تأريخ مكّة دراسات في السياسة والعلم والاجتماع والعمران - ج ١-٢

أحمد السباعي

تأريخ مكّة دراسات في السياسة والعلم والاجتماع والعمران - ج ١-٢

المؤلف:

أحمد السباعي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الطبعة: ٠
ISBN: 9960-660-17-6
ISBN الدورة:
9960-660-18-4

الصفحات: ٧٩٣

ندعي انها كانت مقصودة لذاتها بقدر ما نرى أنها نتائج طبيعية لثورات من الغضب يفقد العقل فيها توازنه على أننا لا نبرىء الزبيريين فقد ساهموا بنصيب طيب من العناد وأحرجوا الأمويين بتحصنهم بالكعبة فكانت الحجارة تنال الكعبة بقدر ما تنالهم ولو استعانوا بشيء من هدوئهم لأدركوا وقتئذ تحرج الحالة واستحالة الدفاع في حصار تمده جيوش لا قبل لهم بها فأعلنوا طاعتهم استبقاء على دماء من حولهم واحتراما لقدسية البيت الحرام.

الواقع أن الشجاع لا يستطيع أن يصيخ الى نداء العقل ولقد كان عبد الله ابن الزبير على ايمانه بحقوقه في امارة المسلمين واعتقاده بفساد الحكم في الشام ووثوقه بنفسه. كان الرجل الفذ الذي يستطيع أن يضطلع بأمور المسلمين ..

ولقد كان شجاعا من نوع ممتاز وحسبك أن تعلم أن الأمويين كانوا يحملون على باب من أبواب المسجد فيشد عليهم ابن الزبير وليس معه أحد حتى يخرجهم منه إلى الحجون (١) ولقد اجتمع اليه المكيون فقالوا : ألا تكلمهم في الصلح؟ فقال : والله لا أسألهم ذلك أبدا وضاق الناس باصراره فجعلوا يتسللون الى الأبطح طالبين الأمان من الحجاج فيؤمنهم حتى قالوا : ان عدد من تخلى عنه يومئذ لا يقل عن عشرة آلاف رجل ومع هذا لم يزعزع ذلك من ثباته شيئا (٢).

شجاعة أسماء : وضربت أمه بشجاعتها مثلا لم يسبق إلى مثله التاريخ فيما أعلم ، ولا أحسب أنه سيدركها مضارع فيما يأتي قال الواقدي : حدثني مصعب بن نائب عن نافع مولى بني أسد قال شكا ابن الزبير الى أمه خذلان الناس له ، فقالت : ان كنت تعلم أنك على حق فاصبر عليه فقد قتل عليه أصحابك

__________________

(١) شفاء الغرام ٢ / ١٦٩.

(٢) الكامل ٤ / ٢٣.

١٢١

ولا تمكن من رقبتك يلعب بها غلمان بني أمية قال : فدنا منها فقبل رأسها وقال هذا والله رأيي ولكنني أحببت أن أعلم رأيك فانظري يا أماه فاني مقتول في يومي هذا ، فقالت : أخرج يا بني حتى انظر ما يصير اليه أمرك.

إلى هذا الحد نستطيع أن نكبر في السيدة أسماء شجاعتها وثبات عزمها أما الشطر الآتي من القصة فانه يتجاوز عن اكبارنا آلاف المراحل لأن ما سنسمعه لا يوصف بالعزم ولا بالثبات والشجاعة انما هو شيء أرقى من هذا وأكبر.

ـ وما هذا الدرع الذي تلبسه يا عبد الله .. إنه لباس الرجل الذي لا يريد الشهادة.

ـ إنما لبسته لأطيب خاطرك واسكن قلبك.

ـ لا .. ولكن أنزعه .. أنزعه يا عبد الله.

إنها تقول أنزعه كأني بالتاريخ يتحدى معجمات اللغة لتعطيه كلمة تؤدي

معنى هذه الجرأة الفذة اداء صحيحا فلا تستطيع.

هذه الشجاعة أو بالأصح هذه المعاني التي تسمو على الشجاعة عشرات المرات كانت مسؤولة الى حد كببر عن المأساة في تفاصيلها وضحاياها وما نال لكعبة منها.

نهاية ابن الزبير : مضى ابن الزبير على اثر هذا فصلى الفجر في ثبات المطمئن ثم حث الأقلية الباقية حوله على الصبر وبادر القتال بحملات قوية كشف فيها نحو خمسمائة فارس وراجل عن باب المسجد حتى أعادهم الى الحجون فأصابته آجرة في وجهه ففلقت رأسه فلما وجد سخونة الدم تمثل :

ولسنا على الأعقاب تدمي كلومنا

ولكن على أقدامنا تقطر الدما

ثم أغمي عليه وسقط على الأرض فأسرعوا إليه فقتلوه وبقتله رضي‌الله‌عنه

١٢٢

سقطت حكومته في مكة ودخل الأمويون المسجد فطافوا بالكعبة وتعلقوا بأذيالها حامدين شاكرين الله ساجدين وكان ذلك في ١٧ من جمادي الأول سنة ٧٣ (١).

وأمر الحجاج بابن الزبير فصلب على ثنية كدا عند الحجون بأعلى مكة (٢) وقد حدث عقبة بن مكرم بسند متصل الى بني نوفل حديثا جاء فيه ان الحجاج أرسل الى أسماء أم الزبير فأبت أن تأتيه فأعاد اليها الرسول لتأتيني أو لأبعثن اليك من يسحبك من قرونك فأبت وقالت والله لا آتيه حتى يبعث إلي من يسحبني بقروني الى أن قال ما معناه : ثم انطلق الحجاج حتى دخل عليها فقال كيف رأيتيني صنعت بعبد الله قالت رأيتك أفسدت عليه دنياه وأفسد عليك آخرتك وفي رواية ان ابن الزبير ظل مصلوبا حتى أمر الحجاج بدفنه

فدفن في الحجون بعد أن غسلته أمه وكفنته وطيبته.

وأقام الحجاج في مكة بعد أن أخذ البيعة من أهلها لعبد الملك بن مروان ولم يحجم عن التنكيل ببني هاشم وكاد يبالغ في ذلك لو لا أن عبد الملك ابن مروان منعه من ذلك (٣) وهدد ابن الحنفية وابن عمر لحيادهما فبايع ابن عمر للأمويين مضطرا (٤) ثم استصحب الحجاج نفرا كبيرا من الصحابة والتابعين الى الشام فبايعوا عبد الملك بن مروان مكرهين وبذلك انهارت الفكرة التي نعتقد ان ابن الزبير أبلى في سبيلها ما أبلى ليعيد الى الحجاز نفوذه الديني ومركزه من خلافة الاسلام.

__________________

(١) الكامل ٤ / ٢٤

(٢) كدا بفتح الكاف وهي غير كدا وكدى بالضم وهما يقعان في نهاية مكة من جهة المسفلة وغير كداء بالهمز وضم الكاف وهي عند مقبرة الشيخ محمود

(٣) العقد ٢ / ٣١٧

(٤) ابن سعد ٥ / ٨١ فما بعدها.

١٢٣

وقد دامت حكومة ابن الزبير في مكة من سنة ٦٣ إلى ٧٣ نحوا من عشر سنوات بسط نفوذه في خلالها على أكثر أمصار الإسلام.

عودة الأمويين إلى مكة : وبسقوط حكومة ابن الزبير تولى أمر مكة للأمويين جماعة من صفوة بني أمية وقد اختلف المؤرخون في تعيين أسمائهم وأعتقد أن من أهم أسباب هذا الاختلاف أن أنظار المؤرخين في هذه الفترة انصرفت عن العناية بتفاصيل الحوادث في الحجاز كما تنصرف عادة عن كل بلد مغلوب واتجهت عنايتهم بالمقدرات العامة للمسلمين في الشام وبعض أمصار الإسلام التي تميزت بحوادثها العامة إذ ذاك.

ولقد ذكر مؤرخو مكة ما بلغهم من أسماء ولاة مكة للأمويين وذكر غيرهم ما يخالف ذلك قليلا أو كثيرا ونحن نستطيع من مقابلة هذه الأقوال أن نستنتج أن عددهم كان نحوا من واحد وعشرين واليا دام حكمهم في مكة إلى نهاية العهد الأموي عام ١٣٢ نحوا من ٥٩ سنة وذلك عدا من جهل التاريخ اسمه منهم.

ولعل أوضح من نستطيع اعتماده فيما رواه من أسمائهم هو تقي الدين الفاسي وقد ذكر في شفاء الغرام (١) انه ممن ولى مكة لعبد الملك بن مروان بعد قتل ابن الزبير جماعة وهم ابنه مسلمة بن عبد الملك والحجاج بن يوسف الثقفي والحارث بن خالد المخزومي وينقل السنجاري ـ من مؤرخي مكة ـ ان من غرائب ما وقع في عهد الحارث أن عائشة بنت طلحة حجت في عهده وكان يهواها فأرسلت اليه ان أخر الصلاة حتى أفرغ من الطواف فأخرها فأنكر أهل

__________________

(١) ج ٢ ص ١٧٠ فما بعدها.

١٢٤

الموسم ذلك ولما علم أن عبد الملك بن مروان بلغه ذلك قال ما أهون غضب ابن مروان علي إذا رضيت عائشة ثم قال : ولما قضت عائشة حجها أرسل الحارث اليها أن عديني يا ابنة عمي إلى مجلس نتحدث فيه فبعثت اليه أن موعدنا من غداة الغد ثم رحلت من ليلتها. وأحسب أن في هذه الرواية ما يشتم منه الدعاية بالسوء ضد الأمويين.

ومن ولاة هذا العهد خالد بن عبد الله القسري ثم عبد الله بن سفيان المخزومي وعبد العزيز بن عبد الله بن خالد ونافع بن علقمة الكناني ويحيى ابن الحكم بن أبي العاص ويذكر الفاسي انه يظن أن من ولاة عبد الملك في مكة هشام المخزومي وأبان بن عثمان بن عفان (١).

وولى مكة للوليد بن عبد الملك أعدل الأئمة بعد الراشدين عمر بن عبد العزيز. ويذكر ابن فهد أن العراقيين كانوا يلجئون إلى مكة للاقامة بها في عهد عمر بن عبد العزيز فرارا من جور الحجاج في العراق وأن عمر كتب الى الخليفة الوليد يخبره بما أدى إليه تعسف الحجاج فلما كتب الوليد الى الحجاج أجابه هذا يقول : «إن قبولهم في مكة وهن ينتفع به أهل العصيان واني أرى أن يولي أمر مكة خالد القسري» فقنع الوليد برأيه وعزل عمر بن عبد العزيز عن مكة وولاها خالدا للمرة الثانية في شعبان سنة ٩٣ ثم يقول : وقد أمر خالد بسب علي فوق المنبر فسبه الخطباء واثنوا على الحجاج ثم أمر بلعن الحجاج ففعلوا! ويقول : أن خالدا كان يحت على طاعة بني أمية ويقول لو كنت أعلم أن هذه الوحوش لو نطقت ولم تقر بالطاعة لأخرجتها من الحرم وأنه أمر باخراج أهل العراق

__________________

(١) شفاء الغرام ج ٢ ص ١٧٣.

١٢٥

كرها وتهدد من أنزل عراقيا أو أجاره وقد بقي في امارته إلى وفاة الوليد عام ٩٦ ه‍.

ووليها في خلافة سليمان بن عبد الملك طلحة بن داود الحضرمي ثم عبد العزيز بن عبد الله بن خالد للمرة الثانية.

وظل عبد العزيز بن عبد الله في امارته إلى أن تولى الخلافة عمر بن عبد العزيز. وولى أمر مكة «على ما قيل» محمد بن طلحة ثم عروة بن عياض وعبد الله بن قيس وعثمان بن عبيد الله بن قيس ويذكر ابن جرير ما يدل على أنه لم يتول امارة مكة في خلافة عمر بن عبد العزيز رجل سوى عبد العزيز بن عبد الله بن خالد ويذكر الفاسي نقلا عن الفاكهي أن بقية الولاة ربما تولوها لعمر بن عبد العزيز في عهد امارته قبل خلافته وقد كان مقيما بالمدينة.

وفي عهد عبد العزيز بن عبد الله ورد كتاب من الخليفة عمر بن عبد العزيز ينهي عن كراء بيوت مكة ويأمر بتسوية بيوت منى فجعل الناس يدسون اليهم الكراء سرا (١).

وولي مكة في خلافة يزيد بن عبد الملك بن مروان جماعة أولهم عبد العزيز ابن عبد الله سالف الذكر ثم عبد الرحمن بن الضحاك ، ويذكر ابن جرير الطبري انه في سنة ١٠٣ ه‍ ضمت اليه مكة مع المدينة ، ثم عزل عنهما في النصف من ربيع الأول عام ١٠٤ ويقول ابن كثير ان سبب عزله أنه خطب فاطمة بنت الحسين فامتنعت من قبوله فألح عليها وتوعدها فشكته إلى يزيد بن عبد الملك فعزله وولى عبد الواحد بن زياد النصري.

__________________

(١) شفاء الغرام ٢ ص ١٧٣.

١٢٦

ووليها في خلافة هشام بن عبد الملك جماعة أولهم عبد الواحد السالف الذكر ثم ابراهيم بن هشام المخزومي ويذكر ابن فهد أن ابراهيم كان معتدا بنفسه الى حد متطرف فقد قيل أنه خطب في منى فقال انكم لا تسألون أحدا أعلم مني ، فقام اليه عالم من العراق ، فسأله عن الأضحية أواجبة أم مستحبة؟ فلم يحر جوابا. ولعلها من مبالغات الناقمين على بني أمية ، ثم وليها محمد بن هشام ونافع بن علقمة الكناني ، ووليها في خلافة الوليد ابن يزيد يوسف بن محمد بن يوسف الثقفي وهو خال الخليفة الوليد ، وقد ظل فيها الى نهاية خلافة الوليد ، وفي عهد يوسف أمر الخليفة بالقبض على إبراهيم بن هشام وأخيه محمد وكانا في إمارة مكة قبله فلما حملا إلى الشام أمر الخليفة بجلدهما لأشياء كانت تبلغه عنهما في عهد امارتيهما ، ثم وجههما الى الكوفة وأضاف اليهما خالدا القسري ، فسجنهم عامل الكوفة ، وأمر بتعذيبهم حتى ماتوا جميعا في يوم واحد من شهر المحرم سنة ١٢٦.

ثم وليها في خلافة يزيد بن الوليد عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك (١).

أبو حمزة الخارجي : وفي عهد عبد الواحد بن سليمان هاجم مكة أبو حمزة الخارجي في ذي الحجة من عام ١٢٩ وكان في جيش كثيف لم يستطع عبد الواحد مواجهته ففر في يوم عيد الأضحى الى المدينة وترك أبا حمزة يعبث في مكة ويستولي عليها.

وأبو حمزة رجل من شيعة علي اسمه المختار بن عوف كان من حضرموت

__________________

(١) شفاء الغرام ٢ ص ١٧٣.

١٢٧

وكان يصاحب الحاج في المواسم عدة سنوات داعيا فيهم الى الخروج على طاعة الأمويين وقد لقي عبد الله بن يحي الكندي في مكة ، وكان يدعو إلى نفسه وقد لقبوه بطالب الحق فحسن له أبو حمزة الشخوص معه إلى حضرموت وهناك بايعه وقومه على القتال ضد الأمويين ومن ثم ثاروا على عامل الأمويين في حضرموت وصنعاء واستولرا عليها.

ثم زحف أبو حمزة بجيشه الى مكة فاستولى عليها في ذي الحجة عام ١٢٩ ه‍ بعد أن فر عاملها عبد الواحد الى المدينة ، ثم زحف إلى المدينة ، فقابله عبد الواحد في طريقها ، فقاتله وهزمه أبو حمزة ، واستمر في زحفه حتى استولى على المدينة في عام ١٣٠ ه‍ ثم سار الى الشام لقتال الأمويين ، فارسل اليه مروان جيشا هزمه واستعاد منه المدينة ، ثم تراجع أبو حمزة الى مكة ، فحصره جيش الأمويين في وادي القرى (١) قريبا من خيبر ، فقتله واستولى على مكة (٢)

وينقل الفاسي (٣) عن الذهبي أن الأمويين عندما هزموا جيش أبي حمزة في وادي القرى فر أبو حمزة في بعض جيشه الى مكة فأدركوه فيها وتقدم بعض الخيالة فحاصروه من ناحية المسفلة ، كما حاصره فريق آخر من جهة المعلاة فلم يجد منفذا للفرار وقتل من يومه بعد أن دافع عن نفسه دفاع المستميت.

واستأنف جيش الأمويين زحفه بعد ذلك الى اليمن حتى لقي الخليفة المنصوب عبد الله بن يحي ، فقتله وفرق جيشه وقضى على حركته في مهدها وأعاد مكة وجنوب بلاد العرب إلى حكم الأمويين.

__________________

(١) وادي القرى من أودية الحجاز المشهورة ويقع في شمال المدينة

(٢) راجع الكامل لابن الأثير ٤ / ٢٩٧ وما بعدها.

(٣) شفاء الغرام ٢ / ١٧٥.

١٢٨

النواحي العامة في العهد الأموي

الناحية السياسية : كان انتقال الخلافة الى الشام حدا فاصلا بين عهدين في الحجاز فلقد كان الحجاز يشعر أنه يمارس سلطة الحاكم الديني في الإسلام كما كانت مكة تضع نفسها في الطليعة من أصحاب الحل والعقد في هذا الحكم فما كاد معاوية يتحول بالخلافة الى الشام حتى شعر الحجاز أن أمره بات تابعا بعد أن كان متبوعا وأن امارته مربوطة منذ ذلك اليوم بعجلة القيادة العليا في الشام.

ولقد حاول معاوية أن يعوض مكة وأن يعوض المدينة ما فقدتاه من السلطة وأن يسري عن أصحابهما من كبار المهاجرين والأنصار ما ملك سبيلا الى ذلك فأغدق عليهم من العطايا ما لا يوفى حصره وأباحهم من سجاياه الطيبة ونداه الفياض ما يعجز عنه الوصف.

كان يفد إليه عبد الله بن العباس وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن جعفر الطيار وعبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وأبان بن عثمان وناس من آل أبي طالب وغيرهم من عظماء مكة والمدينة فيكرم مثواهم ، ويقضي حوائجهم ويغدق عليهم من أمواله أرقاما خيالية.

وكما كان يسع الناس بهذا الندى كان يسعهم بحلمه الواسع وأخلاقه المتينة ويحتمل جرأة بعض المعارضين بصبر قل أن يكون له مثيل بين الرجال.

ذكر صاحب صبح الأعشى (١) أن معاوية حج فسأل عن امرأة من بني كنانة كانت تنزل الحجون يقال لها الدارمية فجيء إليه بها وكانت سوداء مكتنزة

__________________

(١) القلقشندي

١٢٩

اللحم فقال ما حالك يا ابنة حام؟ قالت : لست لحام أدعى : إنما أنا امرأة من كنانة ، قال : صدقت أتدري لم أرسلت اليك؟ قالت : لا يعلم الغيب إلا الله ، قال : بعثت إليك لأسألك علام أحببت عليا وأبغضتيني وواليتيه وعاديتيني قالت : أو تعفيني يا أمير المؤمنين؟ قال : لا أعفيك قالت : أما إذا أبيت فاني أحببت عليا على عدله في الرعية وقسمه بالسوية وأبغضتك على قتالك من هو أولى بالأمر منك وطلبك ما ليس لك بحق قال : ولذلك انتفخ بطنك وعظم ثدياك ، قالت : يا هذا بهند كانت تضرب الأمثال لابي ، قال : يا هذه أربعي فأنا لم نقل إلا خيرا ثم قال : كيف رأيت عليا؟ فقالت : رأيته لم يفتنه الملك الذي فتنك ولم تشغله النعمة التي شغلتك. قال : صدقت فهل لك من حاجة. قالت : وتفعل إذا سألتك؟ قال : نعم. قالت : تعطيني مائة ناقة حمراء فيها فحلها وراعيها ، قال : تصنعين بها ماذا؟ قالت : أغذي بألبانها الصغار وأستحيي بها الكبار وأصلح بها بين العشائر ، قال : فان أعطيتك ذلك فهل أحل عندك محل علي؟ قالت : ماء ولا كصداء ومرعى ولا كالسعدان وفتى ولا كمالك. قال : يا سبحان الله أو دونه ، ثم أنشأ يقول وفي قوله جماع سجاياه الكريمة :

إذا لم أعد بالحلم منى اليكم

فمن ذا الذي بعدي يؤمل للحلم

خذيها هنيئا واذكري فعل ماجد

جزاك على حرب العداوة بالسلم

ثم قال : أما والله لو كان علي ما أعطاك منها شيئا ، قالت : والله ولا وبرة واحدة من مال المسلمين!!

١٣٠

والذي بستطيع الباحث أن يستنتجه رغم مبالغة القصة أن المجتمع في مكة لم تفتنه يومها انتصارات معاوية كما أن انعاماته السخية لم تلغ ملكات النقد فيها وان رفاهية الحياة التي أصبحوا يعيشونها في هذا العهد لم تنسهم طلاقة البداوة وصراحتها ورجولتها وأن قوة معاوية وجبروته لم يثن من عزيمة امرأة يسألها. ان أعطيتك فهل أحل عندك محل علي؟ فتقول ولا توارب : «ماء ولا كصداء ومرعى ولا كالسعدان وفتى ولا كمالك».

كما يستطيع أن يستنتج أن معاوية كان يحاول بكل ما ملك من صبر وحلم وجود أن يعوض مكة والمدينة ما فقدتاه من السلطة ولقد نجح في ناحية السياسة كما أراد ، كأني بمكة رأت أنه من الخير أن تدين بالطاعة لهذا الرجل العظيم في الشام كما رأت أن له من صحبته برسول الله وعلو بيته في قريش وقوة شخصيته وشدة منعته بالشام وكريم أخلاقه ومننه العظيمة الفياضة ما يؤهله للقيادة ويجعله حريا بالطاعة.

لهذا قنع المعارضون فيها وفي المدينة بالأمر الواقع. واعتقد أنه لو لم يفكر في أخريات أيامه في توريث الخلافة لولده يزيد لما عاد الثائرون في الحرمين الى المعارضة ولجرى سير التاريخ في غير ما جرى.

إذن فقد أهابت فكرة التوريث الى يزيد بالمعارضين ليعيدوها جذعة .. ليذهب ضحيتها ابن بنت رسول الله وليجد عبد الله بن الزبير الفرصة سانحة لدعوته التي طال عليها السكوت.

ولقد كان عبد الله بن الزبير كما أسلفنا ، مثال الزعيم الناهض وكان له من بأسه وشجاعته النادرة وتدينه كل مقومات الزعامة ، ولست أشك في أنه كان

١٣١

يحتضن رأي القائلين باعادة الخلافة الى مهدها في الحجاز ، وأوشك ابن الزبير أن ينجح في المهمة التي اضطلع بها وكاد أن يعيد الى مكة مركزها من السلطة الدينية وشوهد مروان بن الحكم حجة الأمويين في عهده يعتزم الرحيل الى مكة ليبايع ابن الزبير فيها لولا أن الشباب من بني أمية قطعوا عليه سبيله في الجابية وأعلنوا مبايعته بالخلافة.

وكان لهذا أثره فقد تكاثرت جنود الشام ـ يقودهم بنو أمية ـ على صاحب النهضة في مكة حتى أحبطوا مساعيه ودفنوا آماله في بطحائها وعلقوا جثته على مرتفع فيها عند الحجون.

ولم يقتصر هذا الأثر على ما علمت من احباط مساعي ابن الزبير ودفن آماله في بطحاء مكة لأننا نرى أنه كان لذلك رد فعل تعدت نتائجه إلى الروح السائدة بين المكيين فأخمدت جذوتها وأطفأت شعلتها وأحالتهم من جديد الى اناس يعيشون على هامش السياسة الإسلامية بعد أن كانوا منها في الصميم.

فقد جدت على أثر فشلهم في حركة ابن الزبير حوادث إسلامية هامة في أمصار الإسلام أثناء حكم بني أمية الى نهايته اصطفق فيها المسلمون واضطربت أمواجهم فيها فكان للخوارج شأن وللمتشيعين والعلويين والزيديين شأن آخر وللمرجئة والمعتزلة والشعوبية شؤون غيرها فلم يختلط المكيون بشيء مما حدث ولم يشايعوا فريقا ضد فريق كما لو كانوا قد قنعوا بما جربوا أو يئسوا بعد أن حاولوا ، وشيء آخر لا يصح ان نغفله من حسابنا ونحن ندرس هذه الحقبة من تاريخ مكة ذلك أن المكيين كانوا فيما يبدو مأخوذين بالروح التي كانت تسود في عهد الشيخين وبخيال الظل الذي تألق فيما بعد في صورة ابن الزبير فلما أسقط في أيديهم وفاجأتهم الحوادث بغير ما يتخيلون أدهشتهم المفاجأة فظلوا

١٣٢

في سكونهم لا ينظرون الى الحياة بغير نظرة العابث الساخر الذي لا يواجه الحقائق بقدر ما يزوغ منها. انهم جدوا مرة عندما اعتنقوا مذهب أبي بكر وعمر فلما تشعبت الآراء وانقسمت المذاهب وتحمس أصحاب الدعاوى وكثر الدجاجلة والمهديون والمتنبؤون نظروا الى هذه الفوضى حولهم بروح العابث الذي يلهو ولا يجد.

ولعل أصدق وصف يعطينا دليلا على صحة ما نرى ما جاء في خطبة «علي ابن محمد بن علي العباسي» وهو أحد دعاة العباسية فيما بعد وفيها يقول : «أما الكوفة وسوادها فشيعة علي. وأما البصرة فعثمانية تدين بالكف ، وأما الجزيرة فحرورية صادقة وأما أهل الشام فلا يعرفون غير طاعة بني أمية ، وأما مكة والمدينة فقد غلب عليهما أبو بكر وعمر!! (١) هذه النظرة العابثة التي شاعت في المكيين بسبب الثبات على ما ورثوا من أبي بكر وعمر أسلمتهم الى استقرار طويل دام إلى نهاية العهد الذي ندرسه عهد الأمويين. إلا إذا استثنينا بعض النزوات التي كانت تتألق في قصيدة شعرية أو مساجلة أدبية في مجلس من المجالس التي كان بعض الشباب يعقدها في المسجد حول الكعبة ـ كما تقدم بنا ـ يناقشون فيها حياتهم أو يعرضون فيها لنقد الأمويين ، ومع هذا فقد قاست هذه الأقلية من أصحاب النزوات ما لا يستهان به فقد ضيق يوسف بن محمد بن هشام على العرجى الشاعر في مكة لما بلغه من هجو بني أمية ثم جلده وسجنه الى أن مات في السجن بعد نحو تسع سنوات ، وضيق خالد بن عبد الله القسري على سعيد بن جبير وعذبه ، وضيق الوليد بن عروة السعدي آخر عمال بني أمية على جماعة من شبابها كانوا يسمرون في المسجد الى ما بعد منتصف الليل وقد بلغه أنهم يتحدثون في سياسة الأمويين ويتعرضون لنقدها فجعل عليهم الارصاد حتى

__________________

(١) احسن التقاسيم في معرفة الاقاليم للمقدسي ٣ / ٢٩٣ ، ٢٩٤.

١٣٣

تفرق بعضهم ونكل بالبعض الآخر ، كما نكل بشاعرهم المعروف سديف بن ميمون وكان من أفراد جماعتهم فأمر بسجنه وجعل يجلده في كل سبت مائة سوط ، وقد ذكروا أنه بقي في سجنه حتى أطلقه العباسيون في دخولهم الى مكة ، وفي ذلك أنشأ قصيدته المعروفة ومطلعها :

أصبح الدين ثابت الأساس

بالبهاليل من بني العباس (١)

وفيها يندد بالأمويين :

فلقد غاظني وغاظ سوائي

قربهم من نمارق وكراس

والقصيدة مطولة حفلت بها كتب الأدب.

ونعود إلى روح السخرية الذي ساد مجموع الأمة لنجده وقد أسلمهم الى القناعة. ثم أسلمت القناعة بعضهم الى نوع من الزهد فكان منهم المتعبدون والورعون والمنقطعون الى العلم ، كما أسلمت بعضا آخر الى شيء من العبث بالحياة وساقهم الى لون من المجون فيه شيء من الفن وشيء آخر من اللعب واللهو كما سيأتينا.

الناحية العلمية والدينية : ونحن هنا نستعرض القسم الذي زهد الحياة فانقطع للعبادة والعلم.

يذكر المؤرخون أن مكة غصت في هذا العهد بجمهرة كبيرة من هذا القسم وأنه أضيف إليهم أمثالهم من مهاجري الآفاق الذين عصفت بهم الفتن فهرعوا إلى مهبط دينهم ينشدون الاطمئنان بعيدا عن القلاقل فكثر سوادهم وامتلأت برجال العلم منهم حلقات الدروس في المسجد.

__________________

(١) راجع محاضرات الخضري ص ٤٨.

١٣٤

وقد لحق ابن العباس بهم في أوائل العهد الأموي فرارا من الاختلافات السياسية فاتخذ مقعده في دار زمزم على يسار الداخل اليها يذيع معارفه وينشر علومه ونحن في غنى عن أن نصف ابن العباس فليس من يجهل أنه من أجلاء الصحابة وأنه من أوسعهم علما وأكثرهم اطلاعا وأفضلهم عقلا وأنه حبر هذه الأمة ومفسر كتاب الله وترجمانه وأن عودته إلى مكة ليضطلع بالتدريس فيها كان كسبا ما ظفرت مكة بعده كسبا يضاهي ربحها العلمي منه (١).

اتسعت حلقة ابن العباس في المسجد الحرام وهرع الظامئون الى مناهل العلم يروون غلتهم منها فكانت حركة قوية تركت أثرها في جموع المتدارسين الموزعين في أفناء المسجد وأنتجت ضجة علمية اتصل صداها ببيوت مكة من أطرافها الى أطرافها وتوافد على صيتها من أقطار الأرض طلاب المعرفة وقصاد العلم (٢).

وأنتجت هذه المدرسة فيما أنتجت مجاهدا بن جبر وعطاء بن أبي رباح وطاووسا بن كيسان وسعيدا بن جبير وسليمان بن يسار وأبا الزبير محمدا ابن مسلم بن تدرس وعمرو بن دينار الجمحي (٣) وعكرمة مولى ابن عباس وكان أكثر الناس اتصالا بابن عباس مولاه عكرمة لهذا كان أكثرهم رواية وأغزرهم معرفة ، كما اشتهر مجاهد بن جبر بميزات خاصة وقضى وقتا طويلا يتولى قضاء مكة.

__________________

(١) ينقل الأزرقي بسند متصل الى عطاء أنه كان لزمزم حوضان أحدهما بينها وبين الركن يشرب منه الماء ـ والثاني من ورائها للوضوء ثم يقول وكان موضع مجلس ابن العباس في زاوية زمزم التي تلي الصفا والوادي وهو على يسار من دخل زمزم.

(٢) كان ابن عباس يتردد على الطائف أيام اقامته في مكة وعندما حضرته الوفاة عام ٦٨ كان بالطائف فدفن بها. راجع محاضرات الشيخ محمد الخضري ص ٧.

(٣) مولى أحد الاعلام من التابعين ، كان موثقا في الحديث ، وقدمه بعضهم على عطاء ومجاهد. العقد الثمين (ج ٦ ص ٣٣٤).

١٣٥

وظلت هذه المدرسة تؤدي وظيفتها بأقوى ما تؤديه المدارس الحية وتنتقل معارفها من طبقة إلى أخرى ومن جيل لتسلمه الى آخر حتى أنتجت سفيان ابن عينية (١) ومسلما بن خالد (٢) ثم أنتجت الامام الشافعي فيما سيأتينا من تفصيل.

الناحية الفنية : أما القسم الآخر الذي أنتجته النظرة العابثة في الحياة فقد أسلم أصحابه الى كثير من الترف والفنون واللعب.

شاع التظرف الأدبي بين هؤلاء شيوعا قد لا نجد له نظيرا في تاريخ مكة فأنتج لنا عمر بن أبي ربيعة وعبد الله بن قيس (٣) والعرجي والحارث بن خالد المخزومي وشعراء غيرهم لم يبلغوا شاوهم ولكنهم كانوا على العموم يمثلون ناحية الترف والمجون في عصرهم تمثيلا صادقا.

وتأنق المترفات فبدأن يستمرئن الأدب ويتلذذن بسماعه وتعرض الارستقراطيات منهن للشعراء يستزدنهم ويشحذن خيالهم وترقق بعضهم فاستسغن الاجتماعات البريئة يشجيهن فيها الشاعر برقيق ما ينشد :

قالت لو أن أبا الخطاب وافقنا

اليوم نلهو وننشد فيه أشعارا

ومضى بهن التظرف الى الاستئناس بالسمر يلهون في غفلة عن الناس ثم يعفين آثاره بأكسيتهن الجميلة من الخز.

__________________

(١) ابن أبي عمران ابو محمد ، قال الشافعي : لو لا مالك وسفيان لذهب علم أهل الحجاز توفي بمكة سنة ١٩٨ ه‍ المصدر السابق ج ٤ ص ٥٩٢.

(٢) ابن قرقرة ، ويقال : ابن جرجة ، فقيه مكة وفقيها المعروف بالزنجي ، كان من فقهاء أهل الحجاز ومنه تعلم الشافعي الفقه. العقد ج ٧ ص ١٨٧

(٣) كتاب طبقات الشعراء يسميه عبيد الله ويشايعه على هذا صاحب الأغاني ولكن اكثر الرواة على أن اسمه عبد الله.

١٣٦

سمرن يقلن ألا ليتنا

نرى ليلنا دائما أشهرا

ويغفل ذا الناس عن لهونا

ونسمره كله مقمرا

غفلن عن الليل حتى بدت

تباشير من واضح أشقرا

وقمن يعفين آثارهن

بأكسية الخز أن تقفرا

وقمن يقلن لو ان النهار

مدّ له الليل فاستأخرا

لا أعتقد أنهن كن فاجرات في سمرهن أو فاسدات في تعرضهن للشعراء ولكنهن كن ساخرات بالحياة عابثات بها وكن مرحات يستذوقن الجمال ويستمرئن الهوى في حدوده التي رسمتها بيئة عصرهن (١) مضت لوثة هذا التظرف حتى اتصلت بمواقف الحج من المشاعر فنحن نرى المسعودي ينقل الينا ما يقوله أحد الحجاج من الشعراء :

يا حبذا الموسم من موقف

وحبدا الكعبة من مسجد

وحبذا اللاتي يزاحمننا

عند استلام الحجر الأسود

فيغضب والي مكة خالد بن عبد الله القسري ويأمر بمنع اختلاط النساء بالرجال في المطاف ، ونسمع المغنين يرددون لنا بيت العرجي المشهور :

من اللائي لم يحججن يبغين حسبة

ولكن ليقتلن البريء المغفلا

وتضيف الروايات التاريخية إلى هذا أن بعض فقهاء الحجاز أدركتهم هذه اللوثة من التظرف وتقول انهم كانوا أرق شعورا وأكثر تسامحا من غيرهم وأن

__________________

(١) راجع الأغاني ١ / ١٠٥ وما بعدها.

١٣٧

عبيد الله بن عمر العمري يقول : خرجت حاجا فرأيت امرأة جميلة تتكلم بكلام فيه رفث فأدنيت ناقتي منها ثم قلت لها : يا أمة الله ألست حاجة أما تخافين الله؟ فسفرت عن وجه يبهر الشمس حسنا ، ثم قالت : تأمل يا عمي فاني ممن عنى العرجى بقوله :

من اللائي لم يحججن بيغين حسبة

ولكن ليقتلن البريء المغفلا

قال : فقلت أسأل الله ألا يعذب هذا الوجه بالنار ، وقد بلغ ذلك سعيدا ابن المسيّب فقال : أما والله لو كان من فقهاء أهل العراق لقال لها : اغربي قبحك الله ولكنه ظرف عباد الحجاز.

وكان كثير من النساء يخرجن سافرات الوجوه (١) ويطفن بالبيت في غير نقاب وقد أورد الأزرقي في أخبار مكة ما يشير الى ذلك ثم قال في حديث عن جده : إن عطاء كان يكره أن تطوف المرأة متنقبة وكذلك كان يرى ابن أبي مخارق ثم قال : وقد ظل عطاء على رأيه حتى ثبت له أن عائشة كانت تطوف متنقبة فأرخص في ذلك.

وتسامح المكيون في سماع الغناء حتى اقتنوا له الجواري من طبقات ممتازة فأدبوهن بآداب العربية وعلموهن صناعة الشعر وتركوهن يغنينه بما عرفن في بلادهن مصبوغا بصبغة الحجاز ، ويروى أبو الفرج أن أول من غنى بمكة من أهلها سعيد بن مسجح سمع غناء الفرس وألحان الروم وتعلم الضرب ثم ألقى ما استقبحه من النبرات خارجة عن غناء العرب وغنى على مذهب يجمع بين ما استحسنه من الأنغام وتبعه الناس فيما بعد (٢).

__________________

(١) انظر الأغاني ١٠ / ٥٤ و ١٤ / ١٦٥.

(٢) الأغاني ٣ / ٢٨١.

١٣٨

واشتركت المدينة في هذه اللوثة وشاع أمر الغناء بينها وبين مكة ولكن مكة سبقت الى الشعر الغنائي بما شاع فيها من شعر ابن ابي ربيعة وأصحابه ، واشتهر بين المدينتين من الموالي المغنيين والمغنيات جميلة ، وهيت ، وطويس ، والدلال ، وبرد الفؤاد ونومة الضحى ، ورحمة ، وهبة الله ، ومعبد ، ومالك ، وابن عائشة ، ونافع ، وعزة الميلاء ، وحبابة وسلامة القس (١) وبلبلة ، ولذة العيش ، وسعيدة ، والزرقاء ، وتجد أخبار ذلك مفصلة في كتاب الأغاني.

وشاع التندر والفكاهة في مكة كما شاعت خفة الروح وكثرت التائهات بحسنهن والمعتزات بجمالهن القاتل :

نحن أهل الخيف من أهل منى

ما لمقتول قتلناه قود

وأغرقن في حلل من الخز والديباج

وزينتهن من الياقوت والزبرجد

يرفلن في مطرفات السوس آونة

وفي العقيق من الديباج والقصب

ترى عليهن حلى الدر متسقا

مع الزبرجد والياقوت كالشهب

وكلف هؤلاء بمنتزهاتهم في أطراف مكة والزاهر وفي عقيق المدينة وضواحي الطائف كما يذكر صاحب الأغاني فكانوا يمتطون الدواب الفارهة في أعناقها القلائد الذهبية أو يمشون في أقبيتهم المطرزة بالوشى تحت الثياب الرقيقة المصبغة من الكتان أو القز بعضها أطول من بعض كأنها المدارج تقوم قياما من شدة الصقال كما كلف أغنياؤهم بتشييد القصور في ضواحي المدن ومن أشهرها قصور العقيق بضاحية المدينة.

__________________

(٢) القس هو عبد الرحمن بن أبي عمار الجشيمي اشتهر بالعبادة فسمى القس وقد عرفت سلامة به لأنه سمعها على غير عمد منه فبلغ غناؤها منه كل مبلغ واشتهر بها كما اشتهرت به. راجع الأغاني ٨ / ٣٣٣ وما بعدها.

١٣٩

وشاعت بين المترفين في هذا العهد الوان من الطعام الشامي والفارسي كما شاع بينهم اتخاذ الكراسي حول الموائد واستعمال الملاعق من الخشب والمناشف الى جانب السكاكين التي كانوا يستعملونها من عهود سابقة وشرعت بيوتهم تأخذ أشكالا جديدة من هندسة البناء وترتفع طبقاتها في الهواء بالحجارة والرخام (١) مرفوعة على الأعمدة والأقواس مزينة بالفسيفساء في أبهائها ولا يزال آثار ذلك ماثلا الى اليوم في أطلال قصر ابن العاص في ضواحي المدينة.

وبلغ من انتشار الترف أن أصابت عدواه كما قلنا بعض المحتشمين فكلفوا بالتنزه والمطاولة في البنيان وأباح بعضهم لنفسه حضور مجالس الأغاني والاستماع الى رقيق الشعر والترنم به ولم تتحرج سكينة بنت الحسين من الحفاوة

__________________

(١) الأغاني ١ / ٢١١.

١٤٠