تأريخ مكّة دراسات في السياسة والعلم والاجتماع والعمران - ج ١-٢

أحمد السباعي

تأريخ مكّة دراسات في السياسة والعلم والاجتماع والعمران - ج ١-٢

المؤلف:

أحمد السباعي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الطبعة: ٠
ISBN: 9960-660-17-6
ISBN الدورة:
9960-660-18-4

الصفحات: ٧٩٣

وفي عام ٨١٧ عمر الغوري في زيادة باب ابراهيم وبنى فوقه قصرا مرتفعا مع مرافقه وجعل حول القصر من خارج المسجد معازل ومساكن وبنى خارج ذلك متوضأة تشتمل على مراحيض وبركة ماء ووقف القصر والمساكن على بعض اعمال الخير وبنى على يمين الداخل باب ابراهيم من الداخل حاصلا في ارض المسجد وعلى اليسار مثله وقرر فيهما بعض المستحقين وجعل في الجانب اليماني حاصلا يشتمل على سبيل ماء وصهريج كبير من ماء المطر من سطح المسجد.

وخربت المظلة القائمة فوق بئر زمزم في عام ٨١٨ فنقضت وبنيت مرة اخرى (١) ثم عمر الشراكسة كثيرا من الخرائب في اماكن متعددة من المسجد وعمروا باب النبي وعمروا ثمانية عقود جهة باب الزيادة ونقضوا منارة باب السلام ثم اعادوها في عام ٨١٦ كما نقضوا بعد ذلك منارة باب الزيادة ثم اعادوها في عام ٨٢٣ واصلحوا في سطح الكعبة وتراكمت في هذا العهد طبقات من التراب في المسجد فاستعان المسؤولين بالثيران لجرفه ثم نقلوه الى المسفلة ثم بطح مكانه بطحا مغربلا نقلوه من ذي طوى ووادي الطند باوي (٢)

طريق الحجاج : وكان طريق الحجاج قد انتقل في اواخر عهد الايوبيين من القصير وعيذاب الى طريق العقبة (٣) كما أسلفنا ذلك ثم ما لبث أن أخذ هذا الطريق أهميته في عام ٦٦٠ حيث سير الظاهر بيبرس البندقداري قافلة الحجاج منه وأرسل معها كسوة الكعبة ومفتاحها الذي صنعه لها.

__________________

(١) منائح الكرم للسنجارى «مخطوط»

(٢) اتحاف الورى لابن فهد القرشي «مخطوط» (ع) : رجحنا في (معجم معالم الحجاز) ان يكون اسمه التنضباوي.

(٣) هي ميناء الاردن اليوم ، على رأس خليج ينسب اليها. (ع)

٣٨١

ثم عني الشراكسة بتنظيم السير فى هذا الطريق عما كان في عهد الايوبيين واول من نظم شؤون السير هو أحد الامراء المصريين واسمه جمال الدين فقد سافر والده أميرا للمحمل في عام ٨٠٩ فعني الولد بترتيب القافلة عند وصلها الى عجرة (١) ـ وهي محطة قبيل السويس ـ فأمر بكتابة أكابر الحجاج ورتب سيرهم في مكان معين من القافلة بعد ان ضبط طليعة القافلة وساقها بجماعة من العسكر وجعل الاموال تتوسطها (٢)

والطريق بين السويس والعقبة شاق جدا تسوخ في رماله الناعمة الجمال ويتيه في بيدائه المسافرون فلا يهتدون الا بأنصاب من الحجر بنيت على الطريق لهدى المسافرين. وكان الحجاج يعانون فيه من قلة الماء ما يعانون وكانت المسافة بين السويس والعقبة زهاء ٣٠٠ كيلو تقطعها قافلة المحمل وهي أسرع القوافل سيرا فى اكثر من عشرة ايام.

وتصعد القوافل في العقبة وتنيخ في مدينتها للراحة فقد كانت محطة من محطات الحج المصري في هذا العهد الذي ندرسه وكانت مصر تحشد من جنودها في قلعتها ما يكفي لتأمين طريق الحجاج.

وكانت العقبة الى ذلك ملتقى الحج السوري (٣) بالمصري فقد كانت قوافل السوريين تصل اليها من غزة فتلتقي بقوافل المصريين ثم ينحدرون الى قرية أبلة وهي المدينة القديمة التي اندثرت وقامت العقبة على انقاضها.

وتنتقل قوافل الحجاج بعد ذلك الى مدينة الوجه فتصلها في اقل من نصف

__________________

(١) لعله عجرود : محطة مشهورة بين القاهرة والسويس (ع)

(٢) افادة الأنام للشيخ عبد الله غازي «مخطوط»

(٣) اى سوريا الساحلية فلسطين ولبنان. (ع)

٣٨٢

شهر وكان في الوجه محافظ يحكم المدينة من الشراكسة وقاض ينظر في قضاياهم الشرعية وجند يحافظون على الامن وسوق عام تعرض فيه السلع الواردة من الشمال والجنوب والغرب (١).

وكان الطريق يتشعب بعد الوجه الى العلا شرقا وينبع جنوبا والمدينة المنورة من الناحية الجنوبية الشرقية وبذلك كان سير القافلة يستغرق في العادة نحو شهر ونصف الى المدينة أو مكة وذلك للقافلة ذات السير السريع.

وكانت ثمة طرق اخرى أكثرها برية تمضي فيها قوافل الشام والقدس اهمها طريق العريش وطريق العلا وهو الطريق الذي يقطعه المحمل الشامي من دمشق في مدة لا تقل عن اربعين يوما (٢).

وظلت هذه الطرق عامرة بقوافل الحجاج الى سنة ١٣٠١ حيث اتخذ الحج المصري طريقه من السويس الى جدة في المراكب الشراعية قبل استعمال البواخر كما سيأتينا.

نشأة الطوافة : ولعل صناعة التطويف ابتدعت في هذا العهد لأن الشراكسة بحكم جهلهم اللغة العربية وميلهم الى الأبهة والبذل كانوا يفضلون ان يعتمدوا على من يخدمهم ويدلهم على مشاعر الحج ويتلو أمامهم أدعيته.

وقد ذكروا أن السلطان قايتباي حج في عام ٨٨٤ ولم يحج من ملوك الشراكسة غيره ، وأن القاضي ابراهيم بن ظهيرة تقدم لتطويفه وتلقينه الأدعية (٣) ولم يذكر المؤرخون مطوفا قبل القاضي كان يلقن الحجاج في مكة فيما قرأته من تواريخ مكة.

__________________

(١) افادة الأنام للشيخ عبد الله غازى (مخطوط»

(٢) افادة الأنام للشيخ عبد الله غازى (مخطوط»

(٣) الاعلام للقطبي على هامش خلاصة الكلام ١٥٨

٣٨٣

ومما أورده القاضي في حديثه عن حج قايتباي أن صاحب مكة محمد بن بركات ندب من يستقبله في الحوراء ـ وهي بالقرب من املج ينبع ـ (١) وأنه مد له فيها سماطا عربيا كان بين انواعه صنف من الحلوى اعجب به السلطان فسأل عن اسمه فقيل ان اسمه «كل وأشكر» (٢).

وفي هذا ما يدل على عنايتهم بالاسمطة وتصنيف انواعها في ذلك العهد وفي تسمية الحلوى «كل واشكر» ما يدل على لون خاص من العاطفة الدينية.

وبعد أن يذكر القطبي (٣) كيفية استقبال قايتباي واشتراك علماء مكة واعيانها في ذلك يقول انه عندما انتهى موكب السلطان الى باب السلام الخارجي تخطى عتبته بفرسه فجفل الفرس فسقطت عمامة السلطان عن رأسه وفي هذا يقول ابن فهد (٤) ان ذلك كان تأديبا من الله لانه يتعين على السلطان ان يترجل ويدخل محرما مكشوف الرأس. ثم قال وكان مدة اقامته كثير الصدقات وقد بذل من الاموال ما لم يسبقه اليه أحد.

امام الحرم وقايتباي

ومن طريف ما يروي من قصص حجه ان امام المسجد الحرام الشيخ محب الدين الطبري المكي لم يكن ضمن مستقبليه خارج مكة وقد وشى به بعض حساده عند قايتباي فأمر به فحضر فعاتبه في ذلك فقال اني استقبلتك في

__________________

(١) آثارها اليوم بطرف ام لج من الشمال ، ويبدو أن أم لج قامت على اندثار الحوراء ، ولعل الاسم كان لميناء الحوراء وقرية لصيقة بها. (ع)

(٢) الاعلام للقطبى على هامش خلاصة الكلام ١٥٦

(٣) الاعلام للقطبى على هامش خلاصة الكلام ١٥٨

(٤) اتحاف الورى لابن فهد «مخطوط»

٣٨٤

اشرف بقعة وهي المسجد الحرام فسر لجوابه ثم بلغه انه لا يتقاضى شيئا لوظيفة الامامة فقال له اني فرضت له مائة دينار شهريا لقاء امامتك فقال : ان امامتي حسبة لله لا اقبل عليها جزاء ثم ما لبث ان انسل من المجلس دون ان يأذن له قايتباي وقال وهو يخرج : سلام عليكم. فعلق بعض الوشاة على ذلك وقال للسلطان انه اراد الآية (سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) فلم يسمع السلطان للوشاية وقال انني تصورته أسدا قوي الشكيمة في اول مقابلته لي ولما عاد السلطان الى مصر ارسل امرا بتعيين الشيخ رئيسا للقضاة ومشيخة الحرم والافتاء والتدريس والحسبة فوصل الرسول مكة وأراد تسليم الاوامر الى الشيخ نفسه فلما انتهى الى بيته قيل له انه ذهب يحمل عجين بيته ليخبزه في فرن في اقصى الشارع فعجب الرسول من ذلك واستخف بعمله ثم انتظره الى جوار البيت حتى حضر وسلمه الاوامر فاهداه الشيخ رغيفين من خبزه فصعب ذلك على الرسول وقال ان مثل هذه التعينات لا تقل مكافأتها عن الالف. فأعاد الشيخ اليه اوراق التعيينات وقال : تفضل فاعدها الى سلطانك فانه لا حاجة لي بها (١)

__________________

(١) تاج تواريخ البشر للعلامة الحضراوى «مخطوط»

٣٨٥

٣٨٦

٣٨٧
٣٨٨

في عهد الترك العثمانيين

تمهيد : كان الترك قبائل رحلا وكانت بلادهم تمتد من شمال الصين إلى البحر الأسود ومن سيبريا ومنغوليا إلى الهند وايران وهي المقاطعة التي نسميها اليوم تركستان. ومن أشهر قبائلهم في عهد العباسيين فيما وراء النهر السعد والفراعنة والأشروسة وأهل الشاش ويقال لها اليوم «طاشقند».

وقد اتصل الاسلام بهذه القبائل في عهد الأمويين على أثر فتح بخارى وسمرقند ، فقد غزتهم جيوش المسلمين ثم صالحتهم على أموال.

وفي عهد العباسيين شرعت بعض قبائلهم تهاجر الى غربي آسيا وتتصل بحواضر المسلمين فاستخدمهم المعتصم العباسي لحراسته وكان أول من استخدمهم. ثم توسع الخلفاء بعده في استخدامهم في الجيوش المحاربة فأبدوا من الكفاءة والتفاني ما ميزهم على كثير من المحاربين .. والمهاجرون من شظف العيش وقسوته في جميع ميادين الحياة يتفانون في مواطن هجرتهم في سبيل ما يعملون حتى يصبح التفاني عادة أصيلة فيهم ومن ثم يدفعهم ذلك إلى التبريز فيما يتفانون فيه .. وقد شهدنا في العصور الأخيرة بعض المغاربة المهاجرين إلى الاستانة يستخدمهم بعض السلاطين لحراسته الخاصة فيتفانون في خدمته كما شهدنا مهاجري افريقيا الجنوبية يتولون حراسة أشراف مكة ومنهم بعض العبيد فيخلصون لأوليائهم ويتفانون في حراستهم.

وقد هيأ هذا التفاني الأتراك لمناصب كبيرة في جيوش المسلمين واستطاعت طوائف كالسلاجقة التحكم في مقدرات الخلافة في بغداد ، كما استطاعت بعض طوائفهم تأسيس حكومات لهم في أقطار الاسلام كمماليك الأتراك والشراكسة

٣٨٩

٣٩٠

في مصر والعثمانيين في الأناضول ثم في بلاد الروم.

وأتراك بني عثمان من بعض هذه القبائل وكانوا قد نزلوا بالقرب من الأناضول فصادفهم جيش من أتراك السلاجقة ينازل التتار فتقدموا متطوعين لنصرة السلاجقة حتى رجحت كفتهم فأراد سلطان السلجوقيين أن يكافئهم على صنيعهم فأقطع أميرهم «أرطغرل» أرضا ينزلها في الأناضول ويبني لاتباعه امارة فيها.

وخلف أرطغرل ابنه عثمان الذي وسع أطرافها وأعلن استقلالها في عام ٦٩٩ وخلف عثمان في امارته المستقلة سلاطين توسعوا في فتح البلاد أشهرهم بايزيد بن مراد (٧٩١ ه‍) الذي أخذ يعيد إلى المسلمين ودول الشرق المنكوب بعض هيبتهم خصوصا بعد انتصاره على الجيوش الصليبية المتحدة من دول اوروبا في واقعة نيكولي مما جعل العرب وحكوماتهم في دول الاسلام يعتبرون انتصاراته ظفرا لهم وكسبا جديدا للاسلام حتى ان مماليك الشراكسة في مصر احتفوا بأخبار انتصاراته وكتب الخليفة العباسى المنصوب عندهم في القاهرة يهنئه ويمنحه لقب سلطان الروم.

ولما حمل تيمور لنك على السلطان بايزيد واستطاع أن يأسرة في عام ٨٠٤ ه‍ شعر العثمانيون أن الشراكسة في مصر ظاهروا تيمور لنك في حركاته واستغلوا فرصة انكسار بايزيد فضموا بعض ممتلكاته اليهم فأسر العثمانيون ذلك لهم وأضمروا لهم الشر.

واستطاع العثمانيون أن ينهضوا من كبوتهم ويستأنفوا جهادهم واستطاع محمد الثاني فاتح القسطنطينية أن يتوسع في فتوحاته ثم خلفه في الفتوحات بايزيد بن محمد ثم السلطان سليم الذي استطاع أن يدك الممالك وأن يدفع جيوشه الى

٣٩١

بلاد الشراكسة فينتقم لآبائه منهم وأن يستولي على مصر في أواخر عام ٩٢٢ فيقضي على حكومتهم فيها.

واجتمع في مصر بالخليفة العباسي الذي كان يعيش في كنف الشراكسة ولا يملك من الخلافة إلا اسمها وهو «المتوكل على الله» فطلب اليه أن يتنازل له عن الخلافة ففعل وبذلك كان سليم أول خليفة لقب بأمير المؤمنين.

علاقة العثمانيين بمكة : قد يتبادر الى الذهن أن علاقة العثمانيين بمكة كانت وليدة اتصالهم بمصر على أثر سقوط الشراكسة فيها ، ولكن الواقع أن العثمانيين اتصلوا بأصحاب مكة قبل ذلك بما ينيف عن قرن كامل ، فقد أشار التاريخ إلى أن السلطان محمدا الأول جعل من أمواله جزءا وقفه على فقراء الحرمين (١) وقد عاش السلطان قبل هذه الحوادث بأكثر من قرن كامل كما يشير التاريخ إلى ان ابنه السلطان مرادا الثاني عام ٨٢٤ ه‍ رتب لفقراء الحرم من ماله الخاص راتبا سنويا مقداره ٣٥٠٠ دينار كان يرسله الى مكة سنويا ، وان فاتح القسطنطينية محمدا الثاني وكان يعيش قبل عهد السلطان سليم بنحو ٧٠ سنة كان يتعهد فقراء مكة بهداياه وأن السلطان بايزيد والد سليم فاتح مصر حج في السنة التي تولى فيها ملك آل عثمان وتوثقت أسباب مودته بأمير مكة لذلك العهد محمد بركات (والد الشريف بركات) كما توثقت مودته بكبار العلماء في مكة وأعيان الأهالي ونالهم بعطاياه وأغدق عليهم من خيراته ووزع على الفقراء أموالا جمة (٢) وزار خطيب مكة الشيخ محي الدين عبد القادر السلطان بايزيد عندما كان في بلاد الروم فوصله

__________________

(١) الاعلام للقطبي على هامش كتاب خلاصة الكلام (١٧٣).

(٢) الاعلام للقطبي على هامش كتاب خلاصة الكلام ١٧٧.

٣٩٢

بصلات عظيمة ، كما زاره شاعر البطحاء في عهده (شهاب الدين بن الحسين العليف) فأحسن جائزته وقد نظم الشهاب قصيدته الرائية التي مدح فيها بايزيد وفيها يقول :

هو البدر إلا انه كامل الضيا

وذاك حليف النقص في معظم الشهر

هو الغيث إلا أن للغيث مسكة

وذا لا يزال الدهر ينهل بالقطر

هو السيف إلا أن للسيف نبوة

وفلا وذا ماضي العزيمة في الأمر

واني لصوان لدر قلائدي

عن المدح إلا فيك يا ملك العصر

وقد أجازه بايزيد بألف دينار ذهبا وأمر بأن يرتب له في كل عام مائة دينار ترسل له الى مكة وقد صارت بعده الى أولاده (١).

إذن فعلاقة العثمانيين بمكة كانت قديمة يرجع عهدها الى أسلاف العثمانيين القدامى الذين كانوا في بروسيا قبل أن يفتحوا القسطنطينية وينقلوا عاصمتهم إليها وكانوا من أصحاب البر بمكة طوال القرن الذي سبق ظهور سليم الفاتح.

اتصال سليم الفاتح بمكة : كنا تركنا الشريف بركات في مكة وقد وطد أمره فيها واتخذ من ابنه أبي نمى مساعدا له في أعمالها كما تركناه يدعو لسلطان الشراكسة «الغوري» في مصر.

وما أهل عام ٩٢٣ حتى كانت أخبار الفتوحات العثمانية قد انتهت اليه في مكة وجاءته تفاصيل الأنباء بسقوط حكومة الشراكسة في مصر وحلول الحكم العثماني مكانها ، ثم ما لبث أن وافاه مندوب الحكومة الجديدة في مصر باقراره

__________________

(١) الاعلام للقطبي على هامش كتاب خلاصة الكلام ١٧٧ وما بعدها.

٣٩٣

على امارته ان وافق على الدعاء للخليفة العثماني الجديد فلم ير بركات بدا من الموافقة وأن يشفعها بندب ابنه أبي نمى الى السلطان سليم في مصر لتبادل الثقة والولاء.

ويذكر الدحلان (١) أن الجيش العثماني وجد في سجن الشراكسة نفرا من وجوه أهل مكة كانوا قد حبسوا لمناوأتهم الشريف بركات فأطلقهم .. ثم يذكر أن العثمانيين أعدوا جيشا ليهاجموا به مكة فصدهم عن ذلك قاضي مكة صلاح الدين بن ظهيرة وقد كان أحد المسجونين فى مصر وطلب أن يكتب إلى أمير مكة بتفصيل ما حدث ضنا ببيت الامارة وهم اشراف مكة ولأنه يعتقد ان أميرها بركات سوف لا يعارض في تحسين علاقته بالعثمانيين فقنعوا بذلك وارسلوا اليه بما حدث كما كتب اليه القاضي يقترح ندب ابنه أبي نمي الى مصر فرحب بركات بالفكرة ومن ثم اوفد ابنه الى مصر وقد قابله السلطان سليم فيها بحفاوة وأكرمه وأقره هو ووالده على امارة مكة وجعل لهما نصف الواردات في مكة وجدة وذلك في سنة ٩٢٣ (١). وقد ظل بركات بعد هذا في امارته يدعو للخليفة العثماني الجديد ثم ما لبث أن أضاف الصيغة الجديدة الى الدعاء (أمير المؤمنين وخادم الحرمين الشريفين).

وعنى السلطان سليم بشؤون الحرم وأرسل هداياه الى مكة وأعيان الأشراف فيها ووزع على فقرائها كثيرا من الصدقات ورتب لهم مقدارا عظيما من القمح ظل يرسله سنويا إلى مكة وهي اول جراية من الغلال رتبت للصدقة في مكة في شكل منظم إذا استثنينا قبلها بعض الصدقات غير المنظمة (٢).

__________________

(١) خلاصة الكلام ١٧٨.

(٢) الاعلام للقطبي على هامش خلاصة الكلام ١٩١.

٣٩٤

ويذكر السنجاري في منائح الكرم «مخطوط» أن غلال الصدقة ظلت تتزايد بعد السلطان سليم حتى أصبحت تكفي لمعاش أهل مكة من العام الى العام.

محمل رومي : واتخذ السلطان سليم له محملا روميا جعل يرسله إلى مكة سنويا بجانب المحمل المصري ويرسل في صحبته كسوة الكعبه من نفقاته الخاصة (١).

وبقي بركات يستعين بابنه أبي نمى الثاني في ادارة الأمور بمكة حتى وافته منيته في سنة ٩٣٢ عن عمر يزيد عن سبعين عاما فطيف بجنازته حول الكعبة سبعا قبل دفنه وكانت مدة ولايته استقلالا ومشاركة لابنه واخوته نحو ٥٣ سنة (٢).

أبو نمى الثاني : وبوفاة بركات انتقل الأمر إلى أكبر أبنائه وشريكه بالأمس محمد أبي نمى الثاني وعمره إذ ذاك نحو عشرين سنه.

يعتبر المؤرخون أبا نمى هذا من رؤوس اشراف بني بركات كما يعدونه زعيما قل من يضاهيه شهرة من طبقات الاشراف الاخرى وكان الى جانب هذا مشهورا بنظامه الذي شاع عنه والذي قالوا انه يجعل دية الرجل من الاشراف تعادل اربعة أمثالها من غير الاشراف وقد حاولت أن أجد نسخة من هذا النظام فلم أعثر على شيء من ذلك .. إلا انني وجدت أخيرا نص اتفاقية أبرمها بعض الأشراف من أحفاد أبي نمى في عهد يحي بن سرور مؤرخة في عام ١٢٣٧ ه‍. وهي كما يذكر مؤرخوها منقولة من وثيقة للشريف مسعود بن سعيد عن «أعراف» سابقة من آبائهم ولا يبعد أن يكون المقصود من آبائهم هو أبو نمى أو أولاده.

__________________

(١) الاعلام للقطبي على هامش خلاصة الكلام ١٩١.

(٢) اتحاف فضلاء الزمن للطبرى المكى «مخطوط»

٣٩٥

وتشتمل الوثيقة ـ كما تبدو من صورتها «الفوتوغرافية» المنشورة على ما يحدد العلاقات بين أبناء أبي نمى وينظم أمر العقوبات في حالة اعتداء أحدهم على الآخر أو اعتداء أحدهم على ملتجيء من غيرهم اليهم أو تابع محسوب عليهم وهي تفرض العقوبة في الغالب غرامات من الخيل والابل والعبيد ولا تستند إلا على تقاليد ورثوها من آبائهم في صور واصطلاحات قد لا نجد اليوم من يفهم مدلولاتها كثيرا.

وحصر أبو نمى امارة مكة في نسله فظلوا يتوارثونها أجيالا متعاقبة. وامتاز أبو نمى بحزمه في ادارة الأمور وصرامته في الحكم وبذلك هابته الأعراب والأهالي واحترمه الحجاج والمجاورون وقدر منزلته أصحاب السلطان من العثمانيين وقضى بحزمه على أصحاب الفتن وساعد على رخاء الأسعار ، واستمرت مكة محكومة بأمره سنين طويلة في استقرار لا تعبث به القلاقل والفوضى (١).

واستعان أبو نمى في حكمه بأكبر أولاده الشريف حسن بعد أن استصدر أمرا من السلطة في عام ٩٤٧ بالموافقة عليه فكان الخطيب على المنبر يدعو للعثمانيين ثم يدعو لأبي نمى وابنه حسن كما استعان بابن آخر له اسمه أحمد وقد توفي أحمد في حياة أبيه (١).

زحف البرتغال على جدة : وفي عام ٩٤٨ كانت هجمات البرتغال على شواطىء العرب التي ذكرناها في عهد الشراكسة لا تزال تستأنف شدتها وقد استطاعوا أن يتصلوا بجدة التي سورها حسن الكردي في عهد الشراكسة كما أسلفنا ، وأن ينزلوا في مرسى كان معروفا بأبي الدوائر بالقرب من جدة وكانوا

__________________

(١) اتحاف فضلاء الزمن للطبرى المكى «مخطوط»

(٢) ينسبون الأشراف ال منديل وآل حراز الى احمد هذا. راجع خلاصة الكلام ٥٢.

٣٩٦

في ٨٥ مركبا مشحونا بالرجال والسلاح فتحمس أبو نمى للقائهم ونادى مناديه في أسواق مكة وبين القبائل بالجهاد العام فتطوع الأهلون كما تطوعت البادية فأعطاهم من السلاح ما يكفيهم وخرجوا في جيش جرار الى جدة حيث قابلوا العدو المغير وصدوه بقوة السلاح عن مينائهم وكان أبو نمى في الصفوف الأولى للمدافعين وقد رؤي لابسا درعه شاكي السلاح يتقدم المجاهدين (٢).

ويقص علينا الدحلان (٣) قصة لها دلالتها على تسامي الشريف أبي نمى وتعاظمه فقد ذكر أن تركيا من ولاة اليمن اسمه محمود باشا أوفد الى مصر من قبل الخليفة الى أبي نمى ببعض الهدايا فلما قابله لم يخرج ممنونا من نوع المقابلة فأسر ذلك في نفسه حتى ولاه الأتراك امارة الحج في عام ٩٥٨ فاغتنم الفرصة وتحرش بعسكر أبي نمى ونادى بسقوطه في أيام الموسم فصارت الفتنة بين قواته وعسكر أبي نمى في أيام منى.

واغتنم غوغاء البادية الفرصة فأوقعوا في الحجاج وبات الناس في أمر مريج وتعطل الكثير من مناسكهم ، وقد أدرك أبو نمى سوء العاقبة إذا ترك الغوغاء يوقعون بالحجاج ، فركب بنفسه لملاقاتهم وقد أثخن فيهم الجراح كما هزم عسكر محمود باشا فانطلقوا مبعدين عن مكة ، ولما عاد محمود باشا الى تركيا كتب الخليفة يعتذر عما حدث ويخبر أبا نمى أن محمود باشا لقي عقابه لديه.

واستمر أبو نمى على أمره في مكة الى سنة ٩٧٤ وكان قد بلغ به العمر فتنازل عن امارته لابنه الحسن وكتب بذلك إلى الخليفة العثماني فأقره.

__________________

(٢) خلاصة الكلام ٥٢.

٣٩٧

ومن ثم عكف على العبادة والعلم حتى وافته منيته في التاسع من شهر محرم الحرام سنة ٩٩٢ حيث كان يعتكف في وادي الآبار جنوبي مكة ، وقد حملت جنازته الى مكة ودفن بها وعمره يزيد عن ثمانين سنة (١) وقد امتد حكمه في سائر بلاد الحجاز من خيبر الى حلي الى حدود نجد (٢).

محمل يمني : وفي عهد أبي نمى اتخذ اليمنيون محملا لهم وجعلوا يرسلونه الى مكة صحبة الحجاج من اليمن سنويا ويرسلون معه هداياهم ، وقد أحدثه والي العثمانيين في اليمن مصطفى باشا النشار (٣).

الحسن بن أبي نمى : واستقل الحسن بامارة أبيه على أثر تنازله ، فعالج أموره بحزم وقوة ، وكان لا يقل عن كفاءة أبيه ، إلا أنه كان أكثر تسامحا وأوسع عدلا ، وقد حاول أن يخفف من غلواء الأوتوقراطية التي ابتدعها أبوه ، ولكن أصحاب الميزات كانوا قد استمرؤوا ذلك بتقادم الأيام ، وأصبحوا يشعرون أنها حق طبيعي يجب أن يتميزوا به عن عامة الناس ، فذهبت محاولاته عبثا ، وكان العثمانيون في هذا العهد يرون أن من الخير لسياستهم ألا يتعرضوا لسياسة الولاة الداخلية وأن يقنعوا بأسمائهم تتلى على المنابر «وفرمانهم» الذي يوقعون عليه بالموافقة على الأمير المنصوب.

وحسن بن أبي نمى هو أول من كتب في التوقيعات «يجري على الوجه

__________________

(١) افادة الأنام للشيخ عبد الله غازي «مخطوط».

(٢) المصدر نفسه (ع) : وفي الرحلة اليمانية للشريف شرف البركاتي ص ١٣٦ : إن أبا نمى تولى الامارة مدة ستين سنة ، وكانت توليته سنة ٩٣٢ ه‍ وفي شفاء الغرام : إن السلطان سليمان أقره سنة ٩٢٣ ه‍ شريكا لوالده بركات ، ثم توفي سنة ٩٩٢ ه‍. اي ان امرته شريكا ومنفردا كانت ستين سنة كما ذكر البركاتي.

(٣) منائح الكرم للسنجاري «مخطوط».

٣٩٨

الشرعي والقانون المحرر المرعي» وتبعه على ذلك من جاء بعده من أمراء مكة ، وكان يكتب على «الانهاءات» المعروضات «يجاب على سؤاله زاد الله في نواله» (١) وفي هذا ما يدل على سماحة نفسيته وطيبتها ، وكان يمهر على «الحجة» و «الانهاء» بختمه ويكتب على التقارير اسمه فقط من غير أن يمهر عليهم (٢) وقد بنى دارا له أسماها السعادة كانت أمام باب أم هانيء وباب أجياد ، وقد دخلت في توسعة المسجد الجديدة في جنوبه الغربي كما بنى أخوه ثقبة دارا له أسماها الهناء بجوار السعادة من جهة الجنوب (٣) وقد ظلت دار السعادة سكنا لذوي زيد كما سكن دار الهناء ذو وبركات وهما فرعان من أولاد أبي نمى يأتي ذكرهما.

وفي عهد الحسن فقد مفتاح الكعبة سنة ٩٩٦ من حجر سادنها عبد الواحد الشيبي فوقعت الضجة وأغلقت أبواب المسجد وفتش الناس فلم يظفروا به ، وكان مصفحا بالذهب ، ثم وجدوه مع أعجمي في اليمن مع مسروقات أخرى في بيت له ، فأعيد المفتاح الى مكة (٤).

وكان الحسن شديد الفراسة فارط الذكاء .. ذكروا انه وجد حبلا نسيه أحد اللصوص في مكان سرقته ، فاستدل من رائحته على أن السارق عطار ، ثم ما لبث أن تحرى عن العطار حتى عرفه ، وفي مرة اخرى اختصم شامي ومصري في جمل فأمر بذبحه ونظر فرأى مخه معقودا فحكم به للشامي وأمر بتغريم المصري وقال : ان الشاميين يعلفون جمالهم «الكرسنة» وهي تعقد الملخ ، أما المصريون فإنهم يعلفونها الفول وهو يعقد الشحم ، ووجد مرة عصا في مكان مال مسروق بالمزدلفة فعرف من شكلها نوع القبيلة فاستحضر جماعة منهم وتحرى عن صاحبها

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) افادة الأنام للشيخ عبد الله غازى «مخطوط».

٣٩٩

حتى عرفه (١) ولهذا فقد استطاع أن يخيف كل مقدام فاتك حتى ضبط الأمور على أحسن نظام وأشاع الأمن. وفي عهد حسن بن أبي نمى كثر وفود الحجاج وكثر المهاجرون الى مكة والمجاورون فيها فتضاعف عدد السكان ، وكان المعروف أن ينادي ولاة مكة على أثر الفراغ من الحج : يا اهل الشام شامكم ويا اهل اليمن يمنكم ، فلما تولى الغى ذلك ورعب الكثير في المجاورة (٢).

وكان حسن إلى جانب هذا جوادا وكان يشجع المؤلفين ويمنح الشعراء وقد تربو جوائزه عن الألف. واستمر الأمر في مكة على طمأنينته التي ذكرت نحوا من سبعة عشر عاما شمل فيها عدله طبقات البلاد وعم الأمن جميع البوادي والحواضر حتى كانت القوافل تسير بأموال التجار في عموم البوادي لا يحرسها خفير ، وكانت قبل ذلك نهبا للعابثين والفاسدين ، واستعان حسن على عادة الأشراف بأكبر أولاده ثم توفي فاستعان بابنه أبي طالب فشاركه الحكم بتأييد من السلطان العثماني (٣) ويذكر الغازي (٤) من طرائف الحسن أن الشيخ عبد الرزاق الشيبي استأذنه مرة للسفر الى الهند فأنشده بيت الطغرائي المعروف :

فيم اقتحامك لج البحر تركبه

وأنت تغنيك عنه مصة الوشل

فأجابه الشيبي من القصيدة نفسها :

أريد بسطة كف استعين بها

على قضاء حقوق للعلى قبلي

فاستحسن بديهته وأمر له بألف دينار.

__________________

(١) خلاصة الكلام للسيد أحمد زيني دحلان ٥٧.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) افادة الانام «مخطوط».

(٤) المصدر نفسه.

٤٠٠