اللّباس في الحجّ منه واجب ، وهو ما يستر العورة ، وما زاد على ذلك مباح مأذون فيه إبطالا لتحريمه ، وأمّا الأمر بالأكل والشّرب فهو للإباحة إبطالا للتّحريم ، وليس يجب على أحد أكل اللّحم والدّسم.
وقوله : (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) تعميم أي لا تخصّوا بعض المساجد بالتّعري مثل المسجد الحرام ومسجد منى ، وقد تقدّم نظيره في قوله : (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف : ٢٩]. وقد ظهرت مناسبة عطف الأمر بالأكل والشّرب على الأمر بأخذ الزّينة ممّا مضى آنفا.
والإسراف تقدّم عند قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً) في سورة النّساء [٦] ، وهو تجاوز الحدّ المتعارف في الشّيء أي : ولا تسرفوا في الأكل بكثرة أكل اللّحوم والدّسم لأنّ ذلك يعود بإضرار على البدن وتنشأ منه أمراض معضلة.
وقد قيل إنّ هذه الآية جمعت أصول حفظ الصّحة من جانب الغذاء فالنّهي عن السرف نهي إرشاد لا نهي تحريم بقرينة الإباحة اللّاحقة في قوله : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ) ـ إلى قوله ـ (وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) [الأعراف : ٣٢] ، ولأنّ مقدار الإسراف لا ينضبط فلا يتعلّق به التّكليف ، ولكن يوكل إلى تدبير النّاس مصالحهم ، وهذا راجع إلى معنى القسط الواقع في قوله سابقا : (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) [الأعراف : ٢٩] فإن ترك السّرف من معنى العدل.
وقوله : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) تذييل ، وتقدّم القول في نظيره في سورة الأنعام.
(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢))
استئناف معترض بين الخطابات المحكيّة والموجّهة ، وهو موضع إبطال مزاعم أهل الجاهليّة فيما حرّموه من اللّباس والطّعام وهي زيادة تأكيد لإباحة التستر في المساجد ، فابتدئ الكلام السابق بأنّ اللباس نعمة من لله. وثني بالأمر بإيجاب التستر عند كل مسجد ، وثلث بإنكار أن يوجد تحريم اللباس وافتتاح الجملة ب (قُلْ) دلالة على أنّه كلام مسوق للردّ والإنكار والمحاورة.
والاستفهام إنكاري قصد به التّهكّم إذ جعلهم بمنزلة أهل علم يطلب منهم البيان