أصول الفقه - ج ٧

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٧

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-72-0
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٩٢

ولا يخفى أنّ مسألة الدين والحج عند إجراء البراءة من الدين لا يكون في الطرف المقابل ـ أعني وجوب الحجّ ـ أصل مثبت للتكليف ، بل إنّ وجوب الحجّ يكون ثابتاً بواسطة تحقّق موضوعه ، الذي هو الاستطاعة وعدم اشتغال الذمّة بدين مقابل لما في يده من المال ، كما قاله في صدر كلامه من كون التكليف في أحد الطرفين مشروطاً بعدم التكليف في الآخر. وليت [ شعري ] كيف يعاهد من الأصل النافي بأن يقال له إنّ الغرض من إجرائك هو مجرّد الاثبات ، وبعد إثبات الطرف الآخر تعود فتكون محقّقاً للعذر ، هذه أُمور لا تخفى على الأُستاذ قدس‌سره ، وكأنّه لأجل ذلك قال : « ولكنّه كما ترى » بناءً على رجوعه إلى الجميع ، لا إلى خصوص قوله : « كما أنّه لو بنينا » فلاحظ.

وفي الحقيقة ليس أمثال هذه المقامات من قبيل العلم الاجمالي وإن كانت بصورته. ولو جمدنا على صورة المسألة وأنّها من قبيل العلم الاجمالي ، لقلنا إنّ هذا العلم الاجمالي مولّد من الشكّ في وجوب أداء الدين ، فإذا جرى الأصل النافي في الوجوب المذكور ارتفع العلم الاجمالي حتّى لو كان النافي هو البراءة ، بناءً على كون وجوب الحج تابعاً لعدم تنجّز وجوب أداء الدين ، كما أنّه لو جرى الأصل المثبت لوجوب أداء الدين ، سواء كان من قبيل الاستصحاب أو كان من قبيل أصالة الاشتغال ، كان ذلك كافياً في ارتفاع وجوب الحج الموجب لارتفاع العلم الاجمالي.

وبالجملة : ليس الشكّ في وجوب أداء الدين متولّداً من العلم الاجمالي ، بل ولا من قبيل الشكّ السابق على العلم الاجمالي أو المقارن له ، بل إنّ العلم الاجمالي هنا متولّد عن الشكّ في وجوب أداء الدين ، فإذا جرى الأصل في الشكّ المذكور ارتفع العلم الاجمالي وتعيّن أحد طرفيه ، فلو كان الأصل هو البراءة تعيّن

٣٨١

وجوب الحج ، وإن كان الأصل مثبتاً لوجوب الدين أو قاضياً بتنجّزه تعيّن وجوب أداء الدين ، وكان وجوب الحجّ منتفياً.

وأنت من هذا التقريب تعرف أنّه لا يتوجّه على البراءة في المقام أنّها خلاف الامتنان لأنّها توجب عليه الحج ، وذلك لما عرفت من كونها رافعة لوجوب أداء الدين وكفى بذلك منّة ، وإن كان ذلك أعني البراءة من وجوب الدين موضوعاً لوجوب الحجّ فكانت محقّقة لوجوب الحجّ ، فلاحظ وتدبّر.

لا يقال : قد ذكرتم أنّ العلم التفصيلي والأمارة والأصل الاحرازي في أحد الأطراف توجب انحلال العلم ، والاستصحاب هنا ـ أعني أصالة عدم الاتيان بالسجدة ـ يقوم مقام العلم التفصيلي بعدم الاتيان بها ، فيكون بمنزلة العلم التفصيلي بعدم الاتيان بها ، فينحلّ العلم الاجمالي ، فلا مانع من الرجوع في الطرف الآخر وهو الركوع إلى الأصل النافي وهو قاعدة الفراغ.

لأنّا نقول : نعم ولكن قلنا إنّ العلم التفصيلي المتولّد من العلم الاجمالي لا يوجب انحلال العلم الاجمالي كما شرحوه في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ، والاستصحاب في هذا المقام ـ أعني أصالة عدم الاتيان بالسجدة ـ يكون جريانه في المقام متوقّفاً على الشكّ في الاتيان بها ، وهو ـ أعني الشكّ المذكور ـ متولّد من العلم الاجمالي ، حيث إنّ العلم الاجمالي بترك واحد من الأمرين المذكورين ـ أعني الركوع والسجدة ـ هو الموجب والعلّة في كون كلّ منهما مشكوكاً ، فيكون الاستصحاب المذكور متأخّراً رتبة عن العلم الاجمالي ، فلا يعقل انحلاله به ، كما لا يعقل انحلاله بالعلم التفصيلي المتولّد من العلم الاجمالي.

ولا يخفى أنّ هذا الذي أفاده فيما تقدّم نقله عن المقالة يمكن انطباقه على ما نحن فيه ، من جهة أنّ التكليف بالسجدة مشروط بعدم وجوب الاعادة ،

٣٨٢

وقاعدة الفراغ في الركوع لمّا كانت قاضية بعدم الاعادة ، كانت منقّحة لموضوع وجوب السجدة. لكن في تحرير الشيخ محمّد تقي البروجردي (١) فسّره بمسألة الدين ووجوب الحج.

وعلى كلّ حال ، نحن مع قطع النظر عن كلّ ما قدّمناه ، ومع تسليم أنّ أصالة البراءة أو قاعدة الفراغ في الركن توجب الإثبات في الطرف الآخر ، لم يكن ذلك مبرّراً لجريان البراءة ولا لقاعدة الفراغ في الركن ، لأنّ أقصى ما في البين هو إجراء الأصل النافي في أحد الطرفين مع كون الطرف الآخر مجرى للأصل المثبت ، وينبغي ملاحظة المستمسك ج ٥ ص ٣٩٩ (٢).

قوله : أمّا انتفاء الشاهد من ناحية الدليل فهو ممّا لا يكاد يخفى ، فإنّ دليل اعتبار كلّ أصل من الأُصول العملية إنّما يقتضي جريانه عيناً ... الخ (٣).

غاية ما يمكن أن يوجّه به الفرق بين ما نحن فيه وبين ما تقدّم من المثال ، أعني قول المولى : أكرم العلماء ، مع قوله : لا تكرم زيداً ولا تكرم عمراً ، هو أنّه في المثال يوجد لنا دليل مجمل ، وهو الدليل الخاصّ الذي أخرج زيداً وعمراً عن العموم ، لتردّد الأمر فيه بين كون إخراج زيد وعمرو إخراجاً مطلقاً ، أو أنّ إخراج كلّ منهما مقيّد بعدم إكرام الآخر ، وهذه الجهة مفقودة فيما نحن فيه ، لأنّ المخرج لكلّ من طرفي العلم الاجمالي عن عموم الأصل النافي هو حكم العقل بالمنع عن المخالفة القطعية ، وهذا الحكم العقلي لا تردّد فيه بين الوجهين المذكورين.

__________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٣١٥.

(٢) مستمسك العروة الوثقى ٧ : ٦٢٢ ـ ٦٢٣.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٣١.

٣٨٣

وفيه تأمّل ، فإنّ تلك الخصوصية ـ أعني كون الدليل الخاصّ لفظياً وكونه مجملاً ـ أجنبية عن كون المقام من قبيل التخصيص أو من قبيل التقييد ، لما هو واضح من أنّه بعد البناء على أنّ عموم الأصل النافي شامل في حدّ نفسه لكلّ واحد من الطرفين ، وأنّ الحكم العقلي لا يمنع إلاّمن اجتماع الطرفين في الدخول تحت ذلك العموم ، وحينئذ نقول : إنّ الفرار عن ذلك اللازم الذي منعه العقل وهو المخالفة القطعية كما يحصل بما ذكرتموه من التعارض وإسقاط العموم في كلّ واحد من الطرفين إسقاطاً مطلقاً ، فكذلك يحصل بتقييد إجراء العموم في كلّ منهما بعدم إجرائه في الطرف الآخر.

وبعبارة [ أُخرى ] أنّ التخلّص عن المخالفة القطعية كما يحصل باخراج كلّ من الطرفين عن العموم ، الذي هو عبارة عمّا ذكرتموه من التعارض والتساقط ، فكذلك يحصل التخلّص المذكور بإخراج كلّ منهما عن العموم مقيّداً باجراء العموم في الآخر ، وحيث إنّه قد دار الأمر بين إخراج كلّ من الطرفين إخراجاً مطلقاً ، أو إخراج كلّ منهما مقيّداً باجراء العموم في الآخر ، فلا ريب أنّ مقتضى أصالة العموم هو تعيّن الثاني للتخلّص من المخالفة القطعية ، لأنّ الوجه الثاني أقلّ تخصيصاً من الأوّل.

وبعبارة أُخرى : أنّا لو أسقطنا العموم في الاناء الصغير مثلاً ، نشكّ في شمول العام للاناء الكبير ، ولا ريب أنّ مقتضى أصالة العموم هو شموله له ، والقدر المتيقّن من خروج الاناء الكبير عن ذلك العموم إنّما هو عند إجراء العموم المذكور في الاناء الصغير. وهكذا الحال من طرف العكس.

ومن ذلك كلّه يتّضح لك التأمّل فيما أُفيد من منع جريان الطريقة الثانية ،

٣٨٤

فإنّ ما اشتمل عليه التقرير المذكور (١) وكذا التقرير المطبوع في صيدا (٢) ممّا حاصله امتناع الحكم الظاهري فيما نحن فيه ثبوتاً ، وأنّه لا دليل على التخيير الخ ، لعلّه راجع إلى أنّ نفس العلم الاجمالي مانع من جريان [ الأصل ] ، لا أنّ التعارض هو المانع. وكذا ما حرّرناه عنه قدس‌سره من أنّ نفس المجعول في الأُصول النافية لم يكن مشروطاً بالقدرة ، وأنّه لو سلّمنا كونه مشروطاً بها فليس إجراء الأصل في أحد الطرفين موجباً لسلب القدرة عن إجرائه في الطرف الآخر ، كلّ ذلك ممّا لم أتوفّق لفهمه ، إذ ليس المدار في التخيير في باب التزاحم على مسألة القدرة وعدمها ، بل إنّ الأمر أوسع من ذلك ، فإنّا لو بنينا على أنّ الممنوع ليس هو إجراء الأصل النافي في هذا الطرف واجراءه في الطرف الآخر ، بل الممنوع هو الجمع بينهما ، لأنّه موجب للمخالفة القطعية ، فهذه الجهة ـ أعني المخالفة القطعية ـ إنّما هي وليدة الجمع بين الأصلين ، ومن الواضح أنّ الجمع بين الأصلين لم يتولّد من نفس إجراء الأصل في هذا واجرائه في ذاك ، وإنّما هو ـ أعني الجمع ـ متولّد من إطلاق كلّ من الأصلين ، فإذا كان إسقاط الاطلاقين كافياً في دفع هذه الغائلة ، فأي داع إلى إسقاط نفس الأصلين في كلّ من الطرفين ، فتأمّل.

فيكون حال ما نحن فيه في كيفية توليد التخيير حال ما أفاده قدس‌سره في مسألة المتزاحمين في باب الترتّب ، من أنّ الممنوع وهو التكليف بغير المقدور هو وليد الجمع بين الأمرين ، والجمع بينهما وليد بقاء إطلاق كلّ من الخطابين ، وإذا أسقطنا الاطلاق من كلّ منهما ارتفع المحذور المذكور ، وبذلك ردّ على القائلين بسقوط التكليفين واستكشاف خطاب جديد تخييري بينهما ، فراجع وتأمّل.

وبالجملة : أنّ التخيير بين الشيئين نتيجة قهرية لما يكون مانعاً عن الجمع

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٣١ ، أجود التقريرات ٣ : ٤١٩.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٣١ ، أجود التقريرات ٣ : ٤١٩.

٣٨٥

بينهما في الدخول تحت عام من العمومات ، من أيّ مقولة كان الشيئان ، ومن أي مقولة كان المانع من الجمع بينهما. وليس المراد من التخيير بينهما هو لزوم أحدهما ، بل هو أعم منه ومن تركهما فتأمّل.

وإن شئت قلت : إنّ الفرار من لزوم المخالفة القطعية الحاصلة من إبقاء كلّ من طرفي العلم الاجمالي تحت عموم الأصل النافي يحصل بأحد أُمور ثلاثة : الأوّل : إسقاط العموم ابتداءً في كلّ منهما وإخراجهما معاً عن ذلك العموم. الثاني : تقييد العموم في كلّ منهما بعدم إجرائه في الآخر. الثالث : إخراج واحد وإبقاء الآخر.

ولا مجال للأوّل ، لأنّه إسقاط للعموم في أحدهما بلا وجه. وحينئذ يدور الأمر بين الثاني الذي هو عبارة عن التخيير في اجراء العموم بينهما ، والثالث الذي يكون حاصله التساقط ببرهان أنّه لا معنى لخروج أحدهما غير المعيّن ، والتعيين ترجيح بلا مرجّح ، فيحصل التساقط. ونحن لو لم نرجّح الثاني على الثالث ببرهان تقدّم التقييد على التخصيص ، فلا أقل من التساوي بين الاحتمالين ، فتكون النتيجة هي التخيير العقلي ، وبذلك يحصل الفرار من المحذور الذي هو المخالفة القطعية ، فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ هذه النظرية يمكن إعمالها في تعارض الخبرين ، ويكون شمول عموم دليل الحجّية لكلّ منهما الذي نتيجته الحكم بحجّية كلّ منهما ممنوعاً عقلاً ، لتكاذبهما وعدم إمكان تصديقهما ، فيتولّد من ذلك عدم إمكان الجمع بينهما في الحجّية ، فيحكم بخروج أحدهما عن الحجّية الذي يكون نتيجته التساقط ، أو تقييد شمول دليل الحجّية لكلّ منهما مقيّداً بعدم الآخر وهو ينتج التخيير.

٣٨٦

ولا يخفى أنّ هذه الطريقة لا يرد عليها أنّه قبل إجراء الحكم في كلّ منهما يكون القيد لكلّ منهما حاصلاً ، فيكون اللازم هو فعلية الترخيص فيما نحن فيه بالنسبة إلى كلّ منهما ، فيعود محذور الترخيص في المعصية. والجواب عنه هو الجواب عن إشكال الأمر بالضدّين في الترتّب من جهة واحدة أو من الجهتين عند التساوي ، من أنّ المشروط لا ينقلب مطلقاً عند تحقّق شرطه ، فراجع (١). والعجب ممّن منع من الترتّب بدعوى بقاء محذور الأمر بالضدّين ، كيف أفاد في هذا المقام ما أفاده من إمكان التقييد في الترخيصين.

والحاصل : أنّ هذه القاعدة جارية في كلّ شيئين قام الدليل على عدم الجمع بينهما ، فتشمل باب تعارض الخبرين وباب التزاحم وباب تعارض الأُصول ، سواء كان الموجب لتعارضهما وعدم إمكان الجمع بينهما هو لزوم المخالفة القطعية ، أو كان هو المناقضة للإحراز الوجداني بخلافهما ، كما في مثل استصحابي النجاسة على ما أفاده شيخنا قدس‌سره في الأُصول الاحرازية الجارية في أطراف العلم الاجمالي ، أو على ما عن الشيخ قدس‌سره من كون المانع هو المخالفة الالتزامية.

بل إنّ هذه القاعدة جارية حتّى في مثل حرمة الجمع بين الأُختين في قبال عموم قوله تعالى : ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ )(٢) بالنسبة إلى كلّ واحدة منهما ، فإنّه بناءً على الالتزام في مثل ذلك بخروج أحد الفردين تكون النتيجة هي التعارض والتساقط ، ولم يلتزم به أحد في ذلك ونحوه من موارد حرمة الجمع ،

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٥٧ ( المقدّمة الثانية ) و ٨٠ وما بعدها. وراجع أيضاً المجلّدالثالث من هذا الكتاب ص ٣٧٩ وما بعدها.

(٢) النساء ٤ : ٣.

٣٨٧

بل التزموا بالتخيير المبني على التصرّف في العموم الأحوالي ، لتكون النتيجة هي جواز نكاح كلّ منهما مقيّداً بعدم نكاح الأُخرى.

نعم ، في تعارض الخبرين خصوصية توجب كونه من قبيل التساقط لا التخيير ، وتلك الخصوصية هي ما أشار إليه في الكفاية بقوله : فصل ، التعارض وإن كان لا يوجب إلاّسقوط أحد المتعارضين عن الحجّية رأساً ، حيث لا يوجب إلاّ العلم بكذب أحدهما ، فلا يكون هناك مانع عن حجّية الآخر ، إلاّ أنّه حيث كان بلا تعيين ولا عنوان واقعاً الخ (١) وتلك الخصوصية هي أنّ المقام ليس من قبيل مجرّد منع الجمع ، بل إنّ علّة منع الجمع في الحجّية بينهما هو العلم بأنّ أحدهما غير مطابق للواقع ، فلا يشمله دليل الحجّية ، فيكون دليل الحجّية مقصوراً على الآخر ، وحيث إنّه لا معنى لحجّية أحدهما المبهم ، ولا دليل على التعيين لكونه حينئذ ترجيحاً بلا مرجّح ، وقع التعارض بينهما والتساقط ، مع الاحتفاظ بحجّية أحدهما بالمقدار الذي يترتّب عليه من نفي الثالث ، فيكون نفيه به لا بهما.

وهذا المعنى لو تمّ يجري في باب الأُصول أيضاً ، إذ لا ريب في عدم شمول دليل حجّية الأصل لما علم كونه غير مطابق للواقع حتّى الاحتياط ، ومن المعلوم أنّه عند العلم الاجمالي يكون أحد الأصلين غير مطابق للواقع ، فلا يشمله دليل ذلك الأصل ، وحينئذ ينتهي الأمر إلى التساقط.

ولكن يمكن المناقشة في هذا المبنى ، فإنّ الخبر الجامع لشرائط الحجّية محكوم بأنّه حجّة بأصالة العموم في دليل الحجّية ، والعلم الاجمالي بكذب أحد الخبرين لا أثر له بالنسبة إلى كلّ واحد منهما بخصوصه ، إلاّ الشكّ في كونه هو الغير المطابق ، فيكون ذلك العلم الاجمالي محقّقاً لكون كلّ منهما موضوعاً

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٤٣٩.

٣٨٨

للحجّية ، فإنّ موضوعها هو ما لم يعلم مطابقته ، إلاّعلى تلك الشبهة التي تقدّم الكلام عليها وهي الشبهة المصداقية ، بدعوى الشكّ في كلّ منهما أنّه مصداق ذلك المعلوم مخالفته للواقع ، وقد عرفت أنّه لا يتصوّر الشكّ في المعلومية.

وليس المقام من قبيل دوران الأمر بين الحجّية وغيرها ، لأنّ ذلك في غير هذه الصورة ، أعني صورة العلم بأنّ أحدهما مخالف للواقع ، وتلك الصورة فيما إذا علم أنّ أحد الخبرين غير حجّة لجهة أُخرى ، مثل أن يكون أحدهما فاقداً لشرائط الحجّية واشتبه بغيره ممّا هو جامع لها ، بأن علم بأنّ الراوي لأحد الخبرين كان فاسقاً واشتبه بغيره الذي كان راويه عادلاً ، سواء كان مؤدّاهما واحداً أو كان مؤدّاهما مختلفاً ، بأن كان أحدهما في باب الطهارة مثلاً والآخر في باب المواريث ، فيكون التمسّك بدليل الحجّية في كلّ منهما تمسّكاً بالعموم في الشبهة المصداقية في ناحية العام بعد اعتبار شرائط الحجّية فيه أعني خبر العادل مثلاً.

ومثل ذلك ما لو علم بأنّ أحد هذين الخبرين الوارد أحدهما في باب الطهارة والآخر في باب المواريث كاذب ، مع كونه في حدّ نفسه واجداً لشرائط الحجّية ، فإنّ الظاهر أنّه من قبيل اشتباه الحجّة باللاّحجّة لا من قبيل التعارض ، وإن أمكن جعله من باب التعارض بدعوى عدم الفرق فيه بين كون العلم بكذب أحدهما ناشئاً عن تكاذبهما ، أو كونه ناشئاً عن اتّفاق العلم بأنّ أحدهما كاذب ، فتأمّل.

واعلم أنّ الأصل في هذا المطلب الذي أفاده في الكفاية هو ما أفاده الشيخ قدس‌سره ، فإنّه بعد أن أفاد أنّ مقتضى القاعدة هو التخيير قال : لكن هذا كلّه على تقدير أن يكون العمل بالخبر من باب السببية ـ إلى أن قال ـ أمّا لو جعلناه من باب

٣٨٩

الطريقية كما هو ظاهر أدلّة حجّية الأخبار بل غيرها من الأمارات ، بمعنى أنّ الشارع لاحظ الواقع وأمر بالتوصّل إليه من هذا الطريق ، لغلبة إيصاله إلى الواقع ، فالمتعارضان لا يصيران من قبيل الواجبين المتزاحمين ، للعلم بعدم إرادة الشارع سلوك الطريقين معاً ، لأنّ أحدهما مخالف للواقع قطعاً ، فلا يكونان طريقين إلى الواقع ، ولو فرض محالاً إمكان العمل بهما ، كما يعلم إرادته لكلّ من المتزاحمين في نفسه على تقدير إمكان الجمع ـ إلى أن قال ـ فإذا تعارض خبران جامعان لشرائط الحجّية لم يعقل بقاء تلك المصلحة في كلّ منهما ( يعني مصلحة الإيصال إلى الواقع في كلّ منهما ) بحيث لو أمكن الجمع بينهما أراد الشارع إدراك المصلحتين ، بل وجود تلك المصلحة في كلّ منهما بخصوصه مقيّد بعدم معارضته بمثله ، ومن هنا يتّجه الحكم حينئذ بالتوقّف ، فراجعه ـ إلى قوله قدس‌سره ـ هذا ما تقتضيه القاعدة في مقتضى وجوب العمل بالأخبار من حيث الطريقية (١).

ولا يبعد أنّ مطلب الكفاية مأخوذ من قوله : للعلم بعدم إرادة الشارع سلوك الطريقين معاً ، لأنّ أحدهما مخالف للواقع قطعاً. لكن العبارة مشتملة على مطلب آخر لعلّه هو السبب في دعوى عدم إرادة الشارع لكلّ منهما ، وهو وحدة الملاك الذي هو الوصول إلى الواقع ، حتّى أنّ المكلّف لو أمكنه العمل بهما معاً فالشارع لا يريد إلاّ أحدهما.

ولا يخفى أنّا لو نظرنا إلى الجهة الأُولى وهي العلم بأنّ أحدهما مخالف للواقع ، كانت هذه الجهة جارية في الأُصول المتعارضة في باب العلم الاجمالي ، للعلم بأنّ أحدها خارج عن دليل حجّية الأُصول ، للعلم بأنّ أحدها مخالف للواقع. ولو نظرنا إلى الجهة الثانية كانت غير جارية في الأُصول المذكورة ،

__________________

(١) فرائد الأُصول ٤ : ٣٧ ـ ٣٩.

٣٩٠

لإمكان إرادة الشارع الأصلين معاً لو أمكن العمل بهما ولم يلزم من الجمع بينهما محذور المخالفة القطعية ونحوه ، والفرق هو وحدة المؤدّى في الخبرين المتعارضين على وجه نعلم أنّ الشارع لا يريد إلاّ أحد الطريقين ، بخلاف الأُصول في باب العلم الاجمالي فإنّ المؤدّى فيها متعدّد ، على وجه يمكن للشارع إرادة الجميع لو أمكن الجمع بينها. نعم لو كان المؤدّى والمورد واحداً في باب الأُصول كما في مسألة تعاقب الحالتين على شيء واحد بالطهارة والنجاسة مثلاً ، كان حال الأصلين في هذه الجهة حال الخبرين المتعارضين ، فتأمّل.

وكيف كان ، فحيث تحقّق أنّه في مسألة تعارض الخبرين لا يكون لنا إلاّ طريق واحد ، ولو من جهة القطع بأنّ الشارع لم يجعل لتلك الواقعة الواحدة طريقين مختلفين ، لا تكون المسألة منتهية إلى احتمال تقييد كلّ من الطريقين بعدم الآخر كي يتولّد من ذلك التخيير بينهما ، بل لا تكون المسألة إلاّمن باب التعارض والتساقط ببرهان عدم معقولية حجّية أحدهما غير المعيّن ، والتعيين ترجيح بلا مرجّح فيتساقطان ، وهو الذي أراده الشيخ قدس‌سره بقوله : ومن هنا يتّجه الحكم حينئذ بالتوقّف ـ إلى قوله ـ فيتساقطان من حيث جواز العمل الخ (١).

وقد أجاب المرحوم الأُستاذ العراقي قدس‌سره عن إجراء هذه القاعدة في تعارض الخبرين ـ بعد أن سجّلها في تعارض الأُصول بناءً على الاقتضاء ص ١٢ وص ٧٠ من مقالته (٢) ـ باباء الاطلاق عن مثل هذا التقييد لعدم معهوديته ، فراجع ما أفاده في بيان هذا الجواب في ص ١٩٢ (٣)

__________________

(١) فرائد الأُصول ٤ : ٣٨ ـ ٣٩.

(٢) مقالات الأُصول ٢ : ٣٤ و ١٩٤.

(٣) مقالات الأُصول ٢ : ٤٦٩ ـ ٤٧٠.

٣٩١

ثمّ إنّه قد تقدّم في هذا التحرير :

قوله : فمن الأوّل ما إذا ورد عام كقوله : أكرم العلماء ، وعلم بخروج زيد وعمرو عن العام ولكن شكّ في أنّ خروجهما هل هو على وجه الاطلاق ... الخ (١).

ولا يخفى أنّه لو كان الشكّ بهذه الصورة التي أفادها ، يكون المتعيّن هو التخيير في قبال الحكم بخروجهما معاً ، وحينئذ يخرج عمّا هو محلّ الكلام من الدوران بين التخيير والتعارض ، ولو أردنا جعله ممّا نحن فيه لابدّ لنا من فرض المسألة بصورة أُخرى ، بأن نفرض حصول العلم بأنّ المولى لا يريد الجمع في الاكرام بين زيد وعمرو ، فإن كان الخارج هو أحدهما كانت النتيجة هي معارضة العام في كلّ منهما به في الآخر ، لأنّ إخراج مفهوم أحدهما لا محصّل له ، وإخراج زيد دون عمرو أو العكس ترجيح بلا مرجّح ، فتكون النتيجة هي التعارض في العام بالنسبة إلى كلّ منهما والتساقط والرجوع في كلّ منهما إلى الأُصول ، نظير ما لو كان الخارج هو زيداً وتردّد بين شخصين بالشبهة المفهومية أو بالشبهة المصداقية. وإن كان الخارج هو كلاً منهما في حال الإقدام على إكرام الآخر ، كانت النتيجة هي التخيير ، ثمّ نرجّح الطريقة الثانية لكون التخصيص فيها أحوالياً على الأُولى لكون التخصيص فيها أفرادياً.

ومن ذلك يظهر لك : أنّ القول بالتساقط في المثال الآتي ـ أعني مثال عدم القدرة ـ إنّما هو مبني على التخصيص الأفرادي في أحد الغريقين ، والقول بالتخيير فيه إنّما هو مبني على الأخذ بالتخصيص الأحوالي.

ثمّ لا يخفى أنّ التخصيص الأحوالي إنّما يقدّم على الأفرادي فيما لو دار

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٩.

٣٩٢

الأمر في شخص واحد أنّه خرج بقول مطلق ، أو أنّه خرج في حال خاصّة دون جميع الأحوال. أمّا ما نحن فيه من الدوران بين شخصين ، الناشئ عن مجرّد عدم إمكان الجمع بينهما في الدخول تحت العام ، فلا يكون من هذا القبيل ، بل هو من قبيل الدوران بين التخصيص الأحوالي في كلّ منهما وبين التخصيص الأفرادي في أحدهما ، فيكون من قبيل دوران الأمر بين تخصيصين أحواليين وبين تخصيص واحد أفرادي وارد على أحدهما. نعم لنا أن نقول : إنّ ذلك الواحد الذي قد خرج يكون خروجه مردّداً بين الخروج المطلق ، أو الخروج في خصوص حال إجراء حكم العام في الآخر ، والمتعيّن هو الثاني ، لكن ذلك لا يخرجه عن كونه من الترديد بين تخصيص واحد أفرادي وبين تخصيصين أحواليين.

ثمّ لا يخفى أنّ التخصيص الواحد الأفرادي لم يكن عبارة عن إخراج أحدهما ولو معيّناً مطلقاً ، بل هو إخراج لأحدهما مع إبقاء الآخر ، فلو قلنا إنّ الخارج عن هذا العموم هو الآنية الكبرى مثلاً مع إبقاء الصغرى تحت هذا العموم كان محصّله هو الامتناع عن الكبرى عند إجراء العموم في الصغرى ، فيكون الحاصل هو إخراج الكبرى عن العموم مقيّداً باجراء العموم في الصغرى وارتكابها ، فلا يكون ذلك إخراجاً للكبرى بقول مطلق ، بل هو إخراج لها في حال ارتكاب الصغرى ، فتكون النتيجة متّحدة مع التخصيص الأحوالي في قلّة التخصيص ، فإذا أجرينا عملية التخصيص الأحوالي من الجهتين ، كان التخصيص فيها أكثر منه في الحكم بإخراج أحدهما وإبقاء الآخر ، من دون فرق في ذلك بين أن نقول إنّ خروج كلّ منهما يكون مقيّداً ببقاء الآخر ، أو نقول إنّ بقاء كلّ منهما تحت العموم يكون مقيّداً بإخراج الآخر ، فإنّ الحكم بكون بقاء الكبرى تحت

٣٩٣

العموم مثلاً مقيّداً بإخراج الصغرى لازمه أنّ الكبرى خارجة عن العموم عند بقاء الصغرى تحته ، وهكذا الحال من طرف العكس ، وحينئذ تكون النتيجة أنّ كلاً منهما خارجة عن العموم عند العمل به في الأُخرى ، وذلك أكثر تخصيصاً فيما لو تخلّصنا عن محذور الجمع بإخراج أحدهما فقط وإبقاء الآخر ، فراجع ما في المقالة ص ١٢ وص ٧٠ (١).

والإنصاف : أنّ إقحام احتمال إخراج أحدهما هو الذي أوجب الإشكال في المسألة ، ولا محصّل لاخراج الواحد الكلّي بمعنى مفهوم الواحد ، ولا الواحد الشخصي المردّد نظير النكرة على رأي صاحب الفصول (٢) ، ولا الواحد الشخصي المعيّن ، إذ لا دليل على ذلك ، وليست المسألة إلاّمن وادي قيام الدليل العقلي أو النقلي على عدم الجمع في ذلك الحكم المستفاد من العام في الشخصين ، وهذا الجمع إنّما ينشأ عن إطلاق الحكم في كلّ منهما ، فيكون الساقط هو الاطلاق المزبور ، وتكون النتيجة هي التخيير في تمام موارد هذا الضابط إلاّباب تعارض الخبرين ، للعلم الخارجي بأنّه ليس لمجرّد عدم إمكان الجمع ، بل إنّه لعدم كون المجعول إلاّ أحدهما كما أشار إليه الشيخ قدس‌سره (٣) ، فتأمّل.

وكيف كان ، فهذه الجهة إن كانت هي المولّدة للتخيير فهي موجودة في أطراف العلم الاجمالي ، وإن كان المولّد للتخيير هو ما ذكره الأُستاذ العراقي قدس‌سره من تقدّم التخصيص الأحوالي على التخصيص الأفرادي ، كان ذلك أيضاً موجوداً في أطراف العلم الاجمالي.

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٣٤ و ١٩٤.

(٢) الفصول الغروية : ١٦٣.

(٣) فرائد الأُصول ٤ : ٣٨.

٣٩٤

ثمّ إنّ التعارض على تقدير القول بإخراج أحدهما وبقاء الآخر إنّما جاء من قبل كون إجراء العموم في هذا بعينه ترجيحاً بلا مرجّح ، وهذا بعينه متأت على تقدير التقييد ، بأن نقول بأنّه يجوز ارتكاب كلّ منهما عند الاجتناب عن الآخر ، فإنّ أيّ واحد منهما يريد أن يجعله مورداً للعموم وجواز الارتكاب يكون اختياره ترجيحاً بلا مرجّح. نعم في مثل الغريقين لابدّ من الاختيار ، للوجوب الموجود في البين المانع من إسقاطهما ، بخلاف أحد طرفي العلم الاجمالي بالحرمة في البين فتأمّل.

وأمّا مسألة الجمع بين الأُختين فليس المانع هو عدم إمكان الجمع عقلاً ، بل هو حرمة الجمع شرعاً ، وهي عبارة أُخرى عن الحكم الشرعي بأنّه يجوز له العقد على الواحدة المعيّنة منهما عند عدم العقد على الأُخرى ، وأنّ الحرام هو العقد عليها في ظرف كون الأُخرى معقوداً عليها ، فلا تنتهي النوبة فيه إلى الترجيح بلا مرجّح ، فتأمّل جيّداً.

ثمّ إنّه تقدّم لشيخنا قدس‌سره عبارة في كيفية التعارض في الأُصول حاصلها : أنّ نسبتها إلى كلّ واحد من الأطراف على حدّ سواء ، ولا يمكن أن تجري في الجميع لأنّه يلزم المخالفة القطعية ، ولا في الواحد المعيّن لأنّه يلزم الترجيح بلا مرجّح ، ولا في الواحد لا بعينه لأنّ الأُصول إنّما تجري في كلّ طرف بعينه ، ومقتضى ذلك هو سقوط الأُصول بالنسبة إلى جميع الأطراف (١).

وهذا المفاد هو عبارة عن كيفية التعارض والتساقط بين المتعارضين ، سواء كانا من الأُصول العملية في أطراف العلم الاجمالي ، أو كانا من قبيل الأخبار ، أو كانا من سائر الأمارات. ولعلّه هو المراد أيضاً من عبارة الكفاية التي تقدّم نقلها

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٥.

٣٩٥

أعني قوله : لم يكن واحد منهما حجّة في خصوص مؤدّاه ، لعدم التعيين في الحجّية أصلاً الخ (١) ، فإنّ عدم حجّية كلّ منهما في خصوص مؤدّاه لعدم إمكان الجمع ، فلابدّ أن يكون الحجّة هو أحدهما ، وحيث إنّ تعيينه في أحدهما المعيّن ترجيح بلا مرجّح ، فترجع النوبة حينئذ إلى التعارض والتساقط.

ولا يخفى أنّ هذه الجمل هل يجريها الشارع في مقام جعله الحجّية عندما يلقي نظره على الخبرين المتعارضين ، فلا يمكنه جعل كلّ منهما حجّة ، ولا يمكنه جعل أحدهما غير المعيّن لكونه بلا فائدة ، ولا أحدهما المعيّن لكونه ترجيحاً بلا مرجّح ، وتنتهي هذه المحاسبات إلى عدم الجعل ، وحينئذ يكون المتعارضان ساقطين عن الحجّية أصلاً ، ولا يكون دليل الحجّية شاملاً لشيء منهما ، ولا معنى حينئذ للتعارض والتساقط. وإن كان الذي يجري هذه الحسابات هو المكلّف ، فلابدّ في إجرائها من إحراز جعل شيء شرعي ، ويكون المكلّف في مقام العمل بذلك المجعول مجرياً لهذه الحسابات ، وذلك المجعول الشرعي لابدّ أن يكون هو حجّية أحدهما ، نظير الوجوب التخييري الذي يرد على أحد الواجبين ، فيقول المكلّف إنّ تلك الحجّية المجعولة شرعاً لأحد الخبرين لا يمكن أن أُطبّقها على كلّ واحد منهما ، ولا على الواحد المعيّن لكونه بلا مرجّح ، فيتعارضان ويتساقطان.

ولا يخفى أنّه لو كان المجعول هو الحجّية لأحدهما الكلّي ، كان محصّله هو الحجّية لكلّ منهما عند عدم تطبيقها على الآخر ، وحينئذ يكون حجّية أحد الخبرين وعدم حجّية الآخر متّحداً في المآل مع القول بكون حجّية كلّ منهما مقيّداً بعدم إعمال الآخر. وعلى كلّ حال ، فبواسطة بطلان الترجيح بلا مرجّح

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٤٣٩.

٣٩٦

تنتهي المسألة إلى التعارض والتساقط ، هذا بناءً على ما يظهر منه قدس‌سره في العبارة السابقة في باب الأُصول في أطراف العلم الاجمالي.

وكذلك بناءً على ما يظهر من الكفاية بل ومن الشيخ قدس‌سره في أنّ المجعول هو حجّية أحدهما. نعم لو قلنا بأنّ المجعول شرعاً هو حجّية كلّ خبر ، نظير أنقذ كلّ غريق ، والمكلّف في مقام العمل لم يقدر على الجمع ، فالنتيجة حينئذ هي حكم العقل بالتخيير ، وحيث لا ملزم باختيار أحدهما المعيّن يكون الحكم به ترجيحاً بلا مرجّح ، وترجع المسألة إلى التعارض والتساقط.

وخلاصة البحث : أنّه لا فرق بين الالتزام بكون الخارج هو أحدهما مع بقاء الآخر ، وبين الالتزام بكون بقاء كلّ منهما تحت العموم مقيّداً بإخراج الآخر ، أمّا من جهة قلّة التخصيص فلما عرفت من أنّ الأمر فيها بالعكس ، وأنّ طريقة التقييد أكثر إخراجاً من طريقة إخراج أحدهما وابقاء الآخر ، وأمّا من جهة التعارض والتساقط لأجل الترجيح بلا مرجّح ، فلما عرفت من لزوم ذلك على الطريقة الثانية.

نعم ، لو كان هناك دليل شرعي دلّ على التخيير كما في قوله عليه‌السلام : « إذن فتخيّر » (١) وكما دلّ على التخيير بين الأُختين ، لزم الجري على طبقه ، ولا يكون من قبيل الترجيح بلا مرجّح. وكذلك الحال فيما لو كان العموم متضمّناً لحكم إلزامي ، فإنّ الالزام الشرعي ولزوم الاختيار يخرج المورد عن قبح الترجيح بلا مرجّح. وهكذا الحال في الملزم العقلي كما في طريقي الفار من الأسد ، وكما في رغيفي الجائع فتأمّل.

نعم ، في باب تعارض الأخبار بل مطلق الأمارات يمكن التخلّص عن

__________________

(١) مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٠٣ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٢.

٣٩٧

التعارض بأن يقال : إنّ دليل الحجّية لا يشمل المتعارضين منها ، فيسقطان معاً فيما تعارضا فيه ، وإن أمكن إعمالهما في نفي الثالث ، وحينئذ يكون التخيير بينهما عند التساوي على خلاف القاعدة ، ويبقى الإشكال في الترجيح ، ولا يبعد القول [ بأنّه ] على خلاف القاعدة أيضاً.

والخلاصة : هي أنّه ربما ابتلي العام بفردين لا يمكن إعماله فيهما معاً عقلاً كما في الغريقين ، بل وكما في الخبرين المتعارضين بناءً على السببية بالنسبة إلى عموم دليل الحجّية ، بل على الطريقية الصرفة أيضاً ، وعدم إمكان الجمع قد يكون عقلياً كما في الأمثلة المذكورة ، وقد يكون شرعياً كما في الأُختين بالنسبة إلى عموم ( ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ )(١). كما أنّه ربما كان عدم الامكان في فردين لعامين مثل إزالة النجاسة عن المسجد والصلاة ، فإن قلنا في أمثال ذلك بأنّ المرجع هو أحدهما ، لزم الترجيح بلا مرجّح فيتعيّن التساقط. وإن قلنا بمقالة شيخنا قدس‌سره من أنّ الجاري كلّ واحد منهما مقيّداً بعدم الآخر ، كان الحال كذلك ، لأنّه قبل الاجراء في واحد معيّن يتنجّز كلّ منهما لتحقّق شرطه ، وإن لم ينقلب عن الاشتراط إلى الاطلاق ، وحينئذ فإن أعمل المكلّف أحدهما المعيّن كان ذلك رافعاً لموضوع الآخر ، فيرد عليه أنّ اختيار هذا للعمل وجعل العمل به رافعاً لموضوع الآخر ترجيح بلا مرجّح ، فلِمَ لا تختار الآخر وتعمل به ليكون العمل به رافعاً لموضوع هذا ، وبعد الانتهاء إلى الترجيح بلا مرجّح يكون الأمر منتهياً إلى التساقط.

هذا بحسب مقتضى القاعدة في كلّ ما لا يمكن الجمع فيه ، إلاّفي موردين : أحدهما أن يكون المورد مورد وجوب حتمي مثل الغريقين ومثل الازالة

__________________

(١) النساء ٤ : ٣.

٣٩٨

والصلاة ، فإنّ العقل يحكم بعدم جواز تركهما ، ومع حكمه بعدم جواز تركهما يحكم عليه بالتخيير في اختيار أحدهما ، ويكون الحال في ذلك كما هو الحال في رغيفي الجائع ، ويكون التخيير عقلياً. الثاني أن يكون هناك تعبّد شرعي بالتخيير كما في مثل الأُختين ، وكما في الخبرين المتعارضين على كلّ من السببية والموضوعية لحكم الشارع بالتخيير بقوله عليه‌السلام : « إذن فتخيّر » أمّا إذا لم يكن في البين ما يوجب التخيير العقلي ، ولا ما يوجب التخيير الشرعي ، فالقاعدة تقتضي التساقط كما في تعارض الأُصول ، فلاحظ وتأمّل.

وأمّا ما أُفيد (١) من الجواب عن النقض بما لو كان أحد الطرفين الذي هو الاناء الصغير مثلاً مجرى لاستصحاب الطهارة وكان الآخر مجرى لقاعدة الطهارة ، بأنّ المعارضة إنّما تقع بين الحكم بطهارة الاناء الصغير بجميع مراتبها ، وبين الحكم بطهارة الاناء الكبير ، فيكون الساقط هو الحكم بالطهارة في كلّ من الاناءين (٢) ، فهو أيضاً قابل للتأمّل ، لما هو واضح من أنّ الأصل الحاكم يوجب رفع موضوع الأصل المحكوم ، ففي مرتبة الأصل الحاكم لا يكون الحكم الناشئ عن الأصل المحكوم متحقّقاً ، كما يتّضح فيما لو كان الأصل الحاكم مخالفاً في الحكم للأصل المحكوم. وإذا تحقّق أنّ الحكم الناشئ عن الأصل المحكوم غير موجود في مرتبة الأصل الحاكم ، نقول إنّ المعارضة إنّما تقع بين الطهارة الاستصحابية في الاناء الصغير مع الطهارة في الاناء الكبير ، ولا تنوجد الطهارة التي موضوعها

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٧ ـ ٤٩.

(٢) قد يتوجّه النقض على ذلك بالرجوع إلى قاعدة الطهارة فيما لو تعاقبت الحالتان الطهارة والنجاسة ، وقد أجبنا عن ذلك في التنبيه التاسع من تنبيهات الاستصحاب [ منه قدس‌سره ، راجع المجلّد العاشر من هذا الكتاب ، صفحة : ٢٣٨ وما بعدها ].

٣٩٩

الشكّ إلاّبعد سقوط الطهارة التي موضوعها الاستصحاب ، الذي هو في مرتبة سقوط الطهارة في الاناء الكبير ، وفي هذه المرتبة لا يتوجّه على أصالة الطهارة في الاناء الصغير أنّها موجبة للمخالفة القطعية ، لأنّ ذلك إنّما يتوجّه على تقدير ارتكابهما معاً ، ومن الواضح أنّ المورد بالنقض لا يريد ذلك ، بل يريد أنّه لا ريب في أنّه لا تجوز المخالفة القطعية ، لكنّه يقول إنّه على مسلككم من أنّ سقوط الأصل في كلّ واحد من الأطراف إنّما يكون بالمعارضة ، وأنّ ذلك هو المستند في لزوم الموافقة القطعية ، لا يتمّ في مثل الفرض المذكور ، إذ لا معارضة فيه ، فيلزم على مسلككم أن يجوز ارتكاب الاناء الصغير وإن لم يجز ارتكاب الكبير أيضاً.

وقد اختلفت التقارير فيما ينقلونه عن الأُستاذ قدس‌سره في كيفية الجواب عن هذا النقض ، ففي بعضها يظهر منه تسليم أنّه لو فرض كون بعض الأطراف مجرى للأصل النافي والبعض الآخر لا أصل فيه ، لكان الحكم فيه هو جواز ارتكاب ما فيه الأصل ، غايته أنّه فرض محال ، وأنّ هذا الفرض الذي وقع به النقض ليس من هذا القبيل ، لأنّ الطهارة بجميع مراتبها معارضة بالطهارة في الطرف الآخر.

وفي بعض التقارير لم يتعرّض لأنّه لو فرض هذا المحال ماذا يكون حكمه ، بل اقتصر على الجواب عن النقض المذكور بما ذكر من أنّه ليس من هذا القبيل ، وزاد عليه بأنّه لو سلّمنا كونه من هذا القبيل لأمكن جواز الارتكاب في الاناء الصغير ، فراجع التقرير المطبوع في صيدا (١) ، فإنّ الظاهر أنّ جميع ما أُفيد فيه في كيفية الجواب عن النقض المذكور لا يخرج عن كونه تمسّكاً بالعلم الاجمالي ، وهو خلاف الفرض ، لأنّ المفروض هو أنّ مسلكه قدس‌سره على أنّ المانع من الأصل النافي ليس هو العلم الاجمالي ، وإنّما المانع هو التعارض الناشئ عن

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٤٢٢ وما بعدها.

٤٠٠