تأريخ مكّة دراسات في السياسة والعلم والاجتماع والعمران - ج ١-٢

أحمد السباعي

تأريخ مكّة دراسات في السياسة والعلم والاجتماع والعمران - ج ١-٢

المؤلف:

أحمد السباعي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الطبعة: ٠
ISBN: 9960-660-17-6
ISBN الدورة:
9960-660-18-4

الصفحات: ٧٩٣

٢٦١

ولى كف ضرغام أذل ببسطها

وأشرى بها عز الورى وابيع

تظل ملوك الارض تلثم ظهرها!!

وفي بطنها للمجدبين ربيع

أأجعلها تحت الرجا ثم ابتغى

خلاصا لها انى اذا لوضيع

وما انا الا المسك في كل بقعة

بضوع واما عندكم فيضيع!!

فغضب الحليفة وكتب اليه «أما بعد فاذا نزع الشتاء جلبابه ولبس الربيع أثوابه قابلناكم بجنود لا قبل لكم بها ولنخرجنكم منها اذلة وانتم صاغرون»

ولما تسلم قتادة انذاره اعد نفسه لمواجهة الشدائد وكتب الى بني عمه آل المهنا في المدينة يحثهم على مناصرته ويذكرهم بجامعة القربى ومما كتبه.

بني عمنا من آل موسى وجعفر

وآل حسين كيف صبركم عنا

بني عمنا انا كأفنان دوحة

فلا تتركونا يجتني الفنا فنا

اذا ما أخ أخلى أخاه لآكل!!!

بدا بأخيه الأكل ثم به ثنا!!

وانجزت بغداد وعيدها في عام ٦١٠ فأرسلت جيوشها الى المدينة وكان آل المهنا عند ظن قتادة بهم فقد قاوموا المهاجمين وكسروهم فما لبثت بغداد أن قنعت بما حدث واقتنعت بقوة قتادة وأستأنف الخليفة معه العلاقات الودية وأقطعه قرى متعددة (١).

ولم يقتصر استخفاف قتادة على أصحاب بغداد بل تعداه الى غيرهم فقد حج الملك عيسى بن العادل الأيوبي صاحب حلب عام ٦١١ وكان قد بذل من أمواله في سبيل البر الشيء الكثير وكان قد استقبله في المدينة أميرها وانزله في

__________________

(١) افادة الانام «مخطوط»

٢٦٢

داره وبالغ في الحفاوة به وصحبه الى مكة فلما قدم مكة وتلقاه قتادة سأله أين أنزل؟ فقال قتادة وقد اشار بسوطه هناك ـ يريد الابطح ـ فشعر الملك عيسى ان قتادة يستهين به فغاظه ذلك وأسره في نفسه ولم يبده الا في الوقت المناسب (١).

ولا استبعد أن جفاء قتادة الذي ابداه في استقبال ملك حلب كان مبعثه الى جانب الاستخفاف بمقادير اصحاب السلطان استياؤه من تآلف خصمه القديم أمير المدينة بصاحب الشام ومشيه في خدمته الى مكة لذلك اراد قتادة ان يشعر صاحب حلب انه أمام شخص من نوع غير الذي عرفه في صاحب المدينة ومن ذلك ندرك ان دفاع صاحب المدينة عن قتادة واستجابته لندائه لم يكن كافيا لازالة ما بينهما من ضغائن.

وتفاقم الخلاف بين قتادة وسالم صاحب المدينة في عام ٦١٢ فقد زحف قتادة الى المدينة وحاصرها وأباد كثيرا من نخلها وكان سالم بن المهنا لا يزال في صحبة صاحب حلب في رجوعه الى الشام فدافع اصحابه عن المدينة حتى هزموا قتادة الى وادي الصفراء (٢) ثم انتهت الاخبار الى امير المدينة بالشام فغادرها مسرعا الى المدينة وبهذه المناسبة أبدى صاحب حلب ما اسره لقتادة فقد جهز جيشا عظيما من التركمان وارسله بصحبة امير المدينة ليعينه على قتال قتادة وقد اتصل جيش سالم بوادي الصفراء فهزم قتادة هزيمة نكراء وغنم من امواله وسلاحه شيئا كثيرا وأسر من جيشه عددا كبيرا سيره الى دمشق وكان في الاسرى كثيرا من الاشراف الحسينيين ومثلهم من الحسنيين وقد دفعوا الى بعض

__________________

(١) شفاء الغرام ٢ / ٢٢٤

(٢) وادي الصفراء في طريق المدينة من ينبع بالقرب من قرية بدر المعروفة. (ع) : بل قرية بدر واقعة في وادي الصفراء وهو واد ذو قرى وعيون عديدة يبدأ من قرب الفريش ٤٨ كم من المدينة ، وينتهي عند آثار الجار على ٤٥ كم غرب بدر.

٢٦٣

اشراف دمشق ليكفلوهم ويشاركوهم في حصصهم من اوقاف الاشراف (١).

وعاد قتادة بعد ذلك الى مكة دون أن ينال ظفر ثم ما لبث أن فكر في توسيع نفوذه بين قبائل ثقيف فزحف في جيشه الى الطائف فاحتلها بعد أن قاتله مشائخ ثقيف قتالا عنيفا وفي هذه الواقعة فقد كتب أثري كان يحتفظ به حمدان العوفي ـ وهو من شيوخ ثقيف ـ في بيته وهو كتاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى اهل الطائف.

وعاد قتادة الى مكة بعد ان اطاعته القبائل في الطائف ومن حولها وقد ترك نائبا عنه في الطائف ليحكمها وترك بعض عبيده لحفظ الأمن فاتفق بعض رجال من ثقيف على دعوة نائب قتادة والعبيد الى دعوة عامة في ضاحية من ضواحي الطائف وكانوا قد دفنوا سيوفهم في رمال المكان المعد للاجتماع فلما حضروا واطمأن المجلس بهم بادروهم فقتلوهم عن آخرهم (٢).

ومن غرائب ما اتفق لقتادة أنه أهدى مرة صلاح الدين الايوبي مروحة بيضاء من خوص النخل نقش فيها بيتان من الشعر بنسيج من السعف الأحمر فلما قدم رسوله بها الى صلاح الدين قال : «ان الشريف قتادة يهديكم هذه المروحة التي ما رأيتم ولا ابوكم أو جدكم مثلها» فاستاء صلاح الدين لسوء التقديم واستفزه الغضب ثم ما لبث أن سرى عنه عندما لفت الرسول نظره الى ان المروحة منسوجة من خوص النخلة التي كانت في مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد قرأ فيها صلاح الدين هذين البيتين :

أنا من نخلة تجاور قبرا

ساد من فيه سائر الناس طرا

شملتني سعادة القبر حتى

صرت في راحة ابن ايوب أقرا (٣)

__________________

(١ و ٢ و ٣) افادة الانام «مخطوط»

٢٦٤

وكان قتادة في أول امره حسن السيرة طيب الذكر وقد استطاع أن ينشر الأمان ويقيم العدل والرخاء ويكرم وفادة الحجاج ، ثم ما لبث أن أساء السيرة وجدد المكوس ونهب الحجاج في بعض السنين ، ويذكر السنجاري (١) في تاريخه ان ولايته اتسعت من حدود اليمن الى مدينة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكثر عسكره حتى خافه العرب في تلك البلاد خوفا عظيما.

ولا أدري كيف اتسع أمره الى المدينة بعد الذي رأينا من دفاع صاحبها الا انني لا استبعد ان يكون قد استأنف هجومه عليها بعد الذي ذكرت واستولى عليها. وخطب وده العباسيون في بغداد والايوبيون في مصر وأرسلوا اليه بالخلع والاموال.

وخطب قتادة في اول امره للعباسيين ولما قطعت علاقتهم به على اثر الحوادث التي ذكرناها عاد يخطب للايوبيين وحدهم ، واعتقد انه لو مد في اجله لاعلن خلافته ودعا الى نفسه ، وحسبنا ان ابن خلدون يشير الى ذلك فيذكر انه كان يرى لنفسه أحقيته للخلافة.

وظل قتادة على امره حتى اختلف مع ابنه حسن فقتله ، وذلك انه سير جيشا الى المدينة على رأسه اخوه وابنه حسن ، فلما كان الجيش في بعض الطريق بوادي الفرع (٢) اجتمع اخو قتادة برؤساء الجيش واخبرهم بان قتادة مريض وطلب اليهم ان يعاهدوه على الامارة فلما بلغ ذلك حسن بن قتادة دخل على عمه فقتله فلما اتصلت الاخبار بقتادة عزم على قتل ابنه حسن قودا في اخيه فعلم حسن

__________________

(١) منائح الكرم «مخطوط»

(٢) وادي الفرع ـ بضم الفاء والراء ـ واد ذو عيون ثجاجة وقرى اهلة لقبيلة بني عمرو من حرب ، يمر شمال. المدينة على ١٥٠ كيلا ويفرغ على مستورة. (ع)

٢٦٥

بذلك فعاد الى مكة ودخل بيت ابيه سرا وهو مريض فقضى عليه خنقا ثم اذاع موته ونادى بنفسه اميرا على البلاد وذلك في سنة ٦١٧ (١)

الحسن بن قتادة : وهكذا تم الامر للحسن وباشر حكمه بروح الرجل الشديد الذي لا يقبل هوادة في اوامره ودعا للعباسيين والايوبيين.

النفوذ العباسي : وبالرغم من شدته فان النفوذ العباسي استطاع ان يتسرب الى امارة مكة من طريق المرسوم لاول مرة منذ عهد جعفر الثائر ، فانه ما كاد يوافي المرسوم حتى اقبل الركب العراقي تحت امرة مملوك من مماليك الخليفة الناصر لدين الله اسمه «اقباش» يحمل مرسوم الولاية باسم الحسن وكان الحسن قد وصلته بعض الانباء بأن اخاه راجحا اتصل باقباش واغراه بنقل الامارة اليه وبذل له وللخليفة مالا!! فغضب لذلك حسس واغلق ابواب مكة دون حاج العراق ومنعهم من دخولها فقاتله اقباش عند باب مكة ، ثم ما لبث اقباش ان انفرد عن جنده مصعدا في جبل الحبشي بجوار السور (٢) ادلالا بمركزه وثقة في نفسه ، ولعله أراد ان يتوسل بذلك للمفاهمة ـ فاحاط به عسكر الحسن وقتلوه وحملوا رأسه على رمح فنصبه الحسن بالمسعى عند دار العباس وبذلك انهزم عسكر العراق وأحاط أصحاب الحسن بالحاج لينهبوه فمنعهم حسن من ذلك (٣)

وهكذا تم الامر للحسن بعد ان ابلى في سبيل ذلك ما ابلى وبعد ان ضحى بابيه

__________________

(١) افادة الانام «مخطوط»

(٢) كان قد اعيد تسوير مكة في عهد قتادة واتخذ للسور بابان

(٣) شفاء الغرام لتقي الدين الفاسي ٢ / ٢٣٤

٢٦٦

وعمه في سبيل الحكم ، وما لبث الحسن ان اعتذر للخليفة العباسي عما حدث فقبل منه.

وكان الحسن اديبا شاعرا وفي شعره تتجلى روح المغامرة التي تميز بها ومن ذلك :

ابى الله والخطية السمر والظبا

وكل كمى لا يرى الذل مذهبا

بأن يتولى أمر مكة حاكم

سوى من له سيف طويل ذو شبا (١)

وظل الحسن في امارته الى السنة التالية حيث اجلاه صاحب اليمن الملك المسعود عن مكة انتصارا لاخيه راجح الذي التجأ اليه في سنة ٦٢٠

صاحب اليمن في مكة : لم يكن راجح بن قتادة اقل من اخيه الحسن عنادا وجرأة فانه ابى ان يترك ثأره لدى اخيه بعد الهزيمة التي مني بها وهو يقاتل مع اقباش لذلك خف الى اليمن واتصل فيها بصاحبه الملك المسعود ويلقبونه «اقسيس».

الملك المسعود هو ابن صاحب مصر الملك الكامل الايوبي وكان يحكم اليمن باسم أبيه الملك الأيوبي ويعتز فيها بقوة تستمد نفوذها من أبيه في مصر.

وقد استطاع راجح أن يستثيره ضد أخيه الحسن في مكة وأن يزين له احتلالها وضمها الى نفوذ الايوبيين فى مصر واليمن ، فمضى المسعود على رأس جيش الى مكة مصطحبا معه راجحا بن قتادة فانتهى اليها في ٤ ربيع الأول سنة ٦١٩ او

__________________

(١) منائح الكرم للسنجاري «مخطوط»

٢٦٧

٦٢٠ وبادرها بالهجوم المفاجىء فلم يشتبك معه المدافعون الا في شارع المسعى وقد قاوم الحسن وأصحابه بعض المقاومة ، ثم بدا للحسن انه لا رجاء له في دفاع جيش المهاجمين فاجلى عنها وترك المسعود يحتلها.

ونهب عسكر المسعود بيوت مكة وجردوا المدنيين من ثيابهم واموالهم ونبشوا قبر قتادة واحرقوا تابوته فلم يجدوا الجثة في القبر فعلم الناس ان الحسن دفن اباه خفية في مكان سري ، ورؤي الملك المسعود يصعد فوق قبة زمزم ويرمي حمام مكة «بالبندق» (١) كما رؤي غلمانه في المسعى يضربون الناس بالسيوف في ارجلهم ويقولون خففوا من سعيكم فان السلطان نائم سكران وكان الدم يجري من سيقان الناس في الطريق بجوار دائرة السلطنة بالمسعى (٢).

ويحز بالنفس ويؤلمها ان يلطخ وجه الانسانية بامثال هذه الفظائع الشنيعة لا في تاريخ مكة وحدها ولا بين المسلمين في مختلف ميادينهم بل في كل بقعة من بقاع الارض منيت بانسان ظالم تنشيه خمرة النصر فتنسيه مبادىء الرحمة وحقوق الانسان ، وقد رأيت بعض المؤرخين ينحون باللوم على قسوة أمراء مكة والواقع انها قسوة لا يبررها دين او عدل وانه يشاركهم في امثالها كل العابثين في جميع ادوار التاريخ وفيهم من انصار الانسانية وزعماء الاديان ودعاة المبادىء ممن تنسيهم نشوة الظفر ما يدعون اليه من دين او مبدأ انساني ، على اني رغم هذا لا استبعد المبالغة في كثير مما يرويه المؤرخون عن خصومهم.

__________________

(١) البندق كرات تصنع من الظين او الحجارة او الرصاص او غيرها ـ راجع تاريخ التمدن الاسلامي ٥ / ١٥٩

(٢) الذهب المسبوك للمقريزي ٧٨

٢٦٨

والأنكى من هذا ان الحسن صاحب مكة وكان قد اساء الاهالي يوم ظفره بما اقترف من فتك لم يمسه في هذا العدوان شيء فقد نجا بنفسه الى اطراف البادية دون ان يناله اذى وترك المظلومين في مكة بعده يعانون من عذاب ما اقترف ويلا وثبورا وهكذا «ياكل الاباء الحصرم والابناء يضرسون»

واهل موسم الحج في ذلك العام ٦١٩ او ٦٢٠ فدفع المسعود بجيشه الى عرفات ومنع من ان تنصب راية العباسيين على الجبل فيها وامر بنصب راية والده ورايته وكاد ان يشتبك معه امير الحج العراقي لكنه شعر بقلة جنده وقيل انه اباح رفع الراية العباسية قبيل غروب يوم عرفة بعد ان خوفه بعضهم من سطوة العباسيين (١).

وظل المسعود على امره في مكة الى ما بعد فراغه من الحج ثم توجه الى اليمن بعد ان اناب احد قواده «عمر بن علي بن رسول» وابقى لحراسته ٣٠٠ فارس وولى راجحا بعض الاعمال المتصلة بالبادية.

ومن الغريب ان اعمال المسعود العنيفة في مكة افادت ضد الافساد وشتتت شمل الارهابيين وقطعت دابرهم فشاع الامن بين البوادي وكثر جلب الارزاق وعم الاخاء.

وسهل المسعود على الحجاج امر دخول الكعبة فامر بجعل بابها مفتوحا ليلا نهارا مدة مقام الحج فيها واطلق لسدنة الكعبة من بني شيبة مالا لقاء ما كانوا يأخذونه باغلاق الباب وفتحه لمن ارادوا وتحاشيا من زحام الناس لقصر المدة التي كانوا يفتحون فيها الباب وعظم ما يناله الناس من ارهاق وضرب وموت

__________________

(١) شفاء الغرام ٢ / ٢٣٥

٢٦٩

وقد عاد الشيبيون لما يتقاضونه بعد الملك المسعود.

وبنى الملك المسعود القبة الحديد الموجودة على مقام ابراهيم ولا تزال باقية الى اليوم وكانت قبته قبل ذلك غير ثابتة فقد كانوا ينقلون حجر المقام اذا اشتد الزحام الى داخل الكعبة او أحد اركان المسجد (١).

واتصلت انباء المسعود بالعباسيين في العراق فاستاءوا وكتب الخليفة الى عامل مصر وصاحبها الكامل الأيوبي والد المسعود يعاتبه على فعل ابنه فكتب الأول بدوره الى ابنه يعنفه ويشدد عليه اللوم : أن ذلك لم يغير من خطة الملك المسعود وقد ظل نائبه في مكة يدعو له ولأبيه في مصر دون العباسيين ثم اقتصر على الدعاء له وحده (٢)

وحاول الحسن بن قتاده ان يعيد الكرة ـ على حكومة المسعود في مكة بعد خروج المسعود الى اليمن فاستنفر القبائل في ينبع وسار بهم في جيش حتى انتهى الى الحديبية «الشميسي» (٣) فخرج اليه ابن الرسول (٤) نائب المسعود فهزمه فولى الفرار متوجها الى بغداد حيث مات بها ودفن في مشهد الكاظمي (٥)

امير المدينة يحاول استخلاصها : وفي عام ٦٢٢ حاول أمير المدينة قاسم الحسيني استخلاص مكة من نائب المسعود ولعله دفع الى ذلك باشارة من

__________________

(١) شفاء الغرام ٢ / ٢٣٥

(٢) افادة الانام للشيخ عبد الله غازي «مخطوط»

(٣) على ٢٠ كيلومترا من مكة في الطريق الى جدة.

(٤) هو عمر بن رسول من قواد الملك المسعود الايوبي في اليمن وقد استطاع عمر ان ينجح في قيادته وان ينادي بنفسه ملكا على اليمن على اثر وفاة الملك المسعود وان يقضي على نفوذ الايوبيين في اليمن ويؤسس الدولة الرسولية التي عرفت باسمه وقد حكمت اليمن اكثر من قرنين وكان عمادهم في اول الامر على جيش من الاكراد والمماليك ثم استعانوا بأبناء اليمن.

(٥) منائح الكرم للسنجاري «مخطوط»

٢٧٠

الايوبيين في مصر فسار بجيش كثيف الى مكة وحاصرها نحو شهر ثم استأنف عودته دون ان يظفر منها بنائل (١)

ياقوت المسعودي : وظل ابن الرسول في نيابتا على مكة الى عام ٦٢٥ ثم عاد الى اليمن وتولى النيابة بعده في مكة ياقوت بن عبد الله المسعودي وذلك في جمادي الآخرة من السنة المذكورة وكان يلقب نفسه «أمير الحاج والحرمين ومتولي الحرب بمكة ومدير اموال الجند» (٢)

موت المسعودي في مكة : وفي سنة ٦٢٦ قدم الملك المسعود الى مكة لزيارتها فما لبث أن أصيب بمرض الفالج فتعطلت يداه ورجلاه عن العمل وقاسى ما لا يطاق من الآلام المبرحة حتى ذكر أنه قال لرجل مغربي أن نفسي لا تطيب لكل ما لدي من أموال فتصدق علي بكفني فبعث اليه المغربي بمائتي درهم مع ما يكفي لكفنه ثم ما لبث ان اشتد عليه المرض وتوفي بعد أن اوصى بأن لا يدفن الا في مدافن الغرباء وقد بنى عليه أحد عبيده بعد ذلك قبة يقول السنجاري (٣) انها كانت باقية الى عهده .. وأقول : اذا كانت القباب تبنى على مثل هؤلاء فما ارخص القباب بين الشارات.

طغتكين : وبوفاة الملك المسعود اضطرب أمر الحكم في مكة وقام اصحاب مصر من الأيوبيين يناوئون الحكم اليمني في مكة ودامت الاضطرابات بين الفريقين عدة سنوات. ذلك ان ابن رسول في اليمن عندما بلغته وفاة الملك

__________________

(١ و ٣) منائح الكرم للسنجاري «مخطوط»

(٢) شفاء الغرام ٢ / ١٩٩

٢٧١

المسعود نادى بنفسه ملكا على اليمن وبعث مرسومه الى مكة باقرار ياقوت المسعودي نائبا عنه فندب الكامل الايوبي في مصر جيشا بقيادة «طغتكين» (٢) لاجلاء اليمنيين عن مكة فقاتلهم قتالا شديدا حتى اجلاهم عنها وبذلك استولى على امارتها وخطب فيها للكامل الايوبي في مصر (٣) وسمع الخطيب يقول على المنبر في حق الملك الكامل صاحب مكة وعبيدها!! واليمن وزبيدها ومصر وصعيدها والشام وصناديدها والجزيرة ووليدها سلطان القبلتين ورب العلامتين وخادم الحرمين الشريفين المحترمين الملك الكامل أمير المؤمنين ولم افهم مراده من مكة وعبيدها!! أكان يقصد أن عبيدها دون عظمائها تابعون له أم أن سجعة القافية جاءت بذلك دون أن يقصد بها معنى خاصا.

راجح بن قتادة : وظل الامر على ذلك الى سنة ٦٢٧ حيث استأنف اليمنيون هجومهم على مكة في جيش كثيف وعلى رأسه راجح بن قتادة وقد نزلوا بالأبطح محاصرين وأرسل راجح الى مكة يذكرهم باحسان ابن رسول اليهم أيام حكمه فمال رؤساء مكة اليه فلما أحس «طغتكين» بذلك فر الى وادي نخلة (١) وترك مكة يحتلها راجح وبذلك عادت الخطبة للمنصور بن الملك المسعود من أيوبي اليمن.

بين كر وفر : وظلت مكة عرضة لهجوم القوات الأيوبية من مصر مرة ومن اليمن اخرى نحو ٢٨ سنة بدأت بهجوم صاحب اليمن في عام ٦١٩ وانتهت

__________________

(١) افادة الأنام «مخطوط» وطغتكين» هو اخو صلاح الدين الايوبي

(٢) وهي نخلة الشمالية وتمتد من وادي فاطمة الى المضيق غير نخلة اليمانية ويمتد بها الوادي الى سولة والريمة من جهة اخرى

٢٧٢

بهجوم احد اولاد قتادة لاستخلاصها لنفسه في عام ٦٤٧ كما سيأتي.

وقد تداول الحكم في مكة كل من الفريقين المتقاتلين أثناء ذلك نحو ثمان مرات قاست مكة في تضاعيفها من الاهوال والمصائب ما لا يوفى حصره وعانت من غلاء المعيشة وقلة الارزاق ما لا يطاق.

واضطر صاحب اليمن الملك المنصور بن رسول أن يقود بنفسه جيش اليمن في واقعتين من وقائعه كانت احداها في عام ٦٣٥ وكانت الثانية حوالي عام ٦٣٩ وقد ذكروا ان المحتلين لما علموا بقدومه الى مكة في المرتين احرقوا دار الامارة فيها بما ذخرت به من عتاد وسلاح كما احرقوا كثيرا من الارزاق (١) وعندما ظفر ابن رسول باجلاء ايوبي مصر في ٦٣٩ أقام بمكة حتى صام رمضان بها وابطل المكوس والجبايات وكتب بذلك مربعة جعلت قبالة الحجر الاسود ، وقد دامت هذه المربعة عدة سنوات ثم اقتلعها خصومه على أثر اجلائه من مكة (٢).

وتداول الحكم في مكة أثناء هذه الفتن جماعة منهم «طغتكين» وقد وليها مرتين وابن مجلى ، وجفريل وهما من مماليك الايوبيين في مصر كما تداولها في المرات التي احتلها أيوبو اليمن ، راجح بن قتادة في أكثر فترات الاحتلال ثم فخر الدين بن السلاح ثم محمد بن المسيب اليمني (٣).

الحسن بن علي بن قتادة : وقد استبد المسيب آخر ولاة اليمنيين بامره في مكة واستولى على بعض الصدقات الخاصة بالأهالي ومنع الجند نفقتهم وأعاد

__________________

(١) اتحاف الورى لابن فهد القرشي «مخطوط»

(٢) الذهب المسبوك للمقريزي ٨٠

(٣) اتحاف الورى لابن فهد القرشي «مخطوط»

٢٧٣

الجبايات والمكوس (١) فاقترح بعض كبار العرب على ابي سعد الحسن ابن علي بن قتادة استخلاص امارة مكة لنفسه وحسنوا له ذلك وكان يقيم في ينبع فسار في مقاتلته الى مكة فحاصرها ثم حمل على اصحاب اليمن حملة موفقة استولى فيها على مكة في يوم الجمعة ٩ ذي القعدة سنة ٦٤٧ بعد أن قبض على ابن المسيب وصادر خيله وسلاحه وامواله ثم اطلقه.

وباستيلائه على مكة انطلق عمه راجح بن قتادة الى المدينة يستنجد أميرها من أولاد المهنا بني حسين وهم اخواله فانجدوه بنحو ٧٠٠ فارس ليجلي بها الحسن بن علي بن قتادة (٢).

ظهور ابي نمي الاول : وعندما شعر الحسن بن علي بن قتادة في مكة بحركة راجح في المدينة وعلم انه سبهاجمه بقوة من المدينة ، كتب الى ابنه أبي نمي في ينبع أن يقطع الطريق على المهاجمين.

وكان سن أبي نمي في هذا العهد لا يتجاوز السابعة او الثامنة عشرة ، الا انه كان موفور النشاط معروفا بالشجاعة وقد استطاع ان يخرج عليهم بأربعين من قومه فيقطع طريقهم ويهزمهم.

ودخل أبو نمي مكة بعد هزيمة عم أبيه منصورا فأكرمه أبوه واتخذه شريكا له في الامارة (٣) وهي اول شراكة ابتدعت في امارة مكة تلاها كثير من نوعها فيما سيأتي من فصول.

__________________

(١) الذهب المسبوك ٨٠

(٢) افادة الانام «مخطوط»

(٣) افادة الانام «مخطوط»

٢٧٤

ويشيد الفاسي (١) بأوصاف الحسن فيضعه من الشجاعة في المكان الأعلى ويقول أن أمه ـ وهي حبشية ـ كانت مثلا طيبا في النساء ، لحقته في بعض حروبه في هودج وقالت له : انك تقف اليوم موقفا ان ظفرت فيه قال الناس ظفر ابن بنت رسول الله ، وان فشلت قالوا فشل ابن الامة السوداء ، فانظر لنفسك فإنه لا موت قبل فراغ العمر ، فكان لذلك أعظم الوقع في نفسه لانه قاتل في تلك الموقعة حتى ظفر.

وفي عهد الحسن حج الملك المظفر بن المنصور صاحب اليمن في سنة ٦٤٩ فلم يناوىء الحسن ووزع في مكة كثيرا من العطايا وكسى رؤساء الحرم ووصلت اعطياته الى كل بيت في مكة وشملت كثيرا من الحجاج (٢).

سقوط الايوبيين والعباسيين : حدثت في هذه الأثناء حوادث خطيرة في العالم الاسلامي دالت على اثرها الدولتان العظيمتان اللتان كانتا تهيمنان على المقدرات السياسية في الحجاز الى حد وبذهابهما انتقلت السياسة الى دور جديد نتحدث عنه في الفصول الآتية.

ولعلنا لسنا في حاجة الى تفصيلات مطولة عن زوال الدولتين العظيمتين لأن المطلع على التاريخ الاسلامي يعلم ان الدولة الايوبية ثار عليها مماليك الاتراك وأعلنوا سقوطها في سنة ٦٤٨ وأسسوا على انقاضها حكومة جديدة دعيت بدولة المماليك الاتراك كما يعلن ان الدولة العباسية بعد ان ظل الفساد يسري في كيانها نحوا من اربعمائة سنة على اثر انقضاء دورها الأول الذي كانوا يسمونه العصر

__________________

(١) العقد الثمين «مخطوط»

(٢) الذهب المسبوك للمقريزى ٨٤

٢٧٥

الذهبي ثار عليها التتار في عام ٦٥٥ وقضوا على اخر خليفة فيها.

ومن الغريب ان تتشابه في كل من الدولتين عوامل السقوط وأسبابها فقد كان اصحاب السلطان في كل من الدولتين يستعينون بمواليهم من الأتراك لتثبيت دعائمهم ويولونهم من النفوذ والسيطرة ما يهىء لهم مراكز ممتازة ، فأصبحت هذه المراكز في نهاية الأيام مصدرا خطيرا استطاع أمراء الأتراك في العباسيين أن يحكموا به مقدرات الخلافة وان يحيلوا الخليفة الى شخص آلي يحكمون البلاد باسمه وليس له شيء فيما يحكمون.

كما استطاع مماليك الاتراك في الدولة الأيوبية في مصر أن يستبدوا بقيادة الجند وأن يتفقوا على قتل مليكهم توران بن الصالح الايوبي وأن يولوا الأمر جاريته شجرة الدر ثم يقصوها وينادوا بمملوك آخر هو «عز الدين ايبك» (١).

في مكة : ونحن الآن بعد هذا العرض السريع عائدون الى تعقيب الحوادث في مكة وتتبع أنبائها وكنا قد تركنا أميرها الحسن بن علي بن قتادة يتولى امارتها بعد ان استخلصها من عامل الايوبيين في اليمن.

ولعله من اعادة القول ان نشير الى ان نفوذ الايوبيين في مصر والعباسيين في بغداد قد تقلص قبيل سقوط حكومتيهما وبعده وان الحسن بعد ان اعتمد جهوده الخاصة في استيلائه على مكة بات يتمتع بحكم لا تشوبه شائبة ويدعو في الخطبة لنفسه وحده.

جماز بن الحسن : ولم يدم أمر الحسن بن علي بن قتادة في مكة طويلا فقد

__________________

(١) اشترك مع عز الدين حفيد الايوبيين اسمه الاشرف كان عمره ثماني سنوات ثم ما لبث ان خلفه عز الدين وانفرد بالملك

٢٧٦

هاجمه في رمضان عام ٦٥١ ابن عمه جماز بن الحسن بن قتادة في عسكر كثير صحبة الركب الشامي فتغلب عليه وقتله واستولى على حكم مكة.

وساعد جماز في هذه الحملة صاحب الشام الذي وعده ان يخطب باسمه في مكة وقد دعا جماز لصاحب الشام مدة قصيرة ثم دعا لصاحب مصر الاشرف حفيد الايوبيين (١).

ومع هذا لم يبق في امارتها الا شهرا واحدا ذلك لأن راجح بن قتادة بطلنا القديم وحليف اليمن قبل الحسن المقتول هاجم مكة في جيش قوي لم يوضح المؤرخون هل ساعده به اليمنيون أصدقاؤه القدماء الذين كانوا سئموه أم استطاع أن يجمعه من مناصريه في البادية ولكن الذي ثبت أنه ظفر باجلاء جماز وانه عاد الى الحكم في ذي الحجة من السنة نفسها ٦٥١ واستمر بها الى ربيع الاول سنة ٦٥٢ وبذلك كانت آخر ولايته بمكة بعد أن تداول حكمها نحو ثمان مرات ، ومنيت مكة في هذه الفترة بغلاء عظيم وعطش بيعت فيه «شربة الماء» بدرهم كما بيعت الشاة بأربعين درهم.

غانم بن راجح : وفي سنة ٦٥٢ انتزع ابنه غانم منا إمارة مكة بعد أن تغلب عليه بدون قتال يذكر ويبدو أن راجحا سئم النضال بعد أن غلبه ابنه وكان قد تقدمت به السن وطحنته الأهوال فاستكان في داره حتى وافاه الموت بعد سنتين من اعتزال الامارة تقريبا (٢).

ويصيب الدحلان في خلاصة الكلام راجحا بن قتادة الى قائمة الشجعان

__________________

(١) شفاء الغرام للفاسي ٢ / ٢٣٧

(٢) افادة الانام للشيخ عبد الله غازي «مخطوط»

٢٧٧

ويقول انه كان من طوال الرجال اذا قام وصلت يداه الى ركبتيه وانه كان عظيم الشأن قوي الشكيمة.

ولم يدم غانم طويلا في حكمه بعد غدره بأبيه وانتزاع الامارة منه فقد ثار عليه بعد أشهر جماعة من بني عمومته آل قتادة وعلى رأسهم ادريس وابن عمه أبو نمي الاول (١).

امارة أبي نمي الأول : وقد تغلب عليه الثائران فانتزعا منه الأمر في شوال من السنة نفسها عام ٦٥٢ واضطلع الاثنان بالحكم في مكة مشتركين وبذلك عاد ابو نمي الى الحكم بالشراكة مرة اخرى فقد شارك اباه الحسن فيما مر بنا وهو اليوم يشارك عمه ادريس واتصل الخبر بصاحب اليمن الملك المظفر عمر بن رسول وجاءته رسله بان الامر في مكة قد خرج من حليف اليمن راجح بن قتادة الى ابنه ثم الى الثائرين ادريس وأبي نمي فجهز جيشا الى مكة بقيادة ابن برطاس وقد انتهى الجيش الى مكة والتحم في قتال شديد في قوز المكاسة (٢) بأسفل مكة ثم دخلها واستولى عليها في ذي القعدة من السنة نفسها ٦٥٢ وظل في امارتها الى المحرم من عام ٦٥٣ حيث اعاد الكرة عليه الثائران ادريس وأبو نمي من آل قتادة فأجلياه عنها.

وكان القتال شديدا في هذه المرة سفكت فيه الدماء بالحجر داخل المسجد الحرام وقد أسر ابن برطاس في هذه الموقعة ففدى نفسه بمال وقفل راجعا الى اليمن واستمر الشريكان على ولاية مكة ثم انفرد بها أبو نمي مستقلا في عام

__________________

(١) شفاء الغرام للفاسي ٢ / ٢٠٢

(٢) رمل بجوار كدي بمسفلة مكة ، واسمه مشتق من المكس ، ولعل المكوس كانت تؤخذ عنده من حجاج اليمن. والعامة تخطىء في اسمه فتقول : فوز النكاسة. (ع)

٢٧٨

٦٥٥.

ويذكر الفاسي ما يدل على ان ادريس أحد الشريكين تغيب في زيارة اخيه راجح فاستقل ابو نمي بالامر (١)

__________________

(١) شفاء الغرام للفاسي ٢ / ٢٠٢ وما بعدها

٢٧٩

النواحي العامة

في عهد الايوبيين

الحالة السياسية : كان انتصار الأيوبيين في مصر والشام وقيام دولتهم على انقاض الفاطميين انتصارا للعباسية ونجاحا لقضيتها في هذا الجزء من بلاد العرب فقد كان صلاح الدين في مصر يميل الى ممالأة العباسيين وتقديس الخلافة فيهم ويسخر جيوشه في خدمتهم والدعاء لهم على منابر البلاد التي يحكمها لنفسه أو التي يمتد نفوذه اليها كالحرمين.

وليس من شك في أن أشراف مكة خسروا بسقوط الفاطميين حليفا كانوا يتفقون معه في أكثر المبادىء وإن كانوا يختلفون وإياه في بعض الغايات وانهم وجدوا أنفسهم بعد سقوطه في حاجة إلى مهادنة الأيوبيين وارضائهم بقبول الدعاء للعباسيين واشراكهم في ذلك على منبر مكة.

ويبدو أن العباسيين لم يقنعهم اختصار علاقاتهم بمكة على الدعاء لهم على منابرها وأنهم أرادوا أن يتوسعوا فيها فاستأنفوا ارسال ركبهم الذي انقطع عن الحج عدة سنوات وأرادوا أن يمدوا نفوسهم الى شؤون الحكم وأن يباشروا اقصاء من لا يرغبونه لامارة البلاد ليقربوا بعض بني عمومتهم ممن يختارون فشعر مكثر بن عيسى بالخطر المحدق وراح يبني ما يحصنه في مكة.

وقد حدث ما توقعه مكثر فنشبت الفتنة بين الركب العراقي على النحو الذي أسلفناه في حينه ولم ينتصر العباسيون لأن مكثرا وأخاه داود ظلا يتداولان الحكم بينهما نحوا من ثلاثين سنة ورغم عدم رضاء العباسيين وكانا يتمتعان بشؤونهما الداخلية الا أن ابن جبير يشير في رحلته إلى أن القضاء في عهد مكثر

٢٨٠