وتجعله أصولا تبني عليها معارفها ومعاملاتها ، وتجعلها حكما في الأمور إثباتا ونفيا ، وهذا فرط ضلالة ، وإنه لضغث على إبالة بتشديد الباء وتخفيفها ، وقد حكي التاريخ القديم شاهدا مما قلناه وهو ما جاء في سفر دانيال ـ من كتب الأنبياء الملحقة بالتوراة أن ـ (بخت نصّر) ملك بابل رأى رؤيا أزعجته وتطلب تعبيرها ، فجمع العرافين والمنجمين والسحرة وأمرهم أن يخبروه بصورة ما رآه في حلمه من دون أن يحكيه لهم ، فلما أجابوه بأن هذا ليس في طاقة أحد من البشر ولا يطلع على ما في ضمير الملك إلّا الآلهة ، غضب ، واغتاظ ، وأمر بقتلهم ، وأنه أحضر دانيال النبي وكان من جملة أسرى بني إسرائيل في (بابل) وهدده بالقتل إن لم ينبئه بصورة رؤياه ، ثم بتعبيرها ، وأن دانيال استنظره مدة ، وأنه التجأ إلى الله بالدعاء هو وأصحابه (عزريا) و (ميشاييل) و (حننيا) فدعوا الله لينقذ دانيال من القتل ، وأن الله أوحى إلى دانيال بصورة ما رآه الملك فأخبر دانيال الملك بذلك ، ثم عبر له ، فنال حظوة لديه انظر الإصحاح الثاني من سفر دانيال.
(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨))
هذا ارتقاء في التبرّؤ من معرفة الغيب ومن التصرف في العالم ، وزيادة من التعليم للأمة بشيء من حقيقة الرسالة والنبوة ، وتمييز ما هو من خصائصها عما ليس منها.
والجملة مستأنفة ابتدائية قصد من استينافها الاهتمام بمضمونها ، كي تتوجه الأسماع إليها ، ولذلك أعيد الأمر بالقول مع تقدمه مرتين في قوله : (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي ... قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) [الأعراف : ١٨٧] للاهتمام باستقلال المقول ، وأن لا يندرج في جملة المقول المحكي قبله ، وخص هذا المقول بالإخبار عن حال الرسول عليه الصلاة والسلام نحو معرفة الغيب ليقلع من عقول المشركين توهم ملازمة معرفة الغيب لصفة النبوة ، إعلانا للمشركين بالتزام أنه لا يعلم الغيب ، وأن ذلك ليس بطاعن في نبوته حتى يستيئسوا من تحديه بذلك ، وإعلاما للمسلمين بالتمييز بين ما تقتضيه النبوة وما لا تقتضيه ، ولذلك نفى عن نفسه معرفة أحواله المغيّبة ، فضلا على معرفة المغيبات من أحوال غيره إلّا ما شاء الله.
في «تفسير البغوي» ، عن ابن عباس : أن أهل مكة قالوا يا محمد ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فتشتري عند الغلاء ، وبالأرض التي تريد أن تجدب فترتحل