تأريخ مكّة دراسات في السياسة والعلم والاجتماع والعمران - ج ١-٢

أحمد السباعي

تأريخ مكّة دراسات في السياسة والعلم والاجتماع والعمران - ج ١-٢

المؤلف:

أحمد السباعي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الطبعة: ٠
ISBN: 9960-660-17-6
ISBN الدورة:
9960-660-18-4

الصفحات: ٧٩٣

ثم سور المسجد بحائط يبلغ ارتفاعه دون القامة وجعل له أبوابا في محاذاة المسالك التي كانت تؤدي اليه وذلك سنة ١٧ ولم يذكر المؤرخون مساحة التوسعة التي زادها ابن الخطاب ويظن الشيخ حسين باسلامة أنها لا تزيد عن محاذاة المقامات الأربعة واتخذ للمسجد مصابيح جعلها فوق حائط المسجد وكسى الكعبة بالقباطي (١) ولما فتح عمر المدائن بعث بهلالين علقهما في الكعبة.

وعنى عمر بشئون الحج فكان يشرف على أعماله طول سني حياته ولم يفته حضوره إلا في العام الذي توفي فيه وقد أناب عنه عبد الرحمن بن عوف.

وجاء عهد عثمان فظهرت الحاجة من جديد الى توسعة المسجد الحرام فاشترى دورا وهدمها لتوسعة المسجد (٢) ثم اتخذ له رواقا مسقوفا وهو أول رواق أظل المسلمين وكسى الكعبة بالقباطي كما فعل ابن الخطاب قبله ، وعنى بتجديد أنصاب الحرم في الحدود التي تفصل الحل من الحرم ، وفي عهده حول الميناء من الشّعيبة الى جدة فقد كانت الشّعيبة ساحل مكة في عهد الجاهلية وصدر الإسلام الى أن تحول الميناء في عهده إلى جدة وذلك ان أهل مكة كلموه في أن يحول الساحل من الشّعيبة إلى جدّة لقرب الأخيرة من مكة فخرج عثمان ورأى موضعها وأمر بتحويل الساحل اليها (٣).

وثابر عثمان على الحج في سني خلافته إلا في السنة الأولى منها فقد أناب عنه عبد الرحمن بن عوف كما حج بالناس في آخر سني عهده عبد الله بن العباس.

ولم يجد علي بن أبي طالب فرصة للعناية بشؤون مكة في عهد خلافته فقد كان مشغولا بحروبه الطويلة طيلة عهد خلافته كما مر بنا في الفصل السابق.

__________________

(١) الأزرقي ١ / ١٦٨ والقباطي نسيج كان يصنعه أقباط مصر

(٢) الأزرقي ٢ / ٥٥

(٣) الشّعيبة على نحو ٣٠ كيلو متر جنوب جدة والجدة في اللغة الشاطىء.

١٠١

في عهد الأمويين

تمهيد

مبايعة الحسن وتنازله : ما كاد يقضى على علي بن أبي طالب في الكوفة بالصورة التي ذكرناها في عهد الخلفاء حتى بايع أهل الكوفة ابنه الحسن بالخلافة.

وقد قيل لعلي قبل وفاته استخلف يا أمير المؤمنين فقال : لا ، ولكن أدعكم كما ترككم رسول الله «بغير استخلاف» فان يرد الله بكم خيرا يجمعكم على خيركم كما جمعكم بعد رسول الله ، فلما توفي تقدم قيس بن سعد ابن عبادة الى الحسن فبايعه في العراق وبايعه الناس بعده في ١٧ رمضان سنة ٤٠ ه‍ وهو يوم وفاة علي.

وبايع في العام نفسه أهل الشام لمعاوية بن أبي سفيان ، ثم ركب الحسن في جنود العراق على غير ارادة منه ، وركب معاوية في أهل الشام فلما تواجه الجيشان وتقابل الفريقان سعى الناس بينهما بالصلح فانتهى الحال إلى أن خلع الحسن نفسه من الخلافة وسلم الأمر الى معاوية في ربيع الأول سنة ٤١ وبذلك استوثقت الأمور لمعاوية شرقا وغربا وسمى هذا العام عام الجماعة (١).

وأورد ابن كثير حديثا عن أبي العريف قال : كثا في مقدمة الحسن بن علي اثني عشر الفآ مستميتين لقتال أهل الشام فلما جاء صلح الحسن كان كأنما كسر ظهورنا من الغيظ فلما قدم الحسن على الكوفة قال له رجل منا السلام عليك يا مذل المؤمنين فقال لست بمذل المؤمنين ولكني كرهت أن أقتلهم على الملك!!

__________________

(١) أسد الغابة ٤ / ٣٨٧

١٠٢

خلافة معاوية : ولما استتب الأمر لمعاوية بسط سلطانه على جميع الأمصار وشمل خصومه بكثير من عطاياه وحلمه وغير قليل من بأسه .. ووجد أنصاره في مكة والمدينة أن من الخير لمصلحتهم أن ينتقلوا بأسرهم الى الشام وقد أحسن معاوية وفادتهم.

امارة مكة في خلافة معاوية : كما أحسن العناية بشؤون الامارة في مكة فولاها جماعة من أجلة قريش وصفوتها ، وقد اختلف المؤرخون في اسمائهم وتاريخ ولايتهم ولكن من الثابت أن أشهرهم أخوه عتبة بن أبي سفيان وأحمد بن خالد بن هشام المخزومي ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص .. وقيل ايضا أبو عبد الرحمن أحد أشراف مكة وأجوادها وفصائحها ، وعمرو بن سعيد بن العاص الأشدق وعبد الله بن خالد بن أسيد (١).

وقد حج معاوية في خلافته بالناس في عام ٤٤ وكان على امارة مكة عبد الله بن خالد كما حج بهم في عام ٥٠ وتجلى كرمه كما تجلى حسن سياسته في كلتا الحجتين مما سنبسطه في حينه.

ولاية العهد ليزيد وعصيان الحجاز : وما كادت مكة تسلس قيادها لمعاوية وما كاد ساستها من بني هاشم وعبد المطلب وأولاد الزبير يخلدون الى الهدوء والسلام رغبة في حقن الدماء أو برا بنعم معاوية في الشام أو رضا بالأمر الواقع حتى ذر قرن الفتنة من جديد ولما تمض بضع عشرة سنة من خلافة معاوية .. فقد رأى المغيرة بن شعبة أن يخدم بيت معاوية فاقترح أن يعقد معاوية البيعة بالخلافة لابنه يزيد بعده فتردد معاوية ثم رضي بالفكر وتحمس لها وكتب الى الأمصار في شأنها فعارضه الحجاز دون أكثر الأمصار (٢) فكتب الى عامله في

__________________

(١) شفاء الغرام ٢ / ٦٦

(٢) الكامل ٣ / ٢٥١.

١٠٣

المدينة مروان يأمره بأخذ البيعة ليزيد فقرأ ذلك مروان على الناس في المسجد فهاج القوم وماجوا وقال عبد الرحمن بن أبي بكر : ما الخيار أردتما لأمة محمد ولكنكم تريدون أن تجعلوها هرقلية «كلما مات هرقل قام هرقل» وقام الحسين بن علي وأنكر ذلك وفعل مثله عبد الله بن الزبير وانتهى ذلك إلى معاوية في الشام فلم يأبه لهذه المعارضة كثيرا ومضى في عزيمته يأخذ البيعة ليزيد من الأمصار الأخرى.

جعل يأتلف الناس بالبذل ويداريهم بالحسنى حتى استوثق أكثر الناس ودان المبايعون له في الشام والعراق واستعصى عليه أمر مكة والمدينة بعصيان من ذكرت من المعارضين فيها فسار اليها بنفسه وقابل في المدينة رؤساء المعارضة فحاجوه وأغلظوا له ، ثم دخل على أم المؤمنين عائشة يستعين بها عليهم فلم ينجح ، فعزم على انتهاج الشدة وأخذ الأمر بالقوة الصارمة (١).

وهنا نستمع الى ابن كثير ليحدثنا قال : قال معاوية والحديث موجه الى الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر : إنه قد أعذر من أنذر اني أخطب فيكم فيقوم الى القائم منكم فيكذبني على رؤوس الناس فأحمل ذلك وأصفح واني قائم بمقالة فأقسم بالله لئن رد عليّ أحدكم كلمة في مقامي هذا لا ترجع إليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف الى رأسه فلا يبقينّ رجل إلا على نفسه ثم دعا صاحب سيفه بحضرتهم فقال أقم على رأس كل رجل من هؤلاء رجلين ومع كل واحد سيف فان ذهب رجل منهم يرد على كلمة تصديق أو

__________________

(١) المصدر نفسه / ٢٥٩

١٠٤

تكذيب فليضرباه بسيفهما ، ثم خرج معاوية وخرجوا حتى صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال ان هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم لا يقضي أمر إلا عن مشورتهم وانهم قد رضوا وبايعوا ليزيد فبايعوا على اسم الله فبايع الناس وكانوا يتربصون بيعة هؤلاء النفر.

في خلافة يزيد : وهكذا انتهى الأمر ببيعة يزيد ولم يعمر معاوية بعد ذلك إلا سنوات ثم وافاه أجله في سنة ٦٠ ه‍ وكان قد أوصى ابنه فقال : انظر الى أهل الحجاز فان منهم اصلك وعزتك فمن اتاك منهم فأكرمه ومن قعد عنك فتعاهده الى أن قال واني لست اخاف عليك الا ثلاثة الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر. فأما الحسين فأرجو أن يكفيكه الله وأما ابن الزبير فان ظفرت به فقطعه اربا وأما ابن عمر فانه رجل قد قرقره الورع فخل بينه وبين آخرته يخل بينك وبين دنياك.

وعلى أثر ولاية يزيد في عام ٦٠ ه‍ كتب الى واليه في المدينة الوليد بن عتبة «أما بعد فخذ حسينا وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذا شديدا ليست فيه رخصة حتى يبايعوا والسلام» فلما وافاه ذلك أرسل إلى الحسين وابن الزبير فاستدعاهما فبادر الحسين اليه فقدم اليه كتاب معاوية فقال الحسين ان مثلي لا يبايع سرا ولكن إذا اجتمع الناس دعوتنا معهم فكان أمرا واحدا ، أما ابن الزبير فماطل في مقابلته حتى ركب في مواليه الى مكة فبعث الوليد خلفه فلم يستطع رده واغتنم الحسين الفرصة وانشغال الوليد بابن الزبير فجمع أهله في الليلة الثانية من سفر ابن الزبير ولحق بمكة أما ابن عمر ففي رواية انه بايع وفي رواية اخرى أنه قال إذا بايع الناس فلم يبق غيري بايعت وفي رواية ثالثة أنه كان في

١٠٥

هذه الأثناء في مكة وانه وابن عباس لقيا الحسين في منصرفه من المدينة فعرفا منه الخبر ثم مضيا الى المدينة فبايعا (١).

ثورة الحسين وقتله : واجتمع الناس على الحسين بوصوله الى مكة وعقدوا مجالسهم حوله يستمعون اليه وتوافدت اليه رسل الشيعة من العراق يحملون اليه كتبا من أعيانهم يطلبون اليه فيها أن يبادر بالذهاب اليهم : «انه ليس علينا امام فأقدم علينا لعل الله أن يجمعنا بك على الهدى» فبعث إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل ليتبين الحقيقة فلما انتهى مسلم الى الكوفة التف حوله خلق كثير فاغتر بما شاهد وأرسل الى مكة يستحث الحسين في القدوم.

ويعجبني رأي ابن عباس في هذا الموقف : «ان كانوا دعوك وعليهم أمير قاهر تجبى عما له بلادهم فانهم انما دعوك للحرب والقتال ولا آمن عليهم أن يتركوك» فقد كان رأيا يرمي الى البعيد من حقائق الأمور وينظر إلى الحياة نظرة المفكر المجرب. وأشار على الحسين غير ابن عباس بمثل هذا الرأي ولكن الكائن في غيب الله هو الكائن.

جهز الحسين أتباعه في مكة وهم لم يتجاوزوا الثمانين ومضى بهم في طريقه الى الكوفة فما انتهى الى قربها حتى وافته الأنباء بأن الخليفة انتدب من أدب الكوفة واشتد على الشيعة فيها حتى تفرقوا عن مسلم بن عقيل ، وأن مسلم بن عقيل قد قتل ، فهال الحسين ذلك فهم بالرجوع الا أن اخوة مسلم أبوا عليه ذلك حتى يأخذوا ثأر أخيهم أو يقتلوا دونه وقد قتلوا دونه في أول خطوة عرجوا فيها إلى كربلاء ليعدوا صفوفهم لأن جيوش يزيد مالت عليهم وأبادتهم عن

__________________

(١) راجع الكامل ٣ / ٢٥٩ ـ ٢٨٦ واليعقوبي ٢ / ٢٨٨ وما بعدها

١٠٦

آخرهم وتركت أرض كربلاء ملطخة بدماء ابن بنت رسول الله في أبشع صورة ظل ذكرها الى اليوم وإلى آخر يوم في الدهر ، وكان ذلك في ١٠ محرم سنة ٦١ ه‍ (١).

ولاة مكة ليزيد : وقد ولى امارة مكة في أول عهد يزيد عام ٦٠ عمرو ابن سعيد بن العاص المعروف بالأشدق لفصاحته وظل فيها أقل من سنتين ، ثم انتدبه يزيد الى المدينة في عام ٦١ عندما بدأ أصحاب القلاقل يهمون بحركات ثورية فيها فتولى الأمر بعده في السنة نفسها ٦١ الحارث بن خالد بن العاص المخزومي ويذكر بعض المؤرخين أن توليته كانت نيابة عن عمرو بن سعيد.

ثم تولى الأمر بعده في عام ٦٢ أو ٦٣ الوليد بن عقبة بن أبي سفيان وفي عهده بدأت تستيقظ في مكة حركة ابن الزبير على النحو الذي سنفصله في الفصل الآتي كما تولاها جماعة منهم عثمان بن محمد بن أبي سفيان وعبد الرحمن بن زيد بن الخطاب ويحي بن حكيم بن صفوان بن أمية وفي ترتيب ولاياتهم اختلاف (٢).

__________________

(١) راجع الكامل ٣ / ٢٥٩ ـ ٢٨٦ واليعقوبي ٢ / ٢٨٨ وما بعدها

(٢) شفاء الغرام ٢ / ١٦٨.

١٠٧

حركة ابن الزبير (١) تقدم بنا أن يزيد بن معاوية كتب الى واليه بالمدينة في عام ٦٠ هجرية ليأخذ له البيعة من المعارضين في المدينة ، كما تقدم بنا أن الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير رأسا المعارضين واحتالا للخروج إلى مكة حتى إذا انتهيا اليها لم يلبث الحسين فيها إلا ريثما أعد عدته للخروج منها الى شيعته في الكوفة مستجيبا لدعوتهم التي لقي حتفه فيها.

أما ابن الزبير فقد ظل في مكانه من مكة .. ولما وافاه خبر مقتل الحسين رأى الفرصة سانحة للنهوض بفكرة كان قد طال عليها السكوت ؛ ولا نبعد كثيرا ونحن نسميها فكرة خاصة به فابن الزبير كان يحس احساسا عميقا بأهليته للخلافة من أول يوم أمره عثمان بن عفان على داره أيام الثورة ضده ولا يؤمره عثمان دون غيره من أصحاب الكفايات إلا وهو عارف مكانه من الكفاية الممتازة ، ولقد سكت ابن الزبير يوم ولى المسلمون عليا الخلافة ولكنه ما لبث أن انضم الى جيوش المعارضين من حزب خالته عائشة ، ثم سكت عندما تناقلت الأخبار أن جيوش الشام بايعت معاوية ورأى بقية الأمصار تنضم الى هذه البيعة بما فيها من أجلة قريش وكبار الصحابة وعند ما رأى معاوية يترضاه ويتودد إليه ويبالغ في التودد اليه : «مرحبا بابن عمة رسول الله وابن حواريه .. يا غلام احمل إليه مائة ألف وارفع الي بجميع حوائجه!!» (٢).

سكت كل هذه المدة الطويلة واقتصر نشاطه على العناية بأقار به وحاشيته وفتح داره الكبيرة ـ بجوار باب دريبة ـ لزواره وقاصديه وعقد المجتمعات التي

__________________

(١) عبد الله بن الزبير ولد في السنة الأولى للهجرة كان أبوه الزبير أحد حواري الرسول وكانت أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق وخالته عائشة كان معروفا من صغره بالشجاعة.

(٢) الكامل ٤ / ٢٦ وما بعدها.

١٠٨

كانت لا تخلو من المجاهرة بآرائه في الحكم القائم ونقداته التي كانت تقلق بال عامل الأمويين في مكة عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق.

وكان عمرو بن سعيد بن العاص تبلغه أنباء هذه المجتمعات ولكنه لا يملك إلا ان يتغافل لعلمه بمنزلة ابن الزبير من عامة الأهلين في مكة وما يتمتع به من جرأة نادرة المثال ، كما أن معاوية في الشام كانت تصله أخبار ابن الزبير فيعالجها بحلمه ويقابلها بمعروفه وبره.

ومات معاوية رضي‌الله‌عنه وبويع ليزيد في عام ٦٠ الهجري فتوثب ابن الزبير للعمل في خطوته الأولى وئيدا إلا أن منافسه الحسين بن علي كان يحتل في مكة وأمصار الاسلام مركزا يطغى على منزلة ابن الزبير فلما وافاه خبر وفاة الحسين عام ٦١ ه‍ نهض على قدميه ورفع صوته بالدعوة.

وحاول الأشدق والي مكة ليزيد أن يعالج الأمر في حرص وحذر وأن يحد بالمداراة نشاطه ، فبث العيون حول أنصاره ورتب الجواسيس ليحصوا حركات أتباعه وسن ما يشبه نظام مراقبة الأجانب اليوم فجهز مكة بمختصين يكتبون أسماء القادمين اليها ويتعرفون هويتهم فمن وجدوه ذا علاقة خاصة بابن الزبير يمنعونه من الدخول إلا أن محاولاته جميعا لم تفت في عضد ابن الزبير ولم تهن من عزيمته وجاءت أوامر يزيد بارسال ابن الزبير مقيدا فلم يستطع الأشدق عمل شيء أكثر من أن يرسل اليه سلسلة من فضة (١).

__________________

(١) الكامل لابن الأثير ٣ / ٣٠٥

١٠٩

حملة لتأديب ابن الزبير : وتناقلت الأخبار في هذه الأثناء حوادث بدء الاضطرابات في المدينة فأمر يزيد عمرو بن سعيد أن ينتقل الى المدينة فأناب عنه في مكة الحارث بن خالد المخزومي بعد أن أوصاه بالتيقظ لأعمال ابن الزبير فلم تنفع وصيته شيئا لأن ابن الزبير أبى أن يعير يقظة الولاة اهتماما وهو يشعر ببأسه في مكة واتفاق من فيها عليه (١).

وبدا ليزيد في هذا العام ٦١ تأديب ابن الزبير ، فأرسل الى عمرو بن سعيد المنقول الى المدينة أن يجهز على ابن الزبير فجهز له جيشا من ألفي مقاتل أمر عليه عمر بن الزبير أخا عبد الله وأنيس بن عمر الأسلمي ، فسار الجيش حتى عسكر بعضه في الأبطح وبعضه في ذي طوى فقابلهم ابن الزبير بجموعه وأبادهم ثم أسر أخاه عمر وكان ذلك في أواخر عام ٦١ وهي أول حملة تأديبية ضد ابن الزبير.

عصيان المدينة واباحتها : ودخل عام ٦٢ ه‍ والاضطرابات على حالها في المدينة ومكة وكان أهل المدينة قد كتبوا قبل ذلك إلى عبد الله بن الزبير يقولون. «أما إذ قتل الحسين فليس من ينازع ابن الزبير» ثم ما لبثوا أن اجتمعوا على خلع طاعة يزيد واخراج عامله فتطورت الأحوال في تلك السنة وانتهت بواقعة الحرة عام ٦٣ وفي واقعة الحرة سجل سيف يزيد الى جانب ما سجله في مقتلة الحسين مأساة جديدة تمثلت في أوامر يزيد باقتحام المدينة عنوة واباحتها لجنده ثلاثة أيام (٢).

__________________

(١) المصدر نفسه والصفحة نفسها.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ / ٢٩٨

١١٠

النخاولة : ويسيء المنصف بهذه المناسبة أن يقرأ ما رواه بعض المؤرخين بأن شيعة المدينة من سكانها اليوم ويسمونهم «النخاولة» من ذرية هاتيك الاباحة فذلك رأي يبدو فيه التعصب كأوضح ما يكون ، والا فما علاقة تلك الذراري بالتشيع؟ وإذا كان أهل المدينة كما تقول بعض الروايات قد نبذوا ذراريهم من تلك الاباحة في ناحية من المدينة فلم لا يكون أولئك الذراري خجلوا من وسمهم وتفرقوا في البلاد؟؟ ـ ان هذا أقرب الى منطق العقل من تماسكهم الى اليوم في طرف من المدينة وبقائهم فيها.

الواقع أن بعض المؤرخين يلغون عقولهم لدى نقل الروايات وأن بعضا اخر تتحكم أهواؤهم في معتقداتهم فيسجلون لشهواتهم أكثر مما يسجلون للحقيقة والتاريخ.

والمؤسف أن بعض العامة في المدينة يتأثرون الى اليوم بمثل هذه الروايات العابثة فينظرون الى اخوانهم النخاولة مثل هذه النظرة ويؤكد ذلك في نفوسهم خروجهم على مذهب السنة والواقع ان النخاولة (١) جزء من الشيعة في العالم الإسلامي وليس التشيع غريبا في بلاد العرب وقد عرفه التاريخ في جميع أدواره في أواسط كثيرة من أشرافهم وعامتهم وقد تعلم الناس نبذ النخاولة لأن العثمانيين كانوا حربا على التشيع لأسباب سياسية وليس بين النخاولة وبين الاجماع إلا أن يعنى المسلمون بهم ويتفقوا على اقناعهم لينضموا بذلك الى صفوف اخوانهم ويتحدوا واياهم على كلمة واحدة تجمع هذا الشتات في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى الجمع والتوحيد.

__________________

(١) واسمهم الرسمي في الدوائر الحكومية (النخليون) واحدهم نخلي. وقد كتبت عنهم فصلا في (معجم قبائل الحجاز) وبينت هناك رأيي فيما تساءل عنه سعادة المؤلف ، ولكن لم يسمح له بالنشر. (ع)

١١١

القتال في مكة وحرق الكعبة : وما انتهت واقعة الحرة في المدينة في أواخر عام ٦٣ حتى صدر أمر يزيد الى قائده مسلم بن عقبة (١) أن يتوجه في جيشه الى مكة لقتال ابن الزبير فسار اليها ولما كان في بعض الطريق أدركته الوفاة فأوصى بقيادة الجيش الى الحصين بن نمير (٢) فتولاه واستأنف سيره حتى انتهى الى مكة فى أواخر المحرم سنة أربع وستين ونزل في ظاهرها.

وخرج اليه ابن الزبير في جموعه من مكة وبعض القبائل من أطرافها وعدد ممن التحق به من أشراف المدينة وبدأت المناوشات والتقى المتبارزون من الفريقين وظل شأنهم كذلك حتى بدا لجند الشام نصب المجانيق فنصبوها في ربيع الأول سنة ٦٤ ورموا الكعبة بالنفط والحجارة حتى احترقت كسوتها وتصدعت حيطانها (٣).

ولست ممن يرى أن الكعبة كانت مقصودة لذاتها بالرمي لأنني أعلم أن جيش الشام كان يستقبلها في صلاته ولا يرمي الكعبة رجل يصلي اليها ولا يرضى أن يقذفها بالحجارة كما في رأي بعض المؤرخين أو بالنار كما في رأي البعض الآخر.

والذي أستطيع أن أستنتجه أن ابن الزبير كان يعوذ بها ويحتمي خلفها فبدا للجيش أن يصيبه من ورائها وقد فعل ، فنالت الاحجار بعض أركانها ويذكر

__________________

(١) ابن رباح المري : من قواد العهد الأموي (الأعلام للزركلي) وقد لقب مسلم هذا الشنيع فعله (مسرف بن عقبة)

(٢) السكوني : من قواد العهد الأموي (المصدر السابق)

(٣) اخبار مكة للأزرقي ١ / ١٣٥

١١٢

بعض المعتدلين من الرواة أن أصحاب ابن الزبير كانوا يوقدون النار وهم حول الكعبة فعلقت النار في بعض أستارها فسرت الى أخشابها وسقوفها فاحترقت (١) وهي رواية أقرب في اعتدالها الى الواقع مما عداها من روايات التهويل والتشنيع.

نجاح ابن الزبير : وظل القتال على حاله حتى وافت الأخبار بنعي يزيد ففتر الحماس بين صفوف جند الشام ورأى الحصين بن نمير أنه يقاتل منذ اليوم إلى غير غاية فاجتمع بابن الزبير في ظاهر مكة وقال له : ان كان هذا الرجل قد هلك فأنت أحق الناس بهذا الأمر فهلم وارحل معي الى الشام فو الله لا يختلف عليك اثنان.

ولكن ابن الزبير حسبها خدعة فرد عليه ردا أساءه فنفر منه ابن نمير ، وفي رواية أخرى أن ابن الزبير ندم على ما كان من غلظته فبعث اليه يقول : أما الشام فلا آتيه ولكن خذ لي البيعة من هناك ان شئت ، ويعلق صاحب تاريخ الاسلام السياسي على هذا فيقول ان ابن الزبير كان متأثرا بالفكرة القومية وهي اعادة النفوذ والسيطرة الى بلاد الحجاز كما كان في عهد النبي وأبي بكر وعمر وعثمان لهذا أبى أن يغادر الحجاز ، كما يعلق صاحب التاريخ السياسي للدولة العربية فيقول ان بقاء ابن الزبير في مكة كان من أسباب ضعفه لعدم جواز القتال فيها وقتاله فيها يسيء الى حرمة الكعبة.

واني لا أستبعد تأثر ابن الزبير بالفكرة القومية فقد كان من أشد معاصريه تحمسا لها ولكني أفهم أن ذلك لا يمنعه من الرحيل الى الشام لأخذ البيعة ثم

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقي ١ / ١٣٩

١١٣

العودة إليها بعد أن تستقيم له الأمور وتستقر شؤونها ، إذن فلا بد من عامل كان له أثره في امتناع ابن الزبير ، ولا أستبعد أن يكون ذلك هو خوفه من الخدعة التي أشارت إليها الرواية السالفة وليست الخدعة غريبة على مثل الحصين بن نمير فقد يكون أرادها ليحمل خصمه الى الشام غنيمة باردة لمن يتولى الأمر فيها ، وليس غريبا على مثل ابن الزبير وهو يضطلع بمهام خطيرة أن يكون يقظا حريصا.

ومهما كان الأمر فقد اختلف الفريقان في هذا الاجتماع السلمي ورأى الحصين بن نمير أنه لا حاجة له في قتال لا يعرف غايته ففك الحصار ورجع الى الشام وبرجوعه كانت الخلافة قد وليها معاوية بن يزيد ثم تنازل عنها في ربيع الأول سنة ٦٤ في اجتماع عام قال فيه «أيها الناس اني قد وليت أمركم وأنا ضعيف عنه وقد تركت لكم أمركم فولوا عليكم من يصلح لكم» واختلف المؤرخون في مدة خلافته بين نصف شهر وثلاثة أشهر.

واستتب الأمر لابن الزبير في مكة وما والاها وبايعه الناس فيها وفي المدينة ثم بايعه أهل البصرة وأهل الكوفة وأرسل الى مصر ثم إلى أهل اليمن فبايعوا جميعا كما أرسل الى أهل خراسان فبايعوه واتفقت فرقة كبيرة من الخوارج على بيعته كما بايعه أهل حمص وفلسطين والعراق وسائر بلاد الشام إلا دمشق.

ورأى الناس في دمشق اتساع الأمر لابن الزبير فاجتمعوا الى نائب دمشق لبني أمية ـ الضحاك بن قيس الفهري ـ وهو من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخطب فيهم خطابا جامعا دعا فيه الى مبايعة ابن الزبير (١).

ورأى مروان بن الحكم أن الأمر سينتظم لابن الزبير في الشام كما انتظم له في بقية الأمصار فعزم على الرحيل الى مكة لمبايعة ابن الزبير وليأخذ منه أمانا لبني

__________________

(١) العقد الفريد ٢ ص ٣١٣ وما بعدها

١١٤

أمية فسار في بعض الطريق فلقيه بعض بني أمية في خلق كثير وأثنوه عن أمره ، وقالوا أنت كبير قريش ، وخالد بن يزيد غلام وعبد الله بن الزبير كهل ، وانما يقرع الحديد بالحديد فلا تناوئه بهذا الغلام وارم بنحرك في نحوه ونحن نبايعك أبسط يدك فبسط يده فبايعوه بالجابية في ٣ ذي القعدة عام ٦٤.

ثم سار بمن معه نحو أنصار ابن الزبير من أهل الشام وعلى رأسهم الضحاك بن قيس فنشب القتال بينهم عنيفا قليل المثال فقتل الضحاك وتفرق أصحابه وذلك في أواخر ذي الحجة من عام ٦٤ وبذلك استقر الأمر لبني أمية في الشام وتمت البيعة فيه لمروان بن الحكم بينما استقر الأمر في بقية الأمصار لابن الزبير وبويع فيها خليفة على المسلمين (١).

العصبية اليمنية القيسية : وإذا راق لنا أن نتتبع أسباب الخلاف في بلاد الشام بين أنصار ابن الزبير وأنصار بني أمية فسيبدولنا الأمر أغزر مما يتراءى بين الأموية والزبيرية فالمعروف أن بلاد الشام كانت تنزلها سلالات هاجرت أصولها القديمة من اليمن قبل الاسلام بعهود طويلة فطال استيطانها ثم ما لبثت أن طرأت عليها مع الفتح الاسلامي قبائل حجازية شاركتها الاستيطان وقد عرفوا باسم العدنانيين أو النزاريين ثم غلب عليهم اسم القيسيين.

وقد تكاثر اليمنيون والقيسيون فعموا بلاد الشام بما فيها الأردن وفلسطين.

ولا نشك في أن اليمنيين كانوا يتيهون على القيسيين بأصولهم فقد كانوا في احد أدوار التاريخ سادة الجزيرة العربية وكان الخزاعيون حكام مكة قبل قريش من اليمن كما كان الأوس والخزرج في المدينة يمنيين مثلهم كما لا نشك أن القيسيين وهم سلالة الفاتحين في صدر الإسلام يتيهون على اليمنين بأنهم هداة

__________________

(١) الآداب السلطانية للفخري ١٦٤.

١١٥

البلاد فكان لهذه المفاخرة أثرها في التحيز للعصبية التي نهى عنها الاسلام.

ولقد مر بالاسلام عهد نسى فيه المتعصبون هذا التحيز ولكنه ما لبث أن أثير على أثر الفتن التي نشبت بسبب الخلاف على اختيار الخليفة وما لبث بعض الخلفاء من بني أمية أن استغلوا هذه الاثارة لتأييد مراكزهم فهم رغم نسبهم الى القيسية كان يحلو لبعضهم أن يصاهر اليمنية ليعتد بها اذا ناوأه بعض القيسية خصوصا في الأوقات التي اشتد فيها ميل القيسية الى البيت الهاشمي فلا غرابة إذا تفاقم التعصب واشتد أواره.

ولا غرابة أن نجد في الشام يوم حركة ابن الزبير من يدعو له وينادي بخلافته كما نجد فيها من يدافع بسلاحه ضدها لصالح الأمويين.

لم تكن هناك زبيرية وأموية بقدر ما كانت هناك قيسية تتمنى أن تنجح قبائل الحجاز ويمنية تتمنى فشل القيسيين ولو ضد مصلحة الأمويين أصهارهم.

لقد شعر معاوية أن في الشام احتكاك بين القيسية واليمنية فدارى ذلك في سياسة عديمة النظير وجاء اليزيد بعده فلم تعجزه المداراة ولكنه ما أن قضى حتى عادوا الى الاحتكاك واستطاع مروان بن الحكم أن يستفيد من احتكاكهم وأن يستعين بسيوف اليمنيين وهم كثرة هائلة على القيسيين الذين أرادوها ربحا للحجاز في شخص ابن الزبير (١).

مؤهلات ابن الزبير : على أنه ليس كثيرا على ابن الزبير أن تتفق الأمصار على بيعته فقد كان ابن حواري رسول الله وأمه بنت الصديق وخالته عائشة وكان

__________________

(١) راجع تاريخ دمشق لابن عساكر ٣١٩ فما بعدها وتاريخ اليعقوبي ٢ / ٢٩٩ والكامل لابن الأثير ٣ / ٢٥٨.

١١٦

من القانتين لله المتمسكين بطاعته وكان إذا سجد وقفت العصافير على ظهره تصعد وتنزل لا تراه إلا جذم حائط. وليس كثيرا أن يصمد لدعوته ويثبت وقد عرف بالجلد وقوة الغزيمة والصبر. حدث عمر بن عبد العزيز قال قلت يوما لأبي سليكة صف لنا ابن الزبير فقال : ما رأيت جلدا قط ركب على لحم ولا لحما على عصب ولا عصبا على عظم مثله ولا رأيت نفسا ركبت بين جنبين مثل نفسه ولقد مرت آجرة من رمي المنجنيق بين لحيته وصدره فوالله ما خشع ولا قطع لها قراءته ولا ركع دون ما كان يركع.

وكان إلى هذا ذا أنفة وكانت له نفس شريفة كما كان فصيحا قوي البيان جهوري الصوت إذا خطب تجاوبه أصداء أبي قبيس (١).

في هذه مقومات الزعامة ومؤهلاتها فلا عجب إذا قاد المسلمين واضطلع بأعبائهم يضاف إلى هذا ما عرف من غيرته للبلاد التي أنبتت مجد الاسلام في الحجاز وتلهفه الى اعدادها من جديد اعدادا قويا يلم به شعث الإسلام ويسيطر من برجها على مقدرات العالم .. يضاف الى هذا أن الاستياء من تصرفات الأمويين كان قد شمل جميع الأمصار وأصبح المسلمون في بقاع الأرض ينظرون الى أحداث الأمويين الجسام ـ كمقتل الحسين واباحة المدينة وغزو مكة وتحولهم من طريقة الشورى في الحكم الى نظام الوراثة ـ نظرة فيها كثير من النقد والاستياء.

هذه الأسباب مضافة إلى مقومات الزعامة في ابن الزبير ساعدت على نجاح

__________________

(١) راجع الكامل لابن الاثير ٤ / ٢٦٠ فما بعدها والطبري ٢ / ٨٥٠ فما بعدها.

١١٧

دعوته والتفاف المسلمين في الأمصار حولها (١) إلا أننا سنرى عما قليل أن هذا النجاح بالرغم من جميع مقوماته لم يلبث طويلا حتى مني بالفشل وعادت الخلافة الى بيوت الأمويين في دمشق بتأثير عوامل خاصة سنأتي عليها في السياق.

بوادر فشل ابن الزبير : ما كاد ينجح مروان بن الحكم في اخضاع أنصار ابن الزبير في الشام كما أسلفنا في عام ٦٥ حتى جرد جيشا قويا وقاده بنفسه الى مصر لطرد عامل ابن الزبير فيها وجيشا آخر الى جهة العقبة بقيادة ابنه عبد العزيز لمساعدته وقد نجح الجيشان واستولى مروان على مصر.

وعاد مروان إلى الشام وجهز جيشا الى الحجاز وآخر الى العراق ولكنه مات قبل أن تصل إليه نتيجة احدهما ولما تولى الأمر بعده ابنه عبد الملك أبلى في تثبيت ملكه أحسن البلاء فقاتل من ثار عليه من شيعة الكوفة حتى هزمهم ثم زحف الى العراق فطرد والي ابن الزبير منها ثم بلغته أنباء بعض القلاقل التي حدثت وراءه في الشام فعاد إليها حتى قضى على كل فتنة فيها (٢) ووطد لملكه بذلك في أكثر الأمصار ولم يبق أمامه ما يمكن ان يسميه خطرا هاما إلا مشكلة مكة في شخص ابن الزبير.

انحلال الزبيريين : ولقد كان عبد الملك بن مروان حكيما أكثر مما يجب عندما رأى ابن الزبير يناجز الخوارج والشيعة العداء في العراق فتركه وما يناجز انتظارا لليوم الذي تهن فيه قوته وتضعف ، وقصة الخوارج قصة ألممنا بها يوم خرجوا على علي وجيشه منتقدين قبوله للحكم كما أن قصة الشيعة مررنا بها في وثبتهم

__________________

(١) بالرغم من ذلك وقف بعض أقطاب الإسلام موقف المحايد من حركة ابن الزبير ومن أشهرهم عبد الله ابن العباس ومحمد بن الحنفية وعبد الله بن عمر وعلي بن الحسين وقد اضطر ابن العباس لترك مكة فرحل الى الطائف ومات بها.

(٢) المسعودي مروج ص ٢٤٢ فما بعدها.

١١٨

للأخذ بثأر علي والحسين ابنه من ظالميه وقد ظلت ذيولها لا تنقطع وظل ابن الزبير يكوى بأحنها ويعاني في جهادها ما يعاني حتى إذا نفد الكثير من قوته بدأ عبد الملك يزحف في جيوشه إلى الكوفة حيث يقاتل مصعب بن الزبير ضد فريق من الشيعة يرأسه المختار بن عبيد الله فقابله مصعب بجيش أضنته الحروب وقواد أضرهم امساك ابن الزبير في الأموال وشعب كان موتورا بقتل المختار زعيمه المهزوم.

ومضى الأمويون في طلائعهم بدر الأموال تمشي الى مراكز القادة من الزبيريين وعذب الأماني تنثال الى بيوت الرؤساء فيهم وبذلك انحلت عرى الزبيريين ووجد الأمويون طريقهم الى النصر على جثث العراقيين والحجازيين وبه تم النصر لعبد الملك بن مروان بعد قتل مصعب بن الزبير في عام ٧١ وبويع له بالخلافة في الكوفة (١).

حصار ابن الزبير في مكة للمرة الثانية : وما استقر الأمر للأمويين في العراق بعد الشام ومصر ومدن الإسلام التي فتحوها حتى فكر عبد الملك بن مروان أن يختم جهوده باستئصال الزبيريين من منابتهم في مكة فسير الحجاج بن يوسف الثقفي (٢) في جيش عظيم إلى مكة في عام ٧٢ فمضى إلى العراق ثم نزل الطائف بلده التي ولد فيها وبدأ يرسل طلائعه إلى عرفة فتقابله سرايا ابن الزبير فينشب القتال بينهما فتنهزم خيل الزبيريين ، ثم تقدم الحجاج الى بئر ميمون وهي

__________________

(١) الكامل ٤ / ١٣ وما بعدها.

(٢) الحجاج من قبيلة ثقيف بالطائف ولد بها ونشأ يعلم الصبيان ولما لم تسعه مهنة التعليم خرج الى الشام ولحق بشرطة روح بن زنباغ ولما احتاج عبد الملك بن مروان الى حازم يسوق مؤخرة الجيش قدمه روح ابن زنباغ بعد أن وصف قسوته وحزمه لعبد الملك فكان عند ظنهم فارتفعت مكانته عند عبد الملك وزادت درجته حتى تولى قيادة الجيش لمهاجمة ابن الزبير في مكة «انظر وفيات ١ / ١٧٣ فما بعدها».

١١٩

بين مكة ومنى ووافاه في بئر ميمون القائد الأموي طارق بن عمرو في جيشه قادما من المدينة بعد أن فتحها وبايع فيها لعبد الملك ابن مروان.

وأهل هلال ذي الحجة عام ٧٢ ه‍ ومكة محصورة ولا سبيل للحجاج اليها ولما وافى يوم عرفات وقف الحجاج بجيشه ملبيا ثم ازدلف واياهم إلى المزدلفة ومنى ولم يستطيعوا دخول مكة لاتمام مناسكهم فبقوا في احرامهم ولم يستطع الزبيريون والاهالي في مكة أن يقفوا على عرفات فنحروا بدنهم يوم النحر وظلوا محصورين في مكة.

وتقدمت جيوش الحجاج في مستهل عام ٧٣ حتى نزلت بين الحجون وبئر ميمون بعد أن أذن له عبد الملك بن مروان بدخول مكة وكان قد أوصاه بحصار ابن الزبير وأن يتجنب دخولها (١).

ثم تقدموا حتى اتصلت بعض سراياهم ببعض أبواب المسجد الحرام مما يلي باب بني شيبه إلى ما يحاذي باب الصفا تقريبا ولاذ الزبيريون بالمسجد يتحصنون بالكعبة فأمر الحجاج بنصب المجانيق فنصبت ورمى بها المتحصنون للمرة الثانية في عهد ابن الزبير ، فكانت الأحجار تنال الكعبة وتقع على جدارها (٢) ويذهب بعض المؤرخين الى أن الحجاج كان يرمي بها الكعبة فيتبادر الى بعض الأذهان أنها كانت مقصودة وهي فكرة كان أحرى أن ينالها تدقيق العبارة فالحجاج على قسوته وعناده ليس بالرجل الذي ينسى اسلاميته ويرمي قبلته التي يصلي اليها بحجارة المنجنيق انما هي حمى الحرب وثورة الأعصاب أسلمت المسلمين مع كل أسف في كثير من أزمنة التاريخ الى كبائر وأخطاء لا

__________________

(١) شفاء الغرام للفاسي ٢ / ١٧٠.

(٢) مروج للمسعودي ٥ / ٢٥٨ فما بعدها.

١٢٠