التّقرير ، لأنّ نهي الله إيّاهما واقع فانتفاؤه منتفيا ، فإذا أدخلت أداة التّقرير وأقرّ المقرّر بضد النّفي كان إقراره أقوى في المؤاخذة بموجبه ، لأنّه قد هيئ له سبيل الإنكار ، لو كان يستطيع إنكارا ، كما تقدّم عند قوله تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) الآية في سورة الأنعام [١٣٠] ، ولذلك اعترفا بأنّهما ظلما أنفسهما.
وعطف جملة : (وَأَقُلْ لَكُما) على جملة : (أَنْهَكُما) للمبالغة في التّوبيخ ، لأنّ النّهي كان مشفوعا بالتّحذير من الشّيطان الذي هو المغري لهما بالأكل من الشّجرة ، فهما قد أضاعا وصيتين. والمقصود من حكاية هذا القول هنا تذكير الأمّة بعداوة الشيطان لأصل نوع البشر ، فيعلموا أنّها عداوة بين النّوعين ، فيحذروا من كلّ ما هو منسوب إلى الشّيطان ومعدود من وسوسته ، فإنّه لما جبل على الخبث والخزي كان يدعو إلى ذلك بطبعه وكان لا يهنأ له بال ما دام عدوّه ومحسوده في حالة حسنة.
والمبين أصله المظهر ، أي للعداوة بحيث لا تخفى على من يتتبّع آثار وسوسته وتغريره ، وما عامل به آدم من حين خلقه إلى حين غروره به ففي ذلك كلّه إبانة عن عداوته ، ووجه تلك العداوة أن طبعه ينافي ما في الإنسان من الكمال الفطري المؤيّد بالتّوفيق والإرشاد الإلهي ، فلا يحب أن يكون الإنسان إلّا في حالة الضّلال والفساد. ويجوز أن يكون المبين مستعملا مجازا في القوىّ الشّديد لأنّ شأن الوصف الشّديد أن يظهر للعيان.
وقد قالا : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) اعترافا بالعصيان ، وبأنّهما علما أن ضر المعصية عاد عليهما ، فكانا ظالمين لأنفسهما إذ جرّا على أنفسهما الدّخول في طور ظهور السوآت ، ومشقّة اتّخاذ ما يستر عوراتهما ، وبأنّهما جرّا على أنفسهما غضب الله تعالى ، فهما في توقع حقوق العذاب ، وقد جزما بأنّهما يكونان من الخاسرين إن لم يغفر الله لهما ، إمّا بطريق الإلهام أو نوع من الوحي ، وإمّا بالاستدلال على العواقب بالمبادئ ، فإنّهما رأيا من العصيان بوادئ الضر والشّر ، فعلما أنّه من غضب الله ومن مخالفة وصايته ، وقد أكدا جملة جواب الشّرط بلام القسم ونون التّوكيد إظهارا لتحقيق الخسران استرحاما واستغفارا من الله تعالى.
(قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤))