تأريخ مكّة دراسات في السياسة والعلم والاجتماع والعمران - ج ١-٢

أحمد السباعي

تأريخ مكّة دراسات في السياسة والعلم والاجتماع والعمران - ج ١-٢

المؤلف:

أحمد السباعي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الطبعة: ٠
ISBN: 9960-660-17-6
ISBN الدورة:
9960-660-18-4

الصفحات: ٧٩٣

بعد ما قاسوه من الشدائد في أزمات السنين السابقة. وكم كنت أتمنى لو عاش هذا البلد كبيرا على المتصدقين غنيا بسواعد بنيه عن كل ما ينفحه المحسنون والمتصدقون.

يومان في عرفة : ومن غرائب عام ٦٨٨ أن الناس وقفوا في عرفات يومي الجمعة والسبت لاختلاف ثبوت الرؤيا لدى أمير الركب الشامي عنها لدى الشيخ محي الدين الطبري شيخ الفقه في الحجاز (١) وليست هذه أول حادثة من نوعها فقد تكرر مثلها عدة مرات في تاريخ مكة ، وذلك أن كل ركب كان يعتمد فتوى خاصة به ، ولو كان مصدر الفتوى بين المسلمين موحدا لما وجد مثل هذا الخلاف.

وفي عام ٦٩٨ حدث نزاع في مكة بين الأهالي ورجال البادية ، ويسمونه «هوشه» وكان عدد القتلى نحو ١١ شخصا (٢).

ودام حكم أبي نمي إلى أن توفي في صفر عام ٧٠١ نحو ٥٠ سنة قضى بعضها شريكا مع أبيه ثم عمه أدريس ، وقضى البعض الآخر منفردا بالإمارة إلا في بعض الأيام التي غلب على أمره فيها ، وقد ترك أبو نمي نحو ثلاثين ولدا بين ذكر وأنثى كان يعتد بأكثرهم في ما مر به من شدائد (٣).

وشيع أبو نمي في جنازة طافوا بها حول الكعبة سبعا على عادتهم قبل الدفن.

وقد ذكر الحافظ الذهبي أبا نمي فقال : إنه عاقل سايس شجاع محترم. وقال الفاسي ذكره أبو عبد الله الدماهي فأثنى عليه ، وقال : لولا المذهب لصلح

__________________

(١) المصدر نفسه ٢ / ٢٤١

(٢) المصدر نفسه.

(٣) خلاصة الكرم للدجلان ٢٨

٣٠١

للخلافة فقد كان زيديا كأهل بيته (١).

أولاد أبي نمي يتنازعون الامارة : وتنازع الإمارة بعد أبي نمي أربعة من كبار أولاده هم رميثة وحميضة وأبو الغيث وعطيفة ، وقد دام نزاعهم من سنة ٧٠١ الى سنة ٧٣٧ أي نحوا من ست وثلاثين سنة ، انتهى الأمر في نهايتها إلى رميثة.

وفيما نلخص أهم الحوادث عن ذلك :

ما كاد يقضي أبو نمي حتى انقسم القواد والاشراف في مكة الى حزبين ناصر أحدهما حميضة ورميثة وناصر الثاني أبا الغيث وعطيفة ، وقد استطاع الأولان أن يظفرا بالحكم دون الآخرين في العام نفسه ٧٠١ (٢).

وعلى أثر هذا الانتصار عمد رميثة وحميضة أصحاب الحكم الجديد الى سجن أخويهما أبي الغيث وعطيفة ، وقد لبث الأسيران فيه مدة ، ثم فرامنه إلى ينبع ، حيث اجتمعا بمن يناصر هما ، وأعدا عدتهما للهجوم على مكة.

وكان قد أوفى شهر ذي القعدة عام ٧٠١ على نهايته عندما أقبل الركب المصري في طريقه إلى مكة برئاسة أميره بيبرس الجاشكير ، وفي صحبته نحو ثلاثين من أمراء المماليك في مصر ، فوجد الأخوان الفاران الفرصة قد سنحت للكيد لأخويهما ، فاتصلا فورا بأمير الركب المصري وطلبا مساعدته لقاء الخطبة للماليك ، فقبل أمير الركب.

وليس ما يمنع أمير الركب المصري من مساعدة الأخوين الفارين وقد وضعا بين

__________________

(١) العقد الثمين «مخطوط»

(٢) اتحاف الورى لابن فهد القرشي «مخطوط»

٣٠٢

يديه الفرصة التي كان المماليك يبحثون عنها ، لهذا تقدم الركب فهاجم مكة بعسكره ، وساعده أبو الغيث وعطيفة على رأس انصارهما ، واستطاعا أن يملكا مكة ويتقلدا امارتها .. وأسر عسكر المماليك حميضة ورميثة وسيروهما الى مصر في صحبة الركب ، فظلا في القاهرة الى سنة ٧٠٣ (١).

وفي هذه السنة نجد أن المأسورين رميثة وحميضة استطاعا أن يقنعا الملك الناصر سلطان المماليك في مصر باستئناف العودة إلى حكم مكة ، وتعهدا له بالدعاء والطاعة ، وقد رضي الملك بذلك ، والمعتقد أنه اعانهما بقوة عظيمة بقيادة نائب السلطنة في مصر «سيف الدين سلار» لأننا نجد الفاسي (٢) يذكر في حوادث ٧٠٣ نقلا عن البرزالي أن نائب السلطنة المذكور حج في هذا العام على رأس قوة عظيمة يصحبه خمسة وعشرون أميرا. وقد ذكر ابن ظهيرة عودة المأسورين رميثة وحميضة في هذا العام نفسه إلى الحكم ، فنستطيع أن نستنتج من خلال الروايتين أن نائب السلطة في قوته العظيمة اصطحب رميثة وحميضة من مصر ليساعدهما ضد أبي الغيث وعطيفة ويعيدهما إلى مكانهما في الحكم.

وقد هاجمت القوة مكة هجوما عنيفا لاقى فيه أهل مكة والحجاج كثيرا من الشدة واشتبك القتال في عدة مواضع من مكة ، ولم يدم ذلك طويلا ، لأن قوة أبي الغيث وشريكه كانت أضعف من أن تصمد أمام قوة المماليك المهاجمة ، فلم يلبث أبو الغيث وشريكه أن أجليا عن مكة وتولى حكمها أخواهما رميثة وحميضة ، ثم قبض على أبي الغيث وشريكه وأرسلا الى مصر (٣).

واصطحب قائد حملة المماليك في هذا العام معه الى مكة عشرة آلاف أردب

__________________

(١ و ٣) شفاء الغرام للفاسي ٢ / ٢٤٢

(٢) اتحاف الورى لابن فهد القرشي «مخطوط»

٣٠٣

قمح لتوزيعها على فقراء مكة والمجاورين ، وقد وزعها على أثر انتصاراته ، كما وزع الأمراء الذين صحبوه من المماليك والأتراك أموالا طائلة على المجاورين في مكة والأشراف ، وقد فعلوا مثل هذا في المدينة ، وبهذا استتب الأمر من جديد لرميثة وأخيه حميضة ، ودانت القبائل لهم في مكة وأمنت الطرق وألغيت بعض المكوس ، وبدأت مكة تستقبل عهدا فيه شيء من الطمأنينة ، كما بدأ نفوذ المماليك ينشر ظلمه فيها.

وساعد الأمن على اقبال الحجاج ، فقد توافد الى الحج في السنوات التالية عام ٧٠٤ و ٧٠٥ من حجاج مصر والمغرب وبلاد العراق والعجم عدد لا يحصى (١).

ثم ما لبث أن تغير الأمر وشرع رميثة وحميضة يحدثان بعض المكوس على الحجاج ، فظل العمل جاريا بذلك سنوات حتى قيل أن كثيرا من الحجاج انتقد هذه المكوس ، وأن المماليك في مصر رأوا إلغاءها ، ولكن رميثة وشريكه أبيا إلا أن يظل العمل بها لاستخدامها في مرافق الحكومة واقامة الأمن وتحصين السبل ، أو أنهما شعرا بأن موافقتهما على ابطال المكوس فيه رضاء بتدخل مماليك الأتراك في شؤونهم الداخلية أكثر مما يجب.

ويبدو أن أحداث المكوس بحجة تأمين السبل كان له رد فهل خاص ، فإن الحجاج الذين يدفعون الضريبة لقاء تأمينهم يسيئهم أن يضطرب حبله بأبسط الحوادث ، وقد وقعت بعض حوادث في موسم عام ٧٠٥ كان لها ما بعدها ، فقد اشتبك جماعة من المكيين مع فريق من البدو في «هوشه» بسوق منى ، والظاهر أن بعض المفسدين يحلو لهم استغلال الفتن ليستفيدوا من النهب ، وقد

__________________

(١) شفاء الغرام للفاسي ٢ / ٢٤٣

٣٠٤

فعلوا ذلك بمناسبة هذه الهوشة فاتصل الخبر بأمير الحج المصري قبل أن يتصل بأصحاب الحكم فرأى أن دفع ضريبة الأمن لا يتفق مع حركات النهب وكأنه أراد أن يؤدب أصحاب الفتنة بسيفه بدلا من أن يحيل الأمر الى صاحب مكة فتطور الحال وتفاقمت حوادثه وانطلق العسكر المصري خلف أصحاب الفتنة فهرب المكيون في الجبال وانطلق معهم جماعة من البدو وسيطر المماليك بقوة سلاحهم وسطا أمير الحج المصري على جماعة من البدو فقدمهم قربانا عوضا عن البدن التي كان يريد أن ينحرها (١).

ولعل حادث الفتنة في هذا الموسم بالاضافة الى اصرار رميثة وحميضة على فرض المكوس ترك أثره في حجاج الشام ومصر وأوغر صدر سلطان المماليك الناصر محمد بن قلاوون فأسرها في نفسه .. وبدأت المواسم التالية قليلة المحصول لقلة الوارد من الشام ومصر وانقطاع العراقيين من سنوات وظل الأمر على حاله تقريبا الى أن رأى الملك الناصر أن يضرب رميثة وحميضة بأخيهما أبي الغيث فأعد عدته للحج وخرج بنفسه على رأس مائة فارس وستة آلاف مملوك على الهجين في عام ٧١٢ فاحتل مكة بعد أن اجلى رميثة وحميضة وولى مكانهما أبا الغيث.

ويبدو أن الأشراف في مكة وكثيرا من سكانها البدو والحاضرة كانوا أميل الى رميثة وحميضة منهم الى أبي الغيث لهذا ما كاد يستقر الأمر لأبي الغيث بسلاح الملك الناصر حتى استأنف الأهالي مناوأته فعانى كثيرا في حكمهم طوال عامي

__________________

(١) شفاء الغرام للفاسي ٢ / ٢٤٣ وقد اختلفت الروايات عنده فى تاريخ وقوعها بين سنة ٧٠٥ وسنة ٧٠٧. ويقول صاحب درر الفوائد المنظمة انها كانت سنة ٧٠٥ ه

٣٠٥

٧١٣ و ٧١٤ وفي سنة ٧١٥ التفوا جميعا حول حميضة وهاجموا أبا الغيث فقتلوه وبذلك تم الامر من جديد لحميضة دون شريكه واخيه رميثة الذي كان غائبا (١).

الخطبة للتتار : وما كاد يستقر الأمر لحميضة حتى هاجمه أخوه رميثة ففر حميضة ملتجئا بالتتار في العراق واستعان بجيش منهم للهجوم على مكة وبذلك استخلصها من أخيه ثم قام يدعو لهم وكان ذلك في سنة ٧١٨ وقد كبر ذلك على المماليك في مصر فأعانوا عطيفة شريك أبي الغيث فهاجم أخاه حميضة هجوما عنيفا واستطاع أن يستعيد امارة مكة بعد ان قتل حميضة في سنة ٧١٨ (٢).

وبقتل حميضة وعودة عطيفة الى الامارة عاد نفوذ الأتراك المماليك الى مكة.

وفي هذا العهد حج الملك الناصر حجته الثانية وذلك في سنة ٧١٩ وقد اصطحب معه نحو خمسين من امراء المماليك وكثيرا من اعيان دولته في الشام ومصر وأنفق فى سبيل الاحسان أموالا طائلة.

وتوالت السنة التى بعدها (٧٢٠) فازدحم الموسم بعدد وافر من الحجاج ويذكر المؤرخون ان هذا الموسم حظى بكثير من اعلام العلماء.

وفى هذا العام أحيا الحجاج سنة كانت متروكة وذلك أنهم صلوا الصلوات الخمس بمنى يوم التروية وأقاموا بها الى أن أشرقت الشمس على ثبيرا (٣) وتوجهوا الى عرفة (٤).

__________________

(١) المصدر نفسه

(٢) خلاصة الكلام للسيد أحمد زيني دخلان ص ٣٠ ويذكر الغازى فى افادة الانام ان حميضة قتل غيلة بيد أحد المماليك الأتراك في سنة ٧٢٠

(٣) ثبير ككبير : الأثيرة بمكة كثيرة يطول الحديث عنها. انظرها ج ٢ من معجم معالم الحجاز (ع)

(٤) منائح الكرم للسنجارى «مخطوط»

٣٠٦

ولم يذكر السنجاري تعليلا لاجماع الحجاج في هذا العام على احياء هذه السنة بعد تركها والذي أظنه أن اجتماع أكبر عدد من أعلام العلماء في موسم ذلك العام كان له أثر في اجتماع الحجاج على ما فعلوا فقد يكونون تدارسوا الفكرة في مجتمعاتهم بمكة ثم حبذوها واعلنوها في الناس فاتبعها الناس.

ووقف الناس في هذا العام يوم الجمعة دون أن يكون بينهم خلاف وقد كانت تتمة مائة جمعة وقفها المسلمون من عام الهجرة الى ذلك اليوم.

ويقول السنجاري أن الشيخ رضى الدين الطبري إمام مكة كان يقول اني حججت مدة عمري فلم أر أكثر زحاما من هذا الموقف (١).

وحج في عام ٧٢٤ ملك التكرور (٢) وكان اسمه موسى فوصل مكة في ١٥ ألفا من اتباعه فتحرش بعض الأتراك بهم فكانت فتنة شهرت السيوف فيها في المسجد ولم يخمدها الا ملك التكرور الذي أمر أتباعه بالكف فكفوا (٣).

وأعاد عطيفة الدعاء لسلطان المماليك الناصر محمد بن قلاوون ولعل هذا أساء ملك التتار بالعراق فأراد أن يشتري عطيفة بالأموال والهدايا لأننا نجد في حوادث هذا العام ٧٢٠ أن الركب العراقي حج في أحمال كثيرة من الهدايا والتحف والأموال (٤) ولا نشك في أن أوفر نصيب في هذه الهدايا كان من حظ عطيفة كرشوة مقابل الدعاء له الا أنهم لم يظفروا بذلك لان عطيفة يدين بنجاحه في الامارة للملك الناصر في مصر.

__________________

(١) المصدر نفسه

(٢) التكرور بلدة في صحراء جنوب افريقيا الشرقي سمي بها اهل المقاطعة ونسميهم اليوم تكارنة

(٣) خلاصة الكلام للشيخ أحمد دحلان ٣٠

(٤) شفاء الغرام للفاسي ٢ / ٢٤٤

٣٠٧

وظل عطيفة في حكمه على مكة الى عام ٧٢٨ أو نحو ذلك بعد أن فقد أخاه الشريك أبا الغيث وأخاه الخصم حميضة في سبيل الحكم ولم يبق امامه في الميدان الا أخوه «رميثة» الذي أجلته عن مكة جيوش مماليك الاتراك التي كانت تؤيد الطرف الذي فيه عطيفة على الطرف الذي كان فيه رميثة.

حكم رميثة : ولم ينم رميثة عن ثأره بالرغم من التأييد الذي كان يلقاه أخوه عطيفة من المماليك بمصر وبالرغم من انشغال التتار ـ بحروبهم الداخلية ـ عن مظاهرته.

لم ينم عنه فقد اعتمد على نفسه وشرع يؤلب القبائل على أخيه ويراسل أشراف مكة الذين ظلت أغلبيتهم الساحقة على ولائهم له كرها لعطيفة وانتقادا لاحتمائه بمماليك الأتراك الذي أضاع كثيرا من استقلال مكة وأفقدها حيوية الحكم.

وقد نجحت أعمال رميثة ضد اخيه واستطاع أن ينتزع منه الحكم حوالي عام ٧٢٩ أو ٧٣٠.

وعلى أثر انتقال الحكم الى رميثة عاد الركب العراقي بالرغم من فتنه الداخلية يواصل مجيئه الى مكة وكان قد امتنع عنها في السنوات التي يحكمها عطيفة وفي هذا ما يؤيد رأينا في تأييد العراق لحكم رميثة.

وينقل الفاسي عن البرزالي عن العفيف الطبري وهو من علماء مكة في هذا العهد أن الركب العراقي حج في عام ٧٣٠ وفي صحبته فيل وقف معهم في جميع مواقف الحج ثم اصطحبوه الى المدينة ولكنه مات قبل ان يبلغها بأقل من مرحلة ، الى ان يقول وما عرفت مقصد ابي سعيد بن خربندا (١) من ارسال الفيل

__________________

(١) هو ملك التتار في العراق ، وقد ذكروا ان من عادة التتار أن يتفاءلوا بأول حيوان يدخل وقت ولادة المولود فكان الداخل حمارا ويسمونه «خر» فسموه خربندا.

٣٠٨

مع الركب العراقي (١).

والذي أقوله أنني لا استبعد أن يكون مقصده الضجة والشهرة بما فيهما من اعلان عن العراق وركبه وحكومته وهي وسائل أصبحت اليوم معروفة في الاوساط التي تتفنن في وسائل الاعلان.

وينقل الفاسي (٢) عن البرزالي أن جماعة من بني حسن هاجموا مكة في هذا العام ٧٣٠ واشتبكوا مع العراقيين في قتال عنيف لعبت فيه السيوف ودخل لفرسان بخيلهم الى المسجد ونهبت الاسواق وكاد أن يفني الحجاج عن آخرهم والذي اعتقده انها فتنة أرادها عطيفة وأنصاره من بني حسن ضد اخيه رميثة.

ولم يسكت عطيفة عن اخيه رميثة فقد شرع يناوئه بما يجتمع اليه من القبائل ثم ما لبثت أن اشتدت المناوأة في عام ٧٣١ واحتدم بينهما القتال.

ولما وافى الركب المصري في هذا العام كان القتال على أشده بين الأخوين فلم يخرج رميثة لاستقبال الركب على جري العادة ولم يتصل عطيفة بأمير لركب أو يلاقيه ولعله كان مستاءا من قعود مصر عن مناصرته ضد رميثة فعاد امير الركب بعد الحج يشكو الى الناصر قلاوون جفاء الأخوين له ويصف لفتن القائمة في مكة بينهما فكتب الناصر الى الأخوين يطلب حضورهما الى مصر فرفض الاخوان الشخوص اليه واتفقا على الصلح وان يقطعا معا علاقتهما به

ولما علم الناصر بذلك شق عليه الامر وأمر بتجريد حملة عسكرية الى مكة تستأصل الأخوين وكل من يلوذ بهما من أشراف بني حسن وقوادهم عبيدهم وأوصى قائد الحملة أن يستحل دم كل من بقي منهم فيها وأن يحرق ادي

__________________

(١) شفاء الغرام للفاسي ٢ / ٢٤٦

(٢) شفاء الغرام ٢ / ٢٤٥

٣٠٩

نخلة (١) حتى لا يدع فيه شجرة مثمرة ولا دمنة عامرة وأن يخرج نساءهم من جميع المنازل في مكة وما حولها.

وكان القاضي جلال الدين محمد القزويني حاضرا في مجلس الناصر فقام يعظه ويذكره بوجوب تعظيم الحرم ويقترح عليه أن يكتب بتأييد رميثة في الحكم وان يمده بقوة عسكرية تساعده على تأمين البلاد فاستحسن الناصر رأيه وانتدب من جنده ستمائة فارس أرسلهم الى مكة مع كتاب تأييد رميثة.

وقد فصل الجند من القاهرة في نصف صفر عام ٧٣١ فوصل الى مكة في العشر الاول من ربيع الآخر ، وبوصولهم ارتاب الأخوان في أمرهم وشرعا يعدان مقاتلتهما للدفاع عن مكة فكتب قائد الجند الى رميثة يخبره بجلية الامر واتصل به من اكد له ذلك وأقسموا له اغلظ الايمان حتى اطمأن اليهم وركب واياهم الى المسجد حيث تقلد خلعة السلطان وتقبل هداياهم ، ثم ما لبث قائد الجند أن عاد الى مصر بعد أن ترك الجند لخدمة رميثة (٢)

وقد نقل القلقشندي في صبح الاعشى صورة المرسوم الذى تسلمه رميثة بتأييد امارته وقد جاء فيه : «اقتضت آراؤنا الشريفة أن نقيم رميثة في بلده أميرا مفردا اليه يشار ، وان نصطفيه وأنه عندنا لمن المصطفين الاخيار والإمرة وان كانت بيد غيره هذه المدة فما كان فى الحقيقة أمير عندنا سواه لأنه كبير بيته المشكور من سائر الافواه!!».

وفي ذلك ما يشير الى رأينا في أن الناصر كان يؤيد عطيفة ضد أخيه حتى بدا له

__________________

(١) لعله وادى نخلة الشامية ويمتد من وادى فاطمة الى المضيق

(٢) افادة الأنام للشيخ عبد الله غازى «مخطوط»

٣١٠

أن رميثة أولى بالتأييد لثباته وقوته واجتماع الأهلين حوله كما بدا له أن فى ذلك ضمانا للحيلولة دون انضمام رميثة الى فريق مضاد.

وحج الملك الناصر على اثر هذه الحوادث فى هذا العام ٧٣٢ (١) حجته الثالثة في موكب حافل كان يضم نحو سبعين أميرا من المماليك وجماعة كبيرة من أعيان الفقهاء المصريين ولا ندهش من وفرة عدد أمراء المماليك في مثل هذا الموكب لان الناصر كان لا بد له من أن يحشد هؤلاء في موكبه ليأمن غائلتهم والمعارضين منهم اذا ظلوا في مصر بعد غيابه عنها.

وقد حج في موكبه طائفة كبيرة من اعيان الفقهاء المصرين واستقبل الجميع رميثة استقبالا حافلا فترك الاهلين يخرجون الى خارج مكة احتفاء بمقدمهم ووزع الملك الناصر أعطياته وهداياه حتى شمل ذلك أكثر الأسر والأفراد (٢)

وفي سنة ٧٣٤ اتصل عطيفة بمصر ثم جاء بكتاب من الناصر الى أخيه ليوليه نصف الامارة فقبل رميثة ثم عاد فأخرجه منها ثم عاد فقبله بوساطة الناصر ، وظلا على وئام الى سنة ٧٣٦ ثم عادا مرة اخرى الى الخلاف فرحل عطيفة الى مصر وبقي فيها الى ان مات عام ٧٤٣ وبذلك استقر الأمر لرميثة (٣)

وفي موسم عام ٧٤١ وقف الحجاج في عرفة يومي الجمعة والسبت تفاديا من الشك (٤).

وفي سنة ٧٤٣ حج صاحب اليمن الملك المؤيد ـ الرسولى ـ وحاول مماليك الأتراك في مصر أن يؤثروا في رميثة لضيق على صاحب اليمن في منازله بعرفة ،

__________________

(١ و ٤) شفاء الغرام للفاسى ٢ / ٢٤٦

(٢) بلوغ القرى لعبد العزيز بن فهد القرشى

(٣) افادة الأنام للشيخ عبد الله غازى «مخطوط»

٣١١

ولعلهم أرادوا أن يمهدوا بذلك الى اثارة الخلاف بينهما تحاشيا من نتائج الاتفاق بين اليمن ومكة ولكن رميثة كان أفطن من أن يتأثر باقتراحات مصر فقد قابله احسن استقبال ووكل به جماعة من الاشراف والقواد ليقوموا بخدمته ، وقد وزع في مكة اموالا طائلة وحمل اليها هدايا عظيمة ، وأراد أن يترك لنفسه أثرا في مكة فاقترح على رميثة أن يكسو الكعبة ويجدد بابها فأبى رميثة ذلك عليه تحاشيا من أن يتطور الموقف بينه وبين مصر الى حد لا يمكن تلافيه وقد ساء ذلك صاحب اليمن وسافر وهو غير راض عنه بعد الذي كان من اكرامه وخدمته (١).

على أن رميثة وان أغضب صاحب اليمن فانه لم يرض صاحب مصر فقد حفظ عليه الناصر عنايته بصاحب اليمن وانتداب الاشراف لحمايته من المصريين في عرفة.

ويبدو لنا اثر هذه الحفيظة واضحا عندما استدعى الملك الصالح بن الناصر صاحب مصر ابنا لرميثة اسمه عجلان في عام ٧٤٦ واقنعه بنقل الامارة اليه.

ولا يبعد ان عجلان كان يستعير العجلة من اسمه أو أنه أدرك أن أباه قد طعن في السن وأنه اذا تردد في قبول الامارة فسيرشح غيره لها من اخوانه أو أقاربه ، لهذا قبل من غير تردد وتعهد للسلطان أن يسوي الامر بنفسه مع ابيه في مكة.

وأعتقد أن شخصا غير عجلان لا يستطيع اقناع ابيه بالتنازل عن الامارة لاصراره على الثقة بنفسه وعناده ولكن عجلان استطاع أن يقنع أباه ليتخلى عن الامارة لقاء ٦٠ ألف درهم يقدمها له كتعويض ، وبذلك ترك رميثة له شؤون الحكم بعد أن دام فيه نحو ٤٥ سنة اعتزل في أثنائها عدة سنوات ثم عاد شريكا في بعض المرات ومنفردا في غيرها ، وكانت مدة حكمه منفردا تضاهي نحو عشر سنوات.

__________________

(٣) شفاء الغرام للفاسى ٢ / ٢٤٧

٣١٢

عجلان بن رميثة واخوانه : تولى أمر مكة بعد ذلك عجلان بن رميثة في جمادي الآخرة عام ٧٤٦ وشعر أن اخويه سند ومغامس يتطلعان الى مشاركته فأبعدهما الى وادي نخلة ثم ما لبث أن الحق بهما اخاه الثالث ثقبة (١).

وتولى في هذا العام ٧٤٦ سلطان المماليك الكامل شعبان فكتب الى مكة يؤيد عجلان ويخبره أن اخوانه وصلوا الى مصر فاعتقلوا فيها فأمر عجلان بتزيين الأسواق وكان والده رميثة مريضا فما لبث أن توفي أيام الزينة فطيف بنعشه وقت صلاة الجمعة حول الكعبة ودفنوه بالمعلاة في ذي القعدة من العام المذكور (٢).

وفي سنة ٧٤٧ اطلق الاخوان الثلاثة من مصر واعطوا مرسوما بالموافقة على اشتراكهم في امارة مكة مع أخيهم عجلان على أن تكون لهم نصف البلاد ولأخيهم عجلان النصف الباقي وحده (٣).

وفي هذا ما يدل دلالة قاطعة على أن المماليك الأتراك كان لا يعنيهم استقرار الأمر في مكة بقدر ما يعنيهم أن تبقى الخطبة باسمهم والا فأي معنى لاطلاق الاخوة الثلاثة وتزويدهم بمرسوم يخولهم حق الشركة ، ولست أعرف بالضبط معنى لشركة أشخاص اربعة في محيط أضيق من أن يتحمل الشركة.

انني لا ارتاب في ان الرؤوس المفكرة في دولة المماليك كانت ـ وهي تشعر أن الأشراف يتنافسون على حكم البلاد ـ لا يعنيها أن تعالج هذا التنافس بشيء من الحكمة بقدر ما يعنيها أن تحتكر الدعاء لاسمها.

__________________

(١) خلاصة الكلام للسيد أحمد زيني دحلان ٣١

(٢) منائح الكرم السنجارى «مخطوط»

(٣) افادة الانام «مخطوط»

٣١٣

أو انها كانت تعجز عن علاجه وتخشى ان تساعد شريكا آخر فيخونه التوفيق فتفقد استحقاقها للدعاء في الخطبة في نظر الغالب لهذا نراها لا تتصرف ضد المشاغبين لحاكم مكة الا في نطاق محدود وهي اذا تصرفت فأسرت المشاغبين أو أبقتهم لديها في مصر فانها تحاول أن ترضيهم ما وسعها ذلك وأن تقبل أياديهم وتحلهم في الصدارة في جميع مجالسها.

ذلك لانها تشعر أن أسراها اليوم لم يفقدوا كل آمالهم في الحكم وأنه لا بد أن يبلغهم أو ذراريهم اليوم الذي يقبضون فيه على زمام مكة وعند ذلك يثأرون لأنفسهم مما نالهم فيربطون علاقاتهم مع حكومة اخرى من حكومات الاسلام ويعلنون اسمها على منابرهم.

لهذا فهي تتصرف في نطاق محدود فلا عجب أن تمسك اخوان عجلان لتحول دون وصولهم الى مكة حتى اذا شعرت أنها أساءت اليهم وانهم باتوا ساخطين خشيت عاقبة السخط واطلقتهم ، وقد ترى نفسها مضطرة لأن تمنحهم مثل التأييد الذي منحته للحاكم في مكة ثم تتركهم ليتدبروا امورهم ويعالجوا قضاياهم بسيوفهم اذا قدروا او باسباب اخرى من أساليبهم العديدة التي ألفوها وتظل هي في مكانها ترقب الميدان لتتدخل بقدر ولا تضيع على نفسها استحقاقها في الدعاء باسمها.

وهكذا اطلقت الاخوة الثلاثة وتركتهم يمضون الى مكة فيناوئون صاحبها ويشهرون السلاح ضده.

وقد استطاعوا ان يجلوه عن مكة في عام ٧٤٨ فشدّ رحاله الى مصر ليبقى فيها مدة ثم يعود مقاتلا ليظفر بالامارة في شوال ٧٥٠ ويجلي اخوانه عنها

٣١٤

فيولون شطر اليمن (١).

القبض على ملك اليمن في منى : وفي عام ٧٥١ وصل الى مكة صاحب اليمن علي ابن المؤيد حاجا ، ولا استبعد ان يكون عجلان أوجس خيفة من قدومه بعد أن التجأ اليه في اليمن ثقبة واخوانه لهذا قابله باسوأ ما يمكن ان يقابل به ملك وافد فنجد الفاسي (٢) يذكر لنا في حوادث هذه السنة أن عجلان اتفق وامير الحج المصري على القاء القبض على ملك اليمن في منى ، وقد قصدوا الى مخيمه في صبيحة اليوم الثالث من أيام منى شاهرين أسلحتهم فقاتلهم أصحاب اليمن ساعة من نهار ثم تسامع الطامعون في النهب الخبر فأقبلوا ينحازون الى المهاجمين حتى تمت الغلبة لهم فنهبوا كل ما في المخيم من اموال ومتاع ودواب وسلم الملك نفسه فأسره أمير الحج المصري ثم قاده الى مصر دون أن يتركه ليتم شعائر الحج.

الا ان صاحب مصر الملك حسنا بن محمد بن قلاوون أحسن استقباله في مصر ثم سيره مكرما الى بلده من طريق الحجاز فلما كان بالدهناء (٣) قريبا من ينبع قبض عليه مرة اخرى لان حراسه وشوا به الى مصر بما غير عليه نفس الملك في مصر فأمر بالقبض عليه ، ثم نفاه الى بلاد الكرك (٤) في شمالي سوريا فظل الى ان عفا عنه مرة اخرى وأعاده الى بلاده فبلغ اليمن في ذي الحجة عام ٧٥٢.

واذا كان في هذا ما يدل على استياء عجلان من صاحب اليمن لإيوائه ثقبة واخوانه فان فيه كذلك ما يدل على تأصل روح العداء بين المماليك في مصر وأصحاب اليمن من اولاد علي بن رسول ولعله عداء قديم ورثه المماليك من أسلافهم

__________________

(١) شفاء الغرام ٢ / ٢٠٥

(٢) شفاء الغرام ٢ / ٢٤٧

(٣) قرية كانت عامرة بالضفة اليسرى من وادى ينبع ثم اندثرت ، تعرف خرائبها اليوم بالساقية (ع)

(٤) مدينة حصينة تتربع على تلال عالية بين الغور والصحراء في الاردن ، تبعد قرابة (٨٠) كيلا جنوب عمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية (ع)

٣١٥

الفاطميين في مصر فقد كان علي بن رسول جد أصحاب اليمن تابعا لأصحاب مصر من الفاطميين ثم ما لبث أن ثار عليهم وقطع علاقته بمصر فظل الجفاء مستحكما بينه وبين مصر حتى ورثه المماليك. فاذا استغل عجلان الفرصة وصور لهم أن صاحب اليمن يأوي اخوانه ليساعدهم غدا على احتلال مكة واقامة الدعاء له فيها فان ذلك بالاضافة الى العداء القديم كاف لاستثارتهم ضده واقناعهم بمهاجمته واصطحابه الى مصر مأسورا.

ثقبة يعود الى المناوأة : وأهل عام ٧٥٢ فأهلت معه منازعات ثقبة فقد ترك اليمن فيما يبدو وعاد الى الحجاز يناجز اخاه عجلان ويناجزه لأننا نرى فيما ينقل الغازي عن ابن فهد في حوادث سنة ٧٥٢ أن ثقبة اتخذ مقامه في وادي فاطمة وأنه أحاط بقوته بعض المراكب القادمة من اليمن واستحصل واخوانه من اصحابها ضرائب جمركية عنيفة وأمرهم أن يبيعوا بضائعهم في وادي فاطمة ثم قال : وجاء أمر سلطان المماليك بمصر الى الفريقين المتنازعين بالسفر الى مصر فامتنع ثقبة وأراد عجلان أن يسافر ثم عدل فاعتذر بعدم استطاعته ترك البلاد وفيها ثقبة واخوانه.

ثم لا نلبث ان نجد ثقبة في رمضان في مصر ليتسلم مرسوما جديدا بالامارة ويتلقى عروضا واعانات من رؤوساء المماليك ثم يفصل عائدا الى مكة فيناجز عجلان من جديد ثم يتريث حتى يقبل الركب المصري فيطلب منه العون عن فتح مكة فيمتنع ويغضب ثقبة لامتناعه ويهدده بمنع الركب من دخول مكة فتتفاقم المشاكل ويزداد الاضطراب ثم يعود الحال الى الصفاء. لأن امير الحج وفي صحبته قاضي مصر عز الدين بن جماعة يتوسطان في اصلاح الامر بين الاخوين وتوفيقهما على ان يحكما مكة بالاشتراك.

٣١٦

وقد ظل الحال على هذا مدة قصيرة ثم عاد الخلاف بين عجلان وثقبة فأجلى ثقبة عجلان ثم عاد عجلان فأجلى ثقبة (١).

ويبدو أن المماليك شعروا أن ثقبة يتجنى على أخيه وأنه لا بد من عمل حاسم مهما كلفهم ذلك فأسروا الى أمير الحج في عام ٧٥٤ أن يقبض على ثقبة بعد أن زودوه بقوة كافية من الجند فلما انتهى الركب إلى مكة علم أن ثقبة في وادي فاطمة فكتب أمير الحج يطلبه أن يوافيه الى الزاهر (٢) ليصلح بينه وبين أخيه فوافاه في نفر من أخصائه فاستقبله استقبالا طيبا وخلع عليه ثم فاجأه فقبض عليه ومن معه من النفر وكبله بالحديد وسافر من توه بهم إلى مصر حيث سجنوا في الجب.

وفي هذا يقول الغازي الذي ننقل عنه هذا الخبر بعد أن نقله من ابن فهد أنه لم يتفق مثل هذا فيما سبق ويقول أنه لم يتفق له ذلك الا لأن سكان البلاد من الاشراف والأهالي ضاقوا بمناوءات ثقبة وبشغبه الذي امتد لسنوات دون أن يظفر بطائل.

وأن غلاء الأسعار واضطرابابها طول تلك المدة جعل الناس يترقبون للأمر نتيجة حاسمة ويؤيد ذلك ما يذكره الغازي عن ابن فهد نفسه في تتمة الحديث وهو يقول : وقد سر الناس ذلك. الى ان يقول وعاد جلب الغلال ورخصت الأسعار حتى بيع أردب القمح بعشرين درهما.

وظل ثقبة في سجنه بمصر ثم ما لبث أن اطلق ففر من مصر وعاد الى مناوأة أخيه فاقتتلا مرة ثم اصطلحا ثم عادا الى الاختلاف (٣).

__________________

(١ و ٣) افادة الانام للشيخ عبد الله غازى «مخطوط»

(٢) هو وادى فح ويقع فى ضاحية مكة

٣١٧

وفي عام ٧٦٠ أرسل صاحب مصر يستدعي عجلان وثقبة اليه فرفضا ذلك فأصدر مرسومه بعزلهما وتولية أخيهما سند بن رميثة بالاشتراك مع ابن عمه محمد بن عطيفة.

عجلان وثقبة في السجن : وكان محمد بن عطيفة يقيم في مصر فتوجه الى مكة في فرقة عسكرية من المماليك فيهم أربعة من الأمراء واستطاع محمد بن عطيفة أن يتولى الحكم ثم ما لبث أن وصل سند فشاركه فيه (١).

وهدأت الأمور في مكة على أثر ذلك وألغيت المكوس التي كان يتقاضاها عجلان وثقبة فرخصت الأسعار ونادى قائد العسكر في مكة بمنع حمل السلاح فعم الأمن في البلاد.

وهكذا ثبت أن عجلان وثقبة ومن والاهما من الأشراف يسيئون الى ادارة البلاد بتصرفاتهم القاسية وخلافاتهم وأن تأمين البلاد ورخاءها ـ مع كل أسف ـ رهين بادارة عسكرية حازمة تقضي على بواعث الخلاف من اصولها.

واستطاع قائد العسكر أن يقبض على عجلان وثقبة ويصحبهما معه الى مصر ليعتقلا فيها.

ويبدو ان اعمال الخلاف السالفة بين عجلان وثقبة وما ترتب على ذلك من اضطرابات وفتن هيأ للمماليك الاتراك فرصة جديدة للتدخل في شؤون البلاد تدخلا عمليا لأن الفرقة العسكرية التي صحبت مجيء محمد بن عطيفة والتي استطاعت أن تقضي على أسباب الفتن ما لبثت أن أقامت في البلاد بحجة الاشراف على شؤون الامن فيها.

__________________

(١) خلاصة الكلام للسيد أحمد زيني دحلان ٣٣

٣١٨

ويحدثنا الفاسي (١) ان هذه الفرقة عندما اعتزمت الرحيل الى مصر في عام ٧٦١ كان قد وصل الى مكة غيرها من عسكر الاتراك ليحلوا محل الفرقة القديمة.

واحلال فرقة جديدة في مكان فرقة قديمة تعطي دليلا على أن البلاد باتت من عام ٧٦٠ محتلة احتلالا عسكريا وانها أصبحت تابعة للمماليك تبعية مباشرة.

إلا أن أمر ذلك لم يدم طويلا لأن الأشراف ما لبثوا أن اشتبكوا معهم في عام ٧٦١ في غارة عظيمة انتهت باقصاء الفرقة وانهاء الاحتلال.

وذلك ان عسكريا من الترك سكن بيتا عند باب الصفا فطالبه بالأجرة صاحبه من الأشراف فرفض دفعها ولا بد أنه أبدى شيئا من العنجهية التي يبديها المحتلون في العادة فثار النزاع واشتد فضرب التركي الشريف فاشتد غضب الشريف فقتله فاجتمع الاتراك للثأر واجتمع الأشراف للدفاع فكانت الواقعة.

ووجد الأشراف خيلا للأتراك عند باب الصفا تنتظر أصحابها للسعي عليها فامتطوها ومضوا بها الى مستودع للترك بأجياد فاستولوا على ما فيه من سلاح وخيل ومضوا يحاصرون الاتراك حتى حصروهم وأوقعوا فيهم القتل فالتجؤوا بالمسجد الحرام وأغلقوا عليهم ابوابه ، واستجار قائدهم ببعض نساء الاشراف.

ولحق بعض الاشراف بالمحصورين في المسجد ولم يقتحموه عليهم بل ظلوا يرمونهم بالنشاب ويطالبونهم بالتسليم حتى سلموا أنفسهم وقبلوا أن يغادروا مكة دون ان يتخلف منهم احد وان لا يصطحبوا من عتادهم شيئا وان يكتفوا بما خف حمله من اموالهم ، وقتل في هذه الموقعة جماعة من الأشراف كان منهم

__________________

(١) شفاء الغرام ٢ / ٢٤٨

٣١٩

الشريف مغامس بن رميثة (١)

وبهذه الموقعة انتهى امد الاحتلال وعاد الأشراف اخوان عجلان الى حكمهم بعد أن نقلوا أسراهم من مماليك الاتراك الى ينبع واعلنوا بيعهم في الاسواق ولما بلغ الامر الملك الناصر الصالح في مصر أمر بتشديد السجن على عجلان في مصر وأن ينقل الى برج في الاسكندرية كما أمر بتجهيز حملة قوية لاستئصال الأشراف الا أن أمر الحملة لم يتم لأن المماليك كانوا قد ثاروا على مليكهم بعد ذلك بأيام فاعتقلوه في سجن القلعة وولوا مكانه المنصور محمد أبو المعالي ابن المظفر (٢)

ورأى ابن المظفر أن يعالج أمر الاشراف في مكة بغير ما اختاره سلفه فأمر باطلاق عجلان بن رميثة من البرج في الاسكندرية واتفق معه على ترحيله الى مكة مزودا بما يلزمه من عتاد وجيش ليستخلصها لنفسه من أخيه سند وابن عمه محمد وأن يحكمها بنفسه مستقلا بأمره لقاء الدعاء لهم فوق المنبر.

وقد رضي عجلان بعرضهم وارتحل من توه الى مكة فاستولى عليها وذلك في سنة ٧٦٢ بالاشتراك مع أخيه ثقبة الا أن أخاه ثقبة ما لبث أن توفي فاستقل عجلان بالحكم (٣).

فرض المكوس : ولم يكن عجلان بالامير الجافي ولم تكن أحكامه من الشدة والقسوة في المكان الذي عرف به اخوانه ولكنه كان لا بد له من استعمال العنف مع مناوئيه في الحكم من اخوانه وبني عمه عطيفة كما أنه لا يستطيع فيما يظهر

__________________

(١) المصدر نفسه

(٢ و ٣) خلاصة الكلام للسيد احمد زيني دحلان ٣٣

٣٢٠