حاشية مجمع الفائدة والبرهان

محمّد باقر الوحيد البهبهاني

حاشية مجمع الفائدة والبرهان

المؤلف:

محمّد باقر الوحيد البهبهاني


المحقق: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٨١٢

فقال : يجوز ، إذا اشترى صحيحا » (١).

قيل : والمعنى أنّه هل يشتري حال كونه داخلا فيمن زاد فيزيد ويأخذ؟

ويحتمل أن يكون متعلّقا بقوله : « إذا بيع » أي إذا بيع في موضع يقال فيه : من زاد ـ أي في سوق يزاد فيه.

في العوضين

قول المصنّف : يجب كونهما مملوكين ، فلا يصحّ بيع الحرّ والخنافس وشبههما .. إلى آخره (٢).

أقول : قال الفاضل المحقّق مولانا عبد الله التوني : قد علّل في أوّل الكتاب عدم صحّة بيع هذه الأشياء بعدم الانتفاع بها ، وقد عرفت الكلام فيه ، ومنع عدم الانتفاع بها أوّلا ، ومنع عدم صحّة بيع ما لا منفعة فيه ثانيا ، وهاهنا علّله بعدم الملكيّة ، وهو حق ـ إن صحّ عدم الملكيّة ـ لما مرّ ، ولكن الكلام فيه ، فإنّا لم نقف على دليل عليه في مثل هذه الأشياء بعد أخذها ووضع اليد عليها ، وعرفت أيضا عدم ظهور فقد المنفعة المباحة في مثلها فلا تغفل ، فإنّ تحريم أكلها وشربها لا يستلزم عدم جواز الانتفاع بها في غير الأكل والشرب.

وممّا يؤيّد تحقّق الملكيّة بالأخذ قول أمير المؤمنين عليه‌السلام : « للعين ما رأت ، ولليد ما أخذت » ـ وإن ورد في مورد خاص ـ نقله الشيخ في كتاب الصيد.

__________________

(١) الكافي : ٧ ـ ٥٩ الحديث ١٠ ، من لا يحضره الفقيه : ٤ ـ ١٦٢ الحديث ٥٦٦ ، تهذيب الأحكام : ٩ ـ ٢٤٥ الحديث ٩٥٠ ، وسائل الشيعة : ١٩ ـ ٤٢٣ الحديث ٢٤٨٨١.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان : ٨ ـ ١٦٧ ( المتن ).

١٠١

انتهى (١).

أقول : لا يخفى أنّ الأصل في كلّ شي‌ء عدمه حتّى يثبت ، سيّما الحكم الشرعي ، فكون الشي‌ء ملكا شرعا يحتاج إلى دليل ، لا عدم كونه ملكا ، وهو ظاهر.

وأمّا قوله عليه‌السلام : « للعين ما رأت » لو بني على أنّ العبرة بعموم اللفظ ، يلزم زيادة تخصيص فاسدة لا يرضى بها المحقّقون ، ولا تأمّل في فسادها.

مع أنّ مثل : البق ، والقمّلة ، والخنافس ، والنمل من الحشرات ، والمخاط والبصاق ، ونظائرهما يكون مملوكا ، شي‌ء لا يمكن أن يتفوّه به عاقل.

كيف ولو كان كذلك لزم أنّ واضع اليد على الأمور المذكورة ومن نشأت تلك في ملكه أو ثيابه يكون ذا أموال كثيرة وأملاك متوافرة؟ وأنّ من قتل قمّل المفلس أو اليتيم يكون عاديا متلفا أموالهما؟! سيّما إذا كان كثيرا وافراد يكون حينئذ في غاية الظلم والفساد! وأنّ من أخذ القمّلة ، والنملة ، والخنفساء ونظائرها يكون ملعونا عاصيا غاصبا يجب عليه الردّ ، وإلّا يكون الواجب على حاكم الشرع الجبر بالردّ ، أو الأخذ منه قهرا والردّ؟ وأنّ من أنكر يجب على المدّعي البيّنة وعليه الحلف؟ وإذا أتلف يكون عليه الضمان ، كما هو قاعدة الملك؟ وأنّه يتحقّق الملك فيه مشاعا ومفروضا؟ وأنّه إذا تحقّقت في يد اثنين أو الثوب المشترك أو البيت كذلك يحكم لكلّ بالنسبة على حسب عددهم؟ وأنّ اليد مقدّم أو البيّنة بالملك السابق أو اليد السابق؟ وأنّ من لم يردّ يكون من الظالمين ، الّذين حمد الله نفسه على هلاكهم (٢)؟ وإذا وقع المبايعة يجب على كلّ واحد إقباض ما في يده

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٩ ـ ٦١ الحديث ٢٥٧ ، وسائل الشيعة : ٢٣ ـ ٣٩١ الحديث ٢٩٨٢٤.

(٢) إشارة إلى قوله تعالى ( فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ). الأنعام ٦ : ٤٥.

١٠٢

وتتحقّق الخيارات والغرر في الجهالة أو الضرر؟ وأنّه لا يجوز الأخذ والبيع من اليتيم والمجنون والسفيه؟ وأنّ مالكه لا يكون مفلسا ، لأنّه ذو أموال كثيرة. إلى غير ذلك من الأمور الّتي يشنع ذكرها ، فتأمّل.

مع أنّ الألف واللام في الرواية تفيد العموم ، محلّ تأمّل ، لسبق معهود ، وكذا إفادة اللام الملكيّة ، لاحتمال الاختصاص أو الانتفاع ، فتأمّل.

قوله : والحشرات والفضلات .. إلى آخره (١).

لا يخفى أنّ مثل هذه الحشرات ليس بمال ولا ملك عرفا ، فكذا لغة ، ولذا لا يقال لمن تحت يده خنافس أو في ثوبه وجسده قمّل كثير : إنّه ذو مال كثير وأملاك كثيرة متعدّدة ، ولو لم يكن له مال يقولون : ليس له مال وملك ، وإن علموا أنّه قمّلة في غاية الكثرة ، وكذلك خنافس بيته وذبابه وبقّه وبرغوثه وأمثال ذلك.

وصحّة السلب علامة الحقيقة ، ولا شكّ في صحّة سلب المال والملك ، فضلا عن الأموال الكثيرة والأملاك الوافرة ، ولا شكّ أنّ البيع هو نقل مال وملك إلى ملك الآخر ، فلو أعطى مفلس قمّلة مفلسا آخر وأخذ عوضه وسخه أو برغوثه لا يقال : إنّهما متبايعان ، وأنّ للمشتري خيار الحيوان وللبائع خيار تأخّر الثمن ، وأمثال ذلك ، وكذلك الحال في الخنافس وغيرها.

وإنكار ما ذكرنا مكابرة واضحة ، وإن كان لكلّ واحد من القمّل والذباب والبق منافع مذكورة في موضعها مسلّمة ، لأنّ تلك المنافع ليست معتدّا بها ، والملك والمال لا يتحقّقان إلّا إذا كان منفعة معتدّا بها ، فلذا ليست الأمور المذكورة ملكا ومالا بالحيازة ، والتصرّف والتولّد في ملك الإنسان وجسده.

وأمّا مثل حبّة الحنطة ، فهو أيضا ليس مالا وملكا وإن كان حقّا ، ولذا من

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان : ٨ ـ ١٦٧ ( المتن ).

١٠٣

كان عنده عشرة حبّات أو عشرون حبّة لا يقولون عنده أموال كثيرة وأملاك وافرة ، بل يقولون : ليس عنده أموال وأملاك ، بل ربّما يقولون : ليس عنده مال ، ولا شكّ في صحّة سلب الماليّة بالنسبة إلى الحبّة الواحدة ، وهي أمارة المجاز وعدم الحقيقة.

وكذلك حال عدم التبادر ، إذ لو أطلق لفظ المال والملك لا يتبادر إلى الذهن حبّة الحنطة جزما ، نعم يقال في حبّة الحنطة : أنّه حقّه وإنّه مستحقّه ، فيجوز أن يقال : له حقوق ، ولذا يجوز أن يحلف من عنده الحبّة أن ليس لي مال وملك ، ولا يجوز أن يحلف : ليس لي حق شرعي أو عرفي أيضا.

وورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا بيع إلّا في ملك » (١) ، ويظهر من الأخبار أنّ البيع نقل الملك ، فلاحظ.

والبيع هو نقل المال والملك عرفا واتّفاقا ، ولذا لو أطلق لم يتبادر إلى الذهن إلّا نقل المال والملك ، ولذا يقولون : بمجرّد البيع يملك المشتري المبيع والبائع الثمن ، ولو قال المفلّس : بعت هذه القمّلة بتلك الحبّة أو بالعكس ، لم يكن له خيار الحيوان ولا للمشتري ، ولا خيار تأخير الثمن وغير ذلك ، وكذا لو قال : بعت هذه الحبّة بتلك الذرّة من تراب ملكك.

وبالجملة ، أهل العرف يحملون مثل ما ذكر على السخرية والهزء ، وليس مثل ذلك متبادرا من لفظ البيع والشراء على الإطلاق ، بل ويسلبون عنه اسم البيع والشراء الحقيقي.

وبالجملة ، لا يقولون : إنّ تبديل مثل ذرّة من التراب وذرّة من الحشيش

__________________

(١) عوالي اللآلي : ٢ ـ ٢٤٧ الحديث ١٦ ، مستدرك الوسائل : ١٣ ـ ٢٣٠ الحديث ١٥٢٠٩ ، وفيه : « لا بيع إلّا في ما تملك ».

١٠٤

والعلف والحطب وأمثال ذلك ، إنّه معاملة ومبايعة ، فتأمّل.

وممّا ذكرنا ، ظهر ما في كلام الشارح (١) والمحشّي الملّا عبد الله (٢) ، فإنّ الحكم بصحّة البيع شرعا يحتاج إلى دليل شرعي ، لا عدم الصحّة ، لأنّه هو الأصل حتّى يثبت خلافه ، كما حقّقنا.

وأمّا ما ذكره الشارح من أنّه إسراف وسفاهة (٣) ، ففيه أنّه كذلك إذا أعطى مال كثير بإزائه بخلاف ما [ لو ] أعطي مثله وما يساويه ، فإنّه ليس كذلك ، فتأمّل.

ثمّ على تقدير أن يكون مثل الحبّة مالا ، بل ومثل القمّلة أيضا ، دخول مثلهما في العمومات الدالّة على صحّة البيع ، وكذا ما

يدلّ على أحكام البيع من عدم الغرر ووجوب الإقباض والخيارات وغير ذلك ممّا أشرنا في الحاشية السابقة إليه ، وكذا غيره من أحكام البيع والدعاوي فيه ، محلّ نظر ظاهر ، فتدبّر.

قوله : ويدلّ عليه الاعتبار والأخبار ، مثل رواية جعفر بن حنّان .. إلى آخره (٤).

لا دلالة للاعتبار ، بل الاعتبار ربّما دلّ على خلافه ، لأنّ الوقف حقّ الأعقاب إلى آخر الدنيا ، فكيف يجوز لهذه الطبقة بيعه بمجرّد الحاجة الشديدة؟! وأمّا الأخبار ، فلم يرد سوى خبر واحد (٥) ، ومع ذلك لا تأمّل في ضعفه ،

__________________

(١) راجع! مجمع الفائدة والبرهان : ٨ ـ ١٦٧.

(٢) حاشية الملّا عبد الله التوني ـ صاحب الوافية ـ على إرشاد الأذهان : غير مطبوع.

(٣) مجمع الفائدة والبرهان : ٨ ـ ١٦٧.

(٤) مجمع الفائدة والبرهان : ٨ ـ ١٦٩ ، والرواية في : الكافي : ٧ ـ ٣٥ الحديث ٢٣ ، من لا يحضره الفقيه : ٤ ـ ١٧٩ الحديث ٦٣٠ ، تهذيب الأحكام : ٩ ـ ١٣٣ الحديث ٥٦٥ ، الاستبصار : ٤ ـ ٩٩ الحديث ٣٨٢ ، وسائل الشيعة : ١٩ ـ ١٩٠ الحديث ٢٤٤١٢. وفي الكافي ( حيّان ) بدلا من ( حنّان ).

(٥) وسائل الشيعة : ١٩ ـ ١٩٠ الحديث ٢٤٤١٢.

١٠٥

ومع ذلك دلالته أيضا ضعيفة ، لأنّه يدلّ على أنّ البيع إذا كان خيرا لهم باعوا إذا رضوا ، ومع ذلك ربّما يظهر منه كون الوقف على الطبقة الاولى لا على أعقابهم أيضا ، وأنّه ينتقل إلى ورثتهم بعنوان الإرث ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : وصحيحة علي بن مهزيار (١) وسيجي‌ء .. إلى آخره (٢).

في دلالة الصحيحة على صحّة بيع الوقف بالمعنى المعهود نظر لا يخفى على من لاحظها بتمامها ، فلا فائدة فيها لما نحن فيه.

قوله : رواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « في رجل اشترى جارية يطؤها ، فولدت له أولادا فمات (٣) ، قال : إن شاؤوا باعوها في الدين الّذي يكون على مولاها من ثمنها ، وإن كان لها ولد .. » .. إلى آخره (٤).

الظاهر رجوع ضمير « مات » إلى المولى ، بقرينة قوله عليه‌السلام : « إن شاؤوا أن يبيعوها باعوها » بلفظ الجمع الظاهر في كون المراد الورثة ، ولقوله عليه‌السلام : « في الدين » وتخصيص البيع وتقييده به ، لأنّ بعد موت الولد يجوز بيعها مطلقا ، ولقوله عليه‌السلام : « يكون على مولاها » ، إذ لو كان الميّت هو الولد يكون البائع هو الأب ، فالمناسب أن يقول : الدين الّذي عليه ، ولقوله عليه‌السلام : « وإن كان لها ولد .. إلى آخره » ، فتأمّل.

__________________

(١) الكافي : ٧ ـ ٣٦ الحديث ٣٠ ، من لا يحضره الفقيه : ٤ ـ ١٧٨ الحديث ٦٢٨ ، تهذيب الأحكام : ٩ ـ ١٣٠ الحديث ٥٥٧ ، الاستبصار : ٤ ـ ٩٨ الحديث ٣٨١ ، وسائل الشيعة : ١٩ ـ ١٨٨ الحديث ٢٤٤١٠.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان : ٨ ـ ١٦٩.

(٣) في الكافي ، وتهذيب الأحكام ، والاستبصار ، ووسائل الشيعة : « فمات ولدها ».

(٤) مجمع الفائدة والبرهان : ٨ ـ ١٧٠ ، والرواية في : الكافي : ٦ ـ ١٩٢ الحديث ٤ ، تهذيب الأحكام : ٨ ـ ٢٣٨ الحديث ٨٦١ ، الاستبصار : ٤ ـ ١٢ الحديث ٣٨ ، وسائل الشيعة : ١٨ ـ ٢٧٩ الحديث ٢٣٦٦٧ و ٢٣ ـ ١٧٣ الحديث ٢٩٣٢٨.

١٠٦

فلعلّ ما في نسخة الكليني والشيخ من زيادة قوله : « ولدها » (١) بعد قوله : « فمات » وهما من الناسخ أو أحد الرواة ، فتكون الرواية حسنة ، وإن كان الضعف منجبرا بعمل الأصحاب ، فتأمّل جدّا.

قوله : لإطلاق النصّ ، وما رأيت نصّا آخر ، وفي دلالة هذه الرواية على البيع بعد موت الولد فقط [ أيضا تأمّل ظاهر ] .. إلى آخره (٢).

لعلّ مراده من النصّ صحيحة عمر بن يزيد ، عن أبي إبراهيم عليه‌السلام أنّه سأله : « لم باع أمير المؤمنين عليه‌السلام أمّهات الأولاد؟ فقال : في فكاك رقابهنّ ، قال (٣) : أيّما رجل اشترى جارية فأولدها ثمّ لم يؤدّ ثمنها ولم يدع من المال ما يؤدّى عنه أخذ ولدها منها وبيعت وادّي ثمنها ، قلت : فيبعن في ما سوى ذلك من الدين؟ قال : لا » (٤).

لكن الظاهر من هذه الرواية أيضا موت المالك ، بقرينة قوله : « لم يدع » ، وقوله : « بيعت » ، وقوله : « فيباع » ، وقوله : « لم باع أمير المؤمنين عليه‌السلام ».

قوله : ( ويجب القدرة على التسليم ) ، أي من الشرائط القدرة على تسليم العوضين .. إلى آخره (٥).

قال المحقّق مولانا عبد الله التوني رحمه‌الله : المراد التسليم في الجملة ، أعم من الكلّ والبعض ، لتصريحه بصحّة بيع الآبق منضما مع انتفاء القدرة على تسليم كلّ

__________________

(١) أشرنا إليها في الهامشين السابقين.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان : ٨ ـ ١٧١.

(٣) كذا ، وفي المصادر : « قلت : وكيف ذلك؟ قال : ».

(٤) الكافي : ٦ ـ ١٩٣ الحديث ٥ ، من لا يحضره الفقيه : ٣ ـ ٨٣ الحديث ٢٩٩ ، تهذيب الأحكام : ٨ ـ ٢٣٨ الحديث ٨٦٢ ، وسائل الشيعة : ١٨ ـ ٢٧٨ الحديث ٢٣٦٦٤.

(٥) مجمع الفائدة والبرهان : ٨ ـ ١٧٢.

١٠٧

المبيع حينئذ ، ولعلّ مستنده أنّ الغرض من البيع والشراء ـ وهو الانتفاع بالثمن والمثمن ـ لا يتمّ إلّا بالقدرة على التسليم ، فتكون شرطا في الصحّة ، وفيه تأمّل.

ولم أقف على نصّ يدلّ على هذه القاعدة مع قيام احتمال الانتفاع بدون القدرة على التسليم واحتمال صحّة البيع بدون القدرة على التسليم أصلا ، كما يصحّ بدون القدرة على تسليم بعض المبيع فينبغي التوقّف. انتهى.

أقول : لا وجه للتوقّف بعد ما ورد في أخبار كثيرة من أنّه لا بدّ من الضميمة ، معلّلا بأنّه إن لم يحصل (١) يكون رأس ماله فيها (٢) ، وهذا ينادي بأنّه لا بدّ من التسليم ، حتّى لا يكون العوض خاليا عمّا هو بإزائه ، فكيف يتوقّف ، وكيف يقول : لم أقف على نصّ ، مع أنّه وجّه الكلام بأنّ المراد التسليم في الجملة؟! على أنّا ذكرنا في بحث البيع الفضولي ما يدلّ على ما ذكروه من الأخبار.

وأيضا ، الإجماع المنقول بخبر الواحد حجّة عند الفقهاء ، لعموم ما دلّ على حجيّة الخبر الواحد الشامل له من غير فرق وبدون (٣) تفاوت كما حقّق.

وأيضا ، لا شك في أنّ الخبر الوارد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه : نهى عن بيع الغرر (٤) من المسلّمة عند جميع المسلمين ، والفقهاء اتّفقوا على الفتوى بمضمونه في كثير من مسائل الفقه وبنوا عليه الأمر ، وصرّحوا بأنّ المراد من الغرر أن يكون مجهول الحصول ، أو مجهول المقدار وهو الموافق للّغة والعرف.

__________________

(١) أي : لم يحصل التسليم.

(٢) لاحظ! الكافي : ٥ ـ ٢٠٩ الحديث ٣ ، من لا يحضره الفقيه : ٣ ـ ١٤٢ الحديث ٦٢٢ ، تهذيب الأحكام : ٧ ـ ٦٩ الحديث ٢٩٦ و ٧ ـ ١٢٤ الحديث ٥٤٠ ، وسائل الشيعة : ١٧ ـ ٣٥٣ الحديث ٢٢٧٣٤.

(٣) في د ، ه : ( ومن دون تكليف و ).

(٤) عوالي اللآلي : ٢ ـ ٢٤٨ الحديث ١٧ ، مسند أحمد بن حنبل : ١ ـ ٤٩٧ الحديث ٢٧٤٧.

١٠٨

مع أنّ المنع عن الثاني يستلزم المنع عن الأوّل بطريق أولى.

وأيضا ، في الغالب يكون البيع والشراء مع عدم القدرة على التسليم سفاهة ، بل لعلّه كذلك كلّيا ، فتأمّل.

وسيجي‌ء ما يؤيّد وما يشيّد ، فلاحظ.

قوله : فلا يصحّ بيع الآبق منفردا ، ويصحّ (١) منضمّا إلى ما يصحّ بيعه منفردا من مالك الآبق .. إلى آخره (٢).

قد ذكرنا في مسألة بيع الفضولي ما يدلّ على هذا أيضا ، فلاحظ.

وأمّا السفاهة ، فربّما يرد عليها ما سيذكره الشارح في مسألة بيع الضالّة.

ثمّ نقول : إن أراد القدرة على تسليم الكلّ ، فالتفريغ فاسد. وإن أراد التسليم في الجملة ولو بشي‌ء منه ، فهم لا يرضون بذلك في غير مثل الآبق. إلّا أن يراد من الصحّة الإثمار في الجملة ، ففي مثل الآبق بالنسبة إلى الجميع ، وفي غيره فبالنسبة ، فتأمّل.

لكن يرد إشكال آخر ، وهو : أنّه إن أريد العلم بالقدرة ، ففساده ظاهر ، سيّما بعد الحكم بصحّة بيع مثل الطائر الّذي اعتاد العود ، وإن أريد الظنّ فربّما يحصل في كثير من الآبق ظنّ قوي ، مثل ظنّ الطائر ، وربّما يكون أقوى في بعض الموارد.

فالحكم بعنوان الكليّة في مثل الآبق محلّ نظر ، إلّا أن يقال : مراده المتعارف ، والمتعارف لا يحصل فيه ظنّ ، فتأمّل.

ولا يخفى أنّ الّذي يظهر ممّا ذكرنا في مسألة الفضولي ، ومن الخبرين

__________________

(١) كذا ، وفي المصدر : ( يصحّ بيعه ).

(٢) مجمع الفائدة والبرهان : ٨ ـ ١٧٢.

١٠٩

الواردين في الآبق (١) ، ومن الأخبار الواردة في بيع قصب الآجام (٢) ، وبيع لبن الضرع (٣) ، وبيع ثمر النخل (٤) ، وغيرها أنّ القدرة على التسليم الّتي شرط في الصحّة ليست مجرّد الظنّ ، لحصول الظنّ بحصول القصب واللبن والثمر والآبق ، ولذا يعطى الجعل في تحصيله ويشتريه المشتري.

وبالجملة ، الآبق الذي يظنّ حصوله ليس من جملة الفروض النادرة ، والأفراد غير المتعارفة ، وإن كان من الأفراد المتعارفة أيضا ما لا يظنّ حصوله ، فكلاهما متعارف وغير نادر بالنسبة إلى أفراد الآبق وإن كان الآبق في نفسه ليس من المتعارف الشائع.

والمعصوم عليه‌السلام حين سأل الراوي عن جواز شرائه منع مطلقا ، من غير استفصال أنّه مظنون الحصول أم لا ، مع أنّ الظاهر كونه مظنون الحصول ، كما عرفت.

فظهر أنّه لا بدّ من وثوق تام بالقدرة على التسليم ، لو لم نقل باشتراط العلم.

وما مرّ في مسألة بيع الفضولي ـ أيضا ـ أنّه عليه‌السلام قال : « لا بأس ببيع كلّ متاع تجده في الوقت الّذي بعته فيه » (٥) ، وظاهره أيضا العلم أو الظنّ المتاخم ، ولا ينافي

__________________

(١) وهما روايتا : رفاعة النخّاس : مجمع الفائدة والبرهان : ٨ ـ ١٧٢ ، الكافي : ٥ ـ ١٩٤ الحديث ٩ ، تهذيب الأحكام : ٧ ـ ١٢٤ الحديث ٥٤١ ، وسائل الشيعة : ١٧ ـ ٣٥٣ الحديث ٢٢٧٣٣.

وسماعة : مجمع الفائدة والبرهان : ٨ ـ ١٧٢ ، الكافي : ٥ ـ ٢٠٩ الحديث ٣ ، من لا يحضره الفقيه : ٣ ـ ١٤٢ الحديث ٦٢٢ ، تهذيب الأحكام : ٧ ـ ٦٩ الحديث ٢٩٦ و ٧ ـ ١٢٤ الحديث ٥٤٠ ، وسائل الشيعة : ١٧ ـ ٣٥٣ الحديث ٢٢٧٣٤.

(٢) لاحظ! وسائل الشيعة : ١٧ ـ ٣٥٤ الباب ١٢ من أبواب عقد البيع وشروطه.

(٣) لاحظ! وسائل الشيعة : ١٧ ـ ٣٤٨ الباب ٨ من أبواب عقد البيع وشروطه.

(٤) لاحظ! وسائل الشيعة : ١٨ ـ ٢١٩ الباب ٣ من أبواب بيع الثمار.

(٥) الكافي : ٥ ـ ٢٠٠ الحديث ٤ ، وسائل الشيعة : ١٨ ـ ٤٧ الحديث ٢٣١٠٨ ، وقد مرّت

١١٠

ذلك قولهم : ( لا بأس ببيع الطائر إذا اعتيد .. إلى آخره ) (١) ، لأنّ العادة بمنزلة المتحقّق. إلى آخر ما سيذكره الشارح ، فتأمّل.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ الفقهاء أيضا لا يكتفون بالظنّ ، كيف وهم متّفقون على عدم صحّة بيع الأمور المذكورة بغير الضميمة؟! بل والمشهور لا يجوّزون بالضميمة أيضا في غير الآبق.

ومعلوم أنّ حصول القصب في الآجام ، واللبن في الضرع مظنون بظنّ قوي غاية القوّة بمقتضي العادة الإلهيّة ، بل من جملة الآبق أيضا من هو مظنون الحصول بظنّ في غاية القوّة ، والمعصوم عليه‌السلام لم يستفصل أصلا ، وكذا الحال في غير ما ذكرنا ، فتأمّل.

فإن قلت : لعلّ المنع عن بيع الآجام من جهة عدم وجود المبيع ، ويكون المراد البيع حالّا.

قلت : لا نسلّم ما ذكرت ، كيف والراوي سأل عن حكم شراء الأجمة مطلقا ، والإمام عليه‌السلام ما استفصل في الجواب؟! فتأمّل.

قوله : ورضاه بشراء ما يصحّ قبضه فقط .. إلى آخره (٢).

ليس هذا دليلا لهم بلا شبهة ، للزوم صحّة بيع غير الآبق أيضا ممّا لا يقدر على تسليمه ، وهم لا يقولون إلّا في الآبق ، لصحّة سنده ، ووقوع الوفاق.

قوله : فكأنّه أقدم على أنّ ما دفعه في مقابلة المقدور .. إلى آخره (٣).

لا شك في أنّه دفعه بإزاء المجموع ، فإن كان عهدة التسليم على البائع في

__________________

(١) الإشارة إليه في الصفحة : ٨٩.

(١) راجع! مجمع الفائدة والبرهان : ٨ ـ ١٧٤.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان : ٨ ـ ١٧٢.

(٣) مجمع الفائدة والبرهان : ٨ ـ ١٧٣.

١١١

استحقاقه الثمن يرجع بما يقابل غير المقدور ، وهو رحمه‌الله سيصرّح في مسألة الضالّة بالرجوع ، ورواية سماعة (١) لا تصلح للخروج بها عن القاعدة الثابتة ، والصحيحة (٢) أيضا لا تصلح ، لعدم ظهور الدلالة.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّه أقدم على أن يكون الثمن في مقابل المجموع ، ويكون غير المقدور أيضا ملكه ، ومجموع الثمن للبائع ، والمعاقدة والمعاهدة والمشارطة وقعت على هذا فيجب عليه الوفاء ، فكيف يقول : ردّ عليّ ما بإزاء غير المقدور الذي هو ملكي؟ ولا شكّ في كونه قبل ملكه ولم يتحقّق ما يخرجه عن ملكه ، ولا في أنّه في أيّ وقت حصل يكون ملكه ، وقبل الحصول والتمكّن منه يمكنه العتق وأمثاله من التصرّفات.

فإن قلت : سيجي‌ء أنّ كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه ، وهذا يقتضي أن يكون عهدة التسليم على البائع في خروجه عن الضمان.

قلت : لم يتحقّق هنا تلف ، فإن كان عدم التمكّن منه تلفا فالمبيع كان تالفا من أصله ، فالمعاملة باطلة من أوّلها ، لوقوعها على التالف ، وإلّا فلا يتحقّق التلف حتّى يثبت الهلاك ، فظهر أنّ رواية سماعة موافقة للقاعدة ، وكذا الصحيحة ، لظهورها في عدم الرجوع على البائع مطلقا ، ومخالفة القاعدة لم يكن سوى الغرر ، ولا ضرر له في المقام ، للصحيح واتّفاق الأصحاب.

وأمّا السفاهة ، فغير متحقّقة في المقام كما عرفت ، مع أنّها إن تحقّقت لزم فساد المعاملة من أصلها ، لما عرفت.

قوله : ولما في رواية سماعة المتقدّمة ، ولا يضرّ ضعفها ، فتأمّل. والظاهر أن

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٧ ـ ٣٥٣ الحديث ٢٢٧٣٤.

(٢) أي : صحيحة رفاعة النخّاس : وسائل الشيعة : ١٧ ـ ٣٥٣ الحديث ٢٢٧٣٣.

١١٢

لا يقاس على الآبق الضالّة من البعير .. إلى آخره (١).

اعلم أنّ بيع الضالّة عند الفقهاء صحيح البتّة ، إمّا مطلقا أو على طريقة بيع الآبق.

وجه الأوّل ، أنّ الضرر ليس إلّا من جهة الغرر ، وهو مجهوليّة الحصول ، لعدم القدرة عليه ، والضالّة بحسب العادة مقدور عليها ، وبحسب الغالب الشائع المتعارف يجدها ويأخذها بعد التفتيش والتجسّس البالغ ، وعدم المسامحة والمساهلة ، بل من هذه الجهة أولى من الطير المعتاد الرجوع في حكاية القدرة على التسليم وظهور الحصول (٢).

ولو سلّم عدم الأولويّة ، فليس بأضعف منه ، وعلى فرض تسليم الأضعفيّة فليست إلى حدّ يدخل به في مجهول الحصول كالآبق ، لأنّ له شعورا وتدبّرا (٣) وحيلة في إخفاء نفسه وإخراجها عن أن يتمكّن منه ويتسلّط عليه ، ولذا ـ بحسب العادة ـ ليس بمقدور التسليم.

ووجه الثاني ، أنّها غير مقدور التسليم حين الضلال ، وغير معلوم الحصول بعده ، فهو مثل الآبق ، وإن كان القدرة على التسليم فيه أزيد وظنّ الحصول أقوى ، فإذا حكم الشارع في الآبق بما حكم يكون ذلك الحكم فيها بطريق أولى.

ولو لم تكن هذه الأولويّة لحكمنا فيها ببطلان البيع ، لعدم القدرة على التسليم وحصول الغرر ، ولذا لم نقل بالصحّة في غير الآبق والضّالة ممّا هو مجهول الحصول.

واحتمل الشارح البطلان بناء على عدم الأولويّة أيضا ، وفيه ما فيه ، فتأمّل.

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان : ٨ ـ ١٧٣.

(٢) في ب : ( الحال ).

(٣) في ب ، د ، ه : ( تدبيرا ).

١١٣

قوله : ومن هذا علم أنّ الدليل في الأوّل هو النصّ والإجماع .. إلى آخره (١).

يظهر من هذا أنّ القدرة على التسليم ليست شرطا ، وفيه ما فيه ، مع أنّه سيذكر في بحث النقد والنسيئة ما يظهر منه أنّه جعل نفس التسليم داخلا في ماهيّة البيع وشرطا لتحقّق الانتقال ، وأنّ البائع لا يرضى بالانتقال إلّا بشرط التسليم ، وما أبعد ما بين ما يذكر هنا وهناك ، فتأمّل.

مع أنّه يظهر من كلامه أنّ الغرر مضرّ ، وأنّه غير متحقّق في بيع الآبق مطلقا ، وفيه ما فيه.

وأيضا ، الضالّة ليست على نهج واحد ، منها ما لا غرر ولا سفاهة في بيعها أصلا ، والقدرة على التسليم فيها مظنونة بالظنّ القوي غاية القوّة ، بل وأولى من الطير المعتاد.

ومنها ، ما ليست كذلك ، بل حصولها غير مظنون على نحو الآبق ، وربّما يكون حصولها في غاية البعد ، ففيها السفاهة ، ولا ينفع الرجوع بالثمن ، لأن مرجع السفاهة إلى العقلاء ، فربّما يعدّون الفعل سفاهة لعدم غرض معتدّ به عندهم ، وربّما لا يتأتّى الرجوع أو لا يحصل من البائع شي‌ء ، فيتحقّق فيه الغرر أيضا ، فتأمّل.

وأيضا ، إذا كان البيع صحيحا يكون لازما ، للأصل والعمومات ، فالحكم بالرجوع إلى الثمن يتوقّف على دليل ولو لم يكن فلا رجوع ، بمقتضى الأصل والعمومات ، فتأمّل جدّا.

قوله : [ معلوميّة العوض ] عند المتبايعين .. إلى آخره (٢).

وأمّا التعيين بحسب الواقع ، فلا شكّ في اعتباره ، لاستحالة الانتقال بدونه ،

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان : ٨ ـ ١٧٣.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان : ٨ ـ ١٧٤.

١١٤

ومعلوم أنّ بمجرّد العقد ينتقل العوضان إلى ملك الآخر (١).

قوله : ليرتفع الجهل الموجب للغرر والسفه .. إلى آخره (٢).

ولو ورد النهي عن المعاملة الّتي تكون معرضا للنزاع ، والاختلاف في مواضع غير عديدة ، مثل : السلف ، وبيع الثمر ، والدينار غير الدرهم ، وبغير بعض من الشروط الآتية ، وغير ذلك ، فليتتبّع وليتأمّل.

مع أنّه يظهر من العلّة المنصوصة وفي بعضها العموم ، فلاحظ!

قوله : ولكن تأويلها مشكل ، وكذا ردّها ، فيمكن أن يكون حكما في قضيّة ولا يتعدّى .. إلى آخره (٣).

ربّما يظهر من الرواية (٤) أنّ البائع ما كان راضيا بأيّ ثمن يختاره المشتري ، ولذا ردّ الألف وأخذه المشتري ساكتا عليه ، ورجع إلى ما قال المعصوم عليه‌السلام ، وما نازعه أصلا ، وأيّ عاقل يجوّز أنّ البائع كان راضيا بأيّ شي‌ء يعطي المشتري ولو مثل درهم أو أدون منه؟! بل الظاهر أنّه كان راضيا بالمتعارف وما قاربه من القيمة ، بعد ما عرفت أنّ رفاعة نخّاس والنخّاس يعرف المتعارف وما قاربه ، ولعلّ مثل هذا متعارف في زماننا أيضا ، بأنّ البائعين إذا رأوا المشتري عارفا ماهرا يقولون : أيّ شي‌ء تعطي ، يكون مقصودهم أنّك عارف بالقيمة ، وماهر ، فلا يحتاج إلى أن نعيّن الثمن

__________________

(١) الحاشية ( من قوله : عند المتبايعين. إلى قوله : إلى ملك الآخر ) أثبتناها من ب ، ووردت في موضع متأخّر في كل من د ، ه.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان : ٨ ـ ١٧٤.

(٣) مجمع الفائدة والبرهان : ٨ ـ ١٧٦.

(٤) رواية رفاعة النخّاس : الكافي : ٥ ـ ٢٠٩ الحديث ٤ ، من لا يحضره الفقيه : ٣ ـ ١٤٥ الحديث ٦٤٠ ، تهذيب الأحكام : ٧ ـ ٦٩ الحديث ٢٩٧ ، وسائل الشيعة : ١٧ ـ ٣٦٤ الحديث ٢٢٧٥٨.

١١٥

لك.

لكن المتعارف أيضا أنّ في قيمة أمثال ذلك ربّما يكون تفاوت ما ، بالقياس إلى معتقد البائع والمشتري ، وأنّ البائع من طمعه الزيادة وميل قلبه إليها يعتقد زيادة عمّا يعتقده المشتري ، كما أنّ المشتري من طمعه النقص وميل قلبه إليه يعتقد أنقص.

ولعلّه متعارف أيضا أنّهم ربّما يسامحون في هذا القدر من التفاوت بعد ما حصل لهم الرغبة في المبيع أو في الثمن ، فلعلّ البائع لمّا وكل الثمن إلى حكم المشتري العارف الماهر وقال : أيّ شي‌ء تعطي مع أنّك تعرف القيمة ، ورأى المشتري أيضا قبل هذا المعنى من غير مضايقة ولا مماكسة رضي بما قبله ، من حيث أنّه وجده راغبا وساكتا وقابلا وراضيا ، فباعتقاده أنّه يعطي ما طمعه وتوقّعه ، ويسامح بما به التفاوت المذكور ، من حيث أنّه ما ضائق أصلا ، ويعرف أنّ معتقد البائع والمشتري لا يكاد يتّفقان في قدر معيّن مشخّص بحيث لا يزيد ولا ينقص أصلا ، فظنّ أنّه يعطي ما طمعه وتوقّع منه في صورة وكول الأمر إليه ، كما هو دأب أرباب السماحة ، من أنّه لو وكل الأمر إليهم لا ينقصون عن المتوقّع ، بل وربّما يزيدون أيضا ، سيّما إذا كانوا راغبين ، والآن في أمثال زماننا نشاهد أمثال ما ذكرنا.

فلهذا قال المعصوم عليه‌السلام ما قال ، وما قال : إنّك (١) إن أعطيت الزائد فهو الثمن الّذي عيّنت ورضيت ، وإلّا فلا تنقص عن القيمة السوقية ، للعلم بأنّ البائع ما كان راضيا بأنقص من ذلك وأنّ القيمة السوقيّة ، إذا تحقّقت وتعيّنت وظهرت على حسب الواقع يكون راضيا أيضا ، لا علاج بعد ما ضايقت وما أعطيت ما طمع وتوقّع ، فتأمّل.

__________________

(١) في ج : ( بأنّك ).

١١٦

والحاصل ، أنّ المتعارف في المبايعة الّتي فيها هذه المسامحة أنّ كلّ واحد من البائع والمشتري راض بالقيمة العادلة إذا تحقّقت وثبتت ، فالثمن معيّن واقعا ، وإذا كان في معتقد كلّ منهما أنّه كذا ، ويكون بينهما مخالفة تكون المخالفة قليلة ، لعلّها ممّا يتسامح به في مثل هذه المعاملة إذا كان الطرفان من أهل الخبرة ، فلا يكون غرر وسفاهة أيضا ، والبائع متوقّع ، فإذا حصل توقّعه تعيّن ، فتأمّل.

قوله : ما رأيت له دليلا صالحا ، وأدلّ ما رأيته حسنة الحلبي في « الكافي » (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام .. إلى آخره (٢).

يمكن أن يقال : إذا كان بناء المعاملة في شي‌ء على الكيل أو الوزن أو العدد ، يكون بغير الكيل أو الوزن أو العدّ عند المتعاملين غير معلوم القدر ، ويقولون : لا نعلم قدره ، أو تخمينا قدره كذا ، إذا خمّنوا كذا ، فيكون بيعه كذا غررا منهيّا عنه ، لما عرفت من أنّ الغرر هو مجهول الحصول أو مجهول المقدار.

وبالجملة ، إذا كان شي‌ء يتفاوت مقداره زيادة ونقيصة ، ويتفاوت الثمن بتفاوت ذلك المقدار ، ونسبة الثمن بنسبة ذلك المقدار عند المتعاملين.

ولذا صار المقدار في الأقطار والديار (٣) على اعتبار الكيل أو الوزن أو العدّ عند العقلاء وأهل الخبرة ، بل وعامّة المعاملين.

فلا بدّ أن يكون مقدار الثمن ومقدار المثمن معلومين حتّى لا يلزم الغرر ، بخلاف مثل الفرس والجارية ، فإنّ تفاوت الثمن ليس بتفاوت وزنهما ، بل بأمر آخر ، وسيجي‌ء في كتاب الإجارة زيادة توضيح منّا.

__________________

(١) الكافي : ٥ ـ ١٧٩ الحديث ٤.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان : ٨ ـ ١٧٦.

(٣) في ب : ( في الأعصار والأمصار ).

١١٧

قوله : وهي مرويّة (١) فيه بطريق آخر صحيح من غير وقوع مشترك فيه ، مثل ابن مسكان وغيره (٢) ، وبقي في المتن شي‌ء ، لأنّه يدلّ بظاهره (٣) على عدم الاعتبار [ بخبر البائع بالكيل ] .. إلى آخره (٤).

لا تأمّل في سندها ، أمّا المتن فالظاهر منه الفساد ، لأنّ الصلاح مقابل له ، مع أنّ الظاهر من سؤال السائل : أنّه فاسد أم لا؟ فهو أيضا قرينة ، وفهم الفقهاء أيضا مؤيّد ، وكذا ما سيجي‌ء من الأخبار عند قول المصنّف : ( ولو تعذّر العدّ ) (٥) وفي هذا العنوان.

قوله : لاحتمال إرادة الكيل والوزن المتعارف عرفا عامّا .. إلى آخره (٦).

هذا الاحتمال هو مقتضى ظاهر الحسنة المذكورة (٧) ، وما أشرنا إليه من حكاية الغرر.

نعم ، مقتضى إشعار روايتي الحلبي الآتيتين ، والروايات الّتي ستذكر في بحث تعذّر العدّ ، كون العبرة بالمكيل والموزون في زمان صدور هذه الروايات وعهده ، فتأمّل.

ويمكن الحمل بأنّه (٨) بناء على أنّه سمّي فيه الكيل والوزن في ذلك الزمان ، لا من حيث أنّ اللفظ لا بدّ أن ينصرف إلى المعهود في اصطلاح الشارع الّذي صدر

__________________

(١) كذا ، وفي المصدر : ( وهو مرويّة ).

(٢) قوله ( من غير وقوع مشترك فيه مثل ابن مسكان وغيره ) أثبتناه من المصدر.

(٣) كذا ، وفي المصدر : ( لأنّها تدلّ بظاهرها ).

(٤) مجمع الفائدة والبرهان : ٨ ـ ١٧٧.

(٥) مجمع الفائدة والبرهان : ٨ ـ ١٨٤ ـ المتن ـ وسيأتي في الصفحة ١٢٧.

(٦) مجمع الفائدة والبرهان : ٨ ـ ١٧٧.

(٧) وسائل الشيعة : ١٧ ـ ٣٤٢ الحديث ٢٢٧٠٧.

(٨) لم ترد ( بأنّه ) في : ب.

١١٨

الروايات عنه ، فتأمّل.

لكن لا تفاوت بحسب الثمرة ، لأنّ ما ثبت فيه الكيل أو الوزن في زمانه عليه‌السلام مكيل وموزون في البلدان الآن وفي الأزمنة السابقة أيضا إلى زمانه ، كما هو الظاهر ، ولأصالة الاستصحاب ، مع أنّه في هذه الأزمان كذلك على أيّ تقدير.

نعم ، المكيل في زمانه عليه‌السلام وبلده في بعض البلدان صار موزونا ، ولا ضرر فيه أصلا ، كما ستعرف.

قوله : وأيضا قالوا : لا بدّ من البيع بالكيل المشهور .. إلى آخره (١).

لفظ الكيل والوزن الوارد في الأخبار الظاهرة في اعتبارهما ينصرف إلى المتعارف ، وهو المشهور المعروف.

نعم ، ربّما كان منه غالب ومنه نادر ، فالإطلاق ينصرف إلى الغالب ، كما لو قال لوكيله : اشتر منّا ـ مثلا ـ من كذا ، لأنّ الإطلاق ينصرف إليه ، ولو قال : بأيّ منّ ، يكون يشمل غير الغالب أيضا ، لا الّذي ليس منّا لهم أصلا ولا معروفا مطلقا ، وهو الّذي ذكره الشارح بعبارة ( غير المشهور ) ، إذ لا شبهة في عدم اعتباره أصلا بعد ثبوت اعتبار الكيل والوزن.

قوله : فإنّه لا يقاوم الأدلّة العامّة الكثيرة الدالّة [ على وجوب الإيفاء بالعقود ] (٢).

لا يخفى أنّه غرر بلا شبهة ، والنهي عنه إجماعيّ منصوص.

قوله : لا يصلح إلّا مدّ واحد .. إلى آخره (٣).

ربّما يشعر هذا بأنّ تعدّد المدّ ـ مثلا ـ ربّما يوجب الغرر والضرر ، لأنّه في

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان : ٨ ـ ١٧٨.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان : ٨ ـ ١٧٨.

(٣) مجمع الفائدة والبرهان : ٨ ـ ١٧٨ ، وهو من قول الصادق عليه‌السلام في رواية الحلبي : وسائل الشيعة : ١٧ ـ ٣٧٧ الحديث ٢٢٧٨٧.

١١٩

معرضة ، فيكون ما ذكره عليه‌السلام سرى لما حكم به من عدم الحلّية ، لا أنّه لا يحلّ في صورة التدليس خاصّة ، فتأمّل.

ومع ذلك ، لا يوجب هذا تقييدا في حسنة الحلبي أيضا ، ففي الحسنة دلالة على المنع في صورة الجزاف أيضا ، لأنّه إذا قيل : لا تبع بغير صاع البلد ، وقيل أيضا : إذا بعت بالصاع ، فلا يكون إلّا بصاع البلد ، لأنّ المفهوم من الصاع هو صاع البلد فلا تعط إلّا به ولا تدلّس ، كيف يكون بينهما تعارض الدلالة على المنع في صورة الجزاف (١)؟ لأنّه إذا لم يكن مانع من الجزاف ، ولا يكون الكيل والوزن شرطا للجواز فلا مانع من اشتراط الصاع المشاهد الّذي ليس بصاع المصر ، ففي رواية الحلبي أيضا شهادة.

وسيجي‌ء في مسألة تعذّر العدّ والكيل والوزن ما يدلّ أيضا ، ويعترف الشارح بالدلالة (٢).

قوله : والظاهر عدم دليل على عدم جواز بيعه إلّا عدّا .. إلى آخره (٣).

سيعترف بالدليل في مسألة تعذّر العدّ ، فلاحظ.

قوله : ويفتقر ما يراد منه الطعم أو الريح [ إلى اختباره ] .. إلى آخره (٤).

قال المحقّق مولانا عبد الله التوني رحمه‌الله : يدلّ عليه ما رواه محمّد بن العيص قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل يشتري ما يذاق ، أيذوقه قبل أن يشتري؟ قال : نعم ، فليذقه ولا يذوقنّ ما لا يشتري » (٥). رواه الشيخ في

__________________

(١) العبارة : ( لأنّه إذا قيل. في صورة الجزاف ) لم ترد في ب ، ج.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان : ٨ ـ ١٨٤.

(٣) مجمع الفائدة والبرهان : ٨ ـ ١٧٨.

(٤) مجمع الفائدة والبرهان : ٨ ـ ١٧٩ ـ المتن.

(٥) وسائل الشيعة : ١٧ ـ ٣٧٥ الحديث ٢٢٧٨٣.

١٢٠