف غشاه بمسحة يتألق فيها تقديس القديم ، أمامنا بيوتات احتكرت تخريج الجمال لاقطار كاملة واخرى احتكرت التطويف

__________________

(١) خلاصة الكلام ٣٢٨.

٦١٧

لاجناس خاصة واخرى احتكرت مالا أدرى من انواع الاحتكار فطغى احتكارها على مجال العمل في تلك الميادين وحرم الى جانب ذلك مئات الأسر التي كانت تزاحم بأقدامها ولم يكن ذلك الاحتكار قاصرا على تقارير عبد المطلب الا ان تكون تقارير عبد المطلب صدرت في احتكار ميادين تأثرت أكثر من غيرها أو انها كانت أشد محاباة من غيرها.

على كل فان الذي نستنتجه من أقوال المؤرخين ان اعمال عبد المطلب من هذا النوع بالاضافة الى ما قدمناه من اعمال العنف أساءت الى بعض رجال القبائل فبدأت القلاقل تنتاب البادية وشرع الناس يتذمرون من صاحب الحكم واضطرب حبل الامن في كثير من الطرق بفعل عدوان بعض البدو فوجد الوالي التركي الفرصة سانحة للعمل ضد عبد المطلب لدى الخليفة في الاستانة الا ان مركز عبد المطلب عند الخليفة كان اقوى مما ظن الوالي فقد اختار الخليفة ان يسخو بالوالي ويضن بعبد المطلب فأصدر أمره بعزل ناشد باشا وتعيين صفوت باشا في منصب الولاية وذلك في تمام ذي الحجة من عام ١٢٩٧ واصطحب الوالي الجديد أوامر بالغاء تقارير عبد المطلب التي خصصت الحلقات لبعض الاسر والغاء تقارير بعض الجمالة والمخرجين واعادة ما كان الى ما كان.

ويبدو ان عبد المطلب استاء لأوامر الالغاء كما استاء من أسلوب التبليغ الذي اصدره الوالي الجديد فما لبث ان نشب الخلاف بينهما بسبب ذلك ولأسباب أخرى اقتضاها احتكاك القضايا وتنازع الحكم بين ادارتين في بلد واحد فتوسعت امور الخلاف مع صفوت أكثر مما كانت مع من سبقه واتصلت الاخبار بالاستانة فصدر الامر بعزل صفوت وتعيين احمد عزت باشا الارزنجاني وكان قد سبق ان تولى ذلك في عام ١٢٦٩ أي في عهد حكم عبد المطلب في مرة سابقة

٦١٨

وقد وصل عزت باشا فى اوائل المحرم ١٢٩٩ وكان قد طعن في السن وشارف عمره التسعين. ولم يطل أمر احمد عزت لأن الخلاف لم يلبث أن نشب بينهما فعزل وتولى امر الولاية عثمان نوري باشا في شعبان من السنة المذكورة ١٢٩٩ (١)

والذي يبدو ان الشريف عبد المطلب كان بالرغم من كبر سنه يعتد بشخصيته اعتدادا كبيرا وكان يحول دون اتساع نفوذ الوالي التركي الذي تخوله صلاحيته التدخل في حكم البلاد الى قدر يتسع بقدر ما يهن الأمير او يضعف.

وتوزيع السلطة في مكة بين الامارة والولاية سياسة لها غرابتها ولكنني احسب ان العثمانيين كانوا معذورين في اتباعها للحيلولة دون استبداد بعض الامراء بآرائهم في الحكم وغير معذورين لانه كان في استطاعتهم تقرير نظام شامل يحد سلطة الامير ويوضح علاقته بالرعايا في البلاد.

وبالجملة فقد ظل الخلاف على حاله الى ان جاء عثمان نوري باشا وكان عثمان نوري باشا فيما يبدو أكثر جرأة من غيره فقد استطاع أن يقنع الخلافة باقصاء عبد المطلب ويستصدر أمرا سريا بعزله وتولية عبد الله بن محمد بن عون بالوكالة الى صدور الامر الاخير (٢). وكان عبد المطلب يومها في مصيفه بالمثناه من ضواحي الطائف فأعد عثمان عدته للأمر بأن وزع في هدأة الليل بعض عسكره فوق الجبال المحيطة بالمثناه وزودهم بالمدافع وأعد بعض الاشراف بسيوفهم ثم ارسل في الصباح الى الشريف عبد المطلب يبلغه امر العزل فلما ابصر المدافع في الجبال المحيطة به استسلم للامر الواقع فتقدم اليه الباشا وطلب منه ان ينتقل الى نزل العسكر «القشلة» الذي كان يعتقل فيه مدحت ورفاقه بالطائف.

__________________

(١) خلاصة الكلام ٣٢٧

(٢) ينطقون عبد الله بكسر الدال في جميع الحالات ويكتب بعضهم ذلك هكذا «عبد اللا» للتفرقة بينا وبين اسم عبد الله المعتاد وهو خطأ مشهور

٦١٩

ثم اقام عليه الحراس واطلق المنادي في الطائف ومكة بعزله وتولية عبد الله ابن محمد بن عون وذلك في ٢٨ شوال عام ١٢٩٩ (١) وقد أقام عبد المطلب بقشلاق الطائف الى نهاية عام ١٢٩٩ ثم نقل الى قصره «البياضية» في المعابدة فظل معتقلا تخفره ثلة من جنود النظام وكان يعيش بين اهله وخدمه الى ان توفي في شهر ربيع الثاني عام ١٣٠٣ وقد صلى عليه مفتي السادة الشافعية السيد احمد زيني دحلان وشيع جنازته الشريف عون الرفيق والوالي عثمان باشا وكان عمره يشارف المائة (٢).

عون الرفيق : وظل عبد الله في وكالته اياما ثم تبلغ توجيه الامارة الى اخيه عون الرفيق بن محمد بن عبد المعين بن عون ثم ما لبث أن وافته الأنباء بقدوم اخيه فندب للقائه في جدة بعض الاشراف من أبناء اخيه يتقدمهم الحسين بن علي «ملك الحجاز فيما بعد» فاستقبلوه في جدة في ٩ ذي الحجة عام ١٢٩٩ في موكب حافل وظلوا بقية اليوم معه بعد ان فاتهم موقف عرفات ثم توجهوا جميعا الى منى حيث احتفل بقدومه فيها. وغادر مكة عبد الله على اثر ذلك وابن اخيه ناصر بن علي الى الاستانة حيث انعم عليهما برتبة الباشوية ثم عين عبد الله باشا عضوا فى مجلس شورى الدولة بالاستانة كما انعم بالباشوية على الحسين بن علي (٣).

__________________

(١) تذييل شفاء الغرام للشيخ عبد الستار الصديقي ٣١٥

(٢) تاج تواريخ البشر للعلامة الحضراوي

(٣) افادة الأنام «مخطوط»

٦٢٠