تأريخ مكّة دراسات في السياسة والعلم والاجتماع والعمران - ج ١-٢

أحمد السباعي

تأريخ مكّة دراسات في السياسة والعلم والاجتماع والعمران - ج ١-٢

المؤلف:

أحمد السباعي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الطبعة: ٠
ISBN: 9960-660-17-6
ISBN الدورة:
9960-660-18-4

الصفحات: ٧٩٣

وعبث بعض المفسدين من قبائل زبيد وبشر ومعبد (١) وسليم (٢) بالأمن وقطعوا طريق القوافل بين جدة ومكة في رمضان عام ١٣٠٠ فجهز الشريف عون جيشا لقتالهم ففروا الى عسفان فأدركهم وأوقع بهم حتى اطاعوا له.

وفي هذا العهد توفي الشيخ احمد زيني دحلان صاحب «خلاصة الكلام» وذلك عام ١٣٠٤ وما لبث أن نشب الخلاف بين عون والوالي التركي عثمان باشا نوري بسبب الخلاف على السلطة فعزلت الدولة عثمان وعينت حسين جميل باشا.

وفي عام ١٣٠٤ قبض عون على موسى البغدادي وأمين ماصية لي ومحمد السعدي فنفاهم الى خارج البلاد (٣).

ثم القبض على الشيخ ابراهيم العجيمي وعبد الله كردي امام الشافعية والشيخ احمد بن الشيخ عبد الله فقيه أحد الأئمة والشيخ علي زين العابدين هندية ونفاهم كذلك.

وقد ذكر انهم كانوا يتصلون بالوالي عثمان باشا فنهاهم عن ذلك حتى انتهوا ثم ما لبثوا ان عادوا الى الاتصال بالوالي الجديد على أثر وصوله فعاقبهم بالنفي.

كما عزل الشيخ عبد الرحمن الشيبي من وظيفة السدانة ونفاه الى الهدى فظل فيها الى ان مات وعين للسدانة غيره من آل الشيبي.

وقد رفعت قضايا النفي الى دار الخلافة فلم توافق عليها واباحت لهم العودة الى مكة فعادوا وفي سنة ١٣١٤ صدر أمر الشريف عون بابعاد الشيخ

__________________

(١) هذه الثلاثة البطون من حرب (ع)

(٢) هم بنو سليم بن منصور ، القبيلة القيسية المشهورة. (ع)

(٣) افادة الأنام «مخطوط»

٦٢١

عبد الرحمن سراج مفتي الاحناف والشيخ محمد عابدين حسين مفتي المالكية والسيد ابراهيم نائب الحرم والسيد علوي سقاف شيخ السادة بمكة والسيد عبد الله بن محمد الزواوي (١).

ويذكر بعض من عاصر الشريف عونا ان المنفيين كانوا قد كتبوا الى الخليفة عبد الحميد يشكون من اعمال الشريف عون في مكة في «مضابط» موقعة بأسمائهم فاعادها الى الخليفة او المسؤولون في القصر ممن يميل الى سياسة الشريف عون. اعاد تلك المضابط الى الشريف عون ليطلع عليها فانتقم لنفسه من اصحابها وعاقب بعضهم بالسجن والبعض الاخر بالنفي.

ويذكر بعضهم ان المضابط أعيدت الى مكة تصحبها لجنة على رأسها احمد راتب باشا للتحقيق في موضوعها وان عونا استطاع ان يكسب ود أحمد راتب باشا ويظفر بنتيجة التحقيق ، وقد ظل راتب باشا في مكة على اثر ذلك يقوم بوظيفة الوالي بعد ان عزل جميل باشا.

ويذكر هؤلاء ان عونا غدا اشد وطأة على الاهالي بعد قضية المضابط وانه بعد ان انتقم من أصحابها اشتط في معاملاته مع غيرهم مما كان له أسوأ الأثر.

ويبدو ان الشريف عونا كان ـ بغض النظر عن موضوع المضبطة ـ غريب الاطوار متناقض الاعمال يقدس بعض معاصريه فيه غزارته العلمية ومحبته للخير العام وتبسطه في مجالسه الخاصة وتودده للمسالمين ، وينعون عليه في الوقت نفسه تبذله بين ندمائه وقسوته في معاملة الحجاج وامعانه في عقوبة مخالفيه واصطناعه «الخزناوية» الذين كانوا يضطهدون عامة الشعب.

__________________

(١) افادة الأنام للشيخ عبد الله غازي «مخطوط»

٦٢٢

الخزناوية : فرقة اتخذها الشريف عون كحرس خاص لخدمته والاستعانة بهم على تنفيذ أوامره فكانوا يتسلطون على الاهالي ويستغلون نفوذهم في اضطهاد من يضطهدونه أو يطمعون في امواله فكان لا يجرأ احد على الشكوى منهم.

ويعلق بعص المنتقدين بمرارة على اعمال «الخزناوية» ويقول انه كان يختارهم من طبقات العامة ويجيز لهم من النفوذ ما يستطيعون به اذلال الخاصة نكاية لهم.

ومما يحفظه معاصر والشريف عون من القصص التي تدل على غرابة أطواره انه كان يأمر بهدم بعض قباب القبور بحجة ان أصحابها لا يستحقون التقديس ويعفو عن بعضها بدعوى أحقية ذلك. (١)

ويذكرون انه عمد الى رجل المجاذيب يسمونه «علي بو» كان يذرع الشوراع بجسمه العاري فجعله من جلسائه بعد ان أمر بتنظيفه وتعليمه ارتداء الاثواب الفخمة التي تؤهله لصدور المجالس.

قالوا انه اتخذ هذا المجذوب أنيسا وأمر عليه القوم وعظماء هم بتقبيل يده وأحله مكان الصدارة منهم وكان اذا خرج في موكبه جعل المجذوب عن يمينه في عربته الخاصة واذا ركب المجذوب عربته الخاصة أمر الناس بالوقوف له لتأدية التحية على نحو ما يفعلون لدى مرور الموكب الاميري.

وأراد أن يشيد للمجذوب قصرا فخما فابتاع له بعض الدور القريبة من المسجد في القشاشية وهي من اهم شوارع البلدة واجبر اصحابها على الاخلاء ثم هدمها وبنى القصر مكانها وقد هدم القصر أخيرا بمناسبة توسعة المسجد الحرام.

__________________

(١) ذكر عبد الله البسام في كتابه (علماء نجد خلال ستة قرون) ص ١٥٦ ج ١ اثناء ترجمته لاحمد بن عيسى نقلا عن المرحوم نصيف ما يفيد بأن الشريف عونا انتمى الى مذهب السلف على يد احمد هذا ، وانه اقنعه بهدم القباب فوافقه على ذلك وقربه ، ولم يبق غير قبتي السيدة خديجة رضي‌الله‌عنها وقبة حواء بجدة (ع).

٦٢٣

وعمد الى قطعة امام القصر مكتظة بالبيوت فحكم على اصحابها باخلائها ونقدهم ثمنها ثم امر بهدمها ليجعل منها حديقة يمتع المجذوب بصره فيها ويبالغ بعضهم فيقول ان عونا أراد ان يتوسع في الهدم حتى ينتهي الى الغزة ليجعل المسافة بين قصر الامارة وقصر المجذوب خالية لا يعترضها عند النظرة فيها شيء بين القصرين وهي مسافة لا تقل عن ٣٠٠ مترا.

ويقول بعضهم : ان فكرة الهدم لاجل الحديقة او غيرها لا أساس لصحتها وان امتلاك تلك البيوت وهدمها كان الغرض منه تشييد نزل للحجاج متسع الاطراف تنفيذا لرغبة الخليفة عبد الحميد الذي أوصى بتشييد ذلك وبعث بالاموال اللازمة فتم الاخلاء والهدم. والواقع أن القطعة المذكورة من الأرض ظلت خيالية طوالي أيام الشريف عون ثم أجرها ورثته بعده لبعض الناس الذين اتخذوا منها دكاكين وبيوتا من الصفيح وقد ظلت كذلك الى عهد الحكومة السعودية الحاضرة حيث الزمت الورثة من آل عون بتخطيطها وبناء دكاكين وشوارع فيها ، وقد دخل اليوم بعضها في مشروع توسعة المسجد.

ويميل بعضهم الى الاعتقاد بأن الشريف عونا كان يعتقد الولاية والصلاح في «علي بو» وأنه كان قد تنبأ مرة بنبوءة عند عون فاعتقده ، وكنت أعرف «علي بو» بعد عهد عون وقد عاد الى الشوارع يذرعها كسابق عهده بها ولكنه لم يكن عاريا بل كان اهله يكسونه ما يكتسي به الناس عادة وحادثته مرارا فلم اجد في احواله ما يلفت النظر ، فقد كان جنونه عاديا وكان يميل الى الانفراد وقلة الحديث وكان لا يرى الا مطرقا في هدوء وقد تبادره الى الحديث فلا يجيبك الا بعد الحاح بلازمة اعتادها على الدوام في كلمة واحدة : «هى مقضية .. مقضية ... مقضية ان شاء الله»

٦٢٤

ويميل البعض إلى إمعان عون في الدهاء سول له العمل على نكاية العظماء باتخاذ هذا المجنون جليسا له يقدمه عليهم ويأمرهم بتعظيمه وتقبيل يده. ويميل فريق آخر إلى التدليل لقصة (علي بو) على غرابة أطوار الشريف عون.

وإنني أميل إلى الرأي الأخير وأعتقد ان ذلك في أوساط العظماء وقواد الأمم لا يخلو منه زمان شأنهم في ذلك شأن عامة الخلق لا فرق بينهم فيه إلا فيما كان من نوع الأثر الذي يتركونه في بيئتهم وما يحيط بهم فالتجاوز عن المألوف عند العظماء يستعير فخامته من مراكزهم الممتازة ويترك أثره قويا فيمن يحيط بهم وقد يجد من يشايعه ويتأول له ويضفي عليه من نعو تالنوابغ والعباقرة وجبابرة العقول ما يحير الوصف كما يجد في الوقت نفسه من يمعن في نقده ومقته وينسج حوله الآف القصص المثيرة للضحك والاشفاق زراية بأصحابه وانتقاما منهم وقد ورثنا التاريخ في العالم الآف القصص مما كان ينسج حول اصحاب الأطوار الغريبة من قادة الأمم بعضها يصورهم في صدق كما يبالغ بعضهم في تشويههم وكلها تجمع على أن الطبقات الممتازة في الحياة منيت بأصحاب التصرف الغريب كغيرها من مختلف الطبقات.

وإذا كان أثر التجاوز في الطبقات الممتازة يستعير فخامته من مراكزهم فإنه في الطبقات المتوسطة وما تحتها يمضي ـ كما نشاهد ـ ضئيلا دون أن يخلف بعده ما يدل عليه.

ويغرب بعض مشايعي الشريف عون ممن حدثتهم في شأنه فيقول ان عقلية عون الجبارة هدته إلى أفضل طريقة تمكنه أن يتقي بها كيد عبد الحميد الذي كان يشك في جميع المستنيرين من عماله وموظفيه ان يصطنع هذه الأعمال ويجالس المجانين ليو همه أنه أحد السذج الذين لا يعتد بهم ـ كما يغرب بعض من لاقيته فيقول أن عونا كان ساذجا بالفعل وان تصرفاته في إدارة الحكم كانت تدل على سذاجة مطلقة.

٦٢٥

ويمكننا إذا أردنا أن لا ننكر عليه علمه وفهمه في الحياة أن نرد تصرفاته إلى مثل ما الذي اعترى قبله كثيرا من عظماء الأمم.

فيل عون : وأهدى احد عظماء الهند للشريف عون فيلا فكان الفيل ينطلق في شوارع مكة يصحبه مروضه وكان يصيف في الطائف اذا صيف الشريف عون (١).

بعض اعمال عون : أنشأ الشريف عون بستانا بجرول تبلغ مساحته ٣٧٠* ١٨٠ مترا مسورا بسور ارتفاعه متران في وسطه خزان للماء «بركة» طول ضلعه ٦ أمتار وسمكه ثلاثة أمتار وربع وارتفاعه أربعة أمتار يصعد الى اعلاه بدرج وكان يزرع في البستان الجوافة والجوز الهندي والبرتقال والليمون والنخيل والعنب والكادي والورد والبرسيم والكرنب وانواع الخضراوات (٢).

والذين ينعون على عون قسوته في معاملة الحجاج يذكرون انه فرض على مواصلاتهم اجورا باهظة بالنسبة لمستوى الاسعار في ذلك العهد فيقولون انه في سنة ١٣٠٣ كانت اجرة الجمل للشقدف من مكة الى المدينة ثم ينبع ٢٣ ريالا ومرجوع جدة ٣٨ ريالا ومرجوع الوجه ٣٥ ريالا ويدفع ريال للشريف وريال للوالي وثالث للمخرج ورابع للمطوف ومن المدينة ريال للمزور وآخر (للميري) أي لخزانة الحكومة العثمانية (٣)

وفي دليل الحج لصادق باشا ان عرب البادية قطعوا الطريق على القافلة وظلت ثلاثة ايام حتى دفعوا عن كل جمل ريالا ثم دفعوا في عسفان نصف ريال عن كل جمل.

__________________

(١ و ٣) افادة الانام للشيخ عبد الله غازي

(٢) مرآة الحرمين

٦٢٦

وفي ٧ محرم عام ١٣٠٤ خرجت قافلة من مكة الى جدة فيها نحو ٣٠٠ جمل يحرسها ٥٠ عسكريا فلما صاروا بين بحرة وقهوة العبد في الساعة ٣ ليلا هجم العربان على القافلة وأطلقوا سلاحهم الناري على العساكر واشتغل بعضهم بالنهب وقد اسفرت المعركة بعد النهب عن قتل ثمانية من الحجاج ومثلهم من الجمالة عدا الجرحى ولما اتصل الخبر بمكة جردت حملة عسكرية عليهم (١).

وفي عام ١٣١٨ قسم عون طوافة بلاد مصر وجاوه والهند والمغرب وبلاد الاناضول وغيرها اقساما تسابق المطوفون الى شرائها وبذلك ألغى سؤال الحاج عن مطوفه والزم بتيعية المطوف الذي اشترى حقوق الطوافة للبلاد التي يتبعها ذلك الحاج (٢).

ويقول ابراهيم رفعت باشا (٣) ان جميلا باشا جاء الى مكة فأبطل تقسيم بلاد الجاوى ثم عادت التقسيمات في عهد راتب باشا ويقول ان بعض الصحف الجاوية نشرت تنتقد اعمال عون وتتهم بعض موظفي قصره وتقول ان هذا البعض يعطي للامير «من الشاة اذنها» وقد بنوا الدور والقصور(٤).

علي بن عبد الله : وتوفي الشريف عون بالطائف في جمادي الاولى ١٣٢٣ واتصل الخبر براتب في جدة فكتب الى قاضي الطائف وأعيانها بتنصيب الشريف علي بن عبد الله بن محمد بن عبد المعين بن عون وكيلا الى ان تصدر الاوامر من الاستانة.

__________________

(١) افادة الانام للشيخ عبد الله غازي «مخطوط»

(٢ و ٣) مرآة الحرمين

(٤) تحدثت الى معمر من أهل البادية فسألته عن عمره! فقال : (انا دخلت على أبو خربطة وأنا محتزم بالبندق!) فسألته : من أبو خربطة قال : عون الرفيق. ومعناه الذي يخلط في اعماله. (ع)

٦٢٧

ولما تولى الأمر علي باشا امر باعتقال «الخزناوية» وصادر أموالهم وممتلكاتهم لقاء تسديد ما اغتصبوا من اموال الناس.

وبوصول الخبر الى الاستانة وافقت على تاصيل علي باشا في شعبان من العام المذكور ولم يصل المرسوم الخاص بذلك الا في اوائل عام ١٣٢٦ (١)

وفي سنة ١٣٢٥ امر الخليفة بندب لجنة من علماء المسجد الحرام لنصيحة امام اليمن الذي كانت ثوراته لا تهدأ وتحذيره من مخالفة الدولة فندب جماعة منهم المشايخ محمد سعيد بابصيل مفتي الشافعية وعبد الله بن عباس ابن جعفر مفتي الاحناف ، وقد توفي الاخير في صنعاء وتولى الافتاء عبد الرحمن سراج صبيحة عيد الفطر من العام المذكور (٢)

عودة الدستور في الاستانة

لم تفت سياسة عبد الحميد القاسية في عضد أنصار الدستور الذي الغاه ولم تحل يقظة جواسيسه وأساليبهم في الارهاب دون مواصلة اعمالهم الثورية فقد استأنفوا نشاطهم على اثر قتل مدحت باشا في الطائف عام ١٢٩١ ه‍ وشرعوا وعلى رأسهم نيازي وأنور يؤلفون الجمعيات السرية في سلانيك ثم في رسنة ومناستير واخذوا بدورهم يتجسسون على أعمال عبد الحميد ويترقبون الفرص للثورة ضده وقد استمرت اعمالهم كذلك نحو ٣٠ سنة استطاعوا في نهايتها ان يعلنوا أنفسهم في سلانيك وان يضموا اليهم كثير من ضباط عبد الحميد وقواد جنده ولما بعث عبد الحميد جيشا يؤدبهم انضم رجال الجيش اليهم وشرعوا يقاتلون في صفوفهم.

__________________

(١ و ٢) افادة الأنام للشيخ عبد الله غازي

٦٢٨

ومشى رجال الدستور حتى حاصروا عبد الحميد في قصره بالاستانة وأكرهوه على قبول الدستور مع بقائه في عرش الخلافة فوافقهم على ذلك واعلن الدستور الى جميع الولايات التابعة لعثمانيا في ٢٧ جمادي الثانية عام ١٣٢٦ ه‍.

وبذلك عاد الدستوريون الى حكم البلاد بعد أن عاقبوا أنصار الملكية وأقصوهم من مراكزهم واستولوا على مقدرات البلاد وأحكامها ، وأسسوا مجلس المبعوثان من أعضاء انتخبتهم الولايات التابعة للعثمانيين ثم ما لبث الاتحاديون أن اختلفوا على بعضهم لان بعض العناصر كالعرب والأرمن وغيرهم شعروا بحاجتهم الى الاستقلال الذاتي عن الاتراك كما ان المتدينين من رجال الاسلام انتقدوا على رجال الجمعية تساهلهم بامور الدين ومخالفة بعض أحكامهم لاحكام الاسلام فاشتدت القلاقل وتأسست الاحزاب بعضها تدافع عن الدين وبعضها تدافع عن العناصر وارتفعت أصواتها بسقوط الاتحاديين فنشبت الفتنة في الاستانة وهوجم مجلس (المبعوثان) ففر بعض الاعضاء وقتل بعضهم وطار الخبر الى سلانيك مستودع الاتحاديين وملاذهم فلم يبطئوا في ارسال فيالقهم بقيادة محمود شوكت لاخضاع الفتن في الاستانة وقد استطاع محمود باشا ان يسيطر على الموقف.

وكان الاتحاديون قد شعروا ان السلطان عبد الحميد الثاني ساعد على اثارة هذه الفتن فاجتمع مجلس الامة في عام ١٣٢٦ ه‍ وقرروا خلعه بعد ان استفتى شيخ الاسلام عن حكم الشريعة في شخص خالف الشرع في احكامه وحنث في يمينه وأحدث الفوضى في المملكة فأفتى بخلعه فخلعوه.

ثم رحلوه في بعض اهله الى سلانيك مع قليل من خدمه حيث أقام مدة ثم رأوا اعادته الى الاستانة فظل فيها أسير الاتحاديين الى أن توفي في عام ١٣٣٥ ه‍.

٦٢٩

وبخلعه في عام ١٣٢٦ ه‍ بويع اخوه السلطان محمد الخامس «محمد رشاد»

أنصار الدستور في مكة : وعندما ظفر الاتحاديون وجاءت الاوامر الى الوالي التركي في جدة «احمد راتب باشا» باعلان الدستور في البلاد كأمر السلطان تباطأ احمد راتب وصرح لكبار الضباط بضرورة نشره تدريجا تحاشيا من الفتن في البلاد فلم يقتنع أنصار الدستور من الضباط والجند وبعض الاهالي برأيه ورأوا ضرورة تعجيل الاعلان فكتب الوالي الى الامير علي بن عبد الله وكان في مصيفه بالطائف ـ يطلب اليه شخوصه الى جدة ومساعدته في اخماد الفتنة فكتب اليه انه يوافق على ارجاء الدستور ولكنه لم يبادر الى موافاته في جدة للعمل معه على اخماد الفتن.

واستطاع أنصار الدستور في جدة القبض على راتب باشا وارساله الى قلعة مكة ليبقى أسيرا فيها ، ثم أعلنوا الدستور وأطلقوا من ينادي به في شوارع مكة وجدة والطائف :

وانتهت الاخبار الى الاتحاديين في الاستانة فاستاءوا لتباطؤ الوالي في اعلان الدستور فصدرت أوامرهم بعزل احمد راتب باشا وتولية كاظم باشا ، فوصل الوالي الجديد الى مكة في رمضان من العام المذكور عام ١٣٢٦ ، ثم صدرت أوامر الاتحاديين بانتخاب مبعوث عن كل خمسين الف شخص فانتخبت مكة المفتي الشيخ عبد الله سراج بصورة اقرب الى التعيين منها الى معنى الانتخاب ، وسافر المنتخب الى السويس ، ثم ما لبث ان استعفى وبذلك عقد مجلس (المبعوثان) في ذلك العام ولم يحضره مبعوث مكة (١)

__________________

(١) افادة الانام «مخطوط»

٦٣٠

ثورة القبوري : وفي هذا العام ثار بعض الاهالي في مكة لان رجال الدستور من العثمانيين ـ كما اخبرني بعض المعمرين ـ قرروا استيفاء ضريبة خاصة على دفن الموتى وقدرها خمسة ريالات لتصرف على اصلاح القبور واستحضروا شيخ القبوريين ليبلغوه استيفاءها من أصحاب الموتى فاستنكر الشيخ أمر الضريبة وخرج من دار الحكومة صائحا فاجتمع اليه الناس فأعلنهم الامر في صورة استثارت شعورهم وكانوا لم يتوطنوا بعد على مبادىء الدستوريين ولم يقتنعوا بثورتهم على الخليفة وصاح صائحهم بالجهاد في سبيل الله فاستجاب الشباب من جميع الحارات وخرجوا باسلحتهم ينادون بالثورة على الاتراك فاشتبكوا مع الجند في عدة مواقع من الاسواق وقتل وجرح من الفريقين عدد غير كبير ثم استطاع الاتراك بمساعدة بعض الاشراف اخماد الفتنة بعد ساعات من نشوبها وقد اتهم امير مكة علي بن عبد الله باشا بالدعوة الى الثورة ومساعدتها.

عبد الله بن محمد بن عون : وكان الاتحاديون في الاستانة قد بلغهم تباطؤ الشريف علي في اعلان الدستور كما ذكرنا ثم بلغهم ما قيل عن مساعدته لثورة القبوري ، فأصدروا أمرا بعزله في ٢٨ رمضان عام ١٣٢٦ وتولية عبد الله ابن محمد بن عبد المعين بن عون وكان يقيم في الآستانة فشرع يجهز أمره للسفر الى مكة ولكن المنية عاجلته قبل ان ينتقل في ٣ شوال من السنة نفسها (١) وقد قيل انه كان ضعيف البنية انهكته الامراض ، كما قيل انه مات مسموما.

الحسين بن علي : وبوفاته وجه الاتحاديون امارة مكة الى الحسين بن علي. ووافق الخليفة رشاد الخامس على ذلك فتوجه الحسين من الاستانة على اثر ذلك فوصل مكة في ذي القعدة عام ١٣٢٦ ه‍.

__________________

(١) تدييل شفاء الغرام للشيخ عبد الستار الصديقي «مخطوط»

٦٣١

وكان الحسين من أشد المحافظين وأكثرهم تمسكا بما ورث من عقائد ، ولهذا كان لا يميل الى فكرة الدستور ولا يعترف في اعماقه بمبادئه التي تخول عامة الشعب شيئا من حقوق الحكم ، وكان الى جانب هذا يعتقد ان نظامه لا يتفق وما ورث من تقاليد تفصل بين الحاكمين والمحكومين.

وكان بحكم اقامته في الاستانة عرف الكثير من خفايا أصحاب الدستور واختلط ببعض شبابهم وشاهد شيئا من تهاون بعضهم بروح الدين فأثر ذلك في عقيدته السلبية نحو رجال الدستور.

وكان يعرف مبلغ الفوضى التي خلفت ظفر الدستوريين في الآستانة واتصل باضطرابات العناصر غير التركية فيها وماج مع المائجين لقضية العروبة واختلط بالداعين اليها باسم الاستقلال الذاتي وسمع منهم واعطاهم فأثر ذلك في توجيه وهيأه تهيئة كان لها أثرها فيما بعد وقد قيل انه كان شخصية لامعة في عاصمة الاتراك وكانت له حلقة واسعة من المعجبين (١).

واعتقد ان الاتحاديين لم يتح لهم امعان النظر في مصالحهم عندما فكروا في توجيه امارة مكة والا لكان الحسين آخر من يختارونه لها في ظرفهم العصيب وقد كانوا معذورين لان حكومتهم الجديدة لم تتركز بعد. كما ان الحسين من رجالات الاشراف في الاستانة الذين لا يسهل التغافل عنهم والتخطي الى غيرهم بالنسبة لامارة مكة.

وقد ذكر ان عبد الحميد كان لا يرى توليته ويشاركه في هذا أكثر البارزين من

__________________

(١) الملوك الهاشميون لجيمس موريس منشورات المكتب العالمي للتأليف والترجمة ص ٢١

٦٣٢

رجال الاتحاد ولكنهم ارادوا معارضة السلطان (١) وانتقل الحسين الى مكة دون ان يبدو منه ما يخالف مبادىء الدستور وبوصوله اليها لم يجاهر بمقتهم او كراهيتهم بل ظل في مجالسه الرسمية يبتهل الى الله ان يجمع كلمة المسلمين تحت راية العثمانيين وان يسدد خطاهم ويمنحهم التوفيق.

وفي عام ١٣٢٧ امر الحسين بانتخاب اثنين لعضوية مجلس (المبعوثان) (٢) في الاستانة كطلب الاتحاديين فاختار لذلك ابنه عبد الله والشيخ حسن عبد القادر الشيبي.

وشعر الوالي التركي كاظم باشا ان مجالس الحسين كانت تفيض حيوية وانه دائم الاتصال بطبقات الشعب والاهالي وانه يعنى عناية خاصة باستقبال وفود البلاد العربية في موسم الحج ويطيل في حديثه اليهم عما يتوجسه من رجال الاتحاد وانه كثير الاهتمام بمرافق البلاد حريص على ان لا يترك للوالي فرصة يؤدي وظائفه فيها الا في أضيق نطاق فأراد ان يستيقظ حرصا على مصالح الدولة العثمانية وتنفيذا لسياسة الاتحاديين فجره ذلك الى مشاكل انتهى امرها الى الاستانة فلم يستطع الاتحاديون علاجه الا بعزل الوالي وتولية غيره.

وعانى الوالي الجديد من حيوية الحسين ما عانى سابقه ثم انتهى امره الى العزل وعزل بعده غيره وغيره فلم تمض السنوات السبع الاولى من حكم الحسين حتى كان قد تعاقب على الولاية في مكة ستة ولاة هم كاظم وحازم وفؤاد واحمد ونديم ووهيب وغالب مع حفظ الالقاب كما يقولون.

__________________

(١) الملوك الهاشميون لجيمس موريس ٢٣

(٢) هو مجلس الامة او كما يسمى في بعض البلاد البرلمان. (ع)

٦٣٣

وظل الحسين على نشاطه في الدعوى ضد الحكم الدستوري حتى استطاع فى عام ١٣٣٤ ان يعلن الثورة وان يحاربهم في صفوف الانكليز سعيا وراء استقلاله بالبلاد كما سيأتينا في الفصل الخاص بالثورة العربية.

٦٣٤

النواحي العامة

في العهد العثماني الثاني

الناحية السياسية : عادت مكة الى تبعيتها للعثمانيين مرة اخرى على اثر ترحيل جيوش خديوي مصر محمد علي باشا منها بعد الاتفاق الذي أشرنا اليه في نهاية الفصل الخاص بعهد محمد علي باشا.

وظل الاشراف على شأنهم يتولون امارتها الى جانب قائد العسكر التركي الذي كانوا يسمونه في عهد عثمانيا السابق صنجق جدة وشيخ الحرم مع اختلاف بسيط في اللقب فقد سموه في هذا العهد والي جدة ثم ما لبثوا ان نقلوا مقره الى مكة ولقبوه باسم الوالي اشارة الى ولايته على الحجاز بأسره

وفى هذا العهد كان اختصاصه قد توسع فأشرف على شؤون الاموال و «الجندرمة» المختصة بأمن المدن والعسكرية التي تمثلها الفرق المرابطة من الاتراك بين مكة والطائف وجدة.

وكان أمراء مكة من الاشراف يتمتعون بواردات بلادهم كما تقدم بنا في أوائل العهد العثماني الاول عدا ما يصلهم من منح الخلفاء ثم ما لبث الاتراك ان منعوا ايديهم عن ذلك ولم يبيحوهم الا قسطا محدودا منه. اما في هذا العهد فقد اضافوا عموم الواردات الى قيود الخزينة العامة في الدولة العثمانية ثم رتبوا لامراء البلاد رواتب يتقاضونها بموجب «الكادر» العام للدولة الا ان بعض الامراء كانوا يخترعون لهم مصادر يستوردون منها بعض الاموال كتخريج الجمال واتاوات اخرى يتقاضونها من بعض رؤساء الطوائف العاملة في طوافة الحجاج او حلقات بيع المنتجات الزراعية فكان الاتراك لا يعارضون فيها الا

٦٣٥

نادرا وفي ظروف يشعرون فيها بضعف الحاكمين من الاشراف وقياسا على هذا كان نفوذ الاتراك يضيق مداه ويتسع بنسبة قوة الحكم من الاشراف او ضعفه.

ولسنا ندعي ونحن في صدد واردات الحجاز ان الاموال التي كانت تجبيها خزانة العثمانيين يصح ان يقال انها تغطي نفقاتها او تعود بربح فائض لخزانة الدولة بل كان الامر بالعكس تماما فقد كانت الدولة تنفق على مرتبات الامراء وذويهم من الاشراف ورؤساء القبائل وكبار العلماء وأعيان البلاد والموظفين ما يزيد مجموعه عن مجموع الواردات اضعافا (١) ولكن العثمانيين كانوا مع هذا هم الرابحون بفرض سيادتهم على ولاية الحجاز ورجوعهم بفخر خدمة الحرمين الشريفين واستئثارهم بالسلطة فيها

ويبدو انهم كانوا يشعرون بكثير من الصعوبة في اخضاع هذا القطر خضوع غيره من الولايات لبعد المسافة بينهم وبينه ولا عتداد بعض اشرافه بأنفسهم واعتمادهم على عصبياتهم ، ولفوضى قبائله التي تنتشر بين وديان سحيقة وجبال متيعة وأسواق قاسية لا يحتملها جلد الجندي العثماني لهذا كانوا يقنعون منه بما وجدوا من الطاعة وكانوا يدعمون هذه الطاعة بأموالهم وما ينفقون فيه. اكثر مما يدعمونها بقوة السلاح فكانت مرتباتهم من غلال القمح تصل الى كل بيت في الحرمين وكانت معاشاتهم مبذولة تضم كثيرا من طبقات الامة وكان ذوات البلاد واشرافها يجدون من المناصب العالية في بلاد العثمانيين ما يقصر عنها غيرهم وقد ترك ذلك أثره في مقدرات البلاد على مر السنين وشعر الناس في الحرمين انهم باتوا يعيشون في كنف ال عثمان ويجدون من برهم ما يغنيهم عن

__________________

(١) كان مقرر العثمانيين من ايجار كل جمل يسافر للمدينة ريال مجيدي واحد والى جدة ربع مجيدي وكانوا يسمونه كوشان وكان للاشراف كوشان اقل من هذا.

٦٣٦

العمل الجاد في سبيل الحياة فاستكانوا لهذا الظل الوارف وتوطنت نفوسهم على احترام العلاقة التي تربطهم بآل عثمان والرضا بتبعيتهم للدولة وباتوا في اكثر المدن لا يهتمون الا بتلقين اولادهم حب السلاطين من آل عثمان والدعاء لهم بالعز والتمكين كما بات رجال القبائل في البادية لا يأبهون الا باستيفاء حقوقهم في العوائد المقررة لهم من الدولة حتى اصبحوا لا يبالون بخروجهم عليها وقطع السبيل على رعاياها كلما انقطعت عنهم المرتبات او افلسوا.

واستطاع العثمانيون بفضل اموالهم وبالرغم من تذمر بعض القبائل التي كانت تتذمر كلما احوجها المال ان يدعموا نفودهم في البلاد أشد مما كان عليه امرهم في عهدهم الاول لاننا نجد ثورات الاشراف قلت عن سابقاتها في عهد اجدادهم كما نجد انهم اصبحوا يطيعون أوامر الدولة ويتحاشون غضبها اكثر مما كان أجدادهم يفعلون فقد كنا نجد اجدادهم في عهد العثمانيين الاول ينصبون الامير بعد الامير ثم يطلبون تأييده من الدولة وقلما كان صنجق جدة التركي يستطيع ان مرض كلمته أما في هذا العهد فقد تغير الامر واصبح صنجق جدة الذي انتقل الى مكة بقلب «الوالي» يستطيع ان يستقل بمقدرات الامارة ويتصرف في تنصيب الامير بعد الامير ثم يكتب عن رأيه الى العثمانيين ليتلقى تعليماتهم وأوامرهم.

وكانت القضايا الادارية للبلاد من اختصاص أمرائها الاشراف في العهد العثماني الاول فاقتضى تنظيم العثمانيين في هذا العهد أن يؤسس لها في كل مدينة بالحجاز مجلس خاص للفصل فيها وكان يتكون من بعض الحجازيين والاتراك كما اسس مجلس آخر للتمييز وذلك في سنة ١٢٨٦ وبذلك خفت هيمنة الاشراف على ادارة البلاد واستطاع العثمانيون أن يبسطوا نفوذهم كاملا.

٦٣٧

وكان الاشراف من امراء مكة يوقعون عقوباتهم بالسجن او النفي او القتل في عهد العثمانيين الاول دون ان يستأذنوا الخليفة فيما يفعلون أما في هذا العهد فقد اقتصر نفوذهم على حكم البلاد باسم العثمانيين وكفت ايديهم عن العقوبات الشديدة الا بأمر الخليفة او قرار يقرره مجلس القضايا ويوافق عليه لخليفة.

ولم تتغير هذه العلاقة على اثر اعلان الدستور في البلاد العثمانية بل ظلت البلاد مربوطة بعجلة الحكومة العثمانية الدستورية الجديدة وظل الحكم فيها على سابق عهده تابعا للعثمانيين لم يتغير في احكامه شيء الا ما اقتضاه نص الدستور من تمثيل البلاد التابعة لعثمانيا في مجلس المبعوثان الذي يشرف على ادارة الولايات فقد قرر الدستوريون انتخاب من يمثل الحجاز في ذلك المجلس.

ولما وصلت الاوامر في عام ١٣٢٦ لم يجر الانتخاب الذي يقرره الدستور لان مبادىء العظامية كانت لا تزال عالقة في اذهان الحاكمين فاختار الشريف علي بن محمد الشيخ عبد الله سراج المفتي الذي استقال قبل ان يصل الى الاستانة كما ذكرنا في عام ١٣٢٧ جدد الحسين الانتخاب فندب ابنه عبد الله «ملك الاردن فيما بعد» وحسنا بن عبد القادر الشيبي فسافرا الى الاستانة وادركا الجلسة الثالثة في مجلس المبعوثان.

نشأة الصحافة : وأنشأ الدستوريون في مكة جريدة تعبر عن آرائهم فكانت تطبع في مطبعة الحكومة التي سنذكر انشاءها في فصل الاصلاحات العامة .. وقد أسموا الجريدة (الحجاز) وجعلوها باللغتين العربية والتركية فكانت اول جريدة تنشر في مكة ثم أصدر أحد موظفي الاتراك جريدة اخرى طبعت في نفس المطبعة وقد أسماها (شمس الحقيقة) وكانت تصدر باللغتين العربية والتركية

٦٣٨

وتتناول بالنقد بعض المسؤولين في مكة وظلت كذلك الى امارة الحسين بن علي الذي اغضبه أسلوبها فهدد صاحبها بالقتل واضطره الى الهرب من البلاد.

(أما) (الحجاز) الجريدة الرسمية فقد ظلت على امرها الى ان ثار الحسين على العثمانيين وسلمت مكة فانتقل صدورها الى المدينة وظلت كذلك طيلة عهد الحصار يحررها السيد حمزة غوث سفير الحكومة السعودية في الوقت الحاضر في ايران ثم الغيت بخروج العثمانيين من المدينة.

العمران والاجتماع : واتسع العمران في مكة في هذا العهد وتأسس أول مجلس للبلدية في عام ١٣٢٦ ليقوم مقام المحتسب الذي كان يحكم السوق ويشرف على تنظيم العمران.واطرد ازدياد عدد السكان كنتيجة لمجاورة موظفي الاتراك وعائلاتهم ومجاورة موظفي المصريين الذين تخلفوا في مكة بعد ترحيل جيش محمد علي منها والذي احسبه أن أطماع أوربا التي ترتبت على ضعف العثمانيين في هذا العهد كان له اثره في مضاعفة السكان كذلك فقد شن الروس حروبهم في اجزاء آسيا وكذلك فعل الانكليز وفعلت فرنسا فاشتد الضغط على كثير من بلاد الاسلام وزادت الفتن والحروب ففر كثير من بلاد الاسلام بدينهم والقليل بدنياهم الى مكة والمدينة وجدة لبعد هذه البلاد عن ضغط الاوربيين واستقلالها باحكام الدين وقد بدا أثر ذلك في أكثر العائلات التي تسكن الحجاز اليوم فان ابرز من فيها ينحدر من اصل مصري او تركي او مغربي او شامي او صيني ولما اشتدت الكروب في الهند والافغان وجاوى اشتد تدفقهم على البلاد واتخذ الجميع من اجزائها في مكة والمدينة وجدة مناطق خاصة سميت بأسمائهم ففي مكة اليوم من آثار ذلك جبل الترك وجبل الهندي وحارة

٦٣٩

السليمانية (١) وزقاق المغاربة وزقاق البخارية وفي المدينة وجدة كثير من هذه المسميات وشوهدت مكة في هذا العهد تنقسم باعتبار الاجناس الى أقسام تشبه المستعمرات في منطقة يحتلها جاليات الترك وثانية يحتلها أهل بنغالة والهند وثالثة يحتلها أهالي غرب افريقيا «التكارنة» وغيرها يحتلها الجاويون وأهل بخارى واهل السند والشام واليمن وحضرموت.

ونقلت هذه الجاليات معها الى مكة عاداتها كاملة وتقاليدها واخلاقها وكثيرا من صناعاتها وبذلك انتفعت مكة بهذا الخليط ولم تنتفع .. لانها بقدرما استفادت من نشاط هذه الجاليات أسي اليها في عاداتها واخلاقها ولغتها.

البيوت القديمة في مكة : ولعل من المناسب أن نستطرد في هذا السياق الى ذكر البيوت القديمة في مكة واذا كنا قد اغفلنا ذلك فيما سبق من بحوثنا عن العهود السابقة لتعذر وجود المصادر التي يصح الاعتماد عليها فلا اقل من أن نلم في هذا العهد بما يمكننا لقرب عهدنا بمن نؤرخ عنهم ولان أكثر اخلافهم لا يزال يعيش بيننا اليوم ونحن نعتمد فيما نرويه في هذا الفصل على كتاب افادة الأنام للشيخ عبد الله الغازي لانه ينقل عن مؤلفات مخطوطة اطلع عليها ولا نكاد نجد اليوم أثرا لاكثرها.

آل الشيبي : هم ذرية شيبة بن عثمان بن ابي طلحة الحجبي من أولاد عبد الدار وقد ظل بيتهم خالدا في مكة كما ظلت خدمتهم في الحجابة خالدة تالدة مصداقا لقوله عليه الصلاة والسلام «خذوها يا بني عبد الدار خالدة تالدة الى يوم القيامة لا ينزعها منكم الا ظالم» واذا كان بعضهم قد هاجر الى الآفاق في

__________________

(١) تطلق كلمة السليمانية في مكة على اهالي الافغان وحارة السليمانية تنسب الى رجل من العلماء كان اسمه الشيخ سليمان المغربي وهو الذي بنى قبور السليمانية وبابها

٦٤٠