بقوله : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) ، ولعل الحكمة في هذا البعد أن هذه الصفة حكاية لصورة الوحي الذي كان في أوائل عهد النبي صلىاللهعليهوسلم بالنبوءة فكانت قواه البشرية يومئذ غير معتادة لتحمل اتصال القوة الملكية بها مباشرة رفقا بالنبيء صلىاللهعليهوسلم أن لا يتجشم شيئا يشق عليه ، ألا ترى أنه لما اتصل به في غار حراء ولا اتصال وهو الذي عبر عنه في حديثه بالغطّ قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «فغطّني حتى بلغ مني الجهد» ثم كانت تعتريه الحالة الموصوفة في حديث نزول أول الوحي المشار إليها في سورة المدثّر وسورة المزمّل قال تعالى : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) [المزمل : ٥] ، ثم اعتاد اتصال جبريل به مباشرة فقد جاء في حديث عمر بن الخطاب في سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام والإحسان والساعة أنه «جلس إلى النبيصلىاللهعليهوسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه» إذ كان النبي صلىاللهعليهوسلم أيامئذ بالمدينة وقد اعتاد الوحي وفارقته شدته ، ولمراعاة هذه الحكمة كان جبريل يتمثل للنبي صلىاللهعليهوسلم في صورة إنسان وقد وصفه عمر في حديث بيان الإيمان والإسلام بقوله : «إذ دخل علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد» الحديث ، وأن النبيصلىاللهعليهوسلم قال لهم بعد مفارقته «يا عمر أتدري من السائل؟ قال عمر : الله ورسوله أعلم ، قال : «فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم».
وقوله : (أَوْ أَدْنى أَوْ) فيه للتخيير في التقدير ، وهو مستعمل في التقريب ، أي إن أراد أحد تقريب هذه المسافة فهو مخيّر بين أن يجعلها قاب قوسين أو أدنى ، أي لا أزيد إشارة إلى أن التقدير لا مبالغة فيه.
وتفريع (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) على قوله : (فَتَدَلَّى* فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ) المفرّع على المفرّع على قوله : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) ، وهذا التفريع هو المقصود من البيان وما قبله تمهيد له ، وتمثيل لأحوال عجيبة بأقرب ما يفهمه الناس لقصد بيان إمكان تلقّي الوحي عن الله تعالى إذ كان المشركون يحيلونه فبيّن لهم إمكان الوحي بوصف طريق الوحي إجمالا ، وهذه كيفية من صور الوحي.
وضمير (أَوْحى) عائد إلى الله تعالى المعلوم من قوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) كما تقدم ، والمعنى : فأوحى الله إلى عبده محمد صلىاللهعليهوسلم. وهذا كاف في هذا المقام لأن المقصود إثبات الإيحاء لإبطال إنكارهم إياه.
وإيثار التعبير عن النبي صلىاللهعليهوسلم بعنوان (عَبْدِهِ) إظهار في مقام الإضمار في اختصاص الإضافة إلى ضمير الجلالة من التشريف.