مستمسك العروة الوثقى - ج ٥

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم

مستمسك العروة الوثقى - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم


الموضوع : الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٣٥

( مسألة ٧ ) : إذا شك بعد الفراغ من الصلاة في أنها وقعت في الوقت أو لا ، فان علم عدم الالتفات الى الوقت حين الشروع وجبت الإعادة [١] ، وإن علم أنه كان ملتفتا ومراعيا له ومع ذلك شك في أنه كان داخلا أم لا بني على الصحة [٢]. وكذا إن كان شاكا في أنه كان ملتفتا أم لا. هذا كله إذا كان حين الشك عالما بالدخول وإلا لا يحكم بالصحة مطلقا ، ولا تجري قاعدة الفراغ ، لأنه لا يجوز له حين الشك الشروع في الصلاة [٣] فكيف يحكم بصحة ما مضى مع هذه الحالة؟

______________________________________________________

[١] لقاعدة الاشتغال ، ولا تجري قاعدة الصحة أو قاعدة الفراغ ، لعدم جريانها مع إحراز الغفلة وعدم الالتفات. لكن عرفت في الوضوء الإشكال في ذلك (١) وإمكان دعوى عموم الدليل لصورة الغفلة. ولخصوص حسن الحسين بن أبي العلاء (٢).

[٢] لقاعدة الفراغ. وكذا في الفرض الآتي ، لعموم دليلها له أيضاً.

[٣] هذا غير كاف في المنع عن القاعدة بعد عموم دليلها ، كما لو شك في الطهارة بعد الفراغ من الصلاة ، فإنه يبني على صحة الصلاة ولا يجوز له الدخول في صلاة أخرى.

نعم هنا شي‌ء وهو أنه بناء على كون الوقت شرطاً للوجوب لا للوجود‌

__________________

(١) تقدم في المسألة الخمسين من فصل شرائط الوضوء وتعرض له مفصلا في المسألة الحادية عشرة من فصل الماء المشكوك.

(٢) الوسائل باب : ٤١ من أبواب الوضوء حديث : ٢.

١٦١

( مسألة ٨ ) : يجب الترتيب بين الظهرين [١] بتقديم الظهر ، وبين العشاءين بتقديم المغرب ، فلو عكس عمداً بطل. وكذا لو كان جاهلا بالحكم [٢]. وأما لو شرع في الثانية قبل الأولى غافلا أو معتقداً لإتيانها ، عدل بعد التذكر إن كان محل العدول باقياً ، وإن كان في الوقت المختص بالأولى على الأقوى كما مر [٣] ، لكن الأحوط الإعادة في هذه الصورة. وإن تذكر بعد الفراغ صح وبني على أنها الأولى في متساوي‌

______________________________________________________

يمكن أن يستشكل في جريان قاعدة الفراغ ، لاختصاص دليلها بالشك في تمامية الوجود في ظرف الفراغ عن تعلق الأمر به ، وكونه في عهدة المكلف فلا تشمل صورة ما لو كان الشك في الصحة من جهة تعلق الأمر به ، وكونه موضوعاً للغرض مع إحراز تماميته في نفسه ، لكن لو تمَّ لم تجر القاعدة في جميع الفروض المذكورة في هذه المسألة. فلاحظ.

[١] تقدم الكلام فيه في المسألة الثالثة من فصل الأوقات فراجع.

[٢] هذا مبني على إلحاق الجاهل بالحكم بالعامد في عدم شمول حديث : « لا تعاد » (١) كما هو ظاهر المشهور ، إذ حينئذ لا بد من البناء على البطلان فيه ، لعموم ما دل على اعتبار الترتيب ، لكن في المبنى المذكور إشكال ، لعموم الحديث ، وتخصيصه بالناسي مما لا قرينة عليه ، كما أشرنا الى ذلك في مبحث الخلل. نعم يختص بمقتضى الانصراف بمن صلى بانياً على صحة صلاته وأنه في مقام الامتثال ، فلا يشمل العامد ولا المتردد سواء أكان تردده للجهل بالحكم أم الموضوع.

[٣] في المسألة الثالثة من فصل أوقات اليومية ، وقد مر الاشكال فيه.

__________________

(١) تقدمت الإشارة إلى موضعه في أول هذا الفصل.

١٦٢

العدد ـ كالظهرين تماماً أو قصراً ـ وإن كان في الوقت المختص على الأقوى ، وقد مر أن الأحوط أن يأتي بأربع ركعات أو ركعتين بقصد ما في الذمة. وأما في غير التساوي ـ كما إذا أتى بالعشاء قبل المغرب وتذكر بعد الفراغ ـ فيحكم بالصحة ويأتي بالأولى ، وإن وقع العشاء في الوقت المختص بالمغرب [١] لكن الأحوط في هذه الصورة الإعادة.

( مسألة ٩ ) : إذا ترك المغرب ودخل في العشاء غفلة أو نسياناً أو معتقداً لاتيانها فتذكر في الأثناء عدل ، إلا إذا دخل في ركوع الركعة الرابعة [٢] ،

______________________________________________________

وكذا ما بعده.

[١] لا بأس بهذا التعميم هنا ، لدخول الوقت قبل الفراغ ، فتصح معه الصلاة.

[٢] أما جواز العدول قبل الركوع ـ وإن قام إلى الرابعة وجاء بالتسبيح الواجب ـ فنسبه في الجواهر الى ظاهرهم. والعمدة فيه إطلاق خبر عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال : « سألت أبا عبد الله (ع) عن رجل نسي صلاة حتى دخل وقت صلاة أخرى. فقال (ع) : إذا نسي الصلاة أو نام عنها صلى حين يذكرها ، فان ذكرها وهو في الصلاة بدأ بالتي نسي وإن ذكرها مع إمام في صلاة المغرب أتمها بركعة ثمَّ صلى المغرب .. » (١) بناء على ظهور قوله (ع) : « بدأ .. » في العدول. وإطلاقه شامل لصورتي تجاوز القدر المشترك وعدمه كإطلاق ، قوله (ع) : « أتمها بركعة » الشامل لصورة كونه في التشهد.

__________________

(١) الوسائل باب : ٦٣ من أبواب المواقيت حديث : ٢.

١٦٣

فإن الأحوط حينئذ إتمامها عشاء ثمَّ إعادتها بعد الإتيان بالمغرب [١].

( مسألة ١٠ ) : يجوز العدول في قضاء الفوائت أيضاً من اللاحقة إلى السابقة [٢] بشرط أن يكون فوت المعدول‌

______________________________________________________

نعم قد يمنع من العمل به ضعف سنده ، أو ظهور الفقرة الأولى ـ بقرينة السؤال ـ في إرادة وقت الصلاة لا فيها نفسها. وفيه : أن المعلى ابن محمد معتبر الحديث. والفقرة الأولى ظاهرة في إرادة نفس الصلاة. والسؤال لا يصلح قرينة كما يظهر من ملاحظة الفقرة الثانية. مع أن فيها كفاية في إثبات المطلوب. وظاهر الحديث العدول بتمام ما هو موضوع المعدول اليه فلا عدول بالزيادة ، بل تبقى زيادة غير قادحة.

وبذلك يندفع الإشكال بأنه إن أريد منه العدول بتمام المأتي به حتى الزيادة فهو مما لا يلتزم به ، وإن أريد العدول ببعض ما أتي به ، لزم أيضاً مالا يمكن الالتزام به ، فلا بد أن يكون المراد العدول بتمام المأتي به في ظرف الإمكان ، فيختص بصورة عدم تجاوز القدر المشترك ، إذ مع التجاوز لا يمكن العدول بالجميع. فلاحظ.

[١] قد تقدم منه في المسألة الثالثة من فصل أوقات اليومية الجزم بالبطلان في الفرض ، وتقدم وجهه وضعفه ، وأن الأوجه صحتها عشاء لحديث : « لا تعاد الصلاة » (١). ويمكن القول بجواز العدول أيضاً ، لأن الركوع حين ما وقع وقع صحيحاً للإتيان به بقصد العشاء ، وبالعدول لا دليل على قدح مثله. والإجماع ـ لو تمَّ ـ إنما قام على قدح زيادة الركوع بقصد الصلاة الخارج هو عنها لا مطلقاً.

[٢] بلا خلاف أجده فيه كما في الجواهر ، بل عن حاشية الإرشاد‌

__________________

(١) تقدمت الإشارة إلى موضعه في أول هذا الفصل.

١٦٤

عنه معلوماً. وأما إذا كان احتياطياً فلا يكفي العدول في البراءة من السابقة وإن كانت احتياطية أيضاً ، لاحتمال اشتغال الذمة واقعاً بالسابقة دون اللاحقة ، فلم يتحقق العدول من صلاة إلى أخرى. وكذا الكلام في العدول من حاضرة الى سابقتها فان اللازم أن لا يكون الإتيان باللاحقة من باب الاحتياط ، وإلا لم يحصل اليقين بالبراءة من السابقة بالعدول ، لما مر.

( مسألة ١١ ) : لا يجوز العدول من السابقة إلى اللاحقة [١] في الحواضر ولا في الفوائت ، ولا يجوز من الفائتة إلى الحاضرة. وكذا من النافلة الى الفريضة ولا من الفريضة إلى النافلة ، إلا في مسألة إدراك الجماعة [٢]. وكذا من فريضة‌

______________________________________________________

للمحقق الثاني : الإجماع عليه. والنصوص غير وافية به ، وإنما تضمنت العدول من الحاضرة إلى الحاضرة أو الى الفائتة. نعم ربما استفيد المقام بالأولوية ، أو بإلغاء خصوصية موردها ، أو لأن القضاء عين الأداء فيجري عليه حكمه. ولكن الجميع غير ظاهر ، ولا سيما الأخير ، فإن إطلاق دليل القضاء إنما يقتضي مماثلته للأداء موضوعاً لا حكماً ، فيجوز أن يكون الشي‌ء الواحد باختلاف كونه في الوقت وفي خارجه مختلف الحكم. فالعمدة فيه ظهور الإجماع عليه المؤيد بما ذكر ، فافهم.

[١] لما عرفت من أنه خلاف الأصل ، ولا دليل عليه في الموارد المذكورة لما تقدم من اختصاص نصوصه بالعدول من الحاضرة إلى السابقة الحاضرة أو الفائتة لا غير. والتعدي منهما الى هذه الموارد المذكورة في المتن يحتاج إلى إلغاء خصوصيتهما عرفاً ، وهو غير ثابت.

[٢] ففي صحيح سليمان بن خالد قال : « سألت أبا عبد الله (ع)

١٦٥

الى أخرى إذا لم يكن بينهما ترتيب. ويجوز من الحاضرة إلى الفائتة [١] ، بل يستحب في سعة وقت الحاضرة.

( مسألة ١٢ ) : إذا اعتقد في أثناء العصر أنه ترك الظهر فعدل إليها ثمَّ تبين أنه كان آتيا بها فالظاهر جواز العدول منها الى العصر ثانيا ، لكن لا يخلو عن إشكال [٢] ، فالأحوط بعد الإتمام الإعادة أيضا.

______________________________________________________

عن رجل دخل المسجد فافتتح الصلاة فبينما هو قائم يصلي إذ أذن المؤذن وأقام الصلاة. قال (ع) : فليصل ركعتين ثمَّ ليستأنف الصلاة مع الامام وليكن الركعتان تطوعاً » (١) ونحوه موثق سماعة (٢).

[١] بلا خلاف ، لخبر عبد الرحمن المتقدم (٣) وصحيح زرارة عن أبي جعفر (ع) (٤).

[٢] أما إذا تبين له ذلك قبل الإتيان ببعض الأفعال بقصد الظهر : فلا ينبغي الإشكال في الصحة ، إذ لا دليل على قدح هذه النية المحضة في بطلان العصر وعدم إمكان إتمامها. وأما إذا تبين ذلك بعد الإتيان ببعض الأفعال بقصد الظهر : فلا ينبغي الإشكال في الفساد ، بناء على ما عرفت من عدم إمكان التعدي عن مورد نصوص العدول الى غيره. إلا أن يقال بعد بطلان العدول إلى الأولى لم يكن ما يوجب القدح في الصلاة المعدول عنها إلا وقوع بعض الأجزاء بنية الأولى فيها ، وفي بطلان الصلاة بذلك إذا وقع سهواً إشكال كما يأتي في مبحث القواطع.

__________________

(١) الوسائل باب : ٥٦ من أبواب صلاة الجماعة حديث : ١.

(٢) الوسائل باب : ٥٦ من أبواب صلاة الجماعة حديث : ٢.

(٣) الوسائل باب : ٦٣ من أبواب المواقيت حديث : ٢.

(٤) الوسائل باب : ٦٣ من أبواب المواقيت حديث : ١.

١٦٦

( مسألة ١٣ ) : المراد بالعدول ، أن ينوي كون ما بيده هي الصلاة السابقة بالنسبة الى ما مضى منها وما سيأتي [١].

( مسألة ١٤ ) : إذا مضى من أول الوقت مقدار أداء الصلاة بحسب حاله في ذلك الوقت من السفر والحضر ، والتيمم والوضوء ، والمرض والصحة ، ونحو ذلك ، ثمَّ حصل أحد الأعذار المانعة من التكليف بالصلاة ـ كالجنون ، والحيض والاغماء ـ وجب عليه القضاء ، وإلا لم يجب. وإن علم بحدوث العذر قبله وكان له هذا المقدار وجبت المبادرة إلى الصلاة. وعلى ما ذكرنا فان كان تمام المقدمات حاصلة في أول الوقت يكفي مضي مقدار أربع ركعات للظهر ، وثمانية للظهرين ، وفي السفر يكفي مضي مقدار ركعتين للظهر وأربعة للظهرين ، وهكذا بالنسبة إلى المغرب والعشاء. وإن لم تكن المقدمات أو بعضها حاصلة لا بد من مضي مقدار الصلاة وتحصيل تلك المقدمات [٢]. وذهب بعضهم إلى كفاية مضي مقدار الطهارة‌

______________________________________________________

[١] كما هو الظاهر من قوله (ع) في قوله (ع) في صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام : « فانوها الأولى » ، وقوله (ع) : « فانوها العصر » وقوله عليه‌السلام : « فانوها المغرب » ، وقوله (ع) : « فانوها العشاء » (١) وفي صحيح الحلبي عن أبي عبد الله (ع) « فليجعلها الأولى » (٢) ، وغير ذلك.

[٢] قد عرفت في مبحث الحيض الإشكال في اعتبار مضي مقدار‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٦٣ من أبواب المواقيت حديث : ١.

(٢) الوسائل باب : ٦٣ من أبواب المواقيت حديث : ٣.

١٦٧

والصلاة في الوجوب وإن لم يكن سائر المقدمات حاصلة. والأقوى الأول. وإن كان هذا القول أحوط.

______________________________________________________

من الوقت يسع المقدمات في وجوب القضاء ، وأن الظاهر وجوبه بمجرد سعة الوقت لنفس الفعل ، لأن الظاهر من دليل نفي القضاء على الحائض والمجنون والمغمى عليه اختصاصه بصورة استناد الفوت إلى الأعذار المذكورة فلو استند إلى أمور أخرى لم يكن مجال لتحكيمه ، بل كان المرجع فيه عموم وجوب قضاء الفائت ، وإذا مضى من الوقت مقدار أداء الصلاة التامة الأجزاء ، ثمَّ طرأ أحد الأعذار المذكورة فقد تحقق الفوت مستنداً الى غيرها لا إليها ، ولذا لو هيأ المقدمات قبل الوقت فصلى عند دخوله لم تفته ففواتها عند عدم فعل المقدمات قبل الوقت لم يكن مستنداً الى العذر ، والمحكم حينئذ دليل وجوب قضاء الفائت ، لا دليل نفي القضاء عن المعذورين.

وهذا ظاهر بناء على كون دليل نفي القضاء عنهم مخصصاً لدليل وجوب قضاء ما فات ، بأن يكون الفوت متحققاً بالنسبة إليهم وغير موجب للقضاء. أما إذا كان مخصصاً لدليل التكليف بالصلاة ـ بأن كان كاشفاً عن عدم المصلحة في صلاتهم ، ومانعاً عن صدق الفوت بالإضافة إليهم ، فيكون وارداً على دليل قضاء الفائت ، رافعاً لموضوعه ـ فقد يشكل وجوب القضاء ، لعدم إحراز الفوت في الفرض المذكور.

ويندفع الإشكال بأنه إذا كان دليل نفي القضاء مختصاً بصورة استناد الترك الى أحد الأعذار المذكورة ، ولم يكن مجال لتطبيقه في الفرض المذكور فلا بد أن يكون المرجع عموم التكليف ، ومقتضاه ثبوت المصلحة فيه حينئذ فلا بد من صدق الفوت ، لأنه منوط وجوداً وعدماً بوجود المصلحة وعدمها فاذا صدق وجب القضاء ، لصوم وجوب قضاء الفائت.

١٦٨

( مسألة ١٥ ) : إذا ارتفع العذر المانع [١] من التكليف في آخر الوقت ، فان وسع للصلاتين وجبتا ، وإن وسع لصلاة واحدة أتى بها ، وإن لم يبق إلا مقدار ركعة وجبت الثانية فقط ، وإن زاد على الثانية بمقدار ركعة وجبتا معا ، كما إذا بقي إلى الغروب في الحضر مقدار خمس ركعات ، وفي السفر مقدار ثلاث ركعات ، أو الى نصف الليل مقدار خمس ركعات في الحضر ، وأربع ركعات في السفر. ومنتهى الركعة تمام الذكر الواجب من السجدة الثانية [٢]. وإذا كان ذات الوقت واحدة ـ كما في الفجر ـ يكفي بقاء مقدار ركعة.

______________________________________________________

ولا فرق فيما ذكرنا بين المقدمات المطلقة كالطهارة ، والمختصة بحال الاختيار ، لجريان ما ذكرنا في الجميع بنحو واحد.

كما لا فرق أيضاً فيه بين القول بوجوب تحصيل المقدمات شرعاً أو عقلا قبل الوقت إذا علم بعدم التمكن منها بعده للبناء على الوجوب المعلق أو للبناء على حرمة التفويت عقلا ، وبين القول بعدمه ، إذ عدم حرمة التفويت لا يلازم عدم صدق الفوت الذي وموضوع القضاء. نعم لو ثبت توقيت المقدمات بالوقت كأصل الواجب ، كان اللازم الحكم بنفي القضاء ، لاستناد العدم الى العذر لا غير ، فيرتفع موضوع القضاء أعني : الفوت أو حكمه. لكنه يختص حينئذ بالمقدمات المعتبرة مطلقاً كالطهارة ، لا غيرها مما يسقط في حال الاضطرار ، فان اعتبار سعة الوقت له مما ليس له وجه ظاهر. ومن ذلك تعرف وجه القول باعتبار سعة الوقت للطهارة. فلاحظ وتأمل.

[١] تقدم الكلام في هذه المسألة في فصل الأوقات. فراجع.

[٢] لأن الظاهر من الركعة في لسان الشارع مجموع الأفعال حتى‌

١٦٩

( مسألة ١٦ ) : إذا ارتفع العذر في أثناء الوقت المشترك بمقدار صلاة واحدة. ثمَّ حدث ثانياً ـ كما في الإغماء والجنون الأدواري ـ فهل يجب الإتيان بالأولى ، أو الثانية ، أو يتخير وجوه [١].

( مسألة ١٧ ) : إذا بلغ الصبي في أثناء الوقت وجب عليه الصلاة إذا أدرك مقدار ركعة أو أزيد [٢].

______________________________________________________

السجدتين ، لا واحدة الركوع ، كما قد يتوهم من الهيئة ، ولا ما ينتهي بمسمى السجود ، لأن الذكر وإن كان خارجاً عن السجود غير خارج عن الركعة. ولا يدخل فيها رفع الرأس من السجود ، لكونه من المقدمات العقلية لما بعده من الأفعال ، لا من الواجبات الصلاتية. ولا تتوقف على إتمام السجود وإن قلنا بالوجوب التخييري بين السجود القصير والطويل لأن الظاهر من إدراك الوقت بإدراك الركعة إدراك أقل الواجب منها لا غير. وقد تعرضنا في الخلل لتحديد الركعة فراجعه فان له نفعاً في المقام.

[١] قد تقدم في فصل الأوقات ترجيحه للأخير. كما تقدم أيضاً بيان وجهه ووجه الأول. ولم يتضح لي وجه الثاني إلا ما ربما يمكن أن يقال : بأن وقت الاختصاص بالعصر يراد به آخر وقت بعد الوقت الأول يمكن فيه فعل العصر ، فيكون الوقت المذكور وقت اختصاص العصر يتعين فعلها فيه.

[٢] لعموم دليل التكليف بالصلاة من غير مخصص. مع عموم : « من أدرك ركعة .. » (١).

__________________

(١) راجع مسألة : ١١ من فصل أوقات اليومية في هذا الجزء.

١٧٠

ولو صلى قبل البلوغ ، ثمَّ بلغ في أثناء الوقت فالأقوى كفايتها [١] ، وعدم وجوب إعادتها وإن كان أحوط. وكذا الحال لو بلغ في أثناء الصلاة.

( مسألة ١٨ ) : يجب في ضيق الوقت الاقتصار على أقل الواجب إذا استلزم الإتيان بالمستحبات وقوع بعض الصلاة خارج الوقت ، فلو أتى بالمستحبات مع العلم بذلك يشكل صحة صلاته ، بل تبطل على الأقوى [٢].

______________________________________________________

[١] لما عرفت غير مرة من أن عموم حديث : « رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم » (١) بمناسبة وروده في مقام الامتنان ، إنما يرفع التكليف والإلزام لأنه الذي في رفعه الامتنان لا غير ، فيكون فعل الصبي كفعل البالغ من جميع الجهات إلا من حيث الإلزام ، فإنه غير ملزم به وإن كان واجداً لملاك الإلزام كفعل البالغ ، فاذا جاء به الصبي في حال صباه فقد حصل الغرض وسقط الأمر ، فلا مجال للامتثال ثانياً. وكذا الحال فيما لو بلغ في أثناء الصلاة.

[٢] إن كان البطلان من جهة النهي فهو ـ مع أنه مبني على أن الأمر بالشي‌ء يقتضي النهي عن ضده ـ إنما يقتضي بطلان ذلك المستحب لا أصل الصلاة. وإن كان من جهة الزيادة فهو مبني على أن الاجزاء الاستحبابية مأتي بها بقصد الجزئية ، وقد أشرنا في مبحث الخلل إلى أن التحقيق خلافه ، وإلا لم تكن مستحبة ، بل كانت واجبة ، فإن جزء الشي‌ء عينه فلا بد أن يكون له حكمه. وإن كان من جهة التشريع لعدم استحباب ما يفوت به الوقت فالإتيان به بقصد العبادة تشريع محرم ، فهو مبني على إبطال التشريع ، والتحقيق خلافه ، لعدم الدليل عليه ، ولا‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٤ من أبواب مقدمة العبادات حديث : ١١.

١٧١

( مسألة ١٩ ) : إذا أدرك من الوقت ركعة أو أزيد يجب ترك المستحبات [١] محافظة على الوقت بقدر الإمكان. نعم في المقدار الذي لا بد من وقوعه خارج الوقت لا بأس بإتيان المستحبات.

( مسألة ٢٠ ) : إذا شك في أثناء العصر في أنه أتى بالظهر أم لا ، بنى على عدم الإتيان وعدل إليها إن كان في الوقت المشترك ، ولا تجري قاعدة التجاوز [٢]. نعم لو كان‌

______________________________________________________

ينافي التعبد بالصلاة. وإن كان من جهة كونه من الكلام المبطل عمداً ، فهو ـ مع أنه مختص بالمستحب الكلامي ، ولا يجري في الفعل المستحب كجلسة الاستراحة ونحوها ـ لا يتم ، لأن المستحبات الكلامية كلها من قبيل الذكر والدعاء ، ومثله غير مبطل ، وقد عرفت أن تحريمه غير ثابت كي تمكن دعوى الابطال به بناء على إبطال الدعاء والذكر المحرمين.

[١] قد عرفت أن هذا الوجوب عرضي جاء من وجوب إيقاع الركعة في الوقت.

[٢] إما لأن الترتيب شرط ذكري لا واقعي ، والمفروض في الشك أن الظهر على تقدير تركها متروكة نسياناً فلا ترتيب ولا تجاوز. وإما لأن الترتيب كما يعتبر في الأجزاء السابقة على الشك يعتبر في الأجزاء اللاحقة له أيضاً فاجراؤها لإثبات صحة الأجزاء السابقة لا يجدي في إحراز صحة الأجزاء اللاحقة.

وفيه : أنه يكفي في جريان قاعدة التجاوز شرطية الترتيب بلحاظ الجعل الأولي وإن انتفت بلحاظ الجعل الثانوي الثابت من جهة النسيان وقد صرح في صحيح زرارة بجريانها إذا شك في القراءة وهو في الركوع (١)

__________________

(١) الوسائل باب : ٢٣ من أبواب خلل صلاة حديث : ١.

١٧٢

في الوقت المختص بالعصر يمكن البناء على الإتيان باعتبار كونه من الشك بعد الوقت.

______________________________________________________

مع أن القراءة ليست جزءاً في حال النسيان. وأن الترتيب منتزع من فعل العصر بعد الظهر ، والبعدية للظهر وإن كانت معتبرة في جميع أجزاء العصر ، ولا تختص بجزء دون جزء ، إلا أن الظهر لما كان لها موضع معين ومحل مخصوص يصدق التجاوز عنها بالإضافة الى جميع الأجزاء بمجرد التعدي عن موضعها والشروع في العصر ، ولا يحتاج الى الدخول في جميع الأجزاء والفراغ من العصر بتمامها.

فالأقوى إذن صحة جريان قاعدة التجاوز ، وإتمام الصلاة بعنوان العصر ، ولا يجوز العدول منها الى الظهر. بل لا تبعد دعوى عدم الحاجة الى فعل الظهر بعد إتمام العصر ، لأن الظاهر من دليل القاعدة إثبات الوجود المشكوك فيه بلحاظ جميع الآثار العملية ، لا خصوص صحة ما بعد المشكوك كما قد يظهر ذلك من إجرائها في صحيح زرارة في الشك في القراءة وهو في الركوع ، فإن إثبات القراءة إنما يكون بلحاظ وجوب سجود السهو الذي هو أثر عملي خارج عن الصلاة ، وإلا فالركوع صحيح في ظرف ترك القراءة نسياناً. بل يمكن أن يكون إجراؤها في صحيح زرارة في الشك في الأذان والإقامة إذا كبر من ذلك القبيل ، بأن يكون المقصود إثباتهما بلحاظ سقوط الأمر بهما ، لا بلحاظ تصحيح الصلاة ، لصحتها ولو علم ترك الأذان والإقامة. ولا بلحاظ كمالها ، لإمكان دعوى كون استحبابهما لذاتهما لا لتكميل الصلاة. فتأمل.

فإن قلت : لازم ذلك أنه لو شك بعد الفراغ من الصلاة وهو في التعقيب في كون الصلاة في حال الطهارة تجري قاعدة التجاوز لإثبات‌

١٧٣

فصل في القبلة

وهي المكان الذي وقع فيه البيت ـ شرفه الله تعالى ـ من تخوم الأرض إلى عنان السماء [١] ، للناس كافة ، القريب والبعيد ، لا خصوص البنية.

______________________________________________________

الطهارة ، ولا يحتاج الى تجديدها بالإضافة إلى صلاة أخرى.

قلت : الدخول في صلاة أخرى ليس من الآثار العملية لثبوت الطهارة حال الصلاة التي فرغ منها ، وإنما هو أثر عملي لكونه على طهارة في حال الدخول في الصلاة الثانية ، وكونه على طهارة في تلك الحال ملازم لكونه على طهارة في حال الصلاة الأولى ، فإثباتها بقاعدة التجاوز موقوف على القول بالأصل المثبت. هذا ولا بأس بمراجعة ما كتبناه في مبحث الخلل فان له نفعاً في المقام.

فصل في القبلة‌

[١] بلا خلاف ، كما عن المفاتيح. وعن المنتهى : « لا نعرف فيه خلافاً بين أهل الحل ». وفي كشف اللثام : « إنه إجماع من المسلمين ». ويشهد له مرسل الفقيه : « قال الصادق (ع) : أساس البيت من الأرض السابعة السفلى إلى الأرض السابعة العليا » (١) ، وخبر عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (ع) : « سأله رجل قال : صليت فوق أبي قبيس العصر‌

__________________

(١) الوسائل باب : ١٨ من أبواب القبلة حديث : ٣.

١٧٤

ولا يدخل فيه شي‌ء من حجر إسماعيل [١] وإن وجب إدخاله‌

______________________________________________________

فهل يجزي ذلك والكعبة تحتي؟ قال (ع) : نعم إنها قبلة من موضعها الى السماء » (١) ، وخبر خالد بن أبي إسماعيل : « قلت لأبي عبد الله (ع) الرجل يصلي فوق أبي قبيس مستقبل القبلة. فقال (ع) : لا بأس » (٢)

[١] كما عن الأكثر ، لصحيح معاوية بن عمار : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الحجر أمن البيت هو أم فيه شي‌ء من البيت؟ قال (ع) : لا ولا قلامة ظفر ، ولكن إسماعيل دفن فيه أمه فكره أن يوطأ فجعل عليه حجراً ، وفيه قبور أنبياء » (٣). ومثله في الدلالة على أن فيه قبر إسماعيل أو عذارى بناته ، أو قبور أنبياء جملة وافرة من النصوص مذكورة في أبواب الطواف من الوسائل (٤). ومنه يظهر ضعف ما عن نهاية الأحكام والتذكرة : من جواز استقباله لأنه عندنا من الكعبة. وما في الذكرى : من أن ظاهر الأصحاب أن الحجر من الكعبة بأسره ، وأنه قد دل النقل على أنه كان منها في زمن إبراهيم وإسماعيل الى أن بنت قريش الكعبة ، فأعوزتهم الآلات فاختصروها بحذفه ، وكذلك كان في عهد النبي (ص) ونقل عنه (ص) الاهتمام بإدخاله في بناء الكعبة ، وبذلك احتج ابن الزبير حيث أدخله فيها ثمَّ أخرجه الحجاج بعده ورده الى ما كان. ولأن الطواف يجب خارجه ، وللعامة خلاف في كونه من الكعبة بأجمعه أو بعضه أو ليس منها وفي الطواف خارجه. وبعض الأصحاب له فيه كلام أيضاً مع إجماعنا على وجوب إدخاله في الطواف انتهى. وعن جماعة من علمائنا الاعتراف بعدم الوقوف‌

__________________

(١) الوسائل باب : ١٨ من أبواب القبلة حديث : ١.

(٢) الوسائل باب : ١٨ من أبواب القبلة حديث : ٢.

(٣) الوسائل باب : ٣٠ من أبواب الطواف حديث : ١.

(٤) راجع الوسائل باب : ٣٠ من أبواب الطواف.

١٧٥

في الطواف [١]. ويجب استقبال عينها [٢] ، لا المسجد أو الحرم ولو للبعيد.

______________________________________________________

على النقل الذي ادعاه من طريق الأصحاب. قال في المدارك : « وما ادعاه من النقل لم أقف عليه من طرق الأصحاب ». وفي كشف اللثام قال : « وما حكاه إنما رأيناه في كتب العامة وتخالفه أخبارنا » ، ثمَّ ذكر صحيح معاوية بن عمار المتقدم وغيره.

[١] لعدم الملازمة بين الطواف وما نحن فيه.

[٢] كما عن السيد ، وابن الجنيد ، وأبي الصلاح ، وابن إدريس ، والمحقق في النافع. ونسب إلى المتأخرين بل إلى الأكثر والمشهور. وكلام أكثرهم وإن كان : « الكعبة قبلة القريب وجهتها قبلة البعيد » ، لكن مرادهم من الجهة ما سيأتي ، فيرجع الى أنها قبلة مطلقاً. ويشهد له النصوص المستفيضة بل المتواترة التي عقد لها في الوسائل باباً وإن لم يستوفها فيه (١). فراجعه. وفي حاشية المدارك : « إن كون الكعبة قبلة من ضروريات الدين والمذهب حتى أن الإقرار به يلقن الأموات فضلا عن الأحياء كالإقرار بالله تعالى ». ونحوها غيرها. وفي الجواهر : « يعرفه الخارج عن الإسلام فضلا عن أهله ».

ومع ذلك حكي عن الشيخين وجماعة من القدماء وبعض المتأخرين : أن الكعبة قبلة لمن في المسجد ، وهو قبلة لمن في الحرم ، وهو قبلة لمن خرج عنه. وفي الشرائع : انه الأظهر. وفي الذكرى : نسبه الى أكثر الأصحاب. وعن الخلاف : الإجماع عليه. واستدل له ـ مضافاً الى الإجماع المذكور ، وما عن مجمع البيان من نسبته إلى أصحابنا ـ بمرسل‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٢ من أبواب القبلة حديث : ١.

١٧٦

______________________________________________________

عبد الله بن محمد الحجال عن بعض رجاله عن أبي عبد الله (ع) : « إن الله تعالى جعل الكعبة قبلة لأهل المسجد ، وجعل المسجد قبلة لأهل الحرم وجعل الحرم قبلة لأهل الدنيا » (١). ونحوه مرسل الفقيه عن الصادق (ع) (٢) وخبر بشر بن جعفر الجعفي عن جعفر بن محمد (ع) (٣) ، بل لا يبعد اتحاد الأولين. ويعضدهما خبر أبي عزة : « قال لي أبو عبد الله (ع) : البيت قبلة المسجد ، والمسجد قبلة مكة ، ومكة قبلة الحرم ، والحرم قبلة الدنيا » (٤). ويشير إليهما ما ورد في استحباب التياسر لأهل العراق (٥).

ولكن الجميع كما ترى ، إذ الإجماع لا مجال للاعتماد عليه مع ظهور الخلاف. ولذا قال في المعتبر ـ في الجواب عن احتجاج الشيخ (ره) في الخلاف بإجماع الفرقة ـ : « أما الإجماع فلم نتحققه لوجود الخلاف من جماعة من أعيان فضلائنا ». وأما الأخبار فمع ما هي عليه من الضعف بالإرسال وغيره واختلافها فيما بينها ، بل قيل بعدم القائل بمضمون الأخير منها ، لا تصلح لمعارضة ما سبق ، لكثرة العدد ، وصحة السند ، والاعتضاد بما عرفت ، فلا يبعد حملها على إرادة بيان اتساع جهة المحاذاة للبعيد ـ كما يشير اليه بعض القائلين بمضمونها. فعن المقنعة : « القبلة هي الكعبة ، ثمَّ المسجد قبلة لمن نأى عنها ، لأن التوجه اليه توجه إليها » ـ أو على إرادة المواجهة من الاستقبال ، فمن كان خارج المسجد إنما يواجه المسجد ، ومن كان خارج مكة إنما يواجه مكة ، ومن كان خارج الحرم إنما يواجه الحرم. ولعل‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٣ من أبواب القبلة حديث : ١.

(٢) الوسائل باب : ٣ من أبواب القبلة حديث : ٣.

(٣) الوسائل باب : ٣ من أبواب القبلة حديث : ٢.

(٤) الوسائل باب : ٣ من أبواب القبلة حديث : ٤.

(٥) الوسائل باب : ٤ من أبواب القبلة.

١٧٧

ولا يعتبر اتصال الخط من موقف كل مصل بها [١] ، بل المحاذاة العرفية كافية غاية الأمر أن المحاذاة تتسع مع البعد ، وكلما ازداد بعداً ازدادت سعة المحاذاة ، كما يعلم ذلك بملاحظة الأجرام البعيدة كالنجوم ونحوها ، فلا يقدح زيادة عرض صف المستطيل عن الكعبة في صدق محاذاتها كما نشاهد ذلك بالنسبة إلى الأجرام البعيدة. والقول بأن القبلة للبعيد سمت الكعبة وجهتها راجع في الحقيقة إلى ما ذكرناه. وإن كان مرادهم الجهة العرفية المسامحية فلا وجه له.

______________________________________________________

ترك مكة في الخبرين الأولين لا مكان مواجهة المسجد لمن بعد عن البلد ، لارتفاع جدرانه ، وإلا فالالتزام بظاهرها من جواز استقبال أي طرف من المسجد وإن لزم الانحراف عن الكعبة كثيراً ـ وكذا في استقبال طرف الحرم ـ غريب في مذاق المتشرعة ، ولا يظن من أهل القول المذكور التزامهم به ، وإن كان هو المحكي عن ظاهر جملة من كتبهم. فالبناء على أن الكعبة قبلة مطلقاً هو المتعين.

[١] قد عرفت الإشارة الى أن الموجود في كلام المتأخرين والمنسوب إليهم القول بأن الكعبة هي القبلة أن جهتها قبلة البعيد. قال في المعتبر : « القبلة هي الكعبة مع الإمكان وإلا جهتها ». وقد اختلفت عباراتهم في تفسير الجهة ، ففي المعتبر : « أنها السمت الذي فيه الكعبة » ، وعن التذكرة والنهاية : « أنها ما يظن أنها الكعبة » ، وفي الذكرى وعن الجعفرية « أنها السمت الذي يظن كون الكعبة فيه » ، وعن المقداد : « أنها خط مستقيم يخرج من المشرق الى المغرب الاعتداليين ويمر بسطح الكعبة ، فالمصلي يفرض من نظره خطاً يخرج الى ذلك الخط ، فان وقع على زاوية قائمة‌

١٧٨

______________________________________________________

فذلك هو الاستقبال ، وإن كان على حادة أو منفرجة فهو الى ما بين المشرق والمغرب ». ونحوه ما عن شرح الألفية للمحقق الثاني. وعن المسالك والروضة والروض وغيرها : « أنها القدر الذي يجوز على كل جزء منه كون الكعبة فيه ، ويقطع بعدم خروجها عنه لأمارة شرعية » ، ومثله ـ بإسقاط القيد الأخير ـ ما عن جامع المقاصد وفوائد الشرائع .. الى غير ذلك من العبارات التي لا يخلو ظاهرها عن الإشكال ، فإن الظن والاحتمال مما لا دخل لهما في مفهوم الجهة أصلا ، بل ما هو جهة الكعبة جهتها سواء أظن أو احتمل كون الكعبة فيه أم لا ، وما لا يكون جهة الكعبة ليس جهتها سواء أظن أو احتمل كون الكعبة فيه أم لا ، فان الظن والاحتمال ـ على تقدير دخلهما ـ دخيلان في الجهة الظاهرية التي تجوز الصلاة إليها ظاهراً لا في ما هو جهة الكعبة واقعاً.

وأما ما ذكره المقداد فهو غريب ( أولاً ) من جهة أن الخط الخارج ما بين المشرق والمغرب الاعتداليين يمتنع أن يكون ماراً بسطح الكعبة ، لانحرافها عنه الى الشمال. ( وثانياً ) بأن لازم ما ذكره أن يكون جميع البلاد الشمالية بالإضافة إلى مكة قبلتها نقطة الجنوب ، فان الخط الخارج من موقف المصلي إلى الخط المذكور المقاطع له على زوايا قوائم هو خط نصف النهار المفروض ما بين نقطتي الجنوب والشمال ، وهذا إن لم يكن خلاف الضرورة من الدين فلا أقل من كونه خلاف ضرورة الفقه ، ومنافياً لجعل العلامات المختلفة باختلاف الأقاليم المخالفة طولا وعرضاً لمكة. ( وثالثاً ) بأنه خال عن التعرض للجهة بالإضافة إلى البلاد الشرقية بالإضافة إلى مكة أو الغربية الواقعة في ذلك الخط المفروض بين المشرق والمغرب الاعتداليين.

نعم تعريف المعتبر لا بأس به بناء على أن يكون المراد من السمت‌

١٧٩

______________________________________________________

خصوص نقطة من الأفق يكون الخط الخارج من موقف المصلي إليها مسامتاً للكعبة.

والسبب في عدول الأصحاب عن التعبير بما في النصوص من كون الكعبة الشريفة قبلة مطلقاً الى التعبير بأن قبلة البعيد الجهة ، هو امتناع مقابلة البعيد للكعبة بناء على كروية الأرض ، بل الخط الخارج من موقف البعيد إلى الكعبة إنما هو شبه القوس المختلف كبراً وصغراً باختلاف بعد المصلي عنها وقربه ، لا ما قد يظهر من المصنف (ره) من أن الوجه في العدول الإشارة منهم إلى اتساع المحاذاة مع البعد ، إذ الاتساع المذكور لا يختص بالبعد بل يكون مع القرب والمشاهدة للبيت الشريف ، كما أشرنا إليه في محمل نصوص المسجد والحرم. نعم الاتساع المذكور ليس برهانياً واقعياً بل هو حسي وجداني ، ولا ينبغي التأمل في كون موضوع أدلة وجوب الاستقبال هو الاستقبال على النحو المذكور ـ أعني : الاستقبال الحسي الوجداني ـ لا العقلي البرهاني. ونظيره تغير لون الماء وريحه وطعمه الذي أخذ موضوعاً لأدلة الانفعال. ومنه يظهر كون الصف المستطيل المنعقد بعيداً عن الكعبة ـ ولو مع مشاهدتها ـ كله مستقبل الكعبة حساً ووجداناً وإن كان بعضه منحرفاً عنها واقعاً وبرهاناً. نعم يختلف ذلك باختلاف مراتب البعد ، فان كان بعيداً عن الكعبة بمقدار ميل أمكن أن يكون تمام الصف مستقبلا لها ، وإن كان يزيد طوله على طولها بمقدار نصفه أو مثله وإن كان عشرة أميال يكون كذلك وإن كان يزيد بأمثاله .. وهكذا.

ومعيار الاستقبال على النحو المذكور أن ينظر المصلي إلى قوس من دائرة الأفق يكون بحسب حسه ونظره ـ بعد التأمل والتدقيق ـ مستقبلا لجميع أجزائه ، ثمَّ يفرض خطين يخرجان من جانبيه إلى طرفي القوس ،

١٨٠