تأريخ مكّة دراسات في السياسة والعلم والاجتماع والعمران - ج ١-٢

أحمد السباعي

تأريخ مكّة دراسات في السياسة والعلم والاجتماع والعمران - ج ١-٢

المؤلف:

أحمد السباعي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الطبعة: ٠
ISBN: 9960-660-17-6
ISBN الدورة:
9960-660-18-4

الصفحات: ٧٩٣

احمد بن سعيد بن زيد للمرة الثانية : وعلى أثر هذا دخل احمد بن سعيد مكة ظافرا ونودي بامارته فيها في ٢٣ جمادي الثانية عام ١١٨٤ وأمر بأن يحرق دار الهناء ونزل آل بركات لاعتقاده أن عبد الله بن الحسين أمر باحراق دار السعادة وقد أحرقت دار آل بركات ونهب الناس ما فيها وزادوا فحرقوا كثيرا من دور المقربين من آل بركات وأتباعهم.

وفر العسكر المصري الى وادي فاطمة ثم انتقلوا الى جدة وتحصنوا فيها وراء المتاريس والمدافع فجرد الشريف احمد سرية عسكرية فيها بعض القبائل فسارت في طريقها الى جدة حتى عسكرت في «غليل» (١) بالقرب من جدة ثم تواطأوا مع أهل جدة حتى مكنوهم من الهجوم عليها في الباب اليماني وبذلك استولوا عليها في آخر جمادي الآخرة ١١٨٤ وقتلوا بعض المتحصنين وفر البعض الباقي الى ينبع من طريق البحر ثم غادروها الى مصر على رأسهم الشريف عبد الله وقد أقام عبد الله في مصر ثم ارتحل الى تركيا فمات فيها.

وباحتلالهم جدة هاجم المحتلون بيوت التجار ومخازنهم فنهبوها فأثر ذلك في تموين البلاد واشتد غلاء الأسعار وعم الكرب معظم البوادي حتى أكل بعض أهل البادية الهررة وشربوا الدم المسفوح من شدة الجوع ودام ذلك الى نهاية عام ١١٨٤ ثم انقشعت الكروب في أوائل عام ١١٨٥ بورود الغلال من شتى الجهات وعادت العلاقة بين مكة والعثمانيين الى سابق عهدها (٢).

__________________

(١) غليل كفر بير : واد يصب في الرغامة شرق جدة ، والرغامة : حوز الجبال من الخبث من ناحية جدة الشرقية. (ع)

(٢) خلاصة الكلام للسيد احمد زيني دحلان ٢٠٦

٥٠١

وظل أمر احمد بن سعيد على هذا الى أواخر عام ١١٨٦ ثم ثار عليه ابن أخيه سرور بن مساعد بن سعيد بن زيد (١)

ذكروا ان أحمد بن سعيد أراد ان يعزل وزيره في جدة يوسف قابل فكتب كتابا بالعزل سلمه الى أحد الأشراف وأمره بالذهاب الى جدة للقبض على يوسف وغله بالسلاسل وكان سرور بن مساعد في المجلس فلما علم بذلك اصر على اغتنام الفرصة لفائدة نفسه.

وكان سرور اذ ذاك شابا لم يتجاوز الثامنة عشر من عمره وكان شديد الثقة بنفسه كثير الطموح وكانت له على سنه منزلة في بني قومه تمتاز بنفاذ الكلمة.

أصر سرور على اغتنام الفرصة فركب ناقة مسرعة وتوجه الى جدة فوصلها قبل ان يصلها مندوبو العزل فنزل بدار يوسف قابل واتفق معه على أن يتصدى سرور لاعلان الثورة وان يمونها يوسف قابل بأمواله.

ولما وصل المندوبون وجدوا سرورا عنده وقد تصدى لمنعهم عنه فطلبوا اليه أن يصحبهم ويوسف قابل لمقابلة الشريف أحمد فخرجوا جميعا من جدة فلما كانوا في بعض الطريق عرج سرور ويوسف قابل الى وادي فاطمة حيث اجتمع سرور بمن يليه من رجال البادية ثم أرسل يستدعي بعض القبائل من عتيبة فوافوه طائعين.

وعلم احمد بالأمر فندب من يسوي الامر بينه وبين ابن اخيه فأبى سرور الا أن يجلي أحمد عن مكة فاستعد أحمد للدفاع.

واجتمع الثائرون في وادي فاطمة ثم انتقلوا الى العابدية (٢) ثم زحفوا الى

__________________

(١) تذييل شفاء الغرام للصديقي ٣١١

(٢) العابدية عين جنوب غربي عرفة على بعد كيلو واحد منها تقريبا

٥٠٢

المنحنى بأعلى مكة حيث اشتبك مع عمه في قتال مرير لم يدم الا ساعتين انهزم في نهايتها أحمد بن سعيد ففر الى وادي نعمان (١).

سرور بن مساعد من ذوي زيد : وبفرار أحمد دخل سرور الى مكة ظافرا ونودي له فيها بالامارة في يوم السبت ١٣ ذي القعدة عام ١١٨٦ (٢).

واستطاع سرور بما يملك من قوة الشكيمة ان يؤمن السبل فيضرب على ايدي العابثين وينصب نفسه عدوا لكل عابث فاستقر الامر في البلاد أياما ثم ما لبث ان عاد برد الفعل فان كثير من القبائل كرهت حكمه فخرج عليه رؤوس هذيل ثم كبار حرب ثم فارقه جماعة من عظماء الأشراف فقاسى سرور من جراء عصيانهم أشد ما يمكن ان يقاسيه.

ولم يتركه عمه أحمد ينعم بالهدوء فقد هاجمه بعد خروجه من مكة في قوة عظيمة فاشتبك القتال بينهما عند بركة السلم في طريق منى فهزم العم وانطلق الى البادية وذلك في ٤ ذي الحجة عام ١١٨٦ (٣).

وقد تركت هذه الموقعة ذيولا أحرجت مركز سرور لأن العسكر في مكة كانوا يستحقون لدى أحمد بن سعيد روانب سبعة شهور فلم يكن من مصلحتهم ابعاده عن مكة ليخسروا ديونهم عنده لهذا ما لبثوا ان تألبوا ضد سرور في يوم ثامن ذي الحجة واعلنوا انهم لا يحجون في موكبه الا اذا عوضهم ما يستحقون عند سلفه فاضطر سرور أن يعرض عليهم تسديدهم نصف الدين وتأجيل النصف الباقي الى نهاية سفر الحجاج فرفضوا فتركهم وما تألبوا ومضى في موكب من

__________________

(١) وادي نعمان شرقي عرفة

(٢) تذييل شفاء الغرام

(٣) افادة الانام للشيخ عبد الله غازي «مخطوط»

٥٠٣

عبيده الى عرفات.

وصبر العسكر حتى قضى الحج وسافر الحجاج فأرسل الى أحمد ان يوافيهم في مكة ليناصروه وهم يؤملون ان يستوفوا حقوقهم بعد تنصيبه فجاءهم احمد متخفيا ثم أصبح بينهم مناديا بالثورة في خلال مكة فاستنجد سرور بامير الحج المصري فانجده بفريق الخيالة الا ان الخيالة لم تستطع الدفاع عنه لأن رصاص الثوار كان يصيبهم من خلف النوافذ في البيوت المطلة على الشوارع فاستغاث ببعض القبائل فأعانوه وانتزعوا له النصر فهزم أحمد وانطلق فارا للمرة الثالثة الى البادية.

ثم ما لبث أحمد ان أعاد الكرة مرة رابعة وخامسة وسادسة والهزائم تلازمه كرة بعد أخرى الى أن بلغت عدد كراته خمس عشرة كرة لا يفصل بين الكرة والأخرى الا شهر او ثلاثة اشهر (١).

وكان في كراته يستغل بعض القبائل المغاضبة لسياسة سرور القاسية وبعض كبار الأشراف المتذمرين ففي اكثر من مرة استعان بهذيل وفي بعض المرات استعان بقبائل حرب لانه بلغه انهم على خلاف مع سرور لضغطه عليهم وحبسه شيخهم ، وفي مرة غيرها استعان بالشريف عبد الله الفعر والشريف بركات بن جود الله وفي هذه الموقعة قبض الشريف سرور على الشريفين المذكورين واودعهما سجن القنفذة ثم اطلق ابن جود الله وأمر باحضار الفعر الى مكة فاستنجد الفعر بأحد امراء اليمنيين فأخذه من يد العسكر فلما وصل الخبر الى

__________________

(١) افادة الانام للشيخ عبد الله غازي «مخطوط»

٥٠٤

سرور كتب الى إمام اليمن يطالب به ويتوعد فأمر الامام باعادته الى مكة وتسليمه الى سرور فتسلمه وأمر به فسجن الى ان مات. (١).

واستعان في كرته الثانية عشر بذوي حمود من الأشراف آل بركات فأعانوه ليأخذوا بثأر رئيسهم الذي سجنه سرور لخروجه على الأمن وقطعه طريق القوافل.

وحاول الشريف أحمد غير مرة ان يتصل بامراء الحج المصري والشامي في أكثر من سنة ليساعدوه على اجلاء سرور فكانوا يعتذرون له وأجابه احدهم بأنه لا يملك هذا الا بمرسوم خاص.

واستمر أحمد على عمله هذا نحوا من سبع سنوات بدأت بأواخر سنة ١١٨٦ وانتهت في منتصف عام ١١٩٣ عانى في خلالها من الوقائع والحروب ما يشيب لهوله الاطفال وقاست مكة في خلاله ما يعجز عنه الوصف وكبد نفسه وابن اخيه سرورا من خسائر الاموال والارواح ما يعجز عنه الاحصاء.

وانتهى المطاف بالشريف أحمد في وقعته الاخيرة الى الاسر فالسجن المؤبد مدى الحياة لأن الشريف سرورا ما كاد يظفر به في الموقعة الخامسة عشر حتى اودعه وولديه السجن.

وكان سجنهم في ينبع ثم نقلوا الى سجن في جدة وقد توفي في السجن احد ولديه ثم توفي هو نفسه في ٢٠ ربيع الثاني سنة ١١٩٥ واطلق سراح الابن الثاني على اثر وفاة الوالد بعد اخذ الضمانات اللازمة عليه بالهدوء والاستقرار وقد فعل (٢).

واستقرت الامور بعد ذلك للشريف سرور بعض الاستقرار وأقول بعض

__________________

(١) وتوجد ذرية عبد الله الفعر اليوم بوادي لية جنوب الطائف ، اما بنو جود الله فهم (الجوادا) سكان شمالي الطائف. (ع)

(٢) تذييل شفاء الغرام للشيخ عبد الستار الصديقي

٥٠٥

الاستقرار لأن سرورا كان يغلي في عروقه دم الشاب الذي لا يقبل هوادة في شؤون الحكم ولا يرضيه الصبر على اصحاب القلاقل في اطراف البلاد ، كان الشريف سرور يتبع العصاة وقطاع الطرق ويعاقبهم بأشد العقوبات وكان يتجسس على اللصوص والمفسدين وكان يعس في اكثر لياليه بنفسه يحرسه بعض العبيد فلا يترك حارة الا طرقها ولا عطفة الا دخلها حتى أرهب العصاة.

واتفق ان بعض العتاة اجتمعوا على التربص له أثناء تفتيشه الليلي ليقتلوه وكان في جملتهم بعض الأشراف على رأسهم مسعود العواجي (١) وجماعة من اقاربه ذوي زيد وقد جاء اليه جواسيسه بالخبر فارسل بعض عبيده ليتثبتوا من الحقائق التي اشار اليها الجواسيس في بعض طرق مكة فلما ثبت لديه ذلك لم يخرج من ليلته وامر في الصباح بالقبض على اصحاب المؤامرة وأودعهم السجن (٢).

وعن له ان يزور المدينة ليتفقد القبائل في طريقها ويقف على الاحوال في المدينة فشد رحاله اليها في سنة ١١٩٤ في خمسة الاف من العربان والاشراف كان نصفهم على الخيل فعن لقبائل حرب ان يظهروه على مبلغ سطوتهم فعرضوا عليه بعض طلبات فاحشة من المال وانتظروا ان يذعن فأبى وشن عليهم قتالا عنيفا حتى رضخوا ومن ثن ثم بصرف بعض الاكراميات لهم وأخذ منهم بعض الرهائن من الرجال.

ولما انتهى الى المدينة وزع على اهلها كثيرا من الذهب والفضة ثم حمل اليه جواسيسه ان بعض رجال حرب دسوا عليه عند شيخ الحرم في المدينة واتفقوا معه على هجوم المدينة ليتسنى لشيخ الحرم ومن والاه في المدينة ان يثورا في داخلها

__________________

(١) مسعود العواجي هو صاحب بستان العواجي الذي كان مشهورا في مكانه قبيل المعابدة

(٢) افادة الانام للشيخ عبد الله غازي «مخطوط»

٥٠٦

فلما تبين لسرور الامر احتاط له واحتال حتى استولى على قلعة المدينة فمكن لنفسه واستطاع ان يهزم خصومه وأن يقبض على شيخ الحرم وخمسين من اتباعه ويسيرهم الى مكة بعد أن أعلن عزل شيخ الحرم.

وفي عودته من المدينة ترك الطريق الذي يمر بقبائل حرب وفي نفسه ان يعود اليهم في حملة اقوى واتجه نحو الجنوب الشرقي حتى وصل الى الطائف ومنها الى مكة (١)

وظلت فكرة الحملة لتطويع قبائل حرب تراوده فلما كانت سنة ١٢٠١ أرسل الى قبائل هزيل وثقيف وعتيبة فجمع منهم جيشا حاشدا واستنفر الأشراف فخرجوا في نصرته وقد قيل انه كان ينثر الذهب بين المتطوعين المقاتلين وانه جعل لكل من قطع رأس خمسة من المشاخص.

فنشطت القبائل للعمل معه ولما وصل بجيشه الى مستورة بين رابغ والمدينة ارسل من يغزو جبل صبح حتى احتله ثم اشتبك مع بطون حرب عدة اشتباكات كان له فيها الظفر وملك «الفرع» ثم «بدر» ثم توجه الى ينبع النخل فاحتله ثم عاد الى بدر وتوجه الى الخيف فملكه (٢).

واشتد القتل في هذه المواقع وفي بطون غيرها وكثر عدد الاسرى الذين كان يبعثهم مصفدين الى مكة ولما ايقن باستتباب الامر له في كل هذه المواطن توجه الى المدينة وقد وجد الحكم فيها مطمئنا فأقام فيها بضعة أيام ثم عاد الى مكة من طريق ديار حرب فلم يصادفه شغب (٣).

__________________

(١) افادة الانام للشيخ عبد الله غازي «مخطوط»

(٢) الفرع وبدر منازل في البادية بين رابغ وينبع وتبعد ينبع النخل عشر كيلو مترات من ينبع البحر

(٣) خلاصة الكلام ٢١٩

٥٠٧

وانه ليخالج النفس في امر قبيلة حرب ما يخالجها فان هذه القبيلة على وفرة عددها وكثرة بطونها وشدة بأسها كانت تكون صالحة في كل وقت لان تعد ذخيرة تعتد البلاد بها وتستفيد من سواعد بنيها في الاعمال المنتجة لو وجدت فيما سلف من اجيال التاريخ من يعلمها ويعتني بشأنها في الحياة.

ان في جزء كبير من اراضيها تربة تصلح للزراعة لو وجد أصحابها من يعدهم للزراعة وفيما عرف من نشاط بنيها وصبرهم على قسوة الحياة ما يؤهلهم لكثير من أعمال الاستثمار لو وفق لهم ولأمثالهم في جميع اقطار البادية من يقودهم الى الاعمال المفيدة.

ولكنا تركناهم يتضورون جوعا في قفار البادية واجرينا عليهم الصدقات حتى ألفوها ثم اتخذوها قاعدة لمعاشهم ثم لا نلبث ان نمنع عنهم ما عودناهم فنثير روح الشر في نفوسهم ونهيئهم للطغيان حتى اذا طغوا في سبيل ان يعيشوا كما نعيش اعتبرناهم عتاة خارجين على النظام وقام مثل سرور ليجرب فيهم حديده وناره وبذلك ننسى مكان الظلم في اساس البحث ونتغافل عن الحقائق الصحيحة فيه (١).

قلعة اجياد : وبلغ من عناية سرور بشؤون الامن أن بنى سنة ١١٩٦ في أعلى جبل جياد قلعة أجياد الموجودة اليوم وأنفق أموالا كثيرة في عمارتها القوية لتبقى له حصنا من العاديات وكانت تطل على داره في سفح الجبل (٢).

ولم تخل أيام الشريف سرور بالرغم من يقظته الشديدة من بعض العدوان في

__________________

(١) انظر تعليقنا على هذه الحوادث وامثالها في كتاب (نسب حرب) (ع).

(٢) خلاصة الكلام ٢٢٠

٥٠٨

نواحي البادية فقد تمردت عليه هذيل اكثر من مرة فطوعها وتمرد بعض قطاع الطرق فأخلوا بأمنها فتعقبهم حتى جاء عليهم.

وخرجت قبيلة جهينة في عهده سنة ١١٩٤ على امير الحج الشامي (١) فاشتبك معها في قتال مرير وخرج بعض القبائل في حرب على امير الحج المصري في سنة ١٢٠٠ فأسر نفر منهم وأمر بكيهم بمحاوير محماة في خدودهم ليبقى ذلك وسما يعرفون به فتشفع فيهم بعض مشايخهم فأبى وأجرى عملية الوسم فصاح صائحهم «يا لقبائل حرب» فاجتمعوا من كل واد وأعملوا السيف في الحملة المصرية ومن يتبعها من الحجاج حتى لم ينج منها الا من استطاع الهرب وكان أمير الحج احد الهاربين (٢)

وكان سرور يميل الى الابهة واظهار امارته في مظهر فخم وكان يبذل في سبيل ذلك من الاموال شيئا كثيرا ففي رحلته التي تحدثنا عنها الى المدينة كان في ركابه خمسة الآف جمل محملة بالاثقال والعتاد وانواع من البسط والاثاث الفخم وكانت اقامته في المدينة ذات مظهر خلاب اظهر فيه من الابهة ما يتفق مع مزاجه وبذل من الفضة والذهب شيئا كثيرا.

ويحدثنا الدحلان (٣) انه احتفل في عام ١٢٠٢ بختان بعض اولاده فاستمر الحفل سبعة عشر يوما كانت عيدا اشترك فيه أهل الحارات جميعها بألعابهم ومزاميرهم كما اشترك الجند ورجال الحرس بموسيقاهم التي يسمونها «النوبة» وظل قصره يمد

__________________

(١) تقع منازل جهينة غرب المدينة في ينبع والعيص وأم لج وما حولها (ع)

(٢) خلاصة الكلام ٢١٨ وما بعده

(٣) المصدر نفسه ٢٢٣

٥٠٩

الموائد طيلة هذه الايام للناس من جميع الطبقات ويوزع الهدايا والملابس الفاخرة توزيعا عاما شمل الجند والاهالي واصحاب الوظائف والرتب.

وأمر في آخر يوم للاحتفال باستعراض عام مشي فيه الخيالة والجند في موكب كبير تتقدمه المدافع فطاف شوارع البلدة واحسبه اول استعراض في مكة.

ولم يكفه ذلك حتى دعا النساء من الحضر والبادية الى احتفال عام غنت فيه المغنيات ومدت فيه الموائد شاملة لجميع من يحضر وقد دام ذلك ثلاثة أيام وزعت في خلالها انواع الهدايا والملبس الفاخر.

قصر عرفة : وأداه غرامه بالأبهة والبذخ الى ان يبني لنفسه في عرفات قصرا وهي فكرة لم يسبقه اليها احد ولم يفعلها بعده احد الى اليوم وقد ظلت ولا تزال أطلاله قائمة الى عام ١٣٧٧ تقريبا على كثب من جبل الرحمة.

وكان يميل الى العمران فقد عني ببعض المشاريع العمرانية ووسع بعض الشوارع وأنشأ بعض الطرق في مكة.

وفي عهده بنى وزيره ريحان زاوية الحداد المعروفة عند مدخل أجياد واوقف عليها جملة من الكتب النافعة (١) وقد دخلت الزاوية في هدميات توسعة شارع الملك سعود.

ومن اعماله التي يرويها التاريخ انه عزل «شبندر» رئيس التجار حسن النايتة وولى مكانه احمد القاري مقابل ٤ الآف ريال وانزل حسين الرشيدي عن نظارة السوق وولاها محمد غزاوي مقابل ١٨ ألف قرش وولى درويش ابن صالح

__________________

(١) خلاصة الكلام ٢٢١ وما بعده

٥١٠

صبغة شؤون بيت المال مقابل مبلغ قدمه (١).

وظل سرور على امره في مكة الى ان توفي في ١٨ ربيع الثاني في سنة ١٢٠٢ عن عمر لم بتجاوز خمس وثلاثين سنة بعد ان حكم مكة نحو خمس عشرة سنة ونصف السنة.

عبد المعين بن مساعد : وتولى الامر بعده اخوه عبد المعين بن مساعد ولم يدم فيها الا يوما او بعض اليوم وقيل أياما ثم تنازل لاخيه غالب (٢)

غالب بن مساعد : ولما تولى الامر غالب كتبوا الى السلطنة فوافاهم التأييد ولم يستقر شأنه الا بضعة أشهر ، ثم خرج عليه بعض اخوته من اولاد مساعد ، واستنجدوا ببعض القبائل من هذيل اليمن (٣) والشام فأطاعوهم فمضوا بهم الى جبال المفجر بجوار منى وبلغه امرهم فخرج اليهم في ١٩ ذي الحجة عام ١٢٠٢ واستطاع ان يهزمهم فسارت جموعهم الى الطائف فهزمهم وكيله في الطائف فاجتمعوا في واد بالقرب من العقيق واستأنفوا مسيرهم الى مكة فبرز الى الأبطح للقائهم وبعد مناوشات دامت عدة ايام استطاع ان يهزمهم فتفرقوا ثم اجتمعوا بالقرب من الطائف واحتلوها ثم استأنفوا سيرهم الى مكة فعسكروا في وادي نعمان في ٢٤ ذي الحجة عام ١٢٠٢.

ورأى غالب ان يحسم الشر بدعوتهم الى الصلح فندب لهم قاضي الشرع في هيئة من كبار علماء مكة وأشرافها فاتصلوا بهم وعرضوا ذلك عليهم فقبلوا منه

__________________

(١) خلاصة الكلام ٢٢١ وما بعده

(٢) تذييل شفاء الغرام للشيخ عبد الستار الصديقي

(٣) المراد هذيل الجنوب والشمال وتقع منازل هذيل على العموم في الجبال الواقعة بين مكة والطائف.

٥١١

واشترطوا عليه شروطا رضيها وبذلك تم الصلح بين الفريقين وعاد المغاضبون الى مكة فاحتفل بهم في مكة وبذلك استقر الامر لغالب (١)

مهدي من البنغال : وفي رجب عام ١٢٠٣ بينما كان الخطيب يخطب فوق المنبر وهو الشيخ عبد السلام الحرشي اذ تعرض له حاج من البنغال لعله كان مجنونا وضربه بسكين افرى بها امعاءه فسقط ميتا وثار المصلون في ضجة عظيمة وشاع في العامة ان المهدي المنتظر ظهر بين المقام والركن ، ثم ما لبث ان تقدم احد العلماء فأتم الخطبة واقيمت الصلاة وهدأ الاضطراب وسيق الجاني الى حيث حكم عليه بالاعدام شنقا (٢)

فتنة بن سلتوح : وفي عام ١٢٠٤ نمي الى غالب ان يحي بن سلتوح ـ وكان المقدم في امور الشريف سرور واولاده من يعده ـ يصطنع امورا تثير الخلاف بينه وبين قرابته ، فأمر غالب بسجنه في قبو تحت الارض فظل على ذلك أياما ثم استطاع أن ينقب بعض الجدار ويفر الى بيت مخدومه عبد الله بن سرور وأن يغريه بالفتنة والثورة لا سترجاع إمارة ابيه اليه ، وكان سن عبد الله ابن سرور لا يتجاوز الثانية عشرة فأصاخ لما ارتآه ابن سلتوح وقد اجتمع له نحو خمسمائة مقاتل فأمروهم بقذف النار من البنادق في المسجد على بيت غالب الذي يطل على المسجد امام باب الوداع وبذلك ثارت الفتنة وتبودل اطلاق الرصاص بين عسكر غالب في البيوت المطلة على المسجد من باب الوداع واتباع عبد الله بن سرور في البيوت الواقعة بجوار باب القطبي ودام ذلك اربعة ايام انقطع في اثنائها

__________________

(١) تحصيل المرام للشيخ محمد الصباغ «مخطوط»

(٢) خلاصة الكلام للسيد احمد زيني دحلان ٢٢٦

٥١٢

سير الطرقات ومنعت صلاة الجمعة في المسجد الحرام لانه بحكم وقوعه بين الفريقين كان عرضة لرصاص البنادق من الجهتين.

ويئس اصحاب عبد الله بن سرور فطلبوا الذمة من غالب على عادة الاشراف وخرجوا الى البادية واجتمعوا الى بعض القبائل فساقوهم الى الهجوم على مكة ، ولما هزمهم غالب فروا الى العابدية والفاقة (١) ثم الى جبال هذيل ثم الى الطائف فملكوها ثم عادوا يستأنفون هجومهم على مكة فخرج غالب للقائهم في الابطح فاستطاع ان يفرقهم بعد ملحمة شديدة وان يقبض على عبد الله بن سرور وأخيه محمد فيسجنهما اياما ثم يطلقهما وبعد ذلك قضى على الفتنة.

وقد فر يحي بن سلتوح الى ديار حرب ومنها الى الشام ثم سافر الى تركياليحاول اصحاب الشأن في عزل غالب فلم ينجح فعاد الى مصر وبقي فيها الى ان توفي (٢)

نجد تطلب الحج : وفي هذا العام أرسل السعوديون في نجد الى غالب يستأذنون الحج فأبى لأنه كان ينظر اليهم نظرة المرتاب ثم ما لبث ان جهز لهم فاشتبك القتال بين الفريقين (٣)

وفي الفصل الآتي نبين اهم الوقائع التي نشبت بين الفريقين والتي استطاع السعوديون في نهايتها ان يتغلبوا على مكة.

__________________

(١) الفاقة بجوار العابدية وهي على نحو ٢ كيلو متر من عرفة ونسميها اليوم الخرار

(٢ و ٣) افادة الانام للشيخ عبد الله غازي «مخطوط»

٥١٣

النواحي العامة

في عهد العثمانيين الاول

الحالة السياسية : تقدم بنا ان جنود العثمانيين الفاتحة ما كادت تنتهي الى مصر حتى كتب قائدها الى الشريف بركات امير مكة يعرض عليه الموافقة على اقرار امارته في مكة اذا وافق شريف مكة من جانبه على الدعاء للعثمانيين وأن بركات ما لبث ان قبل وبذلك بدأت علاقة مكة بالعثمانيين.

وبذلك ظل الاشراف من اصحاب البيت المالك في مكة يتعاقبون حكمها على جري عادتهم أميرا بعد أمير .. كان الامير يصل الى دست امارته بالوراثة او التغلب فلا يكاد يجلس في منصبه حتى يكتب الى الخليفة العثماني بنبأ ذلك. ليتلقى الموافقة في صورة مرسوم يقرأ في المسجد على ملأ من أصحاب الحل والعقد في مكة في موكب حافل وطقوس مرسومة.

وظلت بقية المدن في الحجاز تابعة في حكمها لامارة مكة يباشر شؤونها أحد المنتمين للامير في مكة يشاركهم في السلطة في بعض البلاد كالمدينة وينبع وجدة موظف تركي كان الاتراك يندبونه ليمثل سلطتهم فيها.

وكان يرابط في جدة صنجق عسكري تتبعه فرقة عسكرية كاملة حلت محل الجيش الجركسي المهزوم ويقيم الى جانبه فيها موظف تابع للامارة في مكة يتولى حكم الاهالي يسمونه وزير جدة.

وقد اضافوا الى صنجق جدة وظيفة المشيخة على الحرمين ليستطيع ان يباشر شؤون التعميرات في مكة وان يشرف من كثب على ادارة الاعمال فيها كما فعل الشراكسة قبلهم. وكان صنجق جدة يتلقى اوامره من العاصمة التركية مباشرة في

٥١٤

بعض الاحيان ويتلقاها في احيان اخرى من طريق الوالي التركي في مصر وكان بحكم منصبه يساعد على عزل الامير المعزول من الاشراف في مكة ويحضر تولية المنصوب فيها ويقدم له الخلعة الخاصة بذلك.

كما ان الوالي التركي في مصر كان له الحق في تقديم مقترحاته في شأن ولاة مكة وذلك لان سلاطين آل عثمان كانوا يثقون بهم ويعتدون بآرائهم لقربهم من محيط الحجاز وبعد عاصمة العثمانيين عنه.

وقد ظلت مكة معفاة من مرابطة العثمانيين فيها ما يقرب من قرنين ثم تغير الامر لأننا نجد فيما قدمنا من حوادث ان فرقا من الانكشارية اخذت ترابط في مكة حوالي القرن الثاني عشر ويظهر اثرها في احداث البلاد يرأسها سردار يتلقى اوامره من صنجق جدة.

ولم يكن للعثمانيين في مكة في اكثر سني هذا العهد موظفون من الاتراك يتولون شيئا من شؤون الحكم الا ما كان من امر القاضي والمحتسب وكانت وظيفة الاخير تضاف في اكثر الاحيان الى (صنجق جدة شيخ الحرم) اما وظيفة الافتاء فكان يتولاها علماء من مكة بترشيح من الامير وتأييد السلطنة العثمانية وسنأتي في الفصل الخاص بذلك على اسماء البيوتات من مكة التي كانت تتولى مركز الافتاء فيها.

وقد ظل صنجق جدة بالرغم من اشرافه على شؤون الحرمين مقيما بحكم منصبه في جدة ولم ينتقل الى مكة الا في العهد العثماني الثاني كما سنذكره فيما سيأتي.

وبالرغم من اقامته في جدة فان سلطته شرعت تتوسع على مدى السنين الى ان

٥١٥

اتيحت له مراقبة تنفيذ جميع اوامر السلطنة كما اتيح له في بعض الاحيان التي يتولى امر مكة فيها شريف مسالم او ضعيف ان يحد من نفوذ ذلك الامير ويسيطر باشرافه على مقدرات البلاد.

أما أصحاب الشخصيات القوية من الاشراف فكانوا يتجاهلون سلطته كما يتجاهلون في بعض الاحيان اوامر الخلافة العثمانية نفسها.

وكانت واردات البلاد من الحجاج والمكوس من نصيب الامراء في مكة يستولون عليها ويجعلون بعضها سهاما توزع على اقرباء بيت الامارة وقد ظل ذلك شأنهم في سنوات طويلة من اوائل الفتح العثماني الى ان استطاع قانصوه الوالي التركي في جدة ان يستغل ضعف الامير مسعود في مكة عام ١٠٤٠ كما تقدم بنا وان يضع يده على جميع الواردات ليضمها الى خزانة الدولة العثمانية.

ولم يدم ذلك طويلا لاننا نجد الشريف زيدا رأس الامراء من ذوي زيد ما لبث ان تولى الحكم ونشط للمطالبة بالواردات ومع هذا لم يظفر الا ما يعادل نصفها وبقي النصف الاخر تتسلمه خزائن العثمانيين التي استحدثت في جدة لقاء عناية العثمانيين بشؤون الحج وعمارة الحرمين. وقد حاول بعد ذلك الوالي العثماني في عهد مسعود بن سعيد ان يماطل في استحقاقه من واردات جدة فمضى مسعود بجيشه الى جدة فاحتلها وطرد الوالي التركي ثم كتب بذلك الى الخلافة فارسلت واليا غيره وأمرته بصرف استحقاق الامير.

وباستحداث الخزانة التركية في جدة واستحواذها على نصيبها من الواردات في عام ١٠٤٠ وما بعدها اخذ الحكم العثماني يوطد لنفسه في مكة اكثر مما كان

٥١٦

وشرع يزداد عدد الموظفين الذين يتولون مناصب المال ثم شؤون البريد ونظارة السوق واعمال الاوقاف وغيرها وما وافى العهد العثماني الاول على نهايته حوالي عام ١٢١٧ حتى كانت مكة قد الحقت نهائيا بالعجلة التركية واصبحت ولاية تابعة لها في جميع مرافقها السياسية والاجتماعية.

ولا أجرأ على لوم العثمانيين فيما فعلوا فالناس في كل زمان هم الناس في آمالهم الطامحة وأنانيتهم الجامحة وغرامهم بالاستئثار فاي لوم يستحقه العثمانيون اذا فعلوا في سبيل مصالحهم ما فعله ويفعله كل قوي أقلته الأرض.

الذنب في رأي كان ذنب أصحاب البلاد الذين ساعدوا بتخاذلهم وتأخرهم على اغراء العثمانيين بامتلاكهم فبعد ان كانت علاقة اجدادهم السياسية لا تتعدى الدعاء وتأييد الامارة وحماية الثغر في جدة استطاعوا بسبب تنافسهم على مقعد الحكم ان يمهدوا لصديقهم القوي طريق التدخل في مقدرات بلادهم الى آخر بند فيها.

على انني لا اريد ان ابعد في هذا اللوم كثيرا لان فلسفة الذنوب والجرائم لا تقرني على ارتجال الاحكام دون ان اتدبر ما يحيطها من ظروف وأمعن فيما يلابسها من مهيآت.

فأصحاب مكة الذين أعنيهم وهم امراؤها من الاشراف قضوا حياتهم فيها متنابذين متناجزين لا يكاد يغمد سيف من سيوفهم حتى تشرع في وجه صاحبه سيوف ولا يكاد يظفر بالغلبة بينهم ثائر حتى يناجزه ثوار جدد يثيرونها عليه حربا عوانا.

٥١٧

هؤلاء الاشراف هل كانوا مذنبين؟

الواقع انهم كانوا كذلك ولم يكونوا. كانوا مذنبين بتعسفهم في فهم الحقائق وتعصبهم لما يرونه حقا وافراط كل فريق منهم في التعصب الى حد العناد الذي يؤدي الى تقطيع الارحام وامتشاق السيوف واثارة الحروب.

ولقد قاست مكة في سبيل عنادهم هذا الويلات والشدائد والموت والجوع ما يعجز الوصف عنه ويكل القلم ، طول أحقاب عديدة كما قاسوا هم انفسهم من جرائه ما يعز معه الصبر.

وأمعن بعضهم في العناد حتى سام اخوانه من العذاب ما لا يطاق وأباح لأنصاره في غامد وزهران أن يهتكوا اعراض مناوئيه في البلاد وفعل غيره أبشع من ذلك.

كل هذه الويلات يعتبرها العرف ذنوبا الا أن الفلسفة لا تلبث ان تتشبث بالظروف الملابسة لتتعرف مدى ما تنطق به.

هؤلاء الاشراف توارثوا الحكم من اجدادهم في وضع مرتبك لا تنظمه قاعدة مسنونة ولا يقيده عهد شامل مكتوب ولا يستقيم الامر لحكومة ملكية على وجه الارض ما لم تنظم لولاية العهد فيها قواعد ثابتة لا يشوبها خلل ولا يتخللها ارتباك والا كانت تلك الشوائب مدعاة للاضطراب والفتن واثارة الحروب.

ولسنا في حاجة الى التدليل على هذا فان تاريخ الحروب الاهلية في كافة الامم على وجه الارض يدلنا بأفصح بيان على أن معظم وقائعها الصاخبة كانت تدور حول محور واحد هو الخلاف على وراثة العهد وذهاب كل من المتطاحنين الى

٥١٨

الدعوى بأحقيته دون غيره في الولاية واصراره على نيل هذا الحق مهما كلفه الثمن من دماء وأموال وليس من يشك في ان ولاية العهد لو نظمت في جميع تلك الحكومات تنظيما دقيقا وافيا لاستغنى العالم عن ثلاثة ارباع الحروب العظيمة في التاريخ.

وفي هذا ما يؤيد نظريتنا في ان الانسان في كل ازمنة التاريخ ـ بل وبصرف النظر عن جميع الاعتبارات ـ هو الانسان المجبول على الطمع والأنانية وحب الاستئثار لا يستثنى من ذلك الا نبي معصوم او شخص موهوب ، وهما أقلية في التاريخ نادرة.

بذلك وجد الاشراف أنفسهم قد احيطوا بملابسات قاسية فهذا يرى أحقيته في الامارة بحكم وراثته وذلك يدعيها لأن والد مناوئه كان مغتصبا قبل اليوم فما يمنعه ان يسترد ما غصبه جيل سابق حتى اذا حكم السيف لأحدهما قام من أعقاب المغلوب من يرى أن الدين لا يضيع ما قام له مطالب! فيندفع الى الفتنة او يقوم غيره ليحيى ذكر جد من الاسرة مدعيا بانه الوريث الشرعي له دون غيره وهكذا يتعدد الحق بتعدد وجهات النظر فتبدأ المشادة وتتطور الى عناد فتغلي الدماء فوارة محمومة فيطيش العقل فلا يبصر أمامه الا هدفه المنشود ، واذا استثير العناد واستعرت فورة الدماء اندفع الانسان في غياهب الحياة الى أوخم العواقب.

كانت امارة مكة قد انحدرت الى بركات عندما اتصل العثمانيون بمكة عام ٩٢٣ وتوارثها أبناؤه حتى آلت الى عبد الله بن حسن بن نمي الذي تنازل عنها لابنه في عام ١٠٤١ واختار ابن اخيه زيد بن محسن ليشاركه في ادارة البلاد اعتمادا على حصافته وحسن تجاربه فما لبثت هذه الثقة ان جرت الى مشاكل بين ذوي

٥١٩

زيد وبني عمومتهم من ذوي بركات وتركتهم يتنازعون أحقيتها ويذيقون البلاد من حروبهم ما يذيقون.

ولقد استفاد الأشراف من هذا النزاع لرجولتهم شيئا كثيرا فكان الرجل منهم ينشأ مقاتلا بطبيعته بكل ما في المقاتل من شجاعة ورجولة وشهامة.

وأساءت اخلاق المقاتل فيهم الى البلاد اساءة لم تتعوضها الى اليوم ولن تتعوضها الا بعد حقبة من الزمن ذلك ان المقاتل فيهم كان عندما يظفر بالغلبة على هذا البلد ويمتلك مقدراته لا ينصرف ذهنه الا الى الكيفية التي يستطيع ان يحافظ بها على دست الامارة من عدوان خصومه لهذا فهو لا يعنى بشيء عنايته بادخال المال في خزائنه بأوسع ما يمكنه الادخار وشراء القبائل وشيوخها واصحاب الكلمة فيها من الاشراف الموالين بأفداح ما يلزم من الاثمان يضاف الى هذا نفقات التحصين والتسليح وبناء المخابىء والتفنن فيها.

لهذا كان الحاكم فيهم لا يجد في اموال البلاد ما يسع مرافقها العامة ولا يجد في اوقاته من الفرص ما يساعد على التفكير في شؤونها الحيوية ، انه في دست امارته في مركز المقاتل الذي لم يدعمه نظام مقرر ولم تحصنه قاعدة ثابتة فأية طاقة فكرية تحتمل البحث في غير شؤون التثبت والتحصين.

اما العثمانيون فلعل اقصى ما كان يهمهم في هذا البلد ان يدعو خطيبها باسمهم عندما كانت علاقتهم في اول امرها محدودة ببعض الالتزامات اما بعد ان تدرجوا في سبيل الاستيلاء عليه بمرور السنين وبعد ان ضموه الى بقية الولايات التابعة لهم فانهم لم يفترضوه اقليما يدر العسل ليعنوا بخلاياه ويهتموا بمرافق النحل فيه بل تخيلوه مستودعا يرابط فيه المتواكلون والمتعطلون والزاهدون

٥٢٠