تأريخ مكّة دراسات في السياسة والعلم والاجتماع والعمران - ج ١-٢

أحمد السباعي

تأريخ مكّة دراسات في السياسة والعلم والاجتماع والعمران - ج ١-٢

المؤلف:

أحمد السباعي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الطبعة: ٠
ISBN: 9960-660-17-6
ISBN الدورة:
9960-660-18-4

الصفحات: ٧٩٣

نامي بن عبد المطلب : ونودي بالشريف نامي أميرا على مكة وندب للاشتراك معه في الحكم الشريف عبد العزيز بن ادريس وهو من بني عمومته على أن يشاركه في ريع الامارة دون أن يشار الى اسمه في الدعاء على المنبر وكان ذلك في ٢٦ من شعبان من السنة نفسها ١٠٤١.

وقاست مكة في هذا الفتح من الكروب والويلات كثيرا ونهبت بيوت أعيانها وكبار المجاورين فيها واستمر القتل في دروب المسفلة وبعض أطراف الشبيكة ثم امتد الى أجياد فالمسعى قبل أن ينادي منادى الأمان فيها. وما ان استقر الأمر للشريف نامي حتى كتب الى دولار أغا شيخ الحرم «صنجق جدة (١)» أن يسلم البندر فامتنع من ذلك فجهز نامي فريقا من عسكر الجلالية برئاسة شريكه عبد العزيز فساروا الى جدة وحاصروها ثم دخلوها عنوة ونهبوا بعض بيوتها وكثيرا من متاجرها وقبضوا على دولار اغا فضربوه وأهانوه ثم نفوه من جدة.

وعاد عبد العزيز بعسكره الجلالية الى مكة فتفرقوا بين بيوت الأشراف والأعيان وفرضوا اقامتهم عليهم وعاث بعضهم فسادا في الأسواق كما صادر الشريف نامي أموال بعض التجار (٢).

زيد بن محسن للمرة الثانية : ولم ينم الشريف زيد بن محسن عن ثأره فقد ندب من المدينة رجلا من بني عمومته وهو علي بن هيزع فوصل الى مصر واتصل برجال العثمانيين فيها وسلمهم رسالة زيد بتفصيل ما حدث ليرسلوها الى الخليفة وما لبث أن صدرت الأوامر بتجهيز بعض «الصناجق» على رأس ثلاثة آلاف

__________________

(١) الصنجق رئيس ألف جندى.

(٢) افادة الأنام للشيخ عبد الله غازى «مخطوط»

٤٢١

جندي من الأتراك فتوجهت القوة الى ينبع برا ثم أشفعوها بمركب بحري يقل خمسمائة جندي الى ينبع وكتبوا الى الشريف زيد في المدينة أن يتولى ادارة الحركة كما أرسلوا اليه الخلعة السلطانية.

وبدأ زيد خطوته فلبس الخلعة في الحجرة النبوية ثم خرج الى ينبع حيث استقبل جيوش المقاتلين واستأنف السير بهم حتى نزلوا في وادي الجموم (١).

واتصلت الأخبار بمكة فندب نامي فريقا من خيالته وبعض الهجانة ليكشفوا له أخبار الجيش فأحاط المقاتلون في وادي الجموم ببعضهم وقتلوهم وفر الباقون بأخبارهم الى مكة فحذروا نامي عاقبة القتال وهولوا عليه الأمر ففر في بعض رجاله الى خارج مكة ثم تابع فراره الى الشرق وتبعه عسكر الجلالية وقد انتهى بهم الى تربة وتحصن معهم فيها كما فر شريكه عبد العزيز فيمن تبعه الى ينبع.

وباتت مكة في ليلة ٥ ذي الحجة من العام نفسه سنة ١٠٤١ تنتظر دخول القادمين من الجموم وتطوع الشريف احمد بن قتادة من اشراف المدينة آل المهنا ـ وكان مقيما بمكة ـ بالسهر على حراسة البلاد وأمن الحجاج وأرسل رسله الى الجموم ليخبروا الشريف زيدا بأن البلاد أصبحت خالية تنتظر قدومه.

وفي ٦ ذي الحجة أقبل الشريف زيد في موكب حافل تتقدمه صناجق الأتراك حتى نزل في دار السعادة وأطلق مناديه ينادي بالأمان وانه منذ اليوم حاكم البلاد (٢).

__________________

(١) الجموم جزء من وادى مر «وادى فاطمة» بل هي بلدة فيها امارة الوادى ومرافقة فهى قصبة مر الظهران (ع)

(٢) افادة الأنام للشيخ عبد الله غازى «مخطوط»

٤٢٢

وقضى الحجاج مناسكهم في ذلك العام في هدوء بعد الفتنة التي عانوها وتكبدوا أهوالها ثم ما لبث الأمير زيد أن سير جيشا الى تربة لمحاصرة الشريف نامي وقد نجح الجيش في أعماله واقتاد ناميا وأخاه أسيرين الى مكة فزينت أسواقها بهذا الظفر وظلت معالم الزينة قائمة سبعة أيام. ووجد الأمير زيد من العلماء من أفتى بجواز قتل الأسيرين فأمر بشنقهما وتعليق جثتيهما في روشنين متقابلين بالمدعا وذلك في آخر محرم ١٠٤٢.

وثقبت سواعد كور محمود وهو من أتباع نامي وطيف به في شوارع مكة على جمل ثم قتلوه وحرقوه وأذروا رماده في الهواء. وبذلك انتهى أمر نامي بعد أن حكم مكة مائة يوم (١).

وبه استقر الأمر للشريف زيد ودانت له القبائل ، وكان الشريف زيد يجمع بين القسوة واللين ، وقد استفاد من المزج بين خلتيه ، واستطاع أن يدوم في الحكم مدة طويلة ، وفي عهده اطمأنت البلاد وفاضت مواسم الحج فيها بالخير فحاز تقدير الأهالي ومودتهم وخشية الأشراف على اختلاف بيوتاتهم فلم يناوئه أحد منهم.

وغزا في عام ١٠٤٣ فخذا من قبيلة حرب اسمها صبح فاستطاع أن ينكل بهم ويعيدهم الى طاعته (٢).

وباء الخيل : وفي هذه السنة وقع الفناء في الخيل بمكة حتى لم يبق فيها إلا فرس واحد جعلوه لركوب الأمير وركب بقية الأشراف الحمير (٣) وفي ٢٠ ذي

__________________

(١) تاج تواريخ النشر للملامة الخضراوى «مخطوط».

(٢ و ٣) خلاصة الكلام للسيد الدحلان ٧٥.

٤٢٣

الحجة من هذا العام ١٠٤٣ اشتبك عبيد الأمير مع الحج المصري عند المتوضآت «حنفيات الماء» وقت الورود فنشب القتال بين الفريقين ، واستعان المصريون بمدفع لهم وضعوه بجوار الماء وكاد القتال يتفاقم لو لا أن الشريف زيدا حال دون ذلك بما بذل من جهد (١).

منع حاج العجم : وفي عهد الأمير زيد صدر الأمر العثماني بمنع حاج العجم من الحج والزيارة ، فوصل الخبر في موسم عام ١٠٤٢ فأمر من ينادي في أسواق مكة لتبليغ حاج العجم ذلك وهم يبلغونه اخوانهم اذا رجعوا (٢) ولم تذكر تواريخ مكة التي اطلعت عليها سببا ظاهرا لهذا المنع إلا أن حوادث التاريخ الاسلامي تفسره تماما ، فالمتتبع يعلم أن العجم كانوا قد هاجموا بغداد في عام ١٠٣٣ وأجلوا العثمانيين عنها ، وقد ظلت في حيازتهم الى عام ١٠٤٢ حيث أجلتهم عنها جيوش السلطان مراد ، فليس من المستبعد أن يمنع العثمانيون العجم من الحج في أوقات كان الخلاف فيها على أشده معهم في بغداد.

الشيخ محجوب : ومن غرائب ما يذكر أن بشيرا أغا الطواشي من مماليك السلطان مراد حج في عام ١٠٤٩ وكان يحمل تفويضا من السلطان بعزل وتولية من يرى توليته وعزله في البلاد التي يمر بها ، فلما انتهى الى مصر خرج واليها للقائه في ظاهرها وقبل ركبته ومشى بين يديه الى أن أذن له بالركوب فلما انتهى خبر ذلك الى الشريف زيد في مكة عز عليه أن يمشي في ركاب الطواشي ، فاستشار الشيخ عبد الرحمن المحجوب وكان من رجال العلم الصالحين فقال له

__________________

(١) خلاصة الكلام للسيد الدحلان ٧٦.

(٢) منائح الكرم للسنجاري «مخطوط».

٤٢٤

أسأل الله أن يكفيك ذلك فاستجيبت دعوته لأن بشيرا أغا ما كاد يصل الى مكة حتى سبقه اليها خبر وفاة السلطان مراد وبذلك بطل مفعول التفويض الذي يحمله.

ودخل بشير أغا فقابله مقابلة عادية وصافحه ثم ركض زيد بفرسه حتى تقدم عليه وعزاه في السلطان فتضاءل بشير أغا لأنه كان يظن أن خبر الوفاة مجهول فى مكة (١).

وفي عام ١٠٦٠ أثيرت بعض القلاقل ضد الأمير زيد كان مصدرها الشريف عبد العزيز بن ادريس الذي ترك مكة الى ينبع فارا عند احتلالها من الأمير زيد فقد أراد عبد العزيز أن يثأر لنفسه فاتصل بالوالي التركي في جدة غطاس بك وأغراه بمساعدته على احتلال مكة وتوليته عليها وقد كاد ينجح لأن غطاس بك سير جنده الى مكة لقتال زيد ولكن زيدا كان اكثر يقظة مما ظنوا فقد علم بخروجهم فقابلهم بجيش من مقاتلته بالقرب من وادي فاطمة في جمادي الثانية عام ١٠٦٠ فأعادهم بعد قتال شديد على أعقابهم وكان كريما مع خصميه غطاس بك وعبد العزيز لأنه أطلقهما بعد ان وقعا في أسره وسيرهما مخفورين الى جدة فأقاما بها مدة الى أن استصدر أمرا بنفيهما الى مصر (٢).

واستمر الأمير زيد في امارته خمسا وثلاثين سنة وشهرا وبضعة ايام قضاها في توطيد ملكه واحياء كثير من معالم العدل وكان مجلسه يغص برجال العلم كما كان يقابل في المواسم أعيان العلماء من الآفاق فيناقشهم ويبحث معهم في

__________________

(١) خلاصة الكلام للسيد الدحلان ٧٦.

(٢) المصدر نفسه ٧٨.

٤٢٥

كثير من ابواب العلم واستطاع ان يقيم الحجة على العثمانيين في حقوق الامارة في واردات جدة حتى اعيد اليه نصيبه منها بعد أن كانوا أضافوه الى الخزانة التركية ـ كما تقدم بنا في عهد مسعود بن ادريس ـ وقد ذكر عبد الله العياشي في رحلته كثيرا من مناقب الشريف زيد ثم قال وقد ولى الحجاز من أطراف اليمن الى أقصى نجد مما يلي البصرة ثم الى خيبر مما يلي ناحية الشام ، ثم قال وكان يعتقد اعتقاد أهل بيته من الزيدية ثم باينهم ورجع الى معتقد اهل السنة وتمذهب بمذهب الامام أبي حنيفة وكف اهل بيته عن كثير مما كانوا ينالون من أهل السنة ومنعهم من اظهار معتقداتهم. ومرض الشريف زيد في أوائل المحرم عام ١٠٧٧ ولم يمهله المرض إلا أياما ثم توفي ورشح للامارة بعده ابنه سعد باتفاق بعض الأعيان في مكة وساعده على هذا شيخ الحرم التركي الا أن الأشراف من آل بركات كانوا على نقيض ذلك لأنهم كانوا يكرهون كما أسلفنا أن يمضي ذوو زيد في توارث الامارة دونهم وشاركهم العبادلة في ذلك لأن جدهم عبد الله بن الحسن كان صاحب الحق المقرر قبل تنازله وقبل عودة زيد من اليمن ليشارك ابنه في الحكم.

وتصدى للمناوأة ابن لعبد الله بن الحسن اسمه حمود فقد كان يرى انه الوريث الشرعي للحكم وأن له من وجاهته ومقامه بين الأشراف ما يؤهله لذلك.

وانضم الى هذا الرأي كثير من الأشراف فشعر حمود بأن في استطاعته اذا استند الى قوتهم وما يملك من عبيد وأموال وظاهره صنجق جدة أن يقوم بالأمر ضد ذوي زيد وأن يعيد الحكم الى بيته من آل بركات.

ومضى يومان أو نحو ذلك دون أن تنصب مكة أميرا واشتد الخلاف وأقسم

٤٢٦

ذو وزيد على الدفاع عن حقوقهم فرأى شيخ الحرم وبعض من يشايعه في مكة من المجاورين والاهالي ان يضعوا الاشراف امام واقع فاجتمعوا في رواق المسجد الحرام وذهبوا الى دار الشريف سعد بن زيد واعلنوه انهم اختاروه أميرا عليهم وأنهم سيكتبون الى دار السلطنة العثمانية فقل منهم ذلك.

ولما شعر المناوئون من الاشراف بذلك استنفروا القبائل الموالية لهم شرقي مكة وفي الطائف وأرادوا اعلان الثورة وخرج بعض المتحمسين الى المسعى يطلقون بنادقهم في الهواء ارهابا ووجد المفسدون في أطراف مكة الفرصة سانحة للسلب فهاجموا بعض البيوت ونهبوا موجوداتها ونشط العابثون في البادية فقطعوا الطريق على المسافرين بين مكة وجدة والطائف وكادت الفتنة أن يشتعل اوارها بأشد ما يكون الاشتعال لولا أن تداركهم لطف الله بالمتوسطين من علماء مكة وبعض عقلائها من الأشراف الذين سعوا الى الصلح بين الفريقين بعد أن قاست مكة من الاضطرابات والفوضى ما قاست نحوا من ثلاثة عشر يوما. وانتهى الصلح بتنصيب سعد بن زيد وتخصيص جزء كبير من ريع البلاد للشريف حمود لقاء قبوله ذلك (١).

سعد بن زيد : واحتفلت مكة بالصلح احتفالا عظيما وأقيمت معالم الزينة في أحيائها وحاراتها ومن ثم كتبوا إلى دار السلطنة بما جرى وانتظروا أن يوافيهم التأييد وطال انتظارهم فلم يصلهم شيء من ذلك.

وفي أثناء هذا الانتظار ـ وكان قد أهل رجب من السنة نفسها ١٠٧٧ ـ تحرش بعض أتباع الفريقين بالبعض الآخر فوقع الاصطدام بين أنصار سعد ابن زيد وأتباع

__________________

(١) خلاصة الكلام للسيد الدحلان ٨٠.

٤٢٧

حمود ويبدو ان النفوس كانت مطبقة على أهواء مكبوتة تنتظر من يثيرها فما كاد ينشب خلاف بسيط حتى اشتعلت الصدور بما تضمر وثارت الفتنة وبدأت الطلقات النارية يرتفع صداها بين مداخل الشعوب في البلدة واشترك العساكر النظاميون في هذه الفتنة وكثير من رجال القبائل ، وظل الأمر على ذلك يومين حتى تدخل المصلحون وعالجوا الخلاف بين الفريقين بما أرضاهم بعد أن ذهب ضحية الحوادث اربعة قتلى وكثير من الجرحى والمصابين.

ووافى تأييد السلطان على أثر هذا فسر به ذوو زيد وجرت المراسيم المعتادة للتولية ولبس الشريف سعد «خلعة» الامارة المهداة من دار السلطنة وأقيمت معالم الزينة في مكة سبعة أيام ووزع الأمير سعد على جنده الفي دينار وخلع على كثير من أتباعه وحاشيته.

وأقبل الموسم من ذلك العام ١٠٧٧ فأقبلت باقباله بواعث الخلاف لأن الشريف سعدا تباطأ في تسديد الحصة التي يستحقها الشريف حمود واشتد الخلاف فخرج الشريف حمود الى البادية مغاضبا في ٢٣ ذي القعدة ١٠٧٧ في جماعة من الأشراف وقد أقام بها حتى وافى امير الحج المصري فاجتمع به حمود وأخبره بما كان من سعد في عدم الوفاء وقال له «إننا لا ندع احدا يحج حتى نأخذ ما هو لنا» وكان قدره مائة الف أشرفي فكفل له ذلك أمير الحج المصري ونقده خمسين ألفا.

ولما عاد الحج من عرفات أراد أمير الحج المصري وبعض المصلحين أن يصلحوا بين المتخاصمين وعقدوا لذلك مجلسا فلم يتم بينهما اتفاق فخرج حمود مغاضبا الى ينبع ولحقه بعض الأشراف.

٤٢٨

وندب على أثر ذلك بعض ولده وجماعة من الأشراف للسفر الى مصر ليعرضوا الأمر على ممثل العثمانيين فيها فلما كان الوفد في بعض الطريق صادفهم مندوب مقبل من مصر يحمل مقترحات للصلح وأخبرهم أنه سيقابل الشريف حمودا في ينبع فعاد في صحبته وبعضهم وبقي البعض الآخر في «الحوراء (١)» ينتظر النتيجة.

ويبدو أن المندوب لم يستطع تسوية الأمور لأننا نجد المتخلفين فى الحوراء ظلوا ١٥ يوما ينتظرون ثم استأنفوا رحلتهم الى مصر فقوبلوا بترحاب عظيم من والي العثمانيين فيها.

ثم ما لبثت أن راجت اشاعة في مصر بأن الشريف حمودا قتل مندوب مصر فاستاء والي مصر وقبض على ضيوفه واستفتى العلماء في قتلهم فلم يفتوه فأودعهم السجن كرهائن.

وفي أثناء هذه الحوادث كان عصيان الشريف حمود في ينبع قد تفاقم أمره وكثرت قلاقله وانضم الى صفوفه عاص جديد هو محمد بن زيد الذي اختلف مع أخيه سعد في مكة وغادرها مغاضبا لينضم الى حمود في ينبع. وصدرت الأوامر العثمانية الى صاحب مصر بارسال حملة عسكرية الى ينبع لتأديب العصاة بها فتوجهت الحملة وهي في نحو خمسمائة جندي إلى ينبع فقابلها العصاة في جمع من مقاتلة الأشراف وبعض المتطوعة من قبيلة جهينة وفتكوا بها فقتل منها نحو أربعمائة جندي وفر الباقون وقد أسر قائد الحملة ونساؤه

__________________

(١) الحوراء تقع شمال ينبع بالقرب من أملج.

٤٢٩

وأولاده فأبقوهم في الأسر كرهائن مقابل أسراهم من الأشراف في مصر وذلك في رجب عام ١٠٧٩ (١).

ثم ما لبث أن تولى حكم مصر وال جديد من العثمانيين فأطلق سراح الاسرى من الأشراف ، فقابله أنصار الشريف حمود بالمثل وأطلقوا أسراهم عنده.

وظل العصيان على حاله في ينبع الى أن أعد الشريف سعد في مكة عدته لتأديبهم وقد وافتهم الأنباء فانتقلوا متوغلين في داخلية البلاد حتى انتهوا الى شرقي الطائف وهناك عانى الشريف حمود كثيرا من مناوشة قبائل مطير وبني ظفر وبني حسين فرأى أن يختزل العصيان ويتقرب الى ابن عمه فانحدر الى الطائف وقابل الشريف سعدا مواجهة فرحب به سعد وقبل منه وتعاهدا معا على الصفاء في جلسة عامة في مسجد ابن العباس وذلك في سنة ١٠٧٩.

وبذلك تم الصلح بعد أن قاسى المتضادون كثيرا من أهوال الخلاف وعانت مكة من جراء ذلك شدائد لا حد لوصفها فقد اضطرب سير القوافل بين البلاد واشتد غلاء الحاجيات وعز القوت في مكة وجدة والطائف وأكل الناس في هذه الأثناء لحوم الكلاب والهررة والميتة والعظام (٢).

وما كاد يستقر أمر الشريف بعد ذلك حتى تعصب ضده بعض عسكره وكانوا من مرتزقة اليمن يتجندون للخدمة العسكرية في مكة فتأخر عنهم صرف رواتبهم فأعلنوا عصيانهم على الشريف سعد وانحازوا الى جهة المعلاه واعتدى بعضهم على الباعة في الأسواق ينهبون ما تصل اليه أيديهم بالأسواق ثم خرجوا

__________________

(١ و ٢) منائح الكرم للسنجارى «مخطوط».

(١) خلاصة الكلام للسيد الدحلان ٨٤.

٤٣٠

متجمهرين يريدون اليمن فندب الشريف سعد أحد اخونه لاصلاح الأمر فأصلحه بعد أن وعدهم بانجاز مرتباتهم وقد أنجزها وكان ذلك في ثالث ربيع الأول من عام ١٠٨٠.

مهدي من فارس : ومن الأحداث الهامة في عام ١٠٨١ أن رجلا فارسيا هاجم الخطيب في المسجد الحرام وهو يخطب يوم الجمعة ١٦ رمضان مستلا سيفه يريد قتله وهو يصيح بالفارسية انه المهدي فحال المصلون دونه وتكاثروا عليه وأوسعوه ضربا حتى وقع مغشيا عليه ثم سحبوه حتى انتهوا به إلى ناحية في المعلاة فأوقدوا فيه النار وأحرقوه (١).

ولا أستبعد أن يكون هذا الرجل مجنونا ولكن الجماهير لا تصدر في أعمالها عن روية إذا تجمهرت ولو كان ثمة من يسيطر عليها في تجمهرها ويستطيع أن يصدر في سيطرته عن تعقل لحال دونهم وما فعلوا واكتفى بالقبض على الرجل والبحث في شأنه الى أن يحكم الشرع فيه بما يستحق ، وأكبر ظني أنهم لو فعلوا ذلك لما وجدوه يستحق من العقوبة أكثر من احالته الى مستشفى المجانين إذا كان للمجانين مستشفى في ذلك العهد ، ولكن التجمهر آفة العقول في كل زمان.

أهل عام ١٠٨٢ فأهلت معه أحداث جديدة قاسى هولها الشريف طيلةعام ٨٢ و ٨٣ ثم انطوت امارته قبل أن ينطوي العام ١٠٨٣.

ويتلخص ذلك في أن خلافا نشأ بين صنجق جدة والشريف سعد لعل من أهم أسبابه مماطلة الأول في صرف حقوق الشريف سعد في واردات جدة وطال الخلاف حتى وافى أوان الحج عام ١٠٨٢ فلما كان «صنجق» جدة في منى يوم

__________________

(١) خلاصة الكلام للسيد الدحلان ٨٤.

٤٣١

النحر ضرب برصاصة لم تصب منه مقتلا فحمله عسكره الى بيته في مكة بالقرب من باب الباسطية.

ولم يشك المصاب بأن ضاربه مدسوس عليه من الشريف سعد لكن الشريف سعد أكد في مجلس عقد خاصا بذلك بعد الحج أنه لا يعلم عن الضارب شيئا وفي هذا المجلس بحث أمر الصلح بين الفريقين كما بحث موضوع استحقاق الشريف سعد في واردات جدة وبعد تدقيقها وتقريرها تسلم بعضها وتنازل عن الباقي (١) وانتقل صنجق جدة بعد ذلك الى جدة ثم ثم الى المدينة في اوائل عام ١٠٨٣ وهناك اتصل به بعض خصوم الشريف سعد وشجعوه على اعلان عزل الشريف سعد وتوليه احد بني عمومته.

وعلم سعد بالأمر فجهز مقاتلته لضرب خصومه. وقبل أن يشتبك القتال وافى مرسوم من تركيا بعزل (صنجق) جدة وتأييد سعد (٢)

الشيخ المغربي : وكان يقيم في القسطنطينية رجل من خصوم الشريف هو الشيخ محمد بن سليمان المغربي وكان من كبار علماء عصره بمكة وقد وجد الفرصة سانحة للعمل ضد الشريف سعد فساعد على تركيز الحملة ضده فلما قنعت الخلافة في تركيا بعثت الى مصر بارسال ثلاثة آلاف جندى الى مكة والى حلب بارسال ألفي جندي وجعلت قيادة الجيش الى صاحب حلب حسين باشا كما أمرت حسين باشا أن يأتمر بأوامر الشيخ محمد سليمان المغربي (٣).

وانتهى الجيش المصري الى مكة في موسم عام ١٠٨٣ وعسكر في جرول ثم

__________________

(١) خلاصة الكلام للسيد الدحلان ٨٥.

(٢) افادة الأنام للشيخ. عبد الله غازي «مخطوط».

٤٣٢

وصل جيش حلب فعسكر في الزاهر وفطن الشريف سعد للأمر فبات منه على حذر وقصد حسين باشا والشيخ محمد المغربي الى المسجد حال وصولهما فأديا نسكهما وقابلا الشريف سعدا فأظهرا له الود وقبل حسين باشا يد الشريف ثم سهر عنده في بيته الى ما بعد منتصف الليل. وأرسل الشريف سعد يطلب خلعته المعتادة من الباشا فطلب الباشا اليه حضوره ليشرب قهوته فامتنع فأعاد دعوته فلم يقبل وقال ان العادة جرت بارسالها الىّ فقال الباشا ليس لك عندنا خلعة فتأهب الشريف سعد للقتال فندب الباشا من ينادي بالأمان وأرسل الخلعة إلى الشريف سعد.

وانتقل الجميع بعد هذا الى عرفات فوقف الفريقان بها وقد أخذ كل فريق حذره ولما انتهوا الى منى بات الشريف ينتظر من الباشا اعلان مرسوم التأييد له كالمعتاد فلم يفعل فأرسل ينبه الباشا فطلب الباشا حضوره فلم يقبل وارتهكت أعصاب الشريف على أثر هذه الحوادث وبدا له أن الأمر جد أكثر من اللازم ولعله رأى أنه لا قبل له بقوة الجيش فغادر منى خفية في بعض انصاره الى الطائف ومنها ارتحل الى تربة فبيشه ثم سلك طرقا كثيرة حتى انتهى الى دار الخلافة في تركيا.

وفي منزل الشيخ محمد بن سليمان المغربي في منى اجتمع حسين باشا وبعض كبار الموظفين وأعيان الأشراف ثم أرسلوا في استدعاء الشريف بركات ابن محمد من آل بركات وأعلنوا ولايته بموجب مرسوم الخلافة كما أعلن الشيخ محمد بن سليمان حقوقه في الاشراف على شؤون البلاد وتلا مرسومه الخاص بذلك.

وهكذا انتهت امارة الشريف سعد قبل نهاية عام ١٠٨٣ بعد أن حكم مكة

٤٣٣

خمس سنوات ناب اخوه أحمد عنه في سنتين منها وبذلك خرجت الامارة من ذوي زيد لتعود من جديد الى ما كانت عليه في ذوي بركات (١).

بركات بن محمد : وانقسم الأشراف في شأن ولاية بركات فحبذها أشياع بركات ولم يرضها ذوو زيد وأنصارهم فارتحل بعضهم إلى نواحي الطائف وابتعد آخرون إلى أطراف مكة وهاجر بعضهم الى خارج البلاد (٢) ومع هذا فإن الشريف بركات كان أطيب سيرة من غيره فلم يقس على أضداده ولم يشدد النكير عليهم وكان يحب المصالحة ويسعى اليها فظل مسالما إلا في أحوال خاصة سنأتي على بيانها.

ومن طريف ما يذكر أن الشيخ محمد زرعة حضر حفلة المرسوم وقرأ آية من القرآن منها (فقد آتينا آل ابراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما) وكان الشريف بركات من آل ابراهيم بن بركات (٣).

المغربي يشرف على الامارة : وغلب نفوذ الشيخ المغربي على جزء كبير في عهد بركات مما لم يعهده أشراف مكة قبله واستطاع أن يمضي امورا كثيرة كانت لا تجد من يستطيع معارضتها رغم ما كانت تثيره من احتجاجات (٤).

ومما أمضاه المغربي انه أخرج أصحاب الخلاوي من خلاويهم وأربطتهم وقد كانت موقوفة على آبائهم ـ وتوارثوا وقفيتها مع ما ربط لها من غلال واستبدل بهم غيرهم لأنه كان يرى أن هذه الخلاوي ما بنيت إلا لتأوي المجاورين من طلبة

__________________

(١) خلاصة الكلام للسيد أحمد زيني دحلان ٩٠.

(٢) يذكر صاحب المخلاف السليماني ٢ ج ٤٢١ أن أحد ذوى زيد واسمه خيرات بن شبير لجأ إلى اليمن فأكرم امام اليمن وفادته وخصص له ما يكفىّ لنفقته فعاش فى أبي عريش ينفع الناس بعلمه وأنجب ابنا اسمه محمد كان في مثل وجاهة أبيه وانجب هذا ابنا اسمه أحمد أجمع اهل العريش على حبه فكتبوا الى امام اليمن ان يوليه اميرا عليهم ففعل وبذلك تأسست امارة زيد فى اليمن ودامت ١٣٣ سنة تحت اشراف امام اليمن.

(٣) خلاصة الكلام ٦٢.

(٤) جاء فى افادة الانام ان الشيخ المغربي ولد فى سوس وتعلم فيها ثم تنقل بين كثير من بلاد المغرب ورحل الى مصر وأخذ عن كثير من أكابر العلماء وقد عرف بقراءته وتفننه وله معرفة واسعة في المعقول وعلم العلل وكان كثير التأليف مهيبا نافذ الكلمة مشهورا بالفراسة.

٤٣٤

العلم ممن ليس لهم بيوت يأوون اليها وأن غلالها ما ربطت إلا لتعول هذا النفر الذي ليس له عمل إلا طلب العلم وأنها إذا كانت قد آلت بتقادم السنين الى ورثة لهم بيوت يسكنونها مع عائلاتهم ولهم طرق للكسب يسليعون بها أن يستغنوا عن الخلاوي ومربوطاتها فان من الحق أن تنتزع منهم لتوجه للمجاورين الفقراء يستفيدون منها. وهي فكرة أرى أنها لا تستحق الطعن ولكن الأنسان في كل زمان هو الانسان .. فلا عجب أن يستاء أصحاب الخلاوي مما حدث ويعتبرون أعماله تقحما على حقوقهم الموروثة وتهجما على ابناء البلاد وتعزيزا للغريب الطاريء ولا عجب أن نرى بعض مؤرخي مكة ينعتون أعماله بالتعسف والظلم.

ولم تقتصر أعمال الشيخ محمد بن سليمان على شأن الخلاوي فقد أخذ مدرسة الشرابية من الشيخ أحمد الحكيم بالرغم من الأوامر والمستندات التي تخوله حق السكنى فيها وأعطاها لبعض المجاورين ليسكنوها وأخرج ابراهيم بيري زادة من وقف الدوربي الكائن بأعلى المدعى من جهة سوق الليل ووجهه كما يبدو لبعض المجاورين كذلك.

لهذا اشتد استنكار المكيين لهذه الأعمال حتى قال شاعرهم «المهتار»

وظائف الناس قد صارت مفرقة

ما بين عبد ومعتوق وآفافي

وأهل مكة قد غارت نجومهم

فما ترى كوكبا يبدو بآفاقي

٤٣٥

وأنشأ الشيخ المغربي مزولة في المسجد لمعرفة أوقات النهار كما أنشأ تكية في المسعى وكانت تعرف الى عهد قريب بتكية السيدة فاطمة (١) وصرف عليها أموالا كثيرة وصارت صورة المزولة في المسجد الحرام فيها للفقراء «دشيشة» ينفق على صنعها من كراء أوقاف جقمق وقايتباي (٢).

ولا نشك في أنه كان يريد الإحسان بذلك الى الفقراء والمجاورين ، ولكني أرى أن في بناء التكايا ما يغري على الكسل ويساعد على اجتذاب فقراء الآفاق الى هذا البلد الذي عانى ويعاني من مشاكلهم الى اليوم ما يجل عنه الوصف.

وعمر الشيخ بن سليمان المغربي عدة أوقاف بمكة كانت قد خربت واستولت عليها بعض الأيدى وليته استبدل بها مدرسة تحارب الأمية وتنشر العلم ولا أجيز لنفسي أكثر مما تؤديه كلمة «ليت» لأن موضوع الأوقاف الخربة وما تؤدي إليه من نتائج له بحث أوسع من أن يوفيه قلمي وهو قبل هذا يخص أصحاب الاختصاص من رجال الدين أكثر مما يخصني.

ومنع الشيخ أصحاب الزوايا من ضرب الدفوف في ليالي المولد. وتخالجني كلمة «ليت» مرة أخرى وبودي أن أقول ليت الشيخ أقنع أصحاب الزوايا في لين ورفق بأن في ميدان الحياة من الأعمال المنتجّة لعز الإسلام وسؤدد هذا البلد الحرام

__________________

(١) وقد سميت كذلك نسبة الى بيت فاطمة الذى كان يقع بجوارها وقد هدمت أخيرا وقام فى محلها الشارع الفيصلي قبيل المدعي.

(٢) خلاصة الكلام ٩٣.

٤٣٦

ما هو اجدى وأنفع من العمل المحدود في ظل الزوايا.

وبنى الشيخ المغربي بمكة رباطا للفقراء يعرف «في عهده» برباط ابن سليمان عند باب ابراهيم يسكنه أهل اليمن.

وأدخل الشيخ بعض تعديلات على النظم القائمة يومها في مدرسة قايتباي فأضاف اليها جملة صالحة من مدرسي المذاهب واستبدل مدرس المذهب الحنبلي بآخر يدرس الحديث (١) وبنى مقبرة في المعلاة سميت مقبرة ابن سليمان وأعتقد أنها المقبرة الموجودة الآن وتسمى السليمانية.

وقام الشيخ باعمال كثيرة يطول سردها وهي تدل بالاضافة الى ما ذكر على مبلغ ما كان يتمتع به الشيخ من جرأة وما كان يملك من نفوذ.

ولسنا نشك في ان الشيخ المغربي كان يستمد جرأته من مصدر يؤيده فى الآستانة وقد ذكروا ان الوزير الاعظم أحمد باشا الكبر لي كان يؤيد نفوذه ثم يقولون ان الخلل ما لبث ان تطرق الى مركزه على اثر وفاة الوزير المذكور في استامبول ، وانه فقد نفوذه تماما بعد ذلك لان الوزير الجديد أصدر اوامره في عام ١٠٨٦ برفع يد الشيخ عن كل ما يتعلق بأمور البلاد بعد ان تمتع باشرافه عليها نحوا من ثلاث سنوات ثم ما لبث ان صدرت الأوامر بابعاده من البلاد ولكن بعضهم تشفعوا فيه وطلبوا توجيهه الى المدينة ثم تشفعوا فيه فسمح له بالاقامة في مكة على ان لا يتعرض لشئون الحكم (٢).

ونعود بعد هذا الاستطراد الى امر الشريف بركات فقد تركناه يتولى أمر مكة

__________________

(١) خلاصة الكلام ٩٣.

(٢) منائح الكرم للسنجاري «مخطوط» (ع) : وتوجد اليوم ذرية الشيخ محمد بن سليمان المغربي بخليص وقد أصبحت قبيلة معدودة في حرب. انظر نسب حرب.

٤٣٧

في عام ١٠٨٣ ورأيناه يسالم الشيخ محمد بن سليمان المغربي ولا يتعرض لاعماله وترتيباته ويقبل فكرة اشرافه التي لم يتعودها آباؤه بروح المسالم الضعيف ، بل انه يذهب الى أكثر من هذا فيحضر حلقته بالمسجد ويستمع الى دروسه.

والغريب ان هذا المسالم لا نلبث ان نجده في بعض المواطن قويا كأقسى ما يكون الأقوياء ، فقد خرج في عام ١٠٨٤ ، ١٠٨٥ على رأس جيش من الاشراف والعربان وبعض العساكر لقتال العصاة من قبيلة حرب ، ولما نزل قرية بدر لم يبدأ القتال فورا بل ظل يرابط فيها ، وكلما اعتزم العمل عاود الصبر حتى صاروا لا يهتمون لحركته ، فلما طال الامر ورأى بعضهم يفترق عن بعض وثب عليهم وثبة جبارة فكسر جموعهم واستأصلهم وأقام في قتلهم ستة ايام قطع فيها دابرهم وأحرق نخيلهم وأقام حكمه في بلادهم ، ولما انتهت الاخبار الى مكة زينت اسواقها ثلاثة ايام ابتهاجا بالنصر (١).

وفي هذا العهد ورد مرسوم من السلطنة بتقسيم واردات مكة اربعة أقسام يختص باحدها الشريف بركات وتوزع الثلاثة ارباع على الاشراف في مكة سهاما متساوية. واستعان الشريف بركات بالخواجا عثمان بن زين العابدين حميدان الذي جهله وزيرا له (٢)

تلطيخ الكعبة : وفي شوال ١٠٨٨ اصبح الناس فاذا الكعبة ملطخة بما يشبه العذرة فاتهم الناس الشيعة بهذا جريا على اعتقاد قديم لا ادري كيف تجيزه عقولهم ، وهكذا اشتدت حمية الاتراك المجاورين والحجاج فأوقعوا ببعض الشيعة وقتلوا منهم اشخاصا رميا بالحجارة وضربا بالسيوف. وينقل السيد

__________________

(١) افادة الانام للشيخ عبد الله غازي «مخطوط»

(٢) منائح الكرم للسنجارى «مخطوط»

٤٣٨

دحلان (١) عن العصامي في تاريخه أنه رأى بعينه ما تلوثت به الكعبة فاذا هو من القاذورات وانما هو من انواع الخضروات عجن بعدس وأدهان معفنات فصارت رائحته كريهة ، وسواء صح هذا أو لم يصح فالواقع ان الاسلام في حاجة الى التواد الذي يجمع كل المخالفين في جادة واحدة وأن ابناءه في غنى عن أن يوسعوا شقة الخلاف بينهم بما يتوهمونه في المخالفين منهم.

وشد ما يؤسفني ان يتوهم العامة الى اليوم ان شيعة العجم لا يتم حجهم في مذهبهم الا اذا لوث الكعبة الحاج ، لو كنا نحتكم الى منطق العقل لعلمنا ان صحة الفكرة تقتضي أن تلوث الكعبة في كل عام بالألوف المؤلفة من القاذورات تبعا لعدد الشيعة من الحجاج وهو ما لا يسلم به الواقع الملموس ، ولكننا نلغي عقولنا بالنسبة لمخالفينا.

جمل فوق المنبر : وفي ٢٢ ذي الحجة عام ١٠٩١ سال وادي ابراهيم بمكة على اثر مطر عظيم ، واقتحم السيل المسجد حتى انتهى الى ما يوازي نصف الكعبة وأزاح بعض الاعمدة عن امكنتها ، ومن غريب الاتفاق ان السيل حمل أحد الجمال حتى استقر به فوق المنبر ، فلما انكشف الماء في الصباح وجدوا الجمل في مكانه في إعلى المنبر. وراح ضحية هذا السيل عدد كبير من الحجاج وخربت بسببه كثير من البيوت (٢).

وفي جمادي الاول سنة ١٠٩٣ وقعت فتنة بين الاتراك وعبيد بعض الاشراف في مكة ، ويبدو من ملابساتها أن الاتراك كانوا يشعرون بميزة مستواهم المستمدة

__________________

(١) خلاصة الكلام ٩٧. والعصامي ج ٤ ص ٥٢٩ المطبعة السلفية بمصر ، وفيه تفصيل عمن قتل يومئذ.

(٢) خلاصة الكلام للسيد دحلان ٩٨

٤٣٩

من سلطة عنصرهم ، وكان الأشراف يأبون عليهم ذلك ويشعرون في نفس الوقت بميزة محتدهم ولا ينسون انهم اصحاب البلاد الاصليين وحكامها ، فليس ببعيد ان تحتك هذه المشاعر ، وان تضطرم بينها نيران الفتن ، وان يندفع العبيد غاضبين لسادتهم فيتحرشون بالاتراك.

وفي الواقعة التي نحن بصددها كانت الفتنة قد استعمل فيها الرصاص فأصيب فيها بعض الاتراك ونهبت بعض البيوت وأقفلت الدكاكين أبوابها وتفاقم الامر حتى اضطر الشريف بركات الى الخروج بنفسه في معمعة الفتنة.

واستعان الشريف بركات ببعض العسكر المصريين في ـ الأورطة ـ التابعة للعثمانيين المرابطة في جدة ، فكبر ذلك على الاشراف وعبيدهم ، واتفقت كلمة عدد كبير منهم على الخروج الى الحسينية ليجمعوا كلمتهم فيها على هجوم مكة فبلغ الشريف بركات ذلك فحاولهم وندب لهم أخاه ليقنعهم فقبلوا الطاعة على ان يضمن لهم ألا يسوقهم بعد اليوم بعسكر من مصر اذ وقع ما يوجب ذلك فرفض الشريف بركات بشرطهم وبذلك خمدت الفتنة (١).

والذي يظهر أن صحة الشريف بركات تأثرت بما قاساه في هذه الفتنة كما تأثرت بخروج الاشراف مغاضبين له فانتكست ، ثم ما لبث ان توفي في ٢٩ ربيع الثاني عام ١٠٩٤ وكانت مدة حكمه عشر سنين واربعة اشهر وعشرين يوما (٢).

سعيد بن بركات : وكان قد مكن في حياته لابنه سعيد بن بركات فقد ولاه ولاية عهده بموجب مرسوم استصدره من تركيا ، فلما توفي لم يجد ابنه سعيد من ينازعه ، فتولى الامارة وألبسه قاضي مكة خلعتها في الخطيم ثم كتبوا بذلك

__________________

(٢) خلاصة الكلام للسيد دحلان ٩٩

٤٤٠