والرّحمة تقدّمت عند قوله تعالى : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) في سورة الفاتحة [٣].
(فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (٦٤))
وقع التّكذيب من جميع قومه : من قادتهم ، ودهمائهم ، عدا بعض أهل بيته ومن آمن به عقب سماع قول نوح ، فعطف على كلامه بالفاء أي صدر منهم قول يقتضي تكذيب دعوى أنّه رسول من ربّ العالمين يبلّغ وينصح ويعلم ما لا يعلمون ، فصار تكذيبا أعم من التّكذيب الأوّل ، فهو بالنّسبة للملإ يؤول إلى معنى الاستمرار على التّكذيب ، وبالنّسبة للعامة تكذيب أنف ، بعد سماع قول قادتهم وانتهاء المجادلة بينهم وبين نوح ، فليس الفعل مستعملا في الاستمرار كما في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ) [النساء : ١٣٦] إذ لا داعي إليه هنا ، وضمير الجمع عائد إلى القوم ، والفاء في قوله : (فَأَنْجَيْناهُ) للتّعقيب ، وهو تعقيب عرفي : لأنّ التّكذيب حصل بعده الوحي إلى نوح بأنّه لن يؤمن من قومه إلّا من قد آمن ، ولا يرجى زيادة مؤمن آخر ، وأمره بأن يدخل الفلك ويحمل معه من آمن إلى آخر ما قصّه الله في سورة هود.
وقدم الإخبار بالإنجاء على الإخبار بالإغراق ، مع أنّ مقتضى مقام العبرة تقديم الإخبار بإغراق المنكرين ، فقدم الإنجاء للاهتمام بإنجاء المؤمنين وتعجيلا لمسرة السّامعين من المؤمنين بأنّ عادة الله إذا أهلك المشركين أن ينجي الرّسول والمؤمنين ، فلذلك التّقديم يفيد التّعريض بالنّذارة ، وإلّا فإنّ الإغراق وقع قبل الإنجاء ، إذ لا يظهر تحقّق إنجاء نوح ومن معه إلّا بعد حصول العذاب لمن لم يؤمنوا به ، فالمعقّب به التّكذيب ابتداء هو الإغراق ، والإنجاء واقع بعده ، وليتأتى هذا التّقديم عطف فعل الإنجاء بالواو المفيدة لمطلق الجمع ، دون الفاء.
وقوله : (فِي الْفُلْكِ) متعلّق بمعنى قوله : (مَعَهُ) لأنّ تقديره : استقرّوا معه في الفلك ، وبهذا التّعليق علم أنّ الله أمره أن يحمل في الفلك معشرا ، وأنّهم كانوا مصدّقين له ، فكان هذا التّعليق إيجازا بديعا.
والفلك تقدّم في قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) في سورة البقرة [١٦٤].