إليه) ووقع في التوراة أن الألواح تكسرت حين ألقاها ، وليس في القرآن ما يدل على ذلك سوى أن التعبير بالإلقاء الذي هو الرمي ، وما روي من أن الألواح كانت من حجر ، يقتضي أنها اعتراها انكسار ، ولكن ذلك الانكسار لا يذهب ما احتوت عليه من الكتابة ، وأما ما روي أنها لما تكسرت ذهب ستة أسباعها ، أو ذهب تفصيلها وبقيت موعظتها ، فهو من وضع القصّاصين والله تعالى يقول : (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) [الأعراف : ١٥٤].
وأما أخذه برأس أخيه هارون يجره إليه ، أي إمساكه بشعر رأسه ، وذلك يولمه ، فذلك تأنيب لهارون على عدم أخذه بالشدة على عبدة العجل ، واقتصاره على تغيير ذلك عليهم بالقول ، وذلك دليل على أنه غير معذور في اجتهاده الذي أفصح عنه بقوله : (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) [طه : ٩٤] لأن ضعف مستنده جعله بحيث يستحق التأديب ، ولم يكن له عذرا ، وكان موسى هو الرسول لبني إسرائيل ، وما هارون إلّا من جملة قومه بهذا الاعتبار ، وإنما كان هارون رسولا مع موسى لفرعون خاصة ، ولذلك لم يسع هارون إلّا الاعتذار والاستصفاح منه.
وفي هذا دليل على أن الخطأ في الاجتهاد مع وضوح الأدلة غير معذور فيه صاحبه في إجراء الأحكام عليه ، وهو ما يسميه الفقهاء بالتأويل البعيد ولا يظن بأن موسى عاقب هارون قبل تحقق التقصير.
وفصلت جملة : (قالَ ابْنَ أُمَ) لوقوعها جوابها لحوار مقدر دل عليه قوله (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) لأن الشأن أن ذلك لا يقع إلّا مع كلام توبيخ ، وهو ما حكي في سورة طه [٩٢ ، ٩٣] بقوله : (قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) على عادة القرآن في توزيع القصة ، واقتصارا على موقع العبرة ؛ ليخالف أسلوب قصصه الذي قصد منه الموعظة أساليب القصّاصين الذين يقصدون الخبر بكل ما حدث.
و (ابْنَ أُمَ) منادى بحذف حرف النداء ، والنداء بهذا الوصف للترقيق والاستشفاع ، وحذف حرف النداء لإظهار ما صاحب هارون من الرعب والاضطراب ، أو لأن كلامه هذا وقع بعد كلام سبقه فيه حرف النداء وهو المحكي في سورة طه [٩٤] (قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي) ثم قال ، بعد ذلك (ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي) فهما كلامان متعاقبان ، ويظهر أن المحكي هنا هو القول الثاني ، وأن ما في سورة طه هو الذي ابتدأ به هارون ، لأنه كان جوابا عن قول موسى : (ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ) [طه : ٩٢ ، ٩٣].