شأنهم في نفسه ، إذ اعتنوا بما يدل على ذواتهم بزيادة تقرير الدلالة في نفس السامع المعبر عنها في حكاية كلامهم بتأكيد الضمير في قوله : (وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ).
وبذلك تعلم أن المقام لا يصلح لاحتمال أنهم دلوا على رغبتهم في أن يلقوا سحرهم قبل موسى ، لأن ذلك ينافي إظهار استواء الأمرين عندهم ، خلافا لما في «الكشاف» وغيره ، ولذلك كان في جواب موسى إياهم بقوله : (أَلْقُوا) استخفاف بأمرهم إذ مكّنهم من مباداة إظهار تخييلاتهم وسحرهم ، لأن الله قوّى نفس موسى بذلك الجواب لتكون غلبته عليهم بعد أن كانوا هم المبتدئين أوقع حجة وأقطع معذرة ، وبهذا يظهر أن ليس في أمر موسى ـ عليهالسلام ـ إياهم بالتقدم ما يقتضي تسويغ معارضة دعوة الحق لأن القوم كانوا معروفين بالكفر بما جاء به موسى فليس في معارضتهم إياه تجديد كفر ، ولأنهم جاءوا مصممين على معارضته فليس الإذن لهم تسويغا ، ولكنهم خيروه في التقدم أو يتقدموا فاختار أن يتقدموا لحكمة إلهية تزيد المعجزة ظهورا ، ولأن في تقديمه إياهم إبلاغا في إقامة الحجة عليهم ، ولعل الله ألقى في نفسه ذلك ، وفي هذا دليل على جواز الابتداء بتقرير الشبهة للذي يثق بأنه سيدفعها.
وقوله (فَلَمَّا أَلْقَوْا) عطف على محذوف للإيجاز ، والتقدير : فألقوا. لأن قوله : (فَلَمَّا أَلْقَوْا) يؤذن بهذا المحذوف ، وحذف مفعول (أَلْقُوا) لظهوره ، أي : ألقوا آلات سحرهم.
ومعنى (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) : جعلوها متأثرة بالسحر بما ألقوا من التخييلات والشعوذة.
وتعدية فعل (سَحَرُوا) إلى (أَعْيُنَ) مجاز عقلي لأن الأعين آلة إيصال التخييلات إلى الإدراك ، وهم إنما سحروا العقول ، ولذلك لو قيل : سحروا الناس لأفاد ذلك ، ولكن تفوت نكتة التنبيه على أن السحر إنما هو تخيلات مرئية ، ومثل هذه الزيادة زيادة الأعين في قول الأعشى :
كذلك فافعل ما حييت إذا شتوا |
|
وأقدم إذا ما أعين النّاس تفرق |
أي إذا ما الناس تفرق فرقا يحصل من رؤية الأخطار المخيفة.
والاسترهاب : طلب الرهب أي الخوف. وذلك أنهم عززوا تخيلات السحر بأمور أخرى تثير خوف الناظرين ، لتزداد تمكن التخيلات من قلوبهم ، وتلك الأمور أقوال وأفعال