كون سوق الحديث الشريف لتبرئة الشارع عن إيجاب الاحتياط ، بل هو مسوق لبيان امتنان الشارع على هذه الأُمّة بعدم جعل كلفة الاحتياط عليهم ، وأنّه لم يكلّفهم بالتحرّز عن مخالفة الحكم الواقعي عند الشكّ فيه وعدم العلم به ، وهذا المعنى ـ أعني امتنانه عليهم برفع كلفة التحرّز عنهم ـ يعطي أنّه قد رخّصهم في مخالفة تلك الأحكام الواقعية لو كانت موجودة ، ولا ريب أنّ هذا الترخيص في مخالفة الواقع وجواز الاقتحام في مقام الشكّ فيه لا يكون إلاّحكماً ظاهرياً ، ويكون هذا الحكم حاكماً على أدلّة الأحكام حكومة ظاهرية ، وهذا الترخيص هو الواقع في درجة إيجاب الاحتياط ، وبواسطة هذا الترخيص يكون حديث الرفع غير محتاج في جواز الاقتحام إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
وإن شئت فقل : إنّ المجعول حقيقة في « ما لا يعلمون » هو هذا الترخيص الظاهري ، ولكن لأجل اعتبارات لسانية راجعة إلى فنّ البلاغة عبّر عنه بالرفع ، ونسب الرفع إلى الحكم الواقعي الذي لا يعلمونه باعتبار أثره ، وهو إيجاب الاحتياط ، والمراد الجدّي الحقيقي هو جعل الترخيص المذكور ، وتلك الجهات اللسانية كافية في توحيد السياق وتصحيح استعمال الرفع منسوباً إلى جميع التسعة ، فتأمّل لئلاّ تتوهّم عود محذور اختلاف السياق.
نعم ، يبقى إشكال الجمع بين هذا الترخيص الذي هو حسب الفرض حكم شرعي فعلي مع الحكم الواقعي على خلافه ، ولأجل ذلك حاولنا إصلاح ذلك بجعل رفع الاحتياط والترخيص كناية عن جعل حجّية احتمال عدم التكليف بمقدار المعذورية ، فراجع ما حرّرناه في التعليق على ما أفاده قدسسره في مبحث الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية (١) ، وتأمّل.
__________________
(١) راجع الحاشية المفصّلة المتقدّمة في المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : ٣١٢ وما بعدها.