تأريخ مكّة دراسات في السياسة والعلم والاجتماع والعمران - ج ١-٢

أحمد السباعي

تأريخ مكّة دراسات في السياسة والعلم والاجتماع والعمران - ج ١-٢

المؤلف:

أحمد السباعي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الطبعة: ٠
ISBN: 9960-660-17-6
ISBN الدورة:
9960-660-18-4

الصفحات: ٧٩٣

كان يتعين من الخليفة العباسي لأنه يذكر أن أمير الحج العراقي عندما وصل إلى مكة في عام ٥٧٨ كان يصحبه الخطيب المعين للقضاء في مكة ، ورغما من هذا فإن مكثرا وأخاه كانا يفرضان أوامرهما في مكة ويقرران رسومهما على الحجاج لا يمنعهما من ذلك مانع حتى أن شكايات الحجاج عندما اتصلت بصلاح الدين الأيوبي لم يستطع أن يغير من شأن المكوس الا بما دفعه من تعويض قدره المؤرخون بثمانية آلاف أردب من القمح تصرف لصاحب مكة لقاء العفو عن المكوس المطلوبة من الحجاج ، ولعلها كانت في بعض السنين تزيد أو تنقص لأن الفاسي يذكر هذا التعويض ويقول انه كان ألفي دينار وألف أردب قمح واقطاعات بصعيد مصر واليمن (١).

وعند ما استطاع قتادة بن ادريس أن يجلي بني عمومته عن مكة وعلى رأسهم داود بن عيسى ويؤسس على أنقاضهم لطبقته «الرابعة» حكما جديدا في مكة حاول العباسيون اخضاع الحكم الجديد لنفوذهم الا أن قتادة كان أشد شكيمة من سابقيه فقد ناوأ نفوذهم وأبى أن يعترف الا بدعاء الخطبة لهم مرة وللأيوبيين أخرى في الاحيان التي اضطر فيها الى ذلك.

أما في عهد الحسن ابنه فقد استطاعوا أن يجعلوا نفوذهم يتسرب إلى الامارة في مكة وأن يهيئوا الحسن لقبول مراسم التولية وزاد الأمر ضغثا على إبالة عندما اختلف الحسن مع أخيه راجح وعمد الأخير الى تمكين أيوبي اليمن في مكة

__________________

(١) كان يستوفي المكوس وكيل الأمير في عيذاب وهي من شواطىء الصعيد ثم يعلم على اسمه علامة الاداء والا فيمنع من الحج في جدة وربما سجن أو عوقب ـ راجع شفاء الغرام ٢ / ٢٣١

٢٨١

سنة ٦٢٠ ثأرا من أخيه الحسن وبذلك ضاع استقلال البلاد وتركت مكة سنة ٦٤٧ مسرحا لفوضى الطامعين من الأيوبيين في مصر واليمن يحتلونها بالتناوب ويذيقونها من ويلات الحروب والفتن ما يذيقونها على النحو الذي فصلناه في كلامنا في الفصل السابق.

إلا أن الأشراف ما لبثوا أن استخلصوا مكة من مغتصبيها بقيادة الحسن وابنه أبي نمي الأول وهما من ذرية قتادة وبذلك استطاعوا أن يستقلوا بحكمها ـ وبالرغم من الصعاب التي واجهها أبو نمي من أقار به المنافسين فإنه استطاع في النهاية أن يظفر بالامارة ويحفظها مستقلة الى أن انقرض عهد الايوبيين في عام ٦٤٨ وأفل بعده نجم بني العباس في عام ٦٥٥ ولاح في أفق السياسة كوكب المماليك الأتراك الذين استولوا على شؤون الحكم في مصر كما نبينه في الفصل الآتي :

الناحية العلمية : وظلت الحركة العلمية في مكة على وهنها الذي ذكرناه في عهد الفاطميين تقتصر على حلقات المدرسين واهل العلم ، وأشهر البيوت التي تخصصت في طلب العلم ووقفت ابناءها عليه في هذا العهد بيت الطبري الذي ذكرناه في العهد الفاطمي ثم آل ظهيرة القرشيين وآل النويري وقد لمع من البيتين الآخرين أسماء كثيرة في هذا العهد واستطاع أصحابها أن يشاركوا آل الطبري في رئاسة التدريس بمكة وأن يتداولوا بدورهم الاضطلاع بأعباء خطبة المسجد الحرام والإمامة وأمور الفتوى فيه وكان بعض آل الطبري يسكنون بين المحناطة والمدعا ولا يزال لهم حوش بجوار المكان المعروف بالقبان يسمى حوش الطبري (١).

__________________

(١) زال الحوش والقبان في الهدميات الحاصة بتوسعة المسجد الحرام عام ١٣٧٨ ه

٢٨٢

الناحية الاجتماعية والعمرانية : يبدو أن مكة لم تتأثر بالأيوبيين كما تأثرت بالفاطميين من قبل لضيق المدى الذي تمتع فيه الأيوبيون بنفوذهم في مكة إلا أن صلاح الدين كان له بعض الأثر فيها ، فقد نجح في إلغاء الأذان بحي على خير العمل الذي كان مستعملا في العهد الفاطمي وبنى في مكة دارا لضرب النقود باسمه.

ولما تولى الامر قتادة مؤسس الطبقة الرابعة من الأشراف بدأ يعنى ببعض العمران فأنشأ سورا في أعلا مكة وسهل العقبة التي كانت تفصل الشبيكة من حارة الباب حيث بنى المظفر مكانها سورا (١) وأعتقد أن العقبة كان مكانها موقع الريع بين الشبيكة وحارة الباب وأن حارة الباب سميت كذلك لأن باب السور كان فيها.

الناحية الاجتماعية في عهد الأيوبيين : وأنشئت مكة في هذا العهد عدة برك كانوا يتخذونها لتخزين المياه ، منها بركة الصارم وكانت تتصل بسور المعلاة اتصالا مباشرا مما يلي محلة شعب عامر اليوم ، ووصف ابن جبير مكة في رحلته في هذا العهد عام ٥٧٩ فقال أنه رأى فيها ثلاثة أبواب هي : باب المعلاة وباب المسفلة وباب الزاهر وقال أن سوقها الحافل هو بين الصفاء والمروة وسوق العطارين والبزازين على مقربة منها ، وقال أن بمكة حمامين احدهما للفقيه التعايشي أحد الأشياخ في الحرم ، والثاني لوزير صاحب الموصل الشيخ جمال الدين ، ولعل هذين الحمامين هما الذين أوردناهما في عهد الفاطميين نقلا عن الرحالة الفارسي ناصر خسرو ، ثم قال : وقد شاهد البلاط في «دار الندوة» كله مصاطب تحت قسى «حنايا» يجلس فيها الناسخون والمقرئون وبعض أهل صنعة الخياطة.

__________________

(١) منائح الكرم للسنجاري «مخطوط»

٢٨٣

وتحدث ابن جبير عن عناية المكيين بحفلاتهم فقال : انه رآهم ليلة رجب يحتفلون بالعمرة فيخرج النساء اليها بالهوادج يسيل بها أباطح مكة حتى لا يبقى في مكة من أهلها الا من خرج للعمرة وقد زينت الهوادج بقلائد من الحرير وفاضت عليها الأستار المزركشة التي تسحب أذيالها على الأرض (١) وفي صباح رجب يخرج الأمير الى العمرة في حشد عظيم ويخرج المعتمرون قبيلة قبيلة وحارة حارة فرسانا ورجالا يتواثبون ويتثاقفون الأسلحة حرابا وسيوفا في حذق عجيب وكانوا يرمون السيوف في الهواء ثم يتلقونها قبضا على قوائمها كأنها لم تفارق أيديهم بالرغم من شدة زحامهم فاذا عاد الأمير من العمرة هرع الى المسجد وشرع يطوف في حشده العظيم (٢).

وطواف الأمير في هذا العهد له طرافته وقد شهد ابن جبير الأمير مكثر يطوف في حاشيته فوصفها باسهاب ويتلخص ذلك في أن للأمير قراء يتقدمون موكبه الى الطواف يتقدمهم رجال الحرس من السودان شارعين حرابهم فإذا بدأ الطواف شرع مؤذن صبي يبلغ الحادية عشر وهو أخو المؤذن الزمزمي يغرهد فوق قبة زمزم داعيا للأمير فإذا بدأ الأمير من الركن اليماني قال : صبح الله الأمير بالسعادة الدائمة والنعمة الشاملة ثم يصل ذلك بكلام مسجوع مطبوع حفيل بالدعاء ثم يختمه ببعض ابيات من الشعر في مدحه فإذا شرع في الشوط الثاني اندفع بدعاء آخر ووصله بابيات غيرها من الشعر وظل على ذلك الى نهاية الطواف (٣)

__________________

(١) رحلة ابن جبير ١٠٤

(٢) ابن جبير ١٠٥

(٣) المصدر نفسه ٦٩

٢٨٤

ويذكر ابن جبير أن الأمير مكثر كان يسكن بالقرب من المسجد الحرام أمام باب علي فى دار تتصل بالميل الأخضر حيث يبدأ الساعون في الهرولة.

ويصف ابن جبير عادة صيام رمضان في مكة فيقول ما خلاصته ان دبادب الأمير أخذت تضرب في مكة ليلة الشك ايذانا بصيام يوم الشك وبدأ المسجد يتلألأ نورا وتفرق الأئمة فرقا لاقامة التراويح فلا يكاد يبقى في المسجد زاوية الا وفيها قارىء يصلى بجماعة خلفه وقد صفت الشموع على اختلاف أشكالها في محاربه ويطوف بعضهم بين تسليمتين سبعا وللمسجد فرقعة (١) يضرب بها ثلاث ضربات عند الفراغ من آذان المغرب ومثلها عند الفراغ من أذان العشاء ويتولى التسحير في مئذنة باب علي المؤذن الزمزمي لقرب المئذنة من دار الأمير ومعه أخوان صغيران يجاوبانه ويقاولانه في أصوات رقيقة وقد نصبت في أعلى المئذنة خشبة طويلة في رأسها عود كالذراع أنيط بطرفيها قنديلان يطفآن اذا حان الامساك وأهل مكة في سطوحهم المرتفعة البعيدة من المسجد يمسكون اذا طفىء القنديلان (٢).

ويذكر ابن جبير احتفال الناس في مكة بليلة النصف من شعبان فيقول ان مواكبهم تزدحم في كل مكان في المسجد والجهلة يعتقدون أن زمزم تفيض فى هذه الليلة حتى تطفح فيزدحمون على التبرك بمائها (٣) وأقول أن هذا التخريف ظل ساريا في مكة يعتقده عوامها طوال الأجيال ولم ينفع فيه انكار حتى قضت حكومة جلالة «الملك عبد العزيز آل سعود» في العهد الأخير على هذه الخرافة.

__________________

(١) الفرقعة نوع من الكرابيج يضرب بها في الهواء فتحدث صوتا مدويا

(٢) ابن جبير ١١٩ وما بعدها

(٣) ابن جبير ١١٥

٢٨٥

طريق الحج : وفي هذا العهد بدأ سبيل الحج يتحول معظمه من طريق عيذاب والقصير في الصعيد الى العقبة شرقي مصر حيث ينحدرون برا الى شمالي الحجاز فقد سافرت «شجرة الدر» على رأس قافلة من الحجاج من ذلك الطريق فتحولت القوافل اليه وكان يقلها «محمل» على شكل هودج اتخذ فيما بعد شعارا لقافلة المصريين ثم قلدهم فيه بعض الأمم من المسلمين.

وحج ابن جبير في هذا العهد من طريق عيذاب فوصف القوافل التي كانت تسير بين قوص وبينها وقال ان المترفين فيها كانوا يمتطون «الشقاديف» وهي أشباه المحامل يوصل منها اثنان بالحبال وتوضع على البعير ولها أذرع قد حفت بأركانها يكون عليها مظلة فيكون الراكب فيها مع عديله يطالع فيها متى شاء المطالعة في مصحف او كتاب ، ومن شاء ممن يستخير اللعب بالشطرنج أن يلاعب عديله تفكها.

والذي أقوله أن هذا الوصف يشبه وصف «الشقادف» التي كنا نركبها فوق

__________________

*صورة المحمل

٢٨٦

الابل ولا تزال بقاياها الى عهد قريب ويفهم من هذا أن استعمال الشقاديف لم يكن خاصا بالحجاز بل كان مستعملا في مصر.

الاصلاح في المسجد : ولم يذكر المؤرخون أعمالا كبيرة للأيوبيين في المسجد بل أنهم ذكروا من الاصلاحات ما كان في عهد العباسيين أو بعض الأغنياء المسلمين.

فقد انشأ شرف الدين أحد مماليك المستنصر بالله العباسي في عام (٦٤١) بيمارستانا بالقرب من باب الزيادة في مكان المدارس التي تسكنها قبل اليوم المحكمة الشرعية كما بنى مدرسة على يمين الداخل الى باب السلام وأوقف فيها كتبا كثيرة وبنى حاشية المطاف (١)

يقول قطب الدين أن الكتب التي اوقفت تفرقت في عهده «عهد القطبي» شذر مذر وصارت المدرسة رباطا وفيه محل للتدريس وبه كتب بعض المتبرعين.

وفي عام ٥٧٦ أمر الناصر ابو العباس بفرش حجر اسماعيل بالرخام (٢) وفي

__________________

(١) منائح الكرم للسنجاري «مخطوط»

(٢) تاريخ الكعبة للشيخ حسين باسلامه ص ١٧٤

٢٨٧

عام ٦٢٩ أمر المستنصر بالله بتعمير الكعبة وسقفها وبعض أركانها (١) وكان العباسيون يكسون الكعبة طوال هذا العهد ويكتبون في طرازها «حزامها» آيات من القرآن كما يكتبون اسم الخليفة ويذكر ابن جبير ان كسوتها كانت خضراء.

ويذكر ابن جبير ان بعض ارض المطاف كان مبسوطا بالحجارة منها البيض كأنها الرخام ومنها السود والسمر وقدر عرض هذا الفرش بتسع خطوات ثم قال وفرش باقي المطاف بالرمل الأبيض الا جهة مقام ابراهيم فقد اتصل فرش الحجر حتى أحاط به ثم قال وطواف النساء في الجزء المفروش بالرمل من أرض المطاف (٢).

وكان المسجد يضاء في هذا العهد بمشاعل وصفها ابن جبير في رحلته فقال انها توقد في صحاف من حديد فوق خشب مركوزة ، تطيف بحاشية المطاف وعلى بعد يسير منه فيتقد الحرم نورا ، ثم قال ويوضع الشمع بين يدي الأئمة في محاريبهم (٣).

ومحاريب الأئمة هي المقامات التي ذكرنا إنشاءها في العهد الفاطمي ليصلي فيها الأئمة الأربعة.

وقد وصف ابن جبير صلاة الأئمة في رحلته الى مكة في عام ٥٧٨ فقال وهم أربعة أئمة سنية وامام خامس لفرقة تسمى الزيدية (٤) وأشراف هذه البلدة

__________________

(١) تاريخ الكعبة للشيخ حسين باسلامه ص ١٧٤

(٢) رحلة ابن جبير ٥٧

(٣) المصدر نفسه ٧٥

(٤) الزيديون هم أتباع زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنهم ، وهم يقولون بإمامة أولاد علي ويجوزون إمامة المفضول على الافضل للمصلحة العامة وكانت الشيعة ترفض هذا المبدأ فسميت كل طوائف الشيعة روافض الا الزيدية وأهم مواطن الزيدية اليوم في اليمن وكان أول من دعي فيها الى مذهب الزيدية هو السيد يحي بن القاسم المرسي جاء الى اليمن في عام ٣٨٠ هجرية واقام في صعدة وملك ما بينها وبين صنعا بعد وقائع عظيمة حاربه فيها عمال العباسيين

٢٨٨

على مذهبهم وهم يزيدون في الأذان «حي على خير العمل (١)».

أقول وقد مر بنا أنه قضى على زيادة «حي على خير العمل» في الأذان في العهد الايوبي ولكنه لا يستبعد أن يكون قد اعيد في فترات لأن اكثر أشراف مكة كانوا يميلون الى مذهب المتشيعين.

خطيب الجمعة في المسجد : ثم قال : وأول من يصلي بالناس من أئمة السنية الشافعي وله حطيم حفيل بازاء مقام ابراهيم وهو خشبتان موصول بينهما بأذرع شبه السلم تقابلهما خشبتان وقد عقد الخشب على رجلين من الجص واعترض في أعلا الخشب خشبة فيها خطاطيف حديد فيها قناديل معلقة من الزجاج.

ثم قال ويصلي بعد الشافعي امام المالكية قبالة الركن اليماني وله محاريب تشبه مجاريب الطرق الموضوعة فيها ثم يصلي الحنفي قبالة الميزاب تحت حطيم موضوع له وهو أعظم الأئمة أبهة وأفخرهم آلة من الشمع وسواها لأن دول الاعاجم كلها على مذهبه ، ويصلي الحنبلي مع صلاة المالكي في حين واحد قبالة الحجر الأسود والركن اليماني وله حطيم معطل هو قريب من حطيم الحنفى (٢).

ويقول ابن ظهيرة القرشي ان صلاة المغرب كان يصليها الأئمة الأربعة في وقت واحد فيحصل للمصلين بسبب ذلك لبس كثير.

وجاء في حاشية ابن عابدين على الدر المختار أن بعض العلماء أنكروا تعدد الجماعات في ذلك العصر وأفتوا بعدم جواز ذلك على المذاهب الأربعة ويشير ابن ظهيرة أن تعدد الجماعات بقي في المسجد الى عهد الشراكسة ثم ألغي ثم أعيد

__________________

(١) رحلة ابن جبير ٧٣.

(٢) رحلة ابن جبير ٧٤ وما بعدها

٢٨٩

العمل به مرة اخرى ، أقول وقد ظل العمل به الى أن ألغي في عهد الحكومة السعودية الحاضرة.

وفي يوم الجمعة يدفع المنبر على بكرات حتى يتصل بصفح الكعبة فيما بين الحجر الاسود والركن العراقي ويعلوه الخطيب مستقبلا المقام فإذا خرج الخطيب أقبل لابسا ثوبا أسودا معتما بعمامة سوداء «وهو شعار العباسيين» وعليه طيلسان أسود كل ذلك من كسوة الملك الناصر العباسي وعليه الوقار والسكينة وهو يتهادى بين رايتين سوداوين يحملهما رجلان من المؤذنين وبين يديه أحد القومة في يده «الفرقعة» (١) ينفضها في الهواء فيسمع لها صوت عال يسمعه من داخل الحرم وخارجه فيكون اعلانا بخروج الخطيب ولا يزال كذلك الى أن يقرب من المنبر فيقبل الحجر الأسود ويدعو عنده ثم يقصد المنبر ورئيس المؤذنين بين يديه لابسا السواد على عاتقه السيف وقد أمسك بمقبضه وتركز الرايتان على جانب المنبر فإذا صعد الخطيب أول درجة من درج المنبر قلده المؤذن السيف فيضرب بنصل السيف ضربة على الدرج يسمع بها الحاضرون وهكذا على سائر الدرج فإذا استوى في اعلاه استقبل الناس وسلم عليهم ثم يقعد ويؤذن المؤذن على قبة زمزم فإذا فرغ من خطبته دعا للخليفة العباسي ثم لأمير مكة ثم لسلطان الأيوبيين حتى إذا أنهى من خطبته بدأ الصلاة ثم انصرف على الوضعية التي أتى بها ثم يعاد المنبر إلى مكانه ازاء المقام (٢).

مقام ابراهيم لم يكن ثابتا : ولم يكن مقام ابراهيم ثابتا في موضعه كما هو اليوم بل كان ينقل من مكانه أيام الموسم ليصان في جوف الكعبة وكانت له قبة

__________________

(١) قدمنا ان الفرقعة نوع من الكرابيج يضرب بها في الهواء فتحدث صوتا مدويا

(٢) بن جبير ٩٧

٢٩٠

من خشب يرفعونها عنه في بعض المواسم ويجعلون بدلها قبة من حديد ويقول الفاسي (١) انه لا يعرف متى جعل المقام ثابتا في القبة ثم يقول وأظن أن القبة التي فوق القبة الحديدية أنشئت في عهد الملك المسعود صاحب اليمن وأنه أول من بناها وقد ذكرنا ذلك في عهد الحسن بن قتادة (٢).

ويصف ابن جبير شكل المسجد بما يطول سرده وتجده مفصلا في رحلته ثم يذكر قبة زمزم والقباب التي كانت بجوارها ويتلخص ذلك في أن باب قبة زمزم يتجه الى الشرق وباب قبة العباس وقبة اليهودية يتجهان الى الشمال (٣) وهاتان القبتان مخزنان لأوقاف البيت من مصاحف وكتب وشمع وغير ذلك والقبة العباسية كانت سقاية الحاج وهي حتى الآن «في عهده» يبرد فيها ماء زمزم ويخرج مع الليل ليسقي الحاج في قلال يسمونها الدوارق كل دورق منهم ذو مقبض واحد ثم يقول وفي القبة العباسية خزانة تحتوي على تابوت متسع مبسوط وفيه مصحف أحد الخلفاء الأربعة بخط زيد بن ثابت منتسخ سنة ٢٨ من وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. كبير الورقات واسعها ثم يقول وأهل مكة متى أصابهم قحط أو نالهم شدة أخرجوا المصحف وفتحوا باب الكعبة ووضعوه في قبة المقام «داخل الكعبة» واجتمع الناس كاشفين رؤوسهم متضرعين فلا ينفصلون عن مقامهم حتى تكون رحمة الله قد تداركتهم ، ويقول : وفي جانب قبة زمزم الذي يقابل الحجر الأسود مصطبة من الرخام دائرة بالقبة يجلس الناس فيها يشاهدون الكعبة ثم يقول : وتفتح الكعبة كل يوم اثنين ويوم جمعة كما تفتح في كل يوم من رجب وللباب كرسي كبير شبه المنبر له تسع درجات

__________________

(١) شفاء الغرام ١ / ٢٠٤

(٢) ويذكر ابن جبير في رحلته ان مقام ابراهيم كان في عهده غير ثابت

(٣) ابن جبير ٧٢

٢٩١

مستطيلة قد وضعت له قوائم من الخشب مطمئنة مع الأرض لها أربع بكرات كبار مصفحة بالحديد لمباشرتها الأرض يجري الكرسي عليها حتى يصل الى البيت (٢) وأقول أن هذا يشبه ما نسميه اليوم «بالمدرج» وهو قائم بجوار باب بني شيبة يدفع على بكرات في الأرض الى باب الكعبة اذا فتحت للدخول العام.

شكل المسجد في العهد الأيوبي : ويذكر ابن جبير منائر المسجد فيقول أنه رآها سبع صوامع ذات أشكال بديعة ارتفعت بمقدار النصف مركنة من الأربعة جوانب بحجارة رائعة النقش عجيبة الوضع أحاط بها شباك من الخشب وارتفع عن الشباك عمود في الهواء كأنه مخروط يستدير بأعلاه شباك آخر من الخشب والذي أقوله أن هذه المنائر التي شهدها كان أكثرها من صنع الفاطميين وقد تغير كثير من اوضاعها في العهد العثماني فأصبحت على غرار المنائر التركية. وقد ازيلت وحلت محلها المنائر الموجودة اليوم بعد التوسعة السعودية للمسجد الحرام.

__________________

(١) ابن جبير ٧٦ وما بعدها

٢٩٢

في عهد المماليك الأتراك والشراكسة

أبو نمي الأول : ظل أبو نمي وعمه ادريس يحكمان مكة بالاشتراك عدة سنوات ثم عادا الى الاختلاف فخرج ادريس من مكة غاضبا وبقي أبو نمي في حكمها منفردا (١).

وفي هذه الاثناء كان مماليك الاتراك في مصر قد فرغوا من أعمال التأسيس في حكومتهم كما أسلفنا في الفصل السابق ، واستطاع الظاهر بيبرس أن يقضي على جميع الخلافات التي نشأت بين قوادهم في سني التأسيس الاولى وأن ينتزع الأمر لنفسه في سنة ٦٥٨ (٢) فيوطد بنيانه ويثبت دعائمه وأن يستقبل حفيد الخليفة العباسي المشرد بعد وقائع التتار في بغداد استقبال المضيف لضيفه ويوطىء لمقامه في مصر ويبايعه بالخلافة الروحية فيها.

وفي هذه الاثناء ، وعلى اثر هذا الظفر الذي ناله بيبرس ، امتد طموحه الى بلاد العرب وخدمة الحرمين ليضيف الى اسمه مفخرة جديدة.

ويبدو أن بيبرس أراد أن يتوسل الى ذلك بأجمل الوسائل ، فقد شد رحاله في عام ٦٦٧ الى الحج فاستقبله أبو نمي في حفاوة بالغة وتقدير عظيم.

وبسط بيبرس يده بالبذل في مكة والمدينة فقدم الى صاحبها أبي نمي من التحف والهدايا والأموال ما لم يقدر ، ووزع على الأشراف عطاء سخيا وأغدق على الأهلين في المدينتين مبالغ طيبة ورتب لكثير من العائلات فيهما منحا سنوية وأعطى القبائل من أهل البادية أعطيات جزيلة تركت أثرها الطيب في حياتهم.

__________________

(١) شفاء الغرام لتقي الدين الفاسي ٢ / ٢٠٢

(٢) الذهب المسبوك للمقريزي ٨٦.

٢٩٣

وعلم بيبرس بالخلاف بين أبي نمي وعمه ادريس فجمع بينهما وسوى جميع الخلافات ولم يتركهما الا بعد أن تصالحا على كل الامور كما اتفقا على أن يخطبا للسلطان بيبرس (١).

ثم ما لبث أن عاد الخلاف بين أبي نمي وعمه فخرج العم الى البادية واستنفر القبائل فأطاعوه ، فعاد الى مكة بجموعه المقاتلة واشتبك الفريقان في واد خليص (٢) بالقرب من عسفان شمالي جدة واقتتلا قتالا شديدا انتهى بقتل ادريس وعودة ابي نمي الى الحكم منفردا بنفسه.

ويختلف المؤرخون في عدد المرات التي اختلف فيها أبو نمي وعمه وتواريخ الوقائع التي اشتبكا فيها ولكنهم اتفقوا في أن ذلك انتهى بقتل ادريس وانفراد أبي نمي بالحكم.

واتصلت الانباء بالظاهر بيبرس ولا نستبعد أن يكون أبو نمي كتب إليه بذلك وأنه برر أعماله بحجج أدلى بها ، فكتب اليه الظاهر بيبرس يشترط الغاء المكوس واباحة بيت الله الحرام للعاكف والباد وألا يمنع زائرا في ليل أو نهار وألا يتعرض لتاجر بظلم وأن تكون الخطبة والسكة باسمه لقاء عشرين الف درهم تقدمها مصر سنويا (٣).

وظل أبو نمي على امره نحو ثلاث سنين ، ثم هاجمه من المدينة أحد أولاد عمه ادريس المقتول في جماعة من بني عمهم آل قتادة وكثير من مقاتلة البادية

__________________

(١) راجع المصدر نفسه ٨٧ وما بعدها

(٢) وادي خليص ـ بضم الخاء ـ يقع شمالي مكة على (١٠٠) كيل ، وشمال عسقان على (٢٠) كيلا ، وهو واد زراعي خصب به نحو من ٢٥ قرية ، وقد أجرى بعض مائه الى جدة ، وسكانه بنو حرب (ع)

(٣) افادة الانام للشيخ عبد الله غازي «مخطوط»

٢٩٤

واستطاع المهاجمون أن يجلوا أبا نمي عن مكة ويتولو أمرها نحو ٤٠ يوما ، ثم ما لبث أن استأنف أبو نمي الكرة عليهم فأجلاهم وعاد الى حكم مكة وذلك في سنة ٦٧٠ (١).

واتصلت هذه الانباء الجديدة بالملك الظاهر بيبرس في مصر ، ولعل أنباء اخرى سيئة بلغته معها ، وكان يقظا للعلاقة السياسية التي تربطه بمكة حريصا على العناية بالاشراف عليها ، فكتب الى ابي نمي في عام ٦٧٥ كتابا شديد اللهجة هذا نصه :

«من بيبرس سلطان مصر الى الشريف الحسيب النسيب أبي نمي محمد بن أبي أسعد .. أما بعد : فان الحسنة في نفسها حسنة وهي من بيت النبوة أحسن! والسيئة في نفسها سيئة وهي من بيت النبوة أسوأ! وقد بلغنا عنك أيها السيد أنك ابدلت حرم الله بعد الأمن بالخليفة وفعلت ما يحمر به الوجه .. وتسود الصحيفة ، ومن العجب كيف تفعلون وجدكم الحسن وتقاتلون حيث لا تكون الفتن ولا تقاتلون حيث تكون الفتن هذا وأنت من أهل الكرم وسكان الحرم فكيف آويت المجرم واستحللت دم المحرم ومن يهن الله فما له من مكرم ، فاما أن تقف عند حدك والا اغمدنا فيك سيف جدك والسلام».

وقد أجابه أبو نمي معتذرا عما حدث (٢) ولا يعتذر أبو نمي الا لخلال سيئة ارتكبها ، ونعتقد أنها كانت في غير موضوع القتال مع آل قتادة في المدينة لأن موقفه من آل قتادة موقف المدافع عن امارته الا أن يكون آل قتادة ـ وقد كانت

__________________

(١ و ٢) افادة الانام للشيخ عبد الله غازي «مخطوط»

٢٩٥

تجمعهم بسلطان المماليك في مصر مودة عظيمة ـ قد أوغروا صدر الظاهر بيبرس على أبي نمي اذا صح هذا فمن الطبيعي أن يعتذر أبو نمي اعتذار الضعيف الذي لا يملك من القوة ما يقاوم به جنود المماليك في مصر.

اعتذر أبو نمي ونحن نعتقد أنه لم يكن في اعتذاره مخلصا كل الاخلاص ، وأنه ما لبث أن عاد الى عناده مع مماليك مصر وليس للضعيف المستعصي على الطاعة من حيلة أمام القوي الا العناد في الحدود التي يستطيع أن يمارس فيها عناده ، لهذا لا عجب ان يؤدي العناد الى استثناف فرض المكوس واهمال بعض شؤون الحراسة خصوصا فيما يتعلق بالركب المصري ، ولا عجب أن يتصل بحكومة الرسوليين سرا في اليمن ويتقبل هداياهم ويختفي بركبهم في مكة ، ولعله كان يقدهم على ركب المصريين .. ويدلنا على هذا جميعه ما يذكره الفاسي من أن الملك المنصور قلاوون الألفي (١) كتب الى أبي نمي في عام ٦٨١ يستحلفه بأن يخلص طويته ولا يضمر للمماليك غدرا ولا يلتفت الى جهة غير جهتهم!! وألا يقدم غيرهم عليهم وأن يبيح زيارة البيت للعاكف والبادي وأن يؤمن سيرهم وأن يفرد الخطبة والنقود باسمهم وأن لا ينقض ذلك.

وقد حلف أبو نمي صيغة اليمين التي طلبوها منه وكأني به لا يملك سبيلا الى العصيان ولعله شعر أن الجهة التي يعرضون بها فيما استحلفوه ـ وهم الرسوليون في اليمن ـ لا يملكون مناصرته ضد مماليك الأتراك في مصر.

__________________

(١) المنصور قلاوون أحد سلاطين المماليك في مصر وكان قد تغلب على السلطنة وانتزعها من أولاد بيبرس في عام ٦٧٨ وقد سمي الالفي لان صاحبه اشتراه يوم كان مملوكا بألف دينار.

٢٩٦

فإن الفاسي يحدثنا أن أبا نمي ما لبث أن نقض بعض الشروط الخاصة بالدعاء في الخطبة للمماليك ولعله كان متأولا الى أن يقول : حلف أبو نمي يمينه ولعله كان لا يضمر الوفاء وهو تأويل غير مستقيم (١).

وفي عام ٦٨٣ هجم جماعة من آل قتادة على مكة واستطاعوا أن يجلو أبا نمي عنها ، ثم ما لبث أن عاذ اليها بعد أن اجلاهم ، ونحن نعتقد أن لهجوم آل قتادة علاقة بغضب مماليك مصر واستيائهم من أبي نمي.

ويؤيد ما نذهب اليه ما يذكره صاحب الارج المسكي تعقيبا على هذا الحادث فهو يقول ما خلاصته .. ثم ورد جيش من مصر مع الحاج لاخراج أبي نمي من مكة فمنعه أبو نمي من دخولها واغلق أبواب السور فاقتحم المهاجمون السور من جهة الشبيكة ففر أبو نمي هاربا من الباب الآخر الى منى ثم تربص لقائد جيش المماليك حتى قتله ثم أمر أن ينادي في الناس ان من قتل رجلا من المماليك فله فرسه وسلبه ففتكت العرب بجيش المماليك وأخذوا خيلهم وعاد الهاربون منهم الى مصر وذلك في نهاية عام ٦٨٣ ومن الطبيعي أن يكون لوصول أخبار الهزيمة الى مصر أسوأ الأثر لدى صاحبها المنصور قلاوون وأن يأمر بتجنيد حملة لاستئصال أبي نمي وقد فعل ذلك وعزم على قيادة الجيش بنفسه الى مكة لولا أن ثبطه عالم في مصر كان معروفا بتقواه وصلاحه فقد دخل عليه وهو يأمر بالتأهب فقال : الى أين تمضي بمقاتلتك؟ فقال : أمضي الى استخلاص الحرم من أبي نمي .. فقال إنك حسنت العبارة ولكن الناس لا يقولون هذا .. انهم يقولون انك ذاهب الى القتال في حرم الله وقتل أولاد الرسول ، فوقع ذلك من

__________________

(١) العقد الثمين للفاسي «مخطوط»

٢٩٧

السلطان موقعا ثبط من عزمه (١).

واستمر أبو نمي بعد هذا على أمره وظل يخطب للمماليك في مصر ويتلقى اعانتهم بالرغم من جفاء العلاقة بين الطرفين.

وفي عام ٦٨٩ توجس أبو نمي شرا من عسكر ابن عقبة أمير الحج الشامي فأمر بمنعه من دخول مكة وأغلق ابواب سورها فتسلق أجناد ابن عقبة السور من جهة الشبيكة وساعدهم بعض أجناد المصريين ثم احرقوا باب السور فانثال العسكر الشامي والمصري منه الى مكة وحدث الاشتباك واشتد القتال عند درب الثنية (٢) بالشبيكة ثم اتصل بالمسجد الحرام وكان عدد السيوف التي شهرت به نحو عشرة آلاف سيف ، وقد قتل من الفريقين نحو اربعة آلاف وجرح خلق كثير (٣).

الخطبة للرسولين في اليمن : وهكذا ظلت مكة تعاني من المتاعب التي جرتها مشاكل العناد بين أبي نمي وأصحاب مصر من المماليك أهوالا شديدة حتى عن لأبي نمي أن يسفر عن قناعة ويقطع علاقته بمماليك الأتراك ويعلن تأييده للجهة المضادة في اليمن فألغى الدعاء للملك الأشرف خليل في مصر وأثبت اسم المظفر ملك الرسوليين في اليمن مكانه ابتداء من آخر يوم في ربيع الأول سنة ٦٩١.

__________________

(١) الارج المسكي الطري «مخطوط»

(٢) الثنية هي القطعة المرتفعة من الأرض بين الشبيكة ونهاية حارة الباب ، وذكر لي الأستاذ حمد الجاسر انه لا يستبعد ان الشبيكة سميت باسم رجل كان يدعى شبيكة الحسني لأن صوفي الشاعر يقول :

ببات شبيكة الحسنى

وهي صبرى فواحزنى

ويجوز ان اوافقه على هذا أو أسميها شبيكة لأنها كانت موضع اشتباك وقتال عدة مرات في الهجوم على مكة والدفاع عنها.

(٣) الارج المنسكي «مخطوط»

٢٩٨

وفي هذا العام جهز المظفر صاحب اليمن محملا تلقاه أبو نمي بالاجلال والتكريم فخفقت أعلام الرسوليين في ذاك اليوم على جبل عرفات وأعلن المؤذن على قبة زمزم مناقب المظفر على رؤوس الأشهاد.

وتسلم أبو نمي هدايا اليمن وفيها كثير من المال والغلة والكساوى والطيب والمسك والعود والصندل والعنبر والثياب الملونة والخلع النفيسة وقدر المال بمبلغ ثمانين الف درهم والغلة بمبلغ ١٢٠٠ غرارة من كيل مكة ـ في عصر الفاسي ـ كما قدر الجميع بما يوازي ثلاثة أمثال ما ترسله مصر الى صاحب مكة سنويا (١)

ولا نشك في أن ما فعله أبو نمي كان تحديا ظاهرا للمماليك في مصر ومن الصعب أن يجرأ أبو نمي على مثل ذلك دون أن يتعرض لسخطهم ونقمتهم ولكن من يعرف إقدام أبي نمي على المجازفات لا يستغرب منه هذه الجرأة سيما وأنه كان الى جانب اقدامه بشيء من بعد النظر فهو لم يخط خطوته الحاسمة في عهد المنصور قلاوون ولا في عهد بيبرس قبله لأن قوة المماليك في عهد هما كانت غيرها في عهد الأشرف خليل الذي منيت أيامه بكثير من الفتن الداخلية التي اودت بحياته فيما بعد ، يضاف الى ذلك أن الأشرف كان مشغولا بحرب التتار أكثر مما كان عليه الامر في عهد أسلافه فلا عجب أن يهتبل الفرصة أبو نمي فيجازف بورقته الأخيرة ويعلن قطع العلاقات ولا عجب اذا رأينا مصر تقابل ذلك بالصمت.

ودليلنا على هذا الصمت أن المؤرخين لم يذكروا من حوادث مكة ما يدل على الفتن في هذا العام وما بعده الى عدة اعوام الا ما اورده الفاسي ، فقد ذكر انه

__________________

(١) العقد الثمين

٢٩٩

وجد بخط ابن محفوظ أن أمير الركب المصري في سنة ٦٩٢ استحلف أبا نمي على الذهاب معه الى مصر ـ وأعطاه ألف دينار وأن أبا نمي خرج معه الى ينبع ثم عاد لما بلغه موت الأشرف (١).

واستحلاف أبي نمي على الخروج فيه شيء من رقة الضعيف والذي احسبه أن أمير الركب أراد بذلك أن يصلح بينه وبين مصر ، وأن أبا نمي بعد أن رضي عاد الى النكوص لأن موت الأشرف احيط بفتن قاسية خشي أن يعرض نفسه أثناءها للثائرين ففضل العودة.

على أن علاقة أبي نمي باليمنيين لم تكن خالصة ـ فيما اعتقد كل الإخلاص ، وإنما هي صداقة لا بد له منها لمناوأة الطرف المناقض في مصر والإنتفاع بما تدره اليمن من خيرات وهدايا ، فقد ظل أبو نمي يفرض مكوسه على اليمنيين كما يفعل مع غيرهم ، وكان يأخذ عن كل جمل منهم ثلاثين درهما ، ثم لا يتركهم يسلمون من العسف (٢) ويبدو أن الأحوال في مكة استقرت على أثر ذلك ، وبدأت مكة تزدحم بوفود الحجاج ، وكان من جملة حجاج هذه السنوات أمراء من مماليك مصر ، فقد حج أنس بن الملك العادل ابن بيبرس في عام ٦٩٤ ، وحج في عام ٦٩٧ الخليفة العباسي الحاكم بأمر الله الذي كان يقيم في مصر على أثر وقائع التتار (٣) كما حجت أم المستعصم في إحدى هذه السنوات.

وعمت خيرات هؤلاء جميع السكان في مكة ، واتصلت منحهم بكثير من بيوتها ، وبزتهم جميعا أم المستعصم فقد أنفقت الأموال ما وسعت به على الناس

__________________

(١) العقد الثمين «مخطوط»

(٢) سمط النجوم للعصامي

(٣) شفاء الغرام للفاسي ٢ / ٢٤٢

٣٠٠