حاشية مجمع الفائدة والبرهان - المقدمة

حاشية مجمع الفائدة والبرهان - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : الفقه
الطبعة: ١
الصفحات: ٨١٢

١

٢

٣
٤

المقدمة

الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطّاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم إلى يوم الدّين.

وبعد :

إنّ من كان له أدنى إلمام بالتعاليم الإلهيّة في الشريعة المحمّدية ، يعلم أنّ قسما كبيرا منها يرتبط بما يرجع إلى القلب والفكر ، أي إنّ درك المبادئ الدينيّة ، وتصحيح المسائل الاعتقاديّة وكلّ ما يرتبط بالمبدإ والمعاد ، والنبوّة والإمامة إنّما ينشأ من تلقّيها بشكل صحيح وواضح. هذا من جانب.

ومن جانب آخر ، فهناك من التعاليم ما يتكفّل ويرجع فيه إلى التربية الأخلاقيّة للمجامع البشريّة ، بمعنى الخصال المعنويّة ، والأخلاق الإنسانيّة ، والآداب البشريّة الّتي تسيّره وتأدّبه بشكل قويم ، ممّا يوجب تعديلا لهذه القوى المودعة من البارئ عزّ اسمه ، ومنعا من طغيانها أو فتورها ، وتحت ظلّ هذه الآداب تتحقّق عدة السماء في قوله عزّ من قائل ( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) (١) فالعدالة ، والتقوى ، والصبر ، والتواضع ، والسماحة ، والكرم ، .. ما هي إلّا صغريات لما ذكرناه.

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٤٣.

٥

ومن جانب ثالث ، التعاليم الّتي تربط العبد بأعماله الفرديّة ، وحركاته الخارجيّة ، ممّا يجب أو لا يجب عليه في تعيين كيفيّة سيره العملي الخارجي.

وهذا القسم الأخير ، عبّر عنه علماء الإسلام وموضّحوا الشريعة المقدّسة بـ : الفقه ، إلّا أنّ هذه الكلمة من الوجهة الشرعيّة ـ كتابا وسنّة ـ تعطي مدلولا آخر غير التلقّي العميق لجميع المقرّرات والمعارف الإلهيّة.

ولعلّه من هنا جاء ما تعارف عند القدماء من فقهاء الشيعة من طرح المسائل الاعتقاديّة والأصول الدينيّة في مدخل الرسائل العمليّة والكتب الفقهيّة ، إلّا أنّه ـ وكما سنشير إليه ـ تدرّجت هذه اللفظة ، وتلبّست بقالب جديد واصطلاح خاصّ ، بحيث صارت تنظر إلى مجموعة مدوّنة من المقرّرات والقوانين الإلهية الّتي ترتبط بالأعمال الفرديّة ، والسلوك الخارجي لكلّ مكلّف في مسيره اليومي ، ممّا يلزم أو لا يلزم عليه ، سواء كان فرديّا أو اجتماعيّا.

وبتعبير عصري ، إنّ علم الفقه يشمل جميع الحقوق الأساسيّة ، الفرديّة منها والاجتماعيّة ، الجزائيّة والمدنيّة ، العائليّة والسياسيّة ، ممّا تكون له دائرة شموليّة أوسع من المباحث الّتي تطرح اليوم تحت عنوان : ( الحقوق ).

عصر التشريع :

وممّا لا شكّ ولا ريب فيه ، أنّ المشرّع الواقعي هو الله سبحانه وتعالى ، وهو الأوّل والآخر ، والظاهر والباطن ، فمنه التشريع وإليه الشريعة ، والتعبير عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكونه شارعا إنّما جاء في مقام الاحترام ، إذ هو يمثّل الامتداد الطبيعي لرسالة السماء ( وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ) (١) ، ( وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ

__________________

(١) النجم (٥٣) : ٣.

٦

فَخُذُوهُ .. ) (١) ، ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا .. ) (٢) ، فهو الرسول ، وهو المرسل ، وهو المبيّن ، وهو البيان من ربّ العزّة والكمال.

فتأتي هذه القوانين تارة بواسطة وحي إلهي في إطار الآيات القرآنيّة بلاغا للناس ورحمة ، واخرى ضمن السلوك العملي لصاحب الرسالة المعبّر عنه بـ : السنّة النبويّة.

وحيث كان مقام النبوّة والولاية ـ بحكم البرهان والدراية ـ ملازما لمرتبة العصمة ، فكان كلّما يترشّح من رسول الله والأئمّة المعصومين ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ من بيان قولي أو سلوك عملي أو إمضاء تقريري ـ بما لها من شروط ـ يتّسم بصفة قانونيّة ـ إلزاميّة كانت أو غيرها ـ وبحكم البلاغ من جانب الشارع المقدّس ـ جلّت عظمته.

ومن هنا ، كان عصر الرسالة ومحضر أئمّة الهدى ـ سلام الله عليهم ـ يعدّ عندنا عصر تشريع وتبيين ، ولذا كان المسلمون ـ خاصّة الشيعة منهم ـ ينهلون من معين تلك العين الطاهرة ، فلا حاجة ـ والحال هذه ـ إلى تجميع وتدوين القوانين بشكل ما كان متداولا عليه في الأحقاب اللاحقة.

هذا ، مع غضّ النظر عن أنّ هناك فروق جوهريّة بين الشيعة الإماميّة وسائر الفرق الإسلاميّة ، وهذا بحث دقيق طويل الذيل ، يتطلّب استدلالا وتتّبعا ، قد يحالفنا الحظّ للتعرّض له بحول الله وقوّته في مقدّمتنا على كتاب : « مصابيح الظلام في شرح مفاتيح الشرائع » للمولى محمّد باقر الوحيد البهبهاني ـ طاب ثراه ـ إلّا أنّنا نجد أنّ ذكر هذه الملاحظة ضروري فعلا ، وذاك أنّ اعتقاد الفرقة

__________________

(١) الحشر (٥٩) : ٧.

(٢) الحاقّة (٦٩) : ٤٤.

٧

المحقّة بعصمة الأئمّة ـ سلام الله عليهم ـ يستدعي أن يحظوا ويتمتّعوا بمصادر غنيّة وشاملة من الأحكام والقوانين الإلهية خلال ثلاث قرون ـ أي : إلى نهاية الغيبة الصغرى سنة ٣٢٩ هـ ـ ممّا يبعث فيهم قوّة على استنباط الأحكام الشرعيّة مصدرا وسعة وبناء ومبنى في قبال العامّة.

ومن هنا ، فمن الراجح أن نعتبر مبدأ التدوين والتجميع ، ومن ثمّ التبويب للقوانين الإلهيّة والترتيب هو أوائل الغيبة الكبرى ، ولا ننسى ما لتدوين « كتاب الجامعة » المنسوب لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، وكتب الأصحاب ، والأصول الأربعمائة لأصحاب الأئمّة عليهم‌السلام من دور مهمّ ومقام في تدوين الفقه.

تدوين الفقه وتطوّره :

كانت رويّة أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام أيّام تشرّفهم بمحضر الأئمّة ـ سلام الله عليهم ـ وديدنهم خلال الغيبة الصغرى هو بيان نصّ كلماتهم عليهم‌السلام في جواب أسئلة السائلين ، أو طرح الأبواب المتفرّقة العمليّة ، وكذا في مقام إرشاد الجاهلين ، ومن ثمّ نجد أنّ هذه الرؤية سار عليها في زمن الغيبة الكبرى جلّ علماء الدين وفقهائهم ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ مع فارق جمع تلك النصوص وتدوينها ، حيث كانوا يقومون بذلك ويتلقّونه كفريضة إلهية ، حفظا له من الضياع والتلف أوّلا ، وتسهيلا للعوام ، كي يصلوا إلى ما يبتغونه من الأحكام من منابعها الأوليّة ثانيا.

وهذان الجانبان يظهران بكلّ وضوح من العناوين الّتي وصلتنا لأسماء الكتب والموسوعات المدوّنة إيّان ذلك العصر.

فمثلا ، شيخنا الصدوق ـ طاب ثراه ـ مع ما له من رسائل ومجاميع في تدوين

٨

الأحاديث ـ حتّى ذكر المحدّث القمّي وسمّى منها ثلاثمائة كتاب (١) ـ ومع هذا بادر إلى تنظيم وتدوين الموسوعة الحديثيّة الّتي فيها ما يقارب الستّة آلاف حديث في أبواب مختلفة من الفقه ، وجعله تحت اختيار المكلّفين ، وانتخب له اسما على مسمّى ، وهو : « من لا يحضره الفقيه » ، وذكر في مقدّمته مذعنا سلفا : .. قصدت إلى إيراد ما أفتي به ، وأحكم بصحّته ، وأعتقد أنّه حجّة في ما بيني وبين ربّي ـ تقدّس ذكره وتعالت قدرته ـ (٢).

أو ملاحظة الموسوعة الحديثيّة الرائعة المسمّاة بـ « الكافي » ـ أصولا وفروعا وروضة ـ الحاوية على ما يزيد على ستّة عشر ألف حديث ، الّتي قام بجمعها وتدوينها ، ثمّ تبويبها وتنظيمها العالم الجليل والمحدّث الفقيه شيخنا الكليني ـ طاب رمسه ـ ، وها هو يقول في مبدئها : .. كتاب كاف ، يجمع من جميع فنون علم الدين ما يكتفي به المتعلّم ، ويرجع إليه المسترشد ، ويأخذ منه من يريد علم الدين والعمل به وبالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهما‌السلام والسنن القائمة عليها العمل ، وبها يؤدّى فرض الله عزوجل ، وسنن نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣).

فكانت هذه رويّة علماء ذلك العصر وطريقتهم المتّبعة إلى أوائل القرن الرابع. فكان أن وصلنا منها مجموعات ثمينة من آثار أئمّة الهدى ـ سلام الله عليهم ـ بقيت لنا ذكرا وتذكارا ، ومدرسة ونبراسا.

ولو أنّ هذه البرهة قد أبقت لنا فقهاء عظام أمثال : ابن عقيل وابن الجنيد الإسكافي ـ القديمان ـ حيث اتّخذوا طريقة الاجتهاد ، وناقشوا النصوص ، وشرحوا المتون ، إلّا أنّهما حيث كانا قائلين بحجيّة القياس والرّأي ـ اعتقادا أو

__________________

(١) الكنى والألقاب : ١ ـ ٢٢١.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ١ ـ ٣.

(٣) الكافي : ١ ـ ٨.

٩

تقيّة ـ فلذا لم يكن لهما المقام اللائق في تطوّر تأريخ الفقه ، وإن كانت تعدّ هذه الدورة مهمّة في رشد ونموّ الفقه من خلال تدوين هذه المجاميع القيّمة الحديثيّة.

والملاحظ ، أنّا نجد في أواسط القرن الرابع الهجري تحوّلا ملحوظا في الأسلوب الفقهي ، وذلك بدخول الاستدلال العلمي بشكل مؤثّر لاستنباط الأحكام الجزئيّة ، وإعمال الصناعة العلميّة بديلا عن الاقتصار على نقل النصوص الحديثيّة ، ولعلّ منشأ هذا التحوّل ـ بل الانقلاب ـ هو تتلمذ الشيخ الأعظم ، الفقيد المفيد ـ رضوان الله عليه ـ على يدي العلمين : ابن الجنيد ، وابن قولويه ، اللذين كانا يمثّلان قطبين متضادّين في عصر واحد ، ممّا أولد شخصيّة نادرة وثمينة مثل الشيخ المفيد الّذي يتمتّع بمثبتات هذا التقارن ، الّذي هو بدوره ـ عدا ماله من أفضال علميّة وعمليّة للطائفة الحقّة الإماميّة ـ قد نشأ وتربّى في مدرسته الأعاظم ، أمثال : السيّد المرتضى ، والشّيخ الطوسي اللذين وفّقا ـ وبجدارة ـ ولأوّل مرّة إلى تفكيك المبادئ الأصوليّة عن القواعد الفقهيّة ، وسلّطا الاضواء عليهما وبشكل مستقلّ ومنحاز ، تدوينا وتدريسا ، ونقدا وتحكيما.

وكان وليد ذلك ، تفريع الفروع الفقهيّة وبسطها ، ومعارضتها بالآراء الفقهيّة عند العامّة ، الّذي يعدّ بذرة لتأسيس الفقه المقارن ، وهذان الأثران العظيمان يظهران بشكل بارز في الفقه الشيعي في كتاب « المبسوط » ، « والخلاف » لشيخ الطائفة ، الّذي يعدّ بحقّ رائد هذه المسيرة المباركة خلال تلك البرهة.

وها هو الشيخ الأعظم يحدّثنا في مقدّمة « مبسوطه » كيف انتزع الفقه من البساطة ونقل النصوص! ممّا كان له أثر كبير في استنقاذ الخطّ العلمي للمذهب الشيعي من تنقيص العامّة له ، وتجميع القدرات والإمكانات الكامنة بالقوّة في أصول الاستنباط إلى مرحلة الفعليّة ، وبكلّ جرأة وشجاعة ، وذلك بإثبات القولة

١٠

المشهورة : ( علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع ). بتنزيه الطائفة من تهمة العجز والجمود ، بإيكال رفع هذه النقيصة للأفراد الّذين كانت لهم الجرأة الكافية مع الأهليّة التامّة من تجاوز قوالب الألفاظ إلى حاقّ المعاني من فقه الحديث الّذي أولد لنا حديث ( الفقه ).

فكان شيخنا الطوسي رحمه‌الله قد أبدى قابليّة علميّة رائعة في هذا المسير ، ممّا خلق له هالة من التقديس والتبجيل في الأحقاب اللاحقة له ، بحيث كمّم الشفاه ، احتراما وتقديسا. إلى أن سطح في أفق المعرفة شخصيّة عظيمة ، وعالم فطحل نقّاد ، ألا وهو : محمّد بن إدريس الحلّي ـ صاحب « السرائر » ـ المعروف بـ : السيّد اسما ووصفا ، مقابل ( الشيخ ) مقاما ومنزلة ، فكان أن بزغ في سماء الفقاهة ، وبدأ بمعارضة شيخ الطائفة ، فكسر طوق الجمود الحاصل بعد الشيخ رحمه‌الله ، فكان أن صارت هناك أرضيّة لدخول الفقه في مرحلة جديدة.

والعلامة المميّزة في هذه الدورة هي : تهذيب الفقه ، وتنظيمه بعد تبويبه ، لا ننسى ما لشيخنا المحقّق الأوّل ـ صاحب « الشرائع » ـ من أياد بيضاء في هذا المجال ، ومن بعده لابن أخته العلّامة الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي ، الّذي كان له السهم الأوفى في تشييد أركان هذه المرحلة الفقهيّة ، خاصّة في جانب الفقه المقارن.

فالمدرسة الّتي أنشئت بواسطة المحقّق ، وتكاملت وتحكّمت على يد العلّامة ، ربّت في أحضانها شخصيّات ثمينة من فقهاء الطائفة كان لكلّ واحد منهم دور كبير ومساع مشكورة في نموّ الفقه الشيعي ، بما كانت لهم من ملاحظات دقيقة وأدلّة قويمة ، كان للشهيد الأوّل محمّد بن مكّي ـ طاب ثراه ـ القدح الأوفى فيها.

وبمرور الأيّام واستمرار الزمن بهذه الدورة ازداد غناؤها العلمي ، وبرزت

١١

فضيلتها ، وعلا فضلها على سائر المذاهب ، خاصّة أنّا نجد في كلّ مقطع زمني شخصيّة علميّة قويمة تبرز قدرتها العلميّة في مسير التكامل الفقهي وتعاليه ، أمثال : المحقّق الثاني ، والمقدّس الأردبيلي ، وصاحبي « المدارك » و « المعالم ». ونظائرهم.

وفي غروب القرن الثاني عشر ، كان طلوع شمس الفقاهة : العلّامة المجدّد الوحيد البهبهاني ـ طاب رمسه ـ له أبلغ الأثر في هذا الميدان ، إذ بلغ الأوج في كمال عمليّة الاستنباط ، خاصّة بعد تطهير ساحة الفقه والتفقّه من براثن الجمود والتحجّر الحاصل من هيمنة الأخباريّين وأفكارهم لفترة قصيرة.

فعلم الأصول ، الّذي كان مهجورا متروكا برهة من الزمن ، أصبح في ظلّ مساعي ذلك الرجل العظيم وتنوّر أفكاره بالغا محلّه الأصلي ، ومعيدا واقعه العلمي ، بسطا وتوسعة ، وعمقا وتقوية.

وعلى كلّ حال ، فإنّ المدرسة الّتي بناها شيخنا الوحيد ـ طاب رمسه ـ وتبنّاها أعادت للفقه حياة جديدة في إطار قوانينه وقواعده ، وقدرته على الانطباق مع حاجات البشر وتطوّر أفكاره خلال القرون والأعصار ، أي : تخليد المذهب المقدّس الإسلامي في جميع أبعاده وزواياه ، الفرديّة منها والاجتماعيّة ، خاصّة الفروع الفقهيّة والمسائل العلميّة المبتلى بها ، مع إثبات وإبراز ما للشرع الأنور من قدرات في الإجابة على ما يحتاجه البشر. ولإثبات هذه الدعوى شواهد وأدلّة.

ولا يخفى ، أنّ المدوّنات الفقهيّة عند الشيعة الإماميّة اليوم تعدّ ـ وبحقّ ، وبدون تعنّت ـ في أوج الكمال العلمي ، لا قياسا بفقه العامّة فحسب ، بل تتحدّى جميع القوانين المدوّنة الوضعيّة منها والإلهيّة ، الّتي هي محصول مسائل أعلامنا

١٢

الفقهاء وتفريعات فقهائنا الأعلام ، الّذين انتهت النوبة بهم إلى مدرسة العلّامة الوحيد ـ طاب ثراه ـ والّتي خرّجت فطاحل من تلامذته ، أمثال : السيّد بحر العلوم ، وكاشف الغطاء ، وصاحبي « الرياض » و « القوانين » ، والنراقي الأوّل. وأشباههم ، الّذين كانوا أساتذة لتربية من لحقهم من جهابذة الفنّ ، أمثال : صاحب « الجواهر » ، والشيخ الأنصاري ، والآخوند الخراساني. وأمثالهم ـ رضوان الله تعالى عليهم.

فعلم من مجموع ما ذكر في تأريخ تطوّر الفقه الشيعي تأسيسا وتأصيلا وتدوينا ومقارنة ، أنّه لم يمرّ بمرحلة الجمود والركود ، بل كان ـ وما زال ـ يطوي مدارج التكامل ، وإتقان القواعد ، وتحكيم المباني أصولا وفروعا ، وما كان ذاك إلّا رهينة الأصل الأصيل في باب الاجتهاد وانفتاحه في عصر غيبة المعصوم ـ سلام الله عليه ـ ، وذاك ـ بحقّ ـ أحد مفاخر وامتيازات فقه الطائفة الإماميّة ، حيث فتح لهم طريق الاستنباط لكلّ السّالكين على دربه ، وأبعدهم عن الجمود والاقتصار على أقوال السلف ، كما هي طريقة أبناء العامّة وديدنهم.

ثمّ إنّ دراسة الأحقاب الّتي مرّت بها أدوار الفقه ، تظهر لنا ـ وبكلّ وضوح ـ اختلاف المسالك ، وتعدّد السبل والطرق في الاستنباط ، وإن كانت ـ في حدّ نفسها ـ في رشد أكثر وتكامل أسمى ، إلّا أنّه قد نلاحظ في فترات متقطّعة حصول نوع من الانحراف عن المسير الأصلي في الاجتهاد ـ الّذي هو استخراج حكم الشارع المقدّس ـ كان للموقف المشرّف لعلماء الطائفة الأثر الكبير في الوقوف ـ وبشدّة ـ أمام أمثال هذه التيّارات المنحرفة ، حيث أنّ تحصيل الحكم الشرعي إنّما يكون في إطار القواعد والمقرّرات المتداولة المعروفة ، ولو قدّر التجاوز عن هذا الخطّ ، فلا يمكن أن يطلق عليه أنّه : حكم الله.

١٣

والّذي نعنيه من القواعد والأسس هنا ، هو ما يعبّر عنه بـ : علم أصول الفقه ، الّذي نطمئنّ بضرورة معرفته والوقوف على مبادئه ومسائله وقواعده ، مقدّمة للدخول إلى علم الفقه ، وأنّ الخروج عنه يستلزم تأسيس فقه جديد محلّلا لحرام الله ، ومحرّما لحلاله.

وحيث كان مؤلّف سفرنا الحاضر العلّامة المجدّد الوحيد البهبهاني رحمه‌الله فطحل ميدان الأصول ، ومؤسّس مدرسته الجديدة ، فمن هذا المنطلق نجده هنا قد حقّق وانتقد كثيرا من الكتب الفقهيّة للسلف الصالح رحمه‌الله ، وادّعى تطهيرها ممّا عرضها من شوائب وزلّات ، ومنها : كتاب « مجمع الفائدة والبرهان » تأليف المحقّق الأردبيلي ـ طاب ثراه.

فها هو يقول في مقدّمة حاشيته : .. رأيته قدّس سره قد كبى جواده في بعض الميادين ، فأخذ يعترض على علمائنا الأساطين ، وذلك لما اعترف به طاب مضجعه وعلا مقعده ، من عدم عثوره على استاد يقيّمه ويسدّده ، فرأيت إن أتدارك ما فاته رحمه‌الله من دليلهم ، وغفل عن سواء سبيلهم (١) ..

فيظهر ـ وبكلّ جلاء ـ إنّ المحشّي يعتقد ـ بعد اعتراف الماتن بذلك ـ بعدم حظوته باستاد قوي في الفقه كي يطرح عليه عصارة أفكاره ، كي يقومها له ويهذّبها ، فلذا نجده قد تفرّد في موارد متعدّدة ، قد تخرجه ـ نادرا ـ عن المسير المتعارف للاستنباط ، ولذا قال فقيدنا المحشّي الوحيد رحمه‌الله في مبحث خيار الشرط : فلو صحّ مناقشاته ، لم يبق للشرع والفقه أثر أصلا ، ولم يوجد حكم شرعي ، إلّا في غاية الندرة ، وأين هذا من الدين والشريعة (٢)؟!.

__________________

(١) حاشية مجمع الفائدة والبرهان : ٣.

(٢) حاشية مجمع الفائدة والبرهان : ٢٥٣.

١٤

وقد نجده يلوّح أحيانا باتّهامه باتّباعه الاستحسان! ، كما في ذيل فتواه بعدم جواز أخذ الزكاة عن السلطان الجائر ، قال : .. فيه ما فيه ، إذ لا نعلم مأخذه ، ولا ما يشير إليه ويوهمه ، ولا أحدا ذكره. (١).

ولعلّ من مصاديق ما سلف عدم أخذه بظواهر كلمات الأصحاب ، أو حملها على الفروض البعيدة النادرة. وغير ذلك ، مع أنّ حجّية الظواهر أصل عقلائي مسلّم قامت عليه جميع المحاورات العادية والعلميّة ، ولا شكّ أنّ الخروج عن هذا المبنى يفتقر إلى قيام قرينة خاصّة صارفة له.

وعليه ، فقد صرّح شيخنا المحشّي رحمه‌الله كرارا ، بتخلّف المولى المقدّس الأردبيلي في أكثر من مورد ، وذلك بعدم اعتنائه بكثير من الأصول المسلّمة العلميّة المقبولة عند العلماء والعقلاء ، فمثلا ، يقول في ذيل صحيحة أبي عبيدة (٢) ـ المستدلّ بها لإباحة المقاسمة ـ : .. ولا يدلّ على جواز شراء الزكاة بعينها صريحا ، نعم ظاهرها ذلك ، ولكن لا ينبغي الحمل عليه ، لمنافاته للعقل والنقل (٣).

ويقول العلّامة الوحيد رحمه‌الله : .. الظهور يكفي للاستدلال ولا يشترط الصراحة (٤). وأمّا ادّعاء التنافي حيث لم يشر إلى المنقول ، فهو ليس قابلا للقبول ولا طريق للعقل في الورود له.

وأيضا ، فإنّ من القواعد المتلقّاة بالقبول في علم الأصول ، هو تقديم ذي المزيّة على غيرها في باب مرجّحات باب التعارض ، إلّا أنّ الماتن في موارد متعدّدة أغمض النظر عن هذا الأصل ، كما في باب بيع الصرف ، حيث رجّح

__________________

(١) حاشية مجمع الفائدة والبرهان : ٣٥.

(٢) وسائل الشيعة : ١٧ ـ ٢١٩ الحديث ٢٢٣٧٦.

(٣) مجمع الفائدة والبرهان : ٨ ـ ١٠٢.

(٤) حاشية مجمع الفائدة والبرهان : ٤٠.

١٥

الرواية الموثّقة على الصحيحة (١).

ونجده أحيانا يرجّح الرواية الحسنة على الصحيحة المفتي بها ، وأشكل المحشّي عليه ، كما في بابه (٢).

والحاصل ، لعلّنا وفّقنا بما سلف إلى الإشارة ـ ولو مجملا ـ إلى طريقة المحقّق المحشّي وكيفيّة تلقّيه من استدلال ، وأسلوب الاستنباط عند المرحوم الماتن ، طاب ثراهما ، كي نعطي صورة عن كتابنا الحاضر « حاشية مجمع الفائدة والبرهان ».

ومع كلّ ما أورده قدس‌سره عليه من نقود وإشكالات ، وحتّى طعون علميّة أحيانا ، نراه قد حفظ لنا حريم ( المقدّس ) وشيخوخته وقداسته ، فهو عندما يرميه بعدم تلقّيه من أساتذة الفقه والارتواء من معينهم يقول : ..

ومع ذلك ، فلعمري لم أر في مصنّفات أصحابنا المتقدّمين ، ولا في مؤلّفات علمائنا المتأخّرين ـ رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ـ مؤلّفا يشبهه في جمعه وتحريره ، أو يدانيه في تحقيقه وتحبيره ، فلله درّة ، قدس‌سره ، فلقد أتى بالشي‌ء العجاب ، بل بما يحيّر لبّ ذوي الألباب ، ولا عجب ممّن كانت تخدمه ملائكة الرحمن ، وكان يخاطبه الإمام صاحب الزمان ، وتلقّى المسائل شفاها من الإمام عليه أفضل الصلاة والسلام (٣).

وللحقّ نقول : إنّ مثل هذه الكلمات تعدّلنا ـ أبناء العلم وطلّابه ـ درسا ومدرسة عند ما نواكب هذه الرحلة العلميّة لمولانا ( المقدّس ) وشيخنا ( الوحيد ) ، إذ نرتوي من معينهم العذب ونغتذي من مائدة فضائلهم وملكاتهم الأخلاقيّة علما وعملا.

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان : ٨ ـ ٣٠٥.

(٢) لاحظ! حاشية مجمع الفائدة والبرهان : ٢٧٥.

(٣) حاشية مجمع الفائدة والبرهان : ٣ ـ ٤.

١٦

ونكرّر القول بأنّ تتبّعنا في هذا الكتاب وسائر الكتب الفقهيّة لشيخنا الوحيد تطلعنا ـ وبكلّ وضوح ـ على مبتكراته ومستجدّاته الكثيرة في الأبواب الفقهيّة المتفرّقة الّتي حصلنا عليها ، وسندرجها في مقدّمتنا لموسوعته الفقهيّة « شرح المفاتيح » ، كما سردنا لك بعض إبداعاته الأصوليّة في مقدّمة كتابه « الرسائل الأصوليّة » (١).

وحيث كنّا على أبواب مؤتمر المقدّس الأردبيلي ـ طاب ثراه ـ فنكتفي في هذه العجالة بوضع هذه البصمات ، على أمل أن نوفّق للتوسّع أكثر في هذا الباب ، وإعطاء الموضوع حقّه في فرضه أخرى بعون الله.

ولنختم الموضوع بإعطاء نبذة مجملة عن حياة هذين العلمين الفطحلين ، اللذين كان لهما الشرف والتوفيق للمثول بين يدي الحجّة ـ أرواحنا لتراب مقدمه الفداء ـ فكان أن بلغا ما بلغا بذاك ، وكفى بذاك فخرا ، وشرفا وعزّا ، وسؤددا وكرامة.

__________________

(١) الرسائل الأصوليّة : ٣٣ ـ من المقدّمة.

١٧

مقتطفات من ترجمة الفقيد المقدّس الأردبيلي رحمه‌الله :

صرّح الكلّ بولادته في بلدة أردبيل من بلاد أذربيجان إيران ، كما جاء في « ريحانة الأدب » ، فقد قال : أحمد بن محمّد الآذربايجاني ، أردبيلي الأصل والولادة ، نجفي المسكن والمدفن (١). وغيره.

ولد من أبوين نجيبين ، نجهل عنهما ما يعرّفهما ، كما لا نعرف عن تأريخ ولادته رحمه‌الله ما يشفي الغليل ، أو يأخذ بنا إلى حقّ ، إلّا من تحديد كونه من أعاظم أعلام القرن العاشر.

وشيخنا المقدّس المولى أحمد بن محمّد. غني عن التعريف ، علم برأسه ، ويقصر من يكتب عنه في إعطاء صورة واضحة عنه ، خصوصا مع لزوم كون المعرّف أجلى ، ولذا نمدّ يد الاستعانة بمن عاصره أو عرّفه.

فها هو العلّامة المحقّق السيّد مصطفى الحسيني التفريشي رحمه‌الله ـ المتوفّى سنة ١٠١٥ هـ ـ حيث يقول في « نقد الرجال » : ..

أمره في الجلالة والثقة والإمامة أشهر من أن يذكر ، وفوق ما يحوم حوله العبارة ، كان متكلّما فقيها ، عظيم الشأن ، جليل القدر ، رفيع المنزلة ، أورع أهل زمانه وأعبدهم وأتقاهم (٢).

__________________

(١) ريحانة الأدب : ٥ ـ ٣٦٦.

(٢) نقد الرجال : ٢٩ برقم ١٢٦.

١٨

وصرّح العلّامة المولى الأردبيلي محمّد بن علي رحمه‌الله ـ المتوفّى سنة ١١٠١ هـ ـ في « جامع الرواة » بقوله : ..

أمره في الجلالة والثقة والأمانة أشهر من أن يذكر ، وفوق ما يحوم حوله العبارة ، كان متكلّما ، فقيها ، عظيم الشأن ، جليل القدر ، رفيع المنزلة ، أورع أهل زمانه وأعبدهم وأتقاهم (١).

وانظر إلى ما ذكره شيخنا الحرّ العاملي رحمه‌الله ـ المتوفّى سنة ١١٠٤ هـ ـ في « أمل الآمل » ، حيث يقول : ..

المولى الأجلّ الأكمل ، أحمد بن محمّد الأردبيلي ، كان عالما ، فاضلا ، مدقّقا ، عابدا ، ثقة ، ورعا ، عظيم الشأن ، جليل القدر ، معاصرا لشيخنا البهائي (٢).

وذكر المولى الميرزا محمّد باقر الموسوي الخوانساري رحمه‌الله ـ المتوفّى سنة ١٣١٣ هـ ـ في « روضات الجنّات » ما نصّه :

أمره في الثقة والجلالة ، والفضل والنبالة ، والزهد والديانة ، والورع والأمانة ، أشهر من أن نؤدّي مكانه ، أو نتصدّى بيانه ، كيف! وقدسيّة ذاته ، وملكيّة صفاته ممّا يضرب به الأمثال في العالم ، كالخلق الجميل من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وشجاعة الوصي الوليّ عليه‌السلام ، وسماحة الحاتم (٣)؟! وقال المحدّث النوري رحمه‌الله ـ المتوفّى سنة ١٣٢٠ هـ ـ في « خاتمة المستدرك » :

العالم الرّباني ، والفقيه المحقّق الصمداني ، المولى أحمد بن محمّد الأردبيلي ، المتوفّى سنة ٩٩٣ هـ ، الّذي غشي شجرة علمه وتحقيقاته أنوار خلوصه

__________________

(١) جامع الرواة : ١ ـ ٦١.

(٢) أمل الآمل : ٢ ـ ٢٣ ، كما نقله ـ أيضا ـ السيّد الخوئي في : معجم رجال الحديث : ٢ ـ ٢٢٥.

(٣) روضات الجنّات : ١ ـ ٧٩.

١٩

وكراماته. (١).

وقال المحدّث القمّي رحمه‌الله ـ المتوفّى سنة ١٣٥٩ هـ ـ في كتابه « الكنى والألقاب » :

المولى الأجلّ ، العالم الرّباني ، والمحقّق الفقيه الصمداني ، مولانا أحمد بن محمّد الأردبيلي النجفي ، أمره في الثقة والجلالة ، والفضل والنبالة ، والزهد والديانة ، والورع والأمانة ، أشهر من أن يحيط به قلم ، أو يحويه رقم ، كان متكلّما فقيها ، عظيم الشأن ، جليل القدر ، رفيع المنزلة ، أورع أهل زمانه وأعبدهم وأتقاهم ، وكفى في ذلك ما قال العلامة المجلسي رحمه‌الله : المحقّق الأردبيلي في الورع والتقوى ، والفضل والزهد ، بلغ الغاية القصوى ، ولم أسمع بمثله في المتقدّمين والمتأخّرين ، جمع الله بينه وبين الأئمّة الطاهرين عليهم‌السلام (٢).

ولنختم هذا البحث بما ذكره شيخنا الطهراني رحمه‌الله ـ المتوفّى سنة ١٣٨٩ هـ ـ في « إحياء الداثر » :

شيخنا المقدّس ، المولى أحمد بن محمّد. أستاذ صاحبي « المعالم » و « المدارك » ، وغيرهما من الأعلام ، وصاحب المصنّفات الكثيرة (٣).

وما قيل ـ أو يمكن أن يقال ـ عن مكارم مولانا الأردبيلي وسموّ أخلاقه عدا ما له من موقعيّة علميّة : امتيازه بالواقع العملي ، المتمثّل بأن يوصف ويوسم بـ : المقدّس ، بحيث ينصرف إليه ولا يعرف إلّا به ، ممّا أهّله لأن يحظى بالتشرّف بزيارة بقيّة الله الأعظم ـ أرواحنا لتراب مقدمه الفداء.

فلقد حكى العلّامة المجلسي رحمه‌الله ـ المتوفّى سنة ١١١١ هـ ـ قصّة تشرّفه ـ طاب

__________________

(١) خاتمة مستدرك الوسائل : ٣ ـ ٣٩٢.

(٢) الكنى والألقاب : ٣ ـ ٢٠٠ ـ ٢٠١.

(٣) طبقات أعلام الشيعة ( إحياء الداثر من أعلام القرن العاشر ) : ٨.

٢٠