ودعا الامام براحلته فركبها ، واتجه نحو معسكر ابن سعد ، وهو بتلك الهيبة التي تحكى هيبة جده الرسول ، فخطب فيهم خطابه التأريخي الذي هو من ابلغ واروع ما أثر في الكلام العربي ، وقد نادى بصوت عال يسمعه جلهم :
«أيها الناس : اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتى اعظكم بما هو حق لكم علي ، وحتى اعتذر إليكم من مقدمي عليكم فان قبلتم عذري ، وصدقتم قولي ، واعطيتموني النصف من انفسكم كنتم بذلك أسعد ، ولم يكن لكم علي سبيل ، وإن لم تقبلوا مني العذر ولم تعطوا النصف من انفسكم فاجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ، ثم اقضوا إلي ولا تنظرون ان ولي اللّه الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين»
ونقل الأثير كلماته إلى السيدات من عقائل النبوة وحرائر الوحي فتصارخن بالبكاء ، وارتفعت اصواتهن ، فبعث إليهن أخاه العباس وابنه عليا ، وقال لهما : سكتاهن فلعمري ليكثر بكاؤهن.
ولما سكتن استرسل في خطابه فحمد اللّه واثنى عليه وصلى على النبي (ص) وعلى الملائكة والأنبياء ، وقال في ذلك : ما لا يحصى ذكره ولم يسمع لا قبله ولا بعده ابلغ منه في منطقه (١) وقال :
«أيها الناس : إن اللّه تعالى خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال متصرفة بأهلها حالا بعد حال ، فالمغرور من غرته ، والشقي من فتنته ، فلا تغرنكم هذه الدنيا فانها تقطع رجاء من ركن إليها ، وتخيب طمع من
__________________
(١) تأريخ الطبري ٦ / ٢٤٢