قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) في سورة البقرة [٢٤٣].
والرؤية بصرية ، لأن عدم تكليم العجل إياهم مشاهد لهم ، لأن عدم الكلام يرى من حال الشيء الذي لا يتكلم ، بانعدام آلة التكلم وهو الفم الصالح للكلام ، وبتكرر دعائهم إياه وهو لا يجيب.
وقد سفه رأي الذين اتخذوا العجل إلها ، بأنهم يشاهدون أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا ، ووجه الاستدلال بذلك على سفه رأيهم هو أنهم لا شبهة لهم في اتخاذه إلها بأن خصائصه خصائص العجماوات ، فجسمه جسم عجل ، وهو من نوع ليس أرقى أنواع الموجودات المعروفة ، وصوته صوت البقر ، وهو صوت لا يفيد سامعه ، ولا يبين خطابا ، وليس هو بالذي يهديهم إلى أمر يتبعونه حتى تغني هدايتهم عن كلامه ، فهو من الموجودات المنحطة عنهم ، وهذا كقول إبراهيم (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) [الأنبياء : ٦٣] فما ذا رأوا منه مما يستأهل الإلهية ، فضلا على أن ترتقي بهم إلى الصفات التي يستحقها الإله الحق ، والذين عبدوه أشرف منه حالا وأهدى ، وليس المقصود من هذا الاستدلال على الألوهية بالتكليم والهداية ، وإلا للزم إثبات الإلهية لحكماء البشر.
وجملة : (اتَّخَذُوهُ) مؤكدة لجملة (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى) فلذلك فصلت ، والغرض من التوكيد في مثل هذا المقام هو التكرير لأجل التعجيب ، كما يقال : نعم اتخذوه ، ولتبنى عليه جملة (وَكانُوا ظالِمِينَ) فيظهر أنها متعلقة باتخاذ العجل ، وذلك لبعد جملة : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى) بما وليها من الجملة وهذا كقوله : (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ) ـ إلى قوله ـ (فَلْيَكْتُبْ) [البقرة : ٢٨٢] أعيد فليكتب لتبنى عليه جملة : (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ) [البقرة : ٢٨٢] ، وهذا التكرير يفيد مع ذلك التوكيد وما يترتب على التوكيد.
وجملة : (وَكانُوا ظالِمِينَ) في موضع الحال من الضمير المرفوع في قوله :(اتَّخَذُوهُ) وهذا كقوله في سورة البقرة [٥١] (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ).
(وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (١٤٩))
كان مقتضى الظاهر في ترتيب حكاية الحوادث أن يتأخر قوله : (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) الآية ، عن قوله : (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً) [الأعراف : ١٥٠] لأنهم