أَهْلَكْناها) في موضع أردنا إهلاكها بقرينة (فَجاءَها بَأْسُنا) والبأس الإهلاك.
والتّعبير عن إرادة الفعل بذكر الصّيغة التي تدلّ على وقوع الفعل يكون لإفادة عزم الفاعل على الفعل ، عزما لا يتأخّر عنه العمل ، بحيث يستعار اللّفظ الدّال على حصول المراد ، للإرادة لتشابههما ، وإمّا الإتيان بحرف التّعقيب بعد ذلك فللدّلالة على عدم التّريّث ، فدلّ الكلام كلّه : على أنّه تعالى يريد فيخلق أسباب الفعل المراد فيحصل الفعل ، كلّ ذلك يحصل كالأشياء المتقارنة ، وقد استفيد هذا التّقارن بالتّعبير عن الإرادة بصيغة تقتضي وقوع الفعل ، والتّعبير عن حصول السّبب بحرف التّعقيب ، والغرض من ذلك تهديد السّامعين المعاندين وتحذيرهم من أن يحلّ غضب الله عليهم فيريد إهلاكهم ، فضيّق عليهم المهلّة لئلا يتباطئوا في تدارك أمرهم والتّعجيل بالتّوبة. والذي عليه المحققون أنّ التّرتيب في فاء العطف قد يكون التّرتيب الذكريّ ، أي ترتيب الإخبار بشيء عن الإخبار بالمعطوف عليه. ففي الآية أخبر عن كيفيّة إهلاكهم بعد الخبر بالإهلاك ، وهذا التّرتيب هو في الغالب تفصيل بعد إجمال ، فيكون من عطف المفصّل على المجمل ، وبذلك سمّاه ابن مالك في «التّسهيل» ، ومثّل له بقوله تعالى : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً) [الواقعة : ٣٥ ، ٣٧] الآية. ومنه قوله تعالى : (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) [الزمر : ٧٢] ـ أو قوله ـ (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) [البقرة : ٣٦] لأنّ الإزلال عن الجنّة فصل بأنّه الإخراج ، وقوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) [القمر : ٥٤] وهذا من أساليب الإطناب وقد يغفل عنه.
والبأس ما يحصل به الألم ، وأكثر إطلاقه على شدّة الحساب ولذلك سمّيت الحرب البأساء ، وقد مضى عند قوله تعالى : (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ) في سورة البقرة [١٧٧] ، والمراد به هنا عذاب الدّنيا.
واستعير المجيء لحدوث الشّيء وحصوله بعد أن لم يكن تشبيها لحلول الشّيء بوصول القادم من مكان إلى مكان بتنقّل خطواته ، وقد تقدّم نظير هذا في قوله تعالى : (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا) في سورة الأنعام [٤٣].
والبيات مصدر بات ، وهو هنا منصوب على الحال من البأس ، أي جاءهم البأس مبيّتا لهم ، أي جاءهم ليلا ، ويطلق البيات على ضرب من الغارة تقع ليلا ، فإذا كان المراد من البأس الاستعارة لشدّة الحرب كما المراد من البيات حالة من حال الحرب ، هي أشدّ على المغزوّ ، فكان ترشيحا للاستعارة التّمثيليّة ، ويجوز أن يكون (بَياتاً) منصوبا على