تأريخ مكّة دراسات في السياسة والعلم والاجتماع والعمران - ج ١-٢

أحمد السباعي

تأريخ مكّة دراسات في السياسة والعلم والاجتماع والعمران - ج ١-٢

المؤلف:

أحمد السباعي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الطبعة: ٠
ISBN: 9960-660-17-6
ISBN الدورة:
9960-660-18-4

الصفحات: ٧٩٣

ذكروا أن عادا أرسلت في أيام العماليق وفدا يستقي لها من مكة فلما انتهوا الى مكة اقبلوا على الشرب واللهو والسماع (١) فإذا حفلت مكة باللهو والغناء من عهد العماليق فما بالها لا تحفل به وقد تطور ذوقها وتوافر لها غنى كان يسيل على أعطاف شبابها إذا تهادوا بين متنزهاتهم في الليط أو وادي فخ.

كانت بيوت مكة في هذا العهد يزدحم بالقيان ، وكانت النساء الأصيلات لا يحتجبن بل ويتبرجن التبرج الجاهلي الذي نعاه القرآن (٢) وكن يشتركن مع الرجال في حفلات عامة يعزفن على الدفوف والمزامير وخاصة في ليالي

الأعراس (٣) وكانوا مشهورين بالنصب «بسكون الصاد» وهو لون من الغناء الديني كان شائعا في حفلاتهم حول الأوثان وكان لأعيان الأمويين والمخزوميين وغيرهم من وجهاء البطون القرشية قيان تخصصن في اللهو والغناء وتقديم الشراب في مجالس الأنس ، ويذكر صاحب الأغاني أن أبا سفيان نصح قريشا أن ترجع في غزوة بدر فقال أبو جهل والله لا نرجع حتى نرى بدرا فنقيم عليه ثلاثا وننحر الجزر ونطعم الطعام ونسقي الخمور وتعزف علينا القيان!! وتسمع بنا العرب (٤).

وفي تفسير قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) يقول صاحب الكشاف ان النضر بن الحارث كان يتصيد من يبلغه أنه يريد الإسلام فيدعوه إلى قينة له في بيته ويأمر أن تطعمه وتسقيه وتغنيه ليلهو

__________________

(١) الطبري ١ / ٢٣٣

(٢) (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) الاحزاب : ٣٣

(٣) الطبري ١ / ١١٢٦

(٤) الأغاني ٤ / ١٨٣.

٦١

عما يدعو اليه النبي ، ويقول أنه كان يقتني القيان المغنيات في بيته.

نستطيع أن نفهم من هذا أن مكة حفلت في جاهليتها بفن اللهو وأن موجة حادة من الغناء ، اكتسحت مجالسها العامة ومتنزهاتها وبيوت الأعيان من أغنياء بطون قريش. وليس أدل على ذلك من كلمة كان يرويها حسان بن ثابت وفيها يقول أن جبلة بن الايهم كان يستدعي لمجالس أنسه من يغنيه من مكة (١).

الناحية الادارية : ذكرنا أن قصيا كان أول رجل من بني كنانة أصاب ملكا فكانت اليه الحجابة والرفادة والسقاية والندوة والقيادة (٢) وسمى قصي مجمعا لأنه جمع قريشا بمكة ، وسميت قريش في ذلك العام قريشا لأنها تجمعت والتجمع التقرش في بعض كلام العرب ولم يسم قرشي قبل ذلك اليوم.

وكان قصي عمليا أكثر مما كان يظنه قومه ، فانه ما كاد يستلم زمام الحكم في مكة حتى أسس دار الندوة لشورى قريش ولم يكن يدخلها من قريش إلا من بلغ الأربعين وهيأه مركزه أو خدماته لدخولها من بطون قريش البطاح وهم هاشم وأمية ومخزوم وجمح وسهم وتيم وعدي وأسد ونوفل وزهرة (٣) كما كان أورستقراطيا لأنه أباح لأولاد قصي دخولها كما شاءوا بلا فارق في السن.

__________________

(١) الأغاني ١٦ / ١٥.

(٢) قسم قصي هذه المهام على أولاده قبل وفاته. ولم يعين المؤرخون وارثا لادارة الملك أو الحكم ، والمفهوم من ذلك أن البطون والقبائل في مكة كانت تطيع من تدين له بالفضل بعد قصي ، وقد ذكروا أن عثمان ابن الحويرث حاول أن يؤمر نفسه عليهم فلم يفلح ، وفي ذلك يقول الجاحظ «لم تزل مكة أمنا ولقاحا لا تؤدي أتاوة ولا تدين للملوك ، ومن أشهر من دانت له قبائل قريش من بني هاشم : عبد المطلب وأبو طالب والزبير ، ومن بني أمية حرب بن أمية وأبو سفيان بن حرب ومن بني زهرة العلاء الثقفي ومن بني مخزوم الوليد بن المغيرة ومن بني سهم قيس بن عدي ومن بني عدي كعب بن نفيل.

(٣) المسعودي ٣ / ١١٩.

٦٢

وعني قصي بسقاية الحجاج فاتخذ لهم حياضا من أدم (١) توضع بفناء الكعبة ويسقي فيها الماء العذب من الآبار محمولة على الابل من أطراف مكة البعيدة ، كما عني بتتبع مظان الماء العذب في مكة ، فحفر بئر العجول وهي في المكان الذي يمتد فيه رواق المسجد اليوم مما يلي باب الحميدية (٢) وباب الوداع وحفر بئرا عند الردم بجانب مسجد الراية وهي البئر الموجودة اليوم في «الجودرية» في الزقاق الواقع أمام قصر الجفالي (٣) وسمي بئر جبير بن مطعم لأن جبيرا هذا نثله بعد أن اندثر واتخذت العناية بالآبار بعد قصي سنة لأولاده فكانوا يتتبعون مظان المياه العذبة ويحتفرون فيها الآبار.

وعنى قصي الى جانب العناية بسقيا الحجاج بالرفادة ، فكان على قريش خرج تخرجه من أموالها في كل موسم فتدفعه الى قصي يصنع به طعاما للحاج يأكله من لم يكن معه سعة ولا زاد.

وكان يشتري بما يجتمع عنده دقيقا ، ويأخذ من كل ذبيحة بدنة أو بقرة أو شاة ـ فخذها فيجمع ذلك كله ثم يجزر به الدقيق ويطعمه الحاج ، واتخذ أولاده هذه سنة بعده حتى أن عمرا حفيده اضطر عندما أصاب مكة في عهده جدب شديد أن يجمع ما تجمع لديه من قريش ويخرج به الى الشام فيشتري به دقيقا وكعكا فيهشم لكعك وينحر الجزور ويطبخه ويجعله ثريدا ويطعم الناس في مجاعتهم وقد سمي بذلك هاشما (٤) وفيه يقول الشاعر :

__________________

(١) بفتح الدال : الجدر.

(٢) دار الحكومة ، التي بنيت في عهد السلطان عبد الحميد ، وقد أدخلت في توسعة المسجد (ع)

(٣) في كتابنا بحث بتحقيق مسجد الراية تجده في فصل الناحية العمرانية للعهد الأموي

(٤) اخبار مكة للأزرقي ١ / ١٢٧.

٦٣

عمرو الذي هشم الثريد لقومه

ورجال مكة مسنتون عجاف

وجاء الإسلام وقريش تتخذ هذه السنة عادة موسمية فأمضاها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ أرسل بمال مع أبي بكر رضي‌الله‌عنه عندما أمره أن يحج بالناس سنة تسع للهجرة ليصنع به طعاما للحجاج (٢) ، وفعل مثل ذلك في حجته للوداع ثم أقام أبو بكر على هذا وكذلك بقية الخلفاء بعده ، يقول أبو الوليد الأزرقي : وظل العمل على هذا الى أيامنا هذه يطعم الخلفاء الموسم في أيام الحج بمكة ومنى حتى تنقضي أيام الموسم وقد عاش أبو الوليد في القرن الثالث الهجري وتوفي حول منتصفه.

ولم أقع فيما قرأت على العهد الذي ألغيت فيه هذه العادة الحسنة وأكبر ظني أنها أبطلت على أثر الفتن والحروب التي كانت السبل تقطع فيها دون مكة ويلفت نظرنا في هذه السنة أنها كانت خرجا عاما تشترك فيه قريش بأموالها ويشترك المسلمون فيه في الصدر الأول للإسلام وأن هذا الاشتراك الشعبي ما لبث أن انتقل بتقادم العصور الى خزائن الخلفاء أو بيوت الأموال فهل تقاعس المكيون عن المجد؟ أم أن أموالهم ضاقت دونه ـ؟ الواقع أن قريشا كانت من أنشط القبائل في جزيرة العرب تجارة كما بينا ذلك في بحث أعمالها التجارية ، فكانت بذلك في غنى تسع فضلاته اطعام الموسم وجاء الاسلام فاتسع نشاط قريش باتساع رقعة الاسلام ، ودرت الفتوحات والتجارة النشيطة عليهم الأموال الطائلة وأخصبت أراضيهم في الطائف والمدينة وبعض ضواحي مكة وكثير من

__________________

(٢) أخبار مكة للأزرقي ج ١ ص ٦٤.

٦٤

أوديتها القريبة بتأثير نشاط المال والعناية بحفر الآبار ثم ما لبث أن فتر النشاط وفتر بفتوره الغنى والثروة والخصب على أثر انتقال الصفوة الممتازة من قريش الى الأمصار بثرواتهم وأموالهم وكفاءتهم يتبعون مواطن الخلافة خارج الجزيرة ، وظل الحجاز بلدا لا يعني به إلا كرباط أو تكية يمنحه الخلفاء والملوك صدقاتهم ولا يهيئون أهله لغير تطويف الحجاج وأن يدعو لاصحاب السلطان بطول البقاء.

٦٥

في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

كانت حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نقطة تحول في تاريخ مكة بل كانت ـ بلغة أوضح من هذا ـ فاصلا بدأت به عهدها الجديد كقبلة يتوجه إليها الملايين من المسلمين في كل يوم خمس مرات ومحجة يهرع إليها مئات الألوف في كل عام من شتى أصقاع الأرض.

ونحن إذ نكتب هذا عن هذه الفترة الفاصلة من تاريخ مكة ونتابع أحداث البعثة فيها لا اعتقد أننا مطالبون بالتفصيلات الطويلة التي توسع فيها كتاب السيرة لأن المظان الخاصة بهذا حافلة بالكثير الذي لا نطمع الى مزيد فيه وبحسبنا أن نمر هنا بالحوادث مرورا سريعا لا نهدف فيه إلا إلى ربط الحوادث العامة وتسلسل نتائجها.

بعثة النبي : بعث النبي في وسط كانت العقلية السائدة فيه رغم نضجها الذي ذكرنا لا تحجر على متع الحياة ولا تفرض سلطانا على مستبيح في لذة ، وكانت القيم الأخلاقية تزن الحياة بمعايير خاصة فليس من السمو الانساني في مقاييسها أن تهادن في عصبية أو أن تنحاز الى غير قومك مهما كان ظلمهم أو أن تنسى ثأرك مهما كان لونه أو تسلم بقاعدة يكون الفخر فيها لغير بني أبيك.

بعث النبي في وسط يعتنق هذه المبادىء ويدين بها كما يدين العابد بأقدس ما يعتقد فلم يكن على النبي أن يقاوم ما عبدوا من أوثان أو نسكوا من منسك ضال فقط ، بل عليه أن يصمد لهذه القيم الأخلاقية التي تسود المجتمع حوله والتي لا تستسيغ الوحدة تضيع فيها معالم القبيلة.

٦٦

بعث النبي من بني هاشم فأي دعوة هذه التي ينقاد إليها بنو أمية وبنو سهم ، وبنو عدي ، وبنو زهرة ، وبنوتيم ، وبنو مخزوم ، وبنو أسد ، وسائر البطون من قريش والقبائل من كنانة .. إنها الاستهانة بكيان الأفخاذ وأمجادها في عرفهم ، وانها الاستكانة لداع سيحوز الفخر لبني هاشم دونهم فما بالهم لا يقاومون وما بال هذه القيم الأخلاقية الفاسدة لا تعارض فيما يضاد عرفها ، ما بالها لا تتكبر على الدعوة وتكابر في الحق ضنا بكيان الفخذ أو البطن أو القبيلة ومجافاة لهذا الاعداد الذي سيصهرهم غدا في بوتقة تنسيهم تراث آبائهم وتضيع معالمهم.

بهذا العنت قوبل النبي في فجر دعوته ، وعن هذه البواعث حورب في الصور والاشكال التي نجدها في مظانها من كتب السيرة والتي لا نستدل منها إذا أردنا الاستدلال إلا على التعصب والحزبية لأوضاع القبيلة والفخذ.

واحتمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لا يحتمله إلا صاحب عقيدة راسخة ثم وجد أول ما وجد في مكة من استجاب لدعوته من الأفذاذ الذين تسمو عقولهم على ما ورثوا من أوضاع وترتفع بهم نفوسهم عن المكابرة إذا أبلج الحق .. والأفذاذ من هذا النوع ندرة لا يظفر التاريخ بهم إلا فيما قل .. فلا عجب إذا رأيناهم حوله ـ أول ما نراهم ـ أقلية لا يعدون أصابع اليد.

ويسفر الدين الجديد عن تعاليم جديدة فإذا في هذا الدين دعوة الى التكتل ونسيان القبيلة والكفر بالاصنام وإذا في الدين حد للاباحة المطلقة وإذا فيه كبح للذائذ والشهوات وإذا فيه تحليل وتحريم فأية أخلاق منحلة تقوى على التوحيد والتكتل وأية فوضى تحتمل التشديد والكبح ، إنه اختبار لا ينجح فيه شهواني وانها خطوة لا يستطيع أن يخطوها إلا وجدان عامر بغير الأهواء التي كان يعمر بها

٦٧

الوجدان في القبائل من قريش ومن حولها ، وانه قبل ذلك يدعو إلى الغاء الأصنام وقد عاشوا في مكة على سنتها وقامت متاجرهم على الانتفاع من مواسمها.

لا بد إذن لهذا التعصب من أن يستعر أواره ، ولا بد للمقاومة من أن تنشط للدفاع .. لا بد أن يجتمع الى عامل المحافظة على كيان القبيلة عوامل أخرى مبعثها الحرص على مصدر أرزاقهم وقداسة التقاليد الموروثة والذود عن حظوظهم في الدعارة الشائعة والاباحية المطلقة.

هذه العوامل تضافرت على شخص واحد لا يملك إلا يقينه ، وإلا صبره وإلا بضعة نفر مستضعفين .. تطاردهم قريش وتعذب بعضهم بالجلد والحجارة المحماة وتتحالف بطونهم فتجمع على عهد يقاطعون بموجب نصوصه جميع بني هاشم فلا يبايعونهم ولا يعاملونهم حتى ينبذوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ولم تقتصر المقاومة على حدودها في قبائل مكة فقد بثوا حوله العيون تترصده في المواسم كلما اتصل بقبيلة ، أو بث في قوم ، أو التجأ بزوار .. تضييقا عليه وفتا في عضده.

وعندما هاجر عليه الصلاة والسلام الى الطائف ليلجأ بثقيف فيها أبت ثقيف أن تناصره ضد قريش ، أو تغضب أصنامها فعاد خائبا الى مكة (١).

هجرة النبي : وعندما أذن الله له بالهجرة الى المدينة أبى عنادهم إلا أن يحاولوا القضاء على دعوته قبل أن تضرب في الأرض فتأوى إلى ركن شديد

__________________

(١) ابن هشام ١ / ٢٧٩

٦٨

يغزو منه عقيدتهم ويعبث بكيانهم القبلي ويحد من اباحيتهم ولكنها عناية الله أبت إلا أن ينفذ أمر الله فيما قضى وأن تحرم مكة الى حد ما من شرف مؤازرته ونصرة دعوته (١).

وهاجت بطون مكة لخلوصه من أيديهم رغم ما حاولت من عراقيل وأصرت على قتله انفاذا لما اتفقت عليه من قبل فأرسلوا روادهم الى كل جهة بحثا عنه وجعلوا لمن يأتى به أو يدل عليه مائة ناقة ، ولكن جهودهم ضاعت هباء ومنيت مساعيهم بالفشل

قتال قريش : وأذن الرسول في المدينة بقتال قريش فأرسل عمه حمزه في سرية تعترض عيرا لقريش قادمة من الشام وأرسل أخرى بعدها لمثل الغرض ، وفي السنة الثانية من الهجرة (٢) أرسل عبد الله ابن جحش في سرية ثالثة فأصاب العير وغنم ما فيها وخرج صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك في ثلثمائة رجل ليعترض قافلة جديدة فعلمت بذلك قريش فخرجت في نحو ألف رجل فتقابل الفريقان على ماء ببدر وهو من المدينة على طريق ينبع فكانت غزوة بدر الكبرى وكان النصر فيها للمسلمين (٣).

وفي السنة الثالثة أرادت قريش أن تثأر لنفسها فمشت في رجالها إلى المدينة واستيقظت المدينة فكان القتال بجوار جبل أحد في ضواحي المدينة وكاد ينتصر

__________________

(٢) كانت الأوس والخزرج قبيلتين متنافرتين في يثرب وكانت اليهود تجاورهم فيها وهم أهل كتاب وقد بلغهم مما سمعوه في وصف النبي من كتب اليهود ما أقنعهم بصدقه فرأوا أن يتبعوه ويناصروه ويدعوه الى بلادهم ليجمع كلمة القبيلتين ويعتزوا به ضد اليهود.

(٢) سيعتمد التاريخ الهجري في جميع فصول الكتاب لأنه التاريخ المتناسب مع وقائع التاريخ في مكة وهو ما يستعمله المكيون الى اليوم.

(٣) ابن هشام ١ / ٤٣٦ وما بعدها.

٦٩

المسلمون لولا أن شغل الرماة بالغنائم ، وتلك هي غزوة أحد (١).

وكانت غزوات في السنة الرابعة والخامسة لم تبرز فيها قريش ، ثم كانت السنة السادسة وفيها خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المدينة معتمرا لا محاربا ، فلما انتهى إلى الحديبية وهي بجوار «الشميسي» اليوم على نحو ٢٠ كيلو مترا من مكة أوفدت اليه قريش من يحدثه وأوفد إليها عثمان بن عفان في ذلك ثم عادوا فأوفدوا إليه سهيلا يقترح أن يرجع عامه هذا لئلا يتحدث العرب بأنهم أخذوا ضغطة وله أن يدخلها في العام القادم فرضي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان الصلح وكانت الهدنة واستأنف النبي رحلته راجعا إلى المدينة (٢).

وقد جاء في شروط الهدنة أن يكف الفريقان عن الحرب مدة عشر سنين وأن تخرج قريش عن مكة عامها المقبل ، ليدخلها النبي معتمرا وأن من أحب أن يدخل في عقد رسول الله وعهده دخل فيه ومن أحب أن يدخل في عهد قريش دخل فيه.

وفي السنة السابعة عاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ألفي معتمر إلى مكة وأدى نسكه دون أن يعوقه شيء وقد تفتحت لهيبته بعض النفوس فأسلم اثنان من كبار قريش هما خالد بن الوليد وعمرو بن العاص (٣).

فتح مكة : وكانت خزاعة قد دخلت في حلف رسول الله كما كان بنو بكر بن كنانة قد دخلوا في حلف قريش فاقتتل القبيلان في عرفة فأمدت قريش

__________________

(١) ابن هشام ١ / ٤٣٦ وما بعدها.

(٢) المصدر نفسه ٢ / ٧٤٦ وما بعدها.

(٣) مع اختلاف في تاريخ اسلام عمرو. انظر ابن هشام ٢ / ٧١٦.

٧٠

حلفاءها من بني بكر بالسلاح وظللوهم وسقوهم الماء فكان هذا الامداد نكثا للعهد وكان نقضا للاتفاق بدأت به قريش.

وأحس عظيم مكة أبو سفيان أنه أمام حدث جديد جاء نتيجة لنكث العهد ثم حملت اليه عيونه أن المدينة تجهز أمرها لحركة عظيمة فخف الى المدينة وهو يأمل أن يتلافى ما فات ولكن القضاء كان قد جرى بما سيكون.

وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالسير إلى مكة فأذن في الناس بالغزو وسار في جيوشه وهو يقول : «اللهم أضرب على آذانهم فلا يسمعوا حتى نبغتهم بغتة» وأخذ في السير حتى انتهى إلى مر الظهران (١) فخرج بو سفيان فيمن خرج من مكة يتجسس أخبارهم حتى وقع في أسرهم وسيق الى رسول الله فقال : ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله فقال : لو كان مع الله غيره لأغنى عني شيئا فقال : ويحك ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله فقال بأبي أنت وأمي أما هذه ففي النفس منها شيء ، قال العباس : فقلت ويلك تشهد شهادة الحق قبل أن تضرب عنقك فتشهد قال العباس : يا رسول الله اجعل له شيئا يكون به في قومه فقال رسول الله : «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل المسجد : فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن».

وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحبسه عند خطم الجبل حتى يمر به الجنود ثم أطلقه فأتى مكة مسرعا وصاح في المسجد : يا معشر قريش هذا محمد جاءكم بما لا قبل لكم به ، قالوا : فمه؟ قال : من دخل داري فهو آمن فقالوا : ويحك وما تغنى عنا دارك؟ قال ومن دخل المسجد فهو آمن ومن أغلق عليه بابه فهو آمن.

__________________

(١) مر الظهران نسميه اليوم وادي فاطمة وهو يقع على ٢٢ كيلو مترا شمالي مكة.

٧١

وأوصى النبي قواده بأن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم إلا نفرا سماهم لهم وأمرهم بقتلهم وان وجدوا تحت أستار الكعبة كما أوصاهم ألا يجهزوا على جريح ولا يتبعوا مدبرا ولا يقتلوا أسيرا.

وتقدم جيش خالد بن الوليد فوجد الأحابيش (١) فاستل وفرقته سيوفهم حتى هزموهم وتقدم الزبير فتفرقت قريش تعتصم برؤوس الجبال وجاء أبو سفيان الى النبي صائحا : يا رسول الله أبيدت خضراء قريش ، لا قريش بعد اليوم.

فقال رسول الله من دخل دار أبي سفيان كان آمنا ، ومن دخل دار حكيم كان آمنا ، ومن أغلق بابه كان آمنا ، ومن ألقى السلاح كان آمنا (٢).

وأغلق الناس أبوابهم وألقوا سلاحهم ، وغص المسجد وغصت دار أبي سفيان بطالبي الأمان ، ومضى موكب رسول الله الى المسجد ، فاستلم النبي الحجر ؛ ثم طاف بالكعبة ونادى في قريش «إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء ، الناس من آدم وآدم خلق من تراب ، ألا إن مكة حرام ما بين أخشبيها لم يحل لأحد من قبلي ولا يحل لأحد من بعدي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار.

__________________

(١) قال بعضهم أن الاحابيش زنوج استوطنوا بعض الجبال في مكة وحالفوا قريشا ولكن ابن هشام ينقل عن ابن اسحاق أن الاحابيش جماعة من بني الحارث وبني خزيمة وبني المصطلق تحالفوا جميعا فسموا الاحابيش أي سواد الناس وسواد الناس هو الجمع الكبير.

وقال العصامي (سمط النجوم العوالي) : إنما سموا الأحابيش لعقدهم الحلف مع قريش عند جبل بأسفل مكة يقال له حبشي. (ج ١ ص ١٩٣).

(٢) دار حكيم كانت بأسفل مكة وأعتقد أنها كانت بجوار مسجد خالد بن الوليد في الشبيكة ويرى الأستاذ حمد الجاسر انها تقع بالقرب من باب الوداع ودار أبي سفيان قبيل المدعي في مكان «القبان» اليوم. وقد زال القبان في توسعة ساحات المسجد. والقبان : الميزان الذي توزن به البضائع الثقيلة ونحوها.

٧٢

ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي الا سدانة البيت وسقاية الحاج» ثم قال : يا معشر قريش ويا أهل مكة ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا خيرا ، أخ كريم وابن أخ كريم ، قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء».

وعمد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى صنم بجانب الكعبة فجعل يطعن في عينه ويقول : (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) وتسابق المسلمون إلى الاصنام فجاءوا بها الأرض كسرا وتحطيما ودفع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذا اليوم مفتاح الكعبة إلى سدنتها قبل الفتح وقال : خذوها يا بني عبد الدار خالدة تالدة إلى يوم القيامة لا ينزعها منكم إلا ظالم وهي باقية في أعقابهم إلى اليوم (١).

أول أمير في مكة :

ولبث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مكة أسابيع ثم بلغه أن هوازن وثقيف يجمعان جموعهما لغزوه في مكة فخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جيش من أصحابه وانضم إليه من مكة ألفان آخذا طريقه الى الطائف بعد ان استعمل على مكة عتاب بن أسيد وأوصاه بهم : أتدري على من وليتك يا عتاب؟ .. على جيران بيت الله فاستوص بهم خيرا»!!

وعتاب أمويّ من قريش أسلم يوم الفتح .. كان معروفا بالورع حلف مرة فقال ما أصبت في الذي بعثني فيه رسول الله الأثوبين (٢).

وظل النبي في الطائف يحاصر أهلها سبع عشرة ليلة ثم تركهم بعد أن دعا الله أن يأتي بهم وقد أتى الله بهم بعد ذلك فجاؤوه مستسلمين.

__________________

(١) راجع بن هشام ٢ / ٨٢٢ وما بعدها عن فتح مكة.

(٢) الاستيعاب ٣ / ١٠٢٤

٧٣

وأتى النبي الجعرانة (١) في منصرفه من الطائف فاعتمر ثم مضى إلى مكة فأدى نسكه فيها ثم استأنف رحلته الى المدينة بعد أن أيد امارة عتاب ابن أسيد .. وفرض له كل يوم درهما ، وهو يساوي أقل من ريال واحد من نقد اليوم تقريبا ، وكان عتاب لهذا أول امير ولى مكة بعد الاسلام.

أول أمير للحج : وفي السنة التاسعة وفد إلى مكة حجاج المدينة من المهاجرين والأنصار والقبائل تحت امارة أبي بكر فكان أول أمير للحج في الإسلام وانتهى أبو بكر إلى مكة وفيها المشركون يؤدون مناسكهم على ما ورثوا من تقاليد آبائهم والمسلمون على ما أبان لهم أبو بكر وأنهم لكذلك إذ وافاهم علي بن أبي طالب مندوبا من المدينة ليعلن في الناس يوم النحر من منى (٢) نزول الوحي بسورة براءة وفيما تضمنته : ألا يحج بعد عامهم هذا مشرك ولا يطوف بالبيت عريان وألا عهد لمشرك ولا ذمة إلا أحدا كان له عند رسول الله عهد وعهده إلى مدته وأن الله أمر بجهاد الشرك ممن نقض من أهل العهد الخاص ومن كان لا عهد له فأجله أربعة أشهر يرجع فيها كل قوم إلى مأمنهم ثم لا عهد لمشرك بعدها.

وفي هذا الاعلان تضمين عام شامل لكل ما نزلت به سورة براءة وفيه تحديد لأمور شتى كانت متروكة لانتظار التحديد.

حجة الوداع : وفي السنة العاشرة أعلن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المدينة عزمه على أداء الحج وشرع يتجهز له فابتدر الناس له في المدينة وأطرافها وبلغ الخبر مكة

__________________

(١) تبعد الجعرانة عن مكة نحو ٢٩ كيلو مترا.

(٢) تبعد منى عن مكة نحو ١٠ كيلو مترا.

٧٤

فاستعدت قريش للقائه والحفاوة بمقدمه وخرج صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المدينة في أواخر ذي القعدة بعد أن صلى الظهر بها واصطحب معه جميع زوجاته ووجهاء المهاجرين والأنصار ولحق به جمع غفير فمضى صلى‌الله‌عليه‌وسلم في موكب عظيم كان يزيد احتشادا كلما مضى به الطريق الى مكة ، ولما انتهى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مكة دخلها من أعلاها ثم سار في موكبه الى المسجد فابتدأ الطواف ثم خرج إلى الصفا والمروة حتى إذا انتهى من مكة رجع إلى قبته في ظاهر مكة وقد أقام فيها أربعة أيام إلى أن كان يوم التروية ثامن ذي الحجة ثم توجه ضحى بمن معه من المسلمين الى منى فصلى فيها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر وبات ليلته ولما أشرقت شمس اليوم التاسع استأنف سيره الى عرفات وكانت قبته قد ضربت له في نمرة (١) فنزل بها ولما زالت الشمس أمر بناقته القصواء فركبها وركب المسلمون بركوبه فلما كان في بطن وادي عرنه على خطوات من قبته وقف يخطب الناس على راحلته خطبته العظيمة الشهيرة بخطبة الوداع وفي هذه الخطبة قرر قواعد الإسلام وهدم قواعد الشرك ووضع أمور الجاهلية تحت قدميه وأبطل الربا وحرم الحرمات من الدماء والأموال والأعراض وفصل كثيرا من شؤون الإسلام وأوصى أمته بالاعتصام بكتابهم فقال : وقد تركت فيكم ما ان اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا ثم نادى : اللهم هل بلغت قالوا نعم. قال اللهم فاشهد ، اللهم فاشهد ، اللهم فاشهد (٢).

ثم أمر بلالا فأذن ثم أقام الصلاة وصلى الظهر والعصر قصرا ثم مضى حتى أتى الموقف فوقف على بعيره متضرعا مبتهلا حتى غربت الشمس ثم أفاض عن عرفات حتى أتى المزدلفة فصلى فيها المغرب والعشاء وأمر ابن عباس

__________________

(١) يقع مسجد نمرة قبيل جبل عرفات بنحو «٥» كيلومتر.

(٢) ابن هشام ٢ / ٩٧٠ وما بعدها.

٧٥

فالتقط له حصى الجمار ثم عاد إلى منى ثم إلى مكة.

ومضى موكب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد فراغه من الحج حتى أتى المحصب (١) حيث نصب قبته فبات ليلة واحدة خف في أثنائها الى طواف الوداع ثم نادى بالرحيل في صبيحتها ـ فارتحل القوم يتبعونه في الطريق إلى المدينة ومضى في ركابه أعيان قريش ووجهاء مكة محتفين بتوديعه.

ولم يمض على فراق النبي مكة شهران وبضعة أيام حتى وافاها نعيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان لذلك وقعه من الأسى العميق والحزن العظيم.

ووصفته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعض كتب السيرة فقالت (٢) كان وسيما قسيما معتدل القامة بعيد الهامة اشم العرنين واضح الجبين براق الثنايا بعينيه دعج وبأسنانه فلج.

__________________

(١) المحصب والابطح موضعان يقعان بعيد المعابدة في ضواحي مكة في الطريق الى منى. (ع) : هما الآن مغموران بالعمران ، وفيهما أحياء ، المعابدة ، والروضة ، والششة.

(٢) راجع كتاب فتوح مصر لابن اسحق ص ٩.

٧٦

النواحي العامة

في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

الناحية الدينية : بدأت الحياة في مكة بعد الفتح تأخذ شكلا جديدا غير الشكل الذي كانت تعرفه قبله فبعد أن كانت مثلها العليا تفانيا للقبيلة وتفاخرا بالآباء وأخذا بالثأر وكرما يؤدي الى التلف وامتيازا لأصحاب الصدارة وقدرة على الثراء بالحق والباطل أصبحت وقد هذبها القرآن تدين بالاخاء لله وتعتقد بسيادة الدين وأنه لا فضل لعربي على عجمي وأصبحت الصدارة في رأيها لأصحاب التقوى وأثر هذا في عقليتها العامة فارتسمت لها أخلاق جديدة مستوحاة من القرآن وتفتحت أمامها آفاق لا عهد لها بها من سيرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاندمجت فيما رأت ونسيت نخوتها الجاهلية وعصبيتها للقبيلة واستتبع ذلك ان ضاقت بها دائرة الشعر فلم تجد لها فيه مجالا إلا ما استمد روحه من الدين ـ واصطبغ بلون من أخلاق القرآن.

على أننا لا نريد أن نطلق هذا على جميع المكيين في ذلك العهد ونحن نعلم أن مكة حفلت يومها بالمتمردين من البدو والجفاة من الحضر الى جانب المؤمينن الذين أخلصوا دينهم واحترموا عقائدهم.

الناحية الاجتماعية : واستتبع ذلك دعوة اجتماعية شملت جل تقاليدها وعاداتها فنقضت كل ما ورثت وبنت على أنقاضه شيئا جديدا حدده القرآن وفصلت تعاليمه السنة.

ألغى في هذه الدعوة الاجتماعية وأد البنات الذي شاع بين قبائل قريش وكثير من العرب وحرم نكاح المقت الذي كان يبيح وراثه نكاح المرأة لأبناء زوجها أو

٧٧

أقاربه كما حرم نكاح الأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت وألغى تعدد الزوجات الى أكثر من أربع وحتى هذا التعدد المحدود فرض القرآن عليه شروطا تقلل شيوعه أو تمحوه.

ومنحت المرأة كثيرا من حريتها التي كان العربي ينكرها عليها بعد أن حددت لتلك الحرية حدودا لا يباح تعديها فهي لا تبدي زينتها إلا في حيز منصوص ، ولبعلها عليها من الحق ما بينه القرآن كما له أن يهجرها أو يؤدبها في غير المغالاة التي ورثوها عن تقاليدهم (١).

ونظمت في هذه الدعوة الاجتماعية شؤون الزواج والطلاق كما فصلت شؤون الرضاع وحوربت العبودية بمعناها الواسع وحل محلها تنظيم دقيق خفف العبء على الرقيق وأعطاه حقوقا كانت قريش وكانت العرب لا تقرها وفتح أمامه من أسباب العتق والفكاك لا نهاية لحصرها (٢).

وجاءت الدعوة الاجتماعية على تحريم الربا وقد كان أداة لاستغلال الضعفاء في جميع البيئات العربية وفي مكة بالخصوص حيث كان الغنى يسيل في بطحائها كما حرم الخمر والميسر والغيت جميع نظم البيوع والأقضية والميراث التي كانت تسودها روح الطغيان وشرعت على أنقاضها نظم جديدة راعت العدل وفرضت المساواة في حدودها الشرعية (٣).

وإذا كان جلة المكيين من كبار الصحابة أو البارزين في قبائل قريش قد نفروا بين يدي هذه الدعوة الاجتماعية أو في أعقابها خفافا أو ثقالا إلى المدينة محتذين

__________________

(١ و ٢ و ٣) أوضحت ذلك آيات متفرقة من القرآن الكريم.

٧٨

حذو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإذا كان رسول الله قد كره لهم بعد الفتح أن يعودوا إلى الاستيطان بها برا بالمدينة وقد آوتهم واخلاصا لأهلها وقد ناصروهم فان مكة بقيت رغم هذا غاصة بالكثير من سكانها الأصليين من بطون القبائل والنازحين اليها من العرب المجاورين والموالي المجلوبين ترعى التعاليم الجديدة في معاملاتها التجارية وتباشر أعمالها في الصناعات المحدودة التي عرفتها وتباشر ما تعودت زراعته من بساتينها في بعض أطراف مكة وضواحيها.

الناحية العلمية : كانت مكة بحكم وضعها التجاري في عهد قريش مضطرة لضبط أعمالها التجارية فكان فيها بعض الكاتبين الذين يستطيعون أن يسجلوا أعمال التجارة التي تمتد شرقا وغربا بل نجد في التاريخ ما يدلنا على أن بعض نساء هذا العهد كن يكتبن فان السيدة حفصة بنت عمر زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت تعرف الكتابة.

وعندما بدأ الوحي ينزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مكة كان النبي يحرص على ان يدونه بعض الكاتبين ما أمكنهم ذلك إلى جانب الاعتماد على الحافظة القوية التي يمتاز بها بعض صحابته رضوان الله عليهم.

لم تكن كتابة قوية ولا سريعة ولكنها مع هذا كانت كتابة صالحة للتدوين على أي مادة ميسورة من خشب أو عظم أو خزف أو جلد أو حجارة بل ربما كتبوا في بعض الأحيان على ورق بدليل أننا نقرأ في خبر اسلام عمر رضي‌الله‌عنه أن أخته وزوجها كانا يقرآن شيئا من القرآن في صحيفة معهما حين دخل عليهما.

إذن كانت مكة لعهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعالج الكتابة في درجة تصلح للتدوين وان كان التدوين غير منقوط الحروف لأن الحروف لم تنقط إلا في عهد الحجاج وقد عني

٧٩

النبي بهذه الظاهرة وشجعها واصطحب بعض رجالها إلى المدينة ليواصلوا التدوين واشتدت عنايته بذلك في المدينة ففرض على من يعرف الكتابة من المكيين أسرى بدر أن يفتدي الرجل منهم نفسه بتعليم الكتابة لعشرة من المسلمين (١).

واستفادت مكة بعد الفتح من ثقافة القرآن ما هيأها للفهم الجديد فان كتب السيرة والمغازي ومدوني كتب الطبقات يحدثونا في أخبار علي ابن مسعود وابن عباس وأبي ذر الغفاري وابن عمر وأبي الدرداء أنهم كانوا يترددون إلى مكة بعد الفتح فنتبين من ملابسات هذا أن مكة كانت تستفيد من علومهم وتتوسع معارفها الجديدة بحكم هذه الاتصالات المستمرة خصوصا ونحن نعلم أن أصحاب هذه الأسماء كانوا يحتلون الدرجة العلمية الأولى بين صحابة رسول الله وقد كانوا يقولون عن بعض هذا النفر انه لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم «بعلمه» وإذا أضفنا إلى هذا أن المكيين أنفسهم ظلوا قبيل وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يترددون عليه في المدينة وأنهم كانوا ينزلون على من فيها من جلة المهاجرين فيجدون لديهم ما يروى غلتهم من العلم استطعنا أن نعرف إلى حد بعيد نوعا من أنواع

__________________

(١) الروض الأنف ، شرح سيرة ابن هشام ج ٥ / ٢٤٥ تحقيق عبد الرحمن الوكيل.

٨٠