مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠))
بعد أن أبطل زعمهم أنّ الله أمرهم بما يفعلونه من الفواحش إبطالا عاما بقوله : (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) [الأعراف : ٢٨] استأنف استئنافا استطراديا بما فيه جماع مقوّمات الدّين الحق الذي يجمعه معنى القسط أي العدل تعليما لهم بنقيض جهلهم ، وتنويها بجلال الله تعالى ، بأنّ يعلموا ما شأنه أن يأمر الله به. ولأهميّة هذا الغرض ، ولمضادته لمدّعاهم المنفي في جملة : (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) [الأعراف : ٢٨] فصلت هذه الجملة عن التي قبلها ، ولم يعطف القول على القول ولا المقول على المقول : لأنّ في إعادة فعل القول وفي ترك عطفه على نظيره لفتا للأذهان إليه.
والقسط : العدل وهو هنا العدل بمعناه الأعمّ ، أي الفعل الذي هو وسط بين الإفراط والتّفريط في الأشياء ، وهو الفضيلة من كلّ فعل ، فالله أمر بالفضائل وبما تشهد العقول السّليمة أنّه صلاح محض وأنّه حسن مستقيم ، نظير قوله : (وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) [الفرقان : ٦٧] فالتّوحيد عدل بين الإشراك والتّعطيل ، والقصاص من القاتل عدل بين إطلال الدّماء وبين قتل الجماعة من قبيلة القاتل لأجل جناية واحد من القبيلة لم يقدر عليه. وأمر الله بالإحسان ، وهو عدل بين الشحّ والإسراف ، فالقسط صفة للفعل في ذاته بأن يكون ملائما للصّلاح عاجلا وآجلا ، أي سالما من عواقب الفساد ، وقد نقل عن ابن عبّاس أنّ القسط قول لا إله إلّا هو ، وإنّما يعني بذلك أنّ التّوحيد من أعظم القسط ، وهذا إبطال للفواحش التي زعموا أنّ الله أمرهم بها لأنّ شيئا من تلك الفواحش ليس بقسط ، وكذلك اللّباس فإنّ التّعري تفريط ، والمبالغة في وضع اللباس إفراط ، والعدل هو اللّباس الذي يستر العورة ويدفع أذى القرّ أو الحرّ ، وكذلك الطّعام فتحريم بعضه غلو ، والاسترسال فيه نهامة ، والوسط هو الاعتدال ، فقوله : (أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) كلام جامع لإبطال كلّ ما يزعمون أنّ الله أمرهم به ممّا ليس من قبيل القسط.
ثمّ أعقبه بأمر النبي صلىاللهعليهوسلم بأن يقول لهم عن الله : (أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) فجملة : (وَأَقِيمُوا) عطف على جملة : (أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) أي قل لأولئك المخاطبين أقيموا وجوهكم. والقصد الأوّل منه إبطال بعض ممّا زعموا أنّ الله أمرهم به بطريق أمرهم بضدّ ما زعموه ليحصل أمرهم بما يرضي الله بالتّصريح. وإبطال شيء زعموا أنّ الله أمرهم به بالالتزام ، لأنّ الأمر بالشّيء نهي عن ضدّه ، وإن شئت قلت لأنّ من يريد النّهي عن