أصول الفقه - ج ٧

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٧

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-72-0
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٩٢

شيء لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه » (١) لاجتماع الطائفتين في الشبهة الحكمية التحريمية البدوية ، واختصاص أخبار التوقّف وانفرادها بالشبهة المنجّزة ، واختصاص أخبار البراءة وانفرادها بالشبهة الوجوبية غير المنجّزة ، ولا أقل من انفرادها بالشبهة الموضوعية التحريمية غير المنجّزة كما في « كلّ شيء لك حلال ».

لأنّا نقول : إنّ هذا الإجماع ليس بدليل مستقل ، فإنّ الأُصوليين إنّما يقولون بالبراءة في الشبهات الوجوبية والشبهات الموضوعية الغير المنجّزة لأجل أدلّة البراءة. نعم لم يعلم الوجه في إخراج الأخباريين هذه الشبهات ـ أعني الوجوبية والشبهات الموضوعية ـ عن عمدة ما يتمسّكون به للاحتياط ، وهو أخبار التوقّف وأخبار التثليث ، ولا أظنّه إلاّ أنّهم يقدّمون أخبار البراءة ، وحينئذ يكون العمدة هو أخبار البراءة ، ولا محصّل للإجماع المذكور ، وقد عرفت الحال في مقابلة أخبار البراءة لأخبار التوقّف من كون الأُولى مخصّصة للثانية ، فلاحظ.

قوله : ويحتمل قريباً أن تكون روايات التوقّف لإفادة معنى آخر ، وهو أنّ الاقتحام في الشبهات ... الخ (٢).

حاصل هذا المعنى ، هو أنّ كثرة ارتكاب الشبهات يوجب الاقتحام في الحرام الذي هو الهلكة ، لأنّ عدم المبالاة بالشبهات يوجب الجرأة على ارتكاب المحرّمات ، وهذا وإن كان صحيحاً في نفسه إلاّ أنّه لا يمكن حمل الرواية أعني قوله عليه‌السلام : « الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام بالهلكات » (٣) [ عليه ] فإنّ

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٧ : ٨٩ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ٤ ( مع اختلاف يسير ).

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٣٧٤.

(٣) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٥٤ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٢ ، ٩ ، ١٣ ، ١٥.

١٨١

ظاهرها الأمر بالوقوف بأوّل شبهة ، وليس بناظر إلى التعوّد والتكرار.

لكن بعض الروايات صريحة في ذلك ، مثل قوله عليه‌السلام في مرسلة الصدوق عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أنّه عليه‌السلام خطب وقال : حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ، فمن ترك ما اشتبه عليه من الاثم فهو لما استبان له أترك. والمعاصي حمى الله ، فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها » (١). وعن الباقر عليه‌السلام « قال : كان جدّي يأمر بترك الشبهات بين الحلال والحرام ، قال : من رعى غنمه قرب الحمى نازعته نفسه إلى أن يرعاها في الحمى ، ألا وإنّ لكلّ ملك حمى ، ألا وإنّ حمى الله محارمه » (٢).

قوله : مع أنّ ظاهر الصحيحة هو كون المكلّف متمكّناً من الفحص وتحصيل العلم بحكم الواقعة (٣).

لا يخفى أنّ الفحص من العامي إنّما هو بالسؤال من مجتهده الذي يرجع إليه ، ولو كان في زمان الحضور كان فحصه بالسؤال من نفس الإمام عليه‌السلام لو أمكنه ذلك ، أمّا المجتهد ففحصه إنّما هو عن الأدلّة ، ولكن يختلف الحال في العصور ، فإنّ المجتهد في عصر الرواة الذين حظوا بالوصول إلى خدمة الأئمّة عليهم‌السلام يختلف عن المجتهد في عصرنا ، فمن جهة يكون الاجتهاد في ذلك العصر أسهل ، ومن الجهة الأُخرى لا يخلو عن صعوبة بالنسبة إلى من في عصرنا ، فمن جهة إحراز الظهور والصدور كان الاجتهاد في ذلك العصر في غاية السهولة ، بخلافه من

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٦١ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٢٧.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٦٩ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٥٢ ( نقل صدره بالمضمون ).

(٣) فوائد الأُصول ٣ : ٣٧٦.

١٨٢

هاتين الجهتين في عصرنا ، ومن جهة الرجوع إلى البراءة عند فقد النصّ يكون الحال في ذلك العصر أضيق منه في هذا العصر ، حيث إنّ المجتهد في ذلك العصر مقيّد بالسؤال من الإمام عليه‌السلام ولو تفحّص [ ما ] بأيديه من الدفاتر ، أو سأل من أهل عصره من الرواة عن رواية واردة في تلك المسألة ، بل لابدّ له من السؤال منه عليه‌السلام وقبل السؤال لابدّ له من الاحتياط في الفتوى أو العمل ، كما هو مدلول هذه الرواية وهو الذي تقتضيه القاعدة ، وبالنتيجة يقلّ رجوعهم إلى البراءة في الشبهات الحكمية بل لعلّه لا يتحقّق ، وهذا بخلاف المجتهد في عصرنا ، فإنّه ينحصر فحصه فيما لديه من كتب الأخبار ، وهو سهل ، وبعد عدم العثور يكون المرجع هو البراءة ، وموارده كثيرة لا تخفى ، فتأمّل.

والظاهر أنّ مورد الرواية هو فحص المجتهد في مقام الفتوى ، لقول الراوي : « إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه » (١) ولعلّ من هذا القبيل ما اشتمل عليه ذيل المقبولة بعد ذكر المرجّحات : « إذا كان كذلك فارجئه حتّى تلقى إمامك فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات » (٢) فيكون مختصّاً بمن كان في ذلك العصر.

قوله : وأمّا الموثّقة فالشبهة في موردها لا تخلو إمّا أن تكون موضوعية وإمّا أن تكون حكمية ... الخ (٣).

الظاهر أنّ الشبهة في مورد السؤال موضوعية ، لقوله : « يتوارى عنّا القرص

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٥٤ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ١.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٦ ـ ١٠٧ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١.

(٣) فوائد الأُصول ٣ : ٣٧٦.

١٨٣

ـ إلى قوله ـ وترتفع فوق الجبل الحمرة » الخ (١) بناءً على أنّ الجبل واقع غربيّهم ، فيكون تواري القرص عنهم لحيلولة الجبل ، الموجب لاحتمال بقائها في محلّ ما بعد الجبل فوق الأُفق ، وحينئذ يشكل الأمر فيما تضمّنته الرواية من تطبيق كبرى الاحتياط ، أمّا على نظر الأخباريين ، فلعدم قولهم بوجوب الاحتياط في الشبهات الموضوعية ، سواء كانت الشبهة فيما نحن فيه وجوبية نظراً إلى الشكّ في وجوب الصوم وفي وجوب صلاة المغرب ، أو كانت تحريمية نظراً إلى حرمة الافطار وحرمة الصلاة قبل الوقت ولو تشريعاً. وأمّا على نظر الأُصوليين فواضح ، لعدم وجوب الاحتياط عندهم في الشبهات الحكمية فضلاً عن الموضوعية.

مضافاً إلى أنّ المورد مورد استصحاب بقاء النهار على كلّ من المسلكين ، وبعد بقاء الإشكال في تطبيق الكبرى على المورد لم يبق باليد إلاّ الكبرى مع غض النظر عن تطبيقها على المورد ، فيكون حال هذه الكبرى حال تلك الكبريات التي اشتملت عليها بقية الأخبار المطلقة ، التي لم ترد في مورد خاص ، التي كان الجواب عنها بضرورة حملها على الاستحباب بالنظر إلى لزوم تخصيص الأكثر لو حملناها على الوجوب.

ولو فرض كون الشبهة في المقام حكمية مفهومية ، توجّه الإشكال على الرواية بأنّ اللازم هو الجواب بالحكم الواقعي لا بالاحتياط ، فلم يبق حينئذ إلاّ التوجيه بالتقية ، وحينئذ يسهل الأمر.

أمّا الأخباريون فيقولون إنّ الحكم الواقعي وإن كان هو وجوب الانتظار حتّى تذهب الحمرة المشرقية ، إلاّ أنّ الإمام عليه‌السلام طبّق عليه كبرى وجوب الاحتياط

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٠ : ١٢٤ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٥٢ ح ٢ ( مع اختلاف يسير ).

١٨٤

تقية.

وأمّا الأُصوليون فيقولون إنّ كبرى الاحتياط هي استحبابية ، وطبّق الإمام عليه‌السلام ذلك الحكم الاستحبابي على المورد الذي حكمه الواقعي هو وجوب الانتظار تقية ، ويكون الحاصل عندهم أنّه عليه‌السلام حكم باستحباب الانتظار احتياطاً في المورد الذي يكون فيه الانتظار واجباً واقعاً ، لأنّ التقية مانعة من التصريح بأنّ الحكم الواقعي هو وجوب الانتظار.

ومنه يظهر لك أنّ عمدة البحث حينئذ إنّما هو في الكبرى ، وهل هي وجوبية أو استحبابية ، بعد الفراغ عن أنّ تطبيقها على المورد كان تقية.

أمّا الاستصحاب فلا مورد له في المقام ، لكون الشبهة مفهومية (١) ، فهو نظير استصحاب العدالة فيما لو ارتكب الصغيرة مع الشكّ في كون العدالة هي ترك الكبيرة والصغيرة أو يكفي فيها مجرّد ترك الكبيرة ، وقد حقّق في محلّه عدم جريان الاستصحاب الموضوعي ، بل ولا الحكمي في أمثال ذلك ، فراجع.

قوله : ولا يبعد استفادة التعميم لغير الحشرات ونجس العين من بعض الأدلّة ... الخ (٢).

منها : موثّقة ابن بكير التي يقول عليه‌السلام في آخرها : « فإن كان غير ذلك ممّا نهيت عن أكله وحرم عليك أكله ، فالصلاة في كلّ شيء منه فاسدة ، ذكّاه الذابح أو لم يذكّه » (٣) قال في الجواهر : إنّه ظاهر في أنّ الذبح تذكية لكلّ حيوان. وكذا لو كانت الرواية « الذبح » بناءً على أنّ المراد منه ذبح أو لم يذبح. وأظهر منه صحيح

__________________

(١) [ في الأصل : موضوعية ، والصحيح ما أثبتناه ].

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٣٨٠.

(٣) وسائل الشيعة ٤ : ٣٤٥ / أبواب لباس المصلّي ب ٢ ح ١.

١٨٥

علي بن يقطين ، قال : « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن لباس الفراء والسمور والفنك والثعالب وجميع الجلود ، قال عليه‌السلام : لا بأس بذلك » (١) إذ لو لم تقبل التذكية كانت ميتة لا يجوز لبسها. مؤيّداً بما يفهم من مجموع النصوص المتقدّمة في لباس المصلّي من قبول التذكية لكلّ حيوان طاهر العين حال الحياة وإن لم يكن مأكول اللحم ، ولكن لا يصلّي فيه ، عدا ما استثني ، فلاحظ وتأمّل ، بل وبغير ذلك (٢).

ومنه يظهر قبول المسوخ للتذكية ، وما ورد في تعداد المسوخات إنّما هو في بيان حرمة أكلها.

وقال بعد ذلك في ردّ المرتضى القائل بقبول المسوخ للتذكية : ونسبه في كشف اللثام إلى المشهور ، للأصل الممنوع على مدّعيه حتّى بمعنى استصحاب الطهارة أو قاعدتها ـ إلى أن قال ـ وبعض النصوص الواردة في حلّ الأرنب والقنفذ والوطواط وهي مسوخ ، وليس ذلك في لحمها عندنا ، فيكون في جلدها ، الذي هو بعد أن لا يكون معمولاً عليه عندنا وموافقاً للتقية يكون من المأوّل الذي ليس بحجّة نعم قد يصلح مؤيّداً ، لما سمعته من الصحيح المقتضي لصحّة التذكية فيها ، ولكن ينبغي أن يكون المدار على الجلود التي تلبس عادة أو صالحة للبس (٣).

ثمّ في آخر الأقسام الأربعة أعني المسوخ والحشرات والآدمي والسباع ، قال : وأمّا الكلام في غير الأقسام الأربعة فهو مبني على الأصل المزبور والعموم المذكور. نعم لا إشكال في قبول ما كانت حرمته عارضة فيها كالجلاّل والموطوء

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ : ٣٥٢ / أبواب لباس المصلّي ب ٥ ح ١.

(٢) جواهر الكلام ٣٦ : ١٩٦.

(٣) جواهر الكلام ٣٦ : ١٩٨.

١٨٦

للاستصحاب ، وأمّا غيره فقد عرفت أنّ الأصل عدم التذكية إلاّما يندرج منها في الصحيح المزبور ، والله العالم (١). ولكنّه قدس‌سره جزم بعدم قبول الحشرات ذوات النفس للتذكية ، فقال : وفاقاً للأكثر بل المشهور ، للأصل المزبور السالم عن معارضة الصحيح ونحوه ، بعد انسباق غير ذلك من الجلود فيه وإن كان بلفظ الجمع ، فلا أقل من الشكّ ، وقد عرفت أنّ الأصل عدم التذكية ، والله العالم (٢) انتهى كلامه قدس‌سره.

قلت : ويمكن التأمّل في دعوى الانسباق من الجلود في الصحيح المذكور إلى جلود غير الحشرات مع كونه بلفظ الجمع المحلّى باللام الظاهر في العموم ، مضافاً إلى إضافة لفظ « جميع » إليه الموجب لكونه من أعلى درجات الظهور في العموم ، إذ ليس في قبال ذلك إلاّدعوى أنّ المتعارف من لبس الجلود هو غير جلود الحشرات.

وفيه تأمّل ، سيّما بعد ملاحظة أنّ من جملة الجلود المتعارف لبسها ما يسمّى في زماننا باسم الخز أو باسم آخر ، وهو جلود صغيرة يضمّ بعضها إلى بعض ووبرها في غاية اللطافة ، وعلى الظاهر أنّه جلد بعض الحشرات في بعض البلاد مثل الفار في بلادنا. والحاصل : أنّ دعوى الانصراف قابلة للمنع ، فتأمّل.

نعم ، إنّ تمامية الاستدلال بصحيحة علي بن يقطين يتوقّف على ثبوت حرمة لبس جلد الميتة مع قطع النظر عن الصلاة فيه ، وأنّ الصحيحة إنّما تتعرّض لجواز لبس الجلود ، من دون تعرّض لجواز الصلاة فيها ، إذ لو كانت متعرّضة لذلك لكانت معارضة لأخبار المنع عن الصلاة فيما لا يؤكل لحمه ، كما أنّا لو قلنا

__________________

(١) جواهر الكلام ٣٦ : ٢٠١.

(٢) جواهر الكلام ٣٦ : ١٩٩.

١٨٧

بجواز لبس جلد الميتة إذا لم يكن في حال الصلاة ولم يستلزم مباشرته بالرطوبة ، لم يكن الاستدلال بها حينئذ تامّاً.

ثمّ إنّ نظير هذه الصحيحة صحيحة الريّان بن الصلت ، قال : « سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن لبس فراء والسمور والسنجاب والحواصل (١) وما أشبهها والمناطق والكيمخت والمحشو بالقز والخفاف من أصناف الجلود ، فقال عليه‌السلام : لا بأس بهذا كلّه إلاّبالثعالب » (٢). لكن لعلّ استثناء الثعالب كاشف عن أنّ المنظور إليه هو الصلاة ، إلاّ أن تكون في البين خصوصية تقتضي استثناء الثعالب من جواز مجرّد اللبس ، ولعلّها هي الكراهة.

وعلى كلّ حال ، فالصحيحة المزبورة كافية ، لكن لابدّ من إخراج ما لم تقع عليه التذكية أعني الذبح ، وإلاّ عاد الإشكال في الميتة ، وبعد إخراج ذلك منها يكون العموم المذكور دالاً على قبول كلّ حيوان للتذكية حتّى المسوخ ، ولا يكون التمسّك به في شموله للمسوخ مثلاً من قبيل التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية ، فإنّه ليس من هذا القبيل ، بل هو من قبيل التخصيص بالمنفصل مع كون الشبهة مفهومية ، للشكّ في شمول مفهوم الميتة الخارجة عن هذا العموم للمسوخ المذبوح ، لأنّ القدر المتيقّن من الميتة هو الميتة العرفية ، وهو ما مات حتف أنفه.

__________________

(١) قال في المجمع : الحواصل جمع حوصل ، وهو طير كبير له حوصلة عظيمة يتّخذ منها الفرو. قيل : وهذا الطائر يكون بمصر كثيراً ، وهو صنفان أبيض وأسود ، وهو كريه الرائحة لا يكاد يستعمل ، والأبيض أجوده ، وحرارته قليلة ورطوبته كثيرة ، وهو قليل البقاء ، كذا في حياة الحيوان [ منه قدس‌سره راجع مجمع البحرين ٥ : ٣٥٠ مادّة حصل ].

(٢) وسائل الشيعة ٤ : ٣٥٢ ـ ٣٥٣ / أبواب لباس المصلّي ب ٥ ح ٢.

١٨٨

وكذا لو كان التصرّف فيه بالتقييد بالتذكية لا من باب إخراج الميتة ، بل من باب التقييد بالدليل المنفصل ولو كان ذلك المقيد هو مثل موثّقة سماعة ، قال : « سألته عن جلود السباع ينتفع بها ، قال عليه‌السلام : إذا رميت وسمّيت فانتفع بجلده ، أمّا الميتة فلا » (١) بدعوى أنّ منطوقها حاكم بأنّ التذكية التي هي في مورد هذه الموثّقة عبارة عن الرمي والتسمية شرط وقيد في جواز الانتفاع المعبّر عنه في الصحيحة باللبس ، فإنّه يكون الحاصل حينئذ أنّه يجوز لبس جلد كلّ حيوان إذا كان مذكّى ، وبعد ذلك يكون من قبيل الاطلاق في التذكية ، وسيأتي التمسّك به للعموم لكلّ حيوان ، وحاصله أنّ القيد وهو التذكية لو كان المراد به هو غير ما يعرفه العرف من الذبح لبيّنه الشارع ، ولمّا لم يبيّن دلّ على الاكتفاء بالتذكية العرفية.

لا يقال : إنّ الشبهة ليست مفهومية ، بل هي مصداقية من جهة الشكّ في القابلية ، إذ لا إشكال في أنّ المذبوح القابل للتذكية ليس بميتة ، وغير القابل لها لا يكون إلاّميتة ، فإذا ذبح حيوان وشكّ في قابليته للتذكية كانت الشبهة مصداقية ، لأنّ الميزان فيها هو جهالة ذلك الشخص وعدم العلم بحاله من حيث الواجدية للقابلية وعدمها ، مع فرض عدم الجهالة في المفاهيم الكلّية وأحكامها ، أعني كون الميتة ما مات حتف أنفه ، أو ذبح ولم يكن قابلاً للتذكية.

لأنّا نقول : قد عرفت أنّه ليست القابلية من الصفات اللاحقة لذات الحيوان على وجه يكون بعض الحيوان واجداً لتلك الصفة فيؤثّر فيه الذبح ، وبعضه فاقداً لتلك الصفة فلا يؤثّر فيه الذبح ويكون ميتة ، بل ليس ما يسمّى في لسان الفقهاء بالقابلية إلاّثبوت الدليل الشرعي القائم على أنّ مثل الغنم تطهر بالذبح وبه يحلّ أكل لحمها ، فإذا شككنا في ذلك في بعض الحيوانات فهو إنّما يكون من قبيل

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٤ : ١٨٥ / أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٣٤ ح ٤.

١٨٩

الشكّ في الحكم الشرعي على نحو الشبهة الحكمية الصرفة.

وما أشبه هذه الدعوى هنا ـ أعني دخول القابلية في موضوع الحكم بالتذكية ـ بدعوى دخول وصف الصحّة في متعلّق الأمر على القول بالأعمّ ، بحجّة أنّ الشارع لا يأمر بالفاسد ، وكما أجبنا هناك بأنّ الشارع وإن لم يأمر بالفاسد ، إلاّ أنّ وصف الصحّة وعدم الفساد يحصلان بتعلّق أمر بالصلاة الصالحة للانطباق على الواجد والفاقد ، فيكون كلّ منهما صحيحاً ، فكذلك الحال فيما نحن فيه ، فإنّ القابلية لا تكون قيداً ، بل هي حاصلة من تطبيق الحكم على المورد.

نعم ، ربما كانت الشبهة موضوعية لتردّده بين حيوانين معلومي الحكم لأجل ظلمة مثلاً ونحوها ، فتكون الشبهة مصداقية بالنسبة إلى عنوان الميتة ، لكنّه خارج عمّا نحن فيه الذي هو على نحو الشبهة الحكمية ، فإنّه على تقدير حكم الشارع على هذا النوع من الحيوان بأنّ الذبح لا يؤثّر فيه الطهارة ، لا يكون إلاّميتة بجعل الشارع ، فتكون الميتة حينئذ هي الأعمّ ممّا مات حتف أنفه ، أو كان قد ذبح ولم يؤثّر الذبح في طهارته ، بخلاف ما لو كان الشارع قد حكم بأنّ الذبح مؤثّر فيه فلا يكو ن مشمولاً للميتة ، بل تكون الميتة مختصّة بما مات حتف أنفه.

وحينئذ فلو قال الشارع : يجوز لبس الجلد من جميع الحيوانات ، كان ذلك الحكم شاملاً بعمومه للميتة وغيره ، ثمّ لو قال بعد ذلك : لا يجوز لبس الجلد من الميتة ، كان القدر المتيقّن من الميتة الخارجة من ذلك العموم هو ما مات حتف أنفه ، ويكون ما عداه ممّا علم بأنّ الشارع قد حكم بأنّه يطهر بالذبح وما شكّ فيه في ذلك كلّه داخلاً تحت عموم جواز لبس جلده ، ويكون الحكم بجواز لبس جلده كاشفاً عن كونه قابلاً لذلك.

وهكذا الحال لو قلنا بأنّ النجس خارج من ذلك ، للشكّ حينئذ في حكم

١٩٠

الشارع على ذلك الجلد المأخوذ من ذلك الحيوان بعد الذبح بأنّه نجس ، فيكون الحيوان المشكوك باقياً تحت ذلك ، لا لأجل قاعدة الطهارة ، بل لأجل أنّه لم يخرج من ذلك العموم إلاّما حكم الشارع عليه بأنّه نجس لكونه ميتة ، والقدر المتيقّن منه ما مات حتف أنفه.

ثمّ لا يخفى أنّا لو سلّمنا كون القابلية من الصفات الواقعية للحيوان لتكون الشبهة بذلك مصداقية ، لم يمكن التمسّك بالعموم المذكور. ودعوى كون ذلك ممّا يمكن للشارع أن يتصرّف فيه ويحكم بأنّه ليس بميتة ، فيكون ذلك العموم كاشفاً عن حكم الشارع بأنّه ليس بميتة أو بأنّه قابل للتذكية ، ممنوع. أمّا الأوّل فلأنّه لا يمكن الحكم الشرعي بأنّه ليس بميتة من دون التصرّف في القابلية. وأمّا الثاني ، فلأنّ القابلية بعد كونها من الصفات الواقعية لا يتأتّى فيها التصرّف الشرعي.

وبالجملة : ليس التصرّف الشرعي في هذا المقام إلاّعبارة عن حكم الشارع بأنّ هذا الحيوان يطهر بالذبح وذلك الحيوان لا يطهر به ، وعن الأوّل ينتزع المذكّى وعن الثاني ينتزع الميتة. وإن شئت فسمّ هذا الانتزاع بالقابلية وعدم القابلية ، فلا مشاحة في الاصطلاح بعد وضوح أصل المطلب ، فتأمّل. هذا ما كنّا حرّرناه سابقاً.

ولكن لا يخفى أنّ هذا العموم ـ أعني عموم قوله : « وجميع الجلود » (١) ـ غير نافع فإنّه بعد تخصيصه بالميتة لا يمكننا التمسّك فيما نحن فيه به ، لا لأجل كون الشبهة مصداقية ، لما عرفت من كونها مفهومية بل حكمية ، بل لأجل أنّ الشكّ في أنّ هذا الحيوان هل حكم الشارع عليه بأنّه يطهر بالذبح يوجب الحكم

__________________

(١) المذكور في صحيح علي بن يقطين المتقدّم في صفحة : ١٨٦.

١٩١

عليه بأنّ الشارع لم يحكم عليه بذلك ، وهو معنى أصالة عدم التذكية ، وذلك يدرجه في الميتة الخارجة عن عموم الجلود ، وما ذلك إلاّنظير ما لو قال : توضّأ بالماء ، ثمّ دلّ الدليل من الخارج على اعتبار الطهارة في الماء قيداً أو خروج النجس عنه تخصيصاً ، فلو كان لنا ماء متغيّر بالنجاسة وزال تغيّره ، وقلنا بأنّ المرجع فيه هو استصحاب النجاسة ، لكان هذا الأصل مدرجاً له في الخارج عن عموم توضّأ بالماء أعني النجس ، أو كان موجباً لخروجه عن قيد الموضوع أعني الطهارة ، ولأجل ذلك نحكم بأنّ الجلد نجس ، وأنّه لا يجوز لبسه فيما لو كان الشكّ في صحّة التذكية من ناحية أُخرى ، كأن يشكّ في اعتبار بلوغ الذابح وقد ذبحه غير البالغ ، فإنّ أصالة عدم التذكية تدرجه فيما هو ميتة بحكم الشارع ، وتخرجه عن عموم قوله عليه‌السلام : « وجميع الجلود ».

ومن ذلك يظهر لك أنّه لو سلّمنا كون الشبهة فيما نحن فيه شبهة مصداقية ، لكانت أصالة عدم التذكية حاكمة باندراج مورد الشكّ في القابلية في عنوان الخاصّ وهو الميتة ، كما أنّها تدرجه فيه لو كان الشكّ في التذكية موضوعياً صرفاً ، بأن علمنا بأنّ هذا الجلد مأخوذ من قابل التذكية أعني الغنم مثلاً ، ولكن شككنا في وقوع التذكية عليه. أمّا ما أُفيد من توجيه التمسّك بالعموم في موارد الشكّ في القابلية فهو لا يخلو عن تأمّل ، كما أفاده الأُستاذ العراقي قدس‌سره في قضائه (١).

نعم ، لو كان لنا عموم يدلّ على دخول التذكية على كلّ حيوان إلاّما خرج لكان محصّله هو أنّ كلّ حيوان قد حكم الشارع عليه بأنّه يطهر بالتذكية ، فما علم خروجه مثل الكلب والخنزير والإنسان يحكم بخروجه ، وما شكّ في خروجه مثل المسوخ يبقى داخلاً تحت العموم المذكور ، وأصالة عدم الحكم بالطهارة

__________________

(١) كتاب القضاء : ١٠٧.

١٩٢

عند الذبح لا تجري فيه في قبال العموم ، أعني عموم الحكم بالطهارة عند الذبح لكلّ حيوان. وهذا العموم أو الاطلاق يمكن تصيّده من قوله عليه‌السلام : « ذكّاه الذابح أو لم يذكّه » كما يمكن تصيّده من إطلاقات أدلّة الذبح وفري الأوداج أو قطع الحلقوم ونحو ذلك.

والحاصل : أنّ النافع لنا في هذا المقام هو العموم أو الاطلاق الوارد في نفس هذا المعنى ، أعني كون كلّ حيوان تدخله التذكية ، ويكفي في هذا العموم قوله : « أوَ ليس المذكّى ما ذكّي بالحديد »؟ وتقرير الإمام عليه‌السلام لذلك بقوله : « نعم » أمّا مثل عموم جواز لبس جميع الجلود أو نحو ذلك من الأحكام التي خرج منها عنوان الميتة أو عنوان ما لم يذكّ فهي غير نافعة ، لأنّ أصالة عدم التذكية تدرجه في الخارج منها ، أمّا بناءً على كون التذكية اسماً للمسبّب فواضح ، وأمّا بناءً على كونها اسماً للسبب بمعنى ما جعله الشارع مؤثّراً في الطهارة فكذلك أيضاً ، للشكّ في أنّ الشارع قد جعل ذبح هذا النوع من الحيوان تذكية وتطهيراً له ، والأصل عدمه.

وبالجملة : لا ريب في أنّه مع قطع النظر عن العمومات والاطلاقات اللفظية يكون المرجع في هذا الحكم الشرعي ـ وهو كون الذبح لهذا الحيوان مطهّراً له ـ أصالة العدم ، بعد فرض كون خروج الروح منه موجباً لنجاسته ، بل لحرمة أكله أيضاً ، الذي لا يقف في قباله إلاّحكم الشارع بأنّه لو خرجت روحه بالذبح المخصوص لكان ذلك مطهّراً له ومسوّغاً لأكله ، وإذا شكّ في هذا الحكم الشرعي فالأصل عدمه ، ولا يقف في قبال هذا الأصل ولا يرفع اليد عنه إلاّبدليل خاصّ يدلّ على الحكم المذكور في هذا النوع الخاص من الحيوان ، أو بدليل عام أو مطلق يدلّ على أنّ كلّ حيوان يطهر بالذبح المذكور ، فلاحظ وتأمّل.

١٩٣

وأمّا ما أفاده فيما يتعلّق بموثّقة ابن بكير من أنّه ظاهر في أنّ الذبح تذكية لكلّ حيوان ، وكذا لو كانت الرواية « الذبح » بناءً على أنّ المراد منه : ذبح أو لم يذبح الخ ، فكأنّه يشير إلى أنّ المراد من قوله عليه‌السلام : « ذكّاه الذبح أو لم يذكّه » هو أنّه لا تجوز الصلاة فيما لا يؤكل لحمه ، سواء ذكّي أو لم يذكّ ، فيكون فيه إشعار بقبول كلّ حيوان للتذكية. وإنّما حمله على هذا المعنى في قبال ما يمكن أن يقال من أنّه إشارة إلى أنّه لا تجوز الصلاة فيما لا يؤكل لحمه ، سواء ذكّاه الذبح أو لم يذكّه ، يعني أنّه لا تجوز الصلاة فيه ، سواء كان الذبح مذكياً له أو لم يكن الذبح مذكياً له ، وحينئذ يكون دالاً على أنّ بعض الحيوانات لا يكون الذبح مذكياً لها.

لا يقال : بناءً على هذا المعنى يمكن حمل ما لم يكن الذبح مذكياً له على نجس العين مثل الكلب ، فلا دلالة له على أنّ بعض الحيوانات الطاهرة لا يكون الذبح مذكياً لها.

لأنّا نقول : إنّ نجس العين خارج عمّا سيقت له هذه الرواية من مانعية غير المأكول ، فلا تشمل نجس العين ، لكون عدم جواز الصلاة فيه مفروغاً عنه ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ المفروغية عن عدم جواز الصلاة فيه إنّما هي فيما لو كان قابلاً للتستّر به ، دون مثل وقوع شعره على ثوب المصلّي ، فتأمّل.

وعلى أيّ حال نقول : إنّ ما أفاده في الجواهر من التمسّك بهذه الموثّقة على كون كلّ حيوان قابلاً للتذكية ، مبني على ما عرفت من دعوى كون الجملة مسوقة لبيان أنّه لا فرق بين وجود الذبح المحصّل للتذكية وعدم وجوده ، في عدم جواز الصلاة في شيء من ذلك الحيوان.

ويمكن أن يقال : إنّ الذكاة إمّا أن نقول إنّها اسم للمسبّب الحاصل من فعل الذابح مع باقي الشرائط ، وإمّا أن نقول إنّها اسم للسبب ، سواء جعلنا القابلية شرطاً

١٩٤

خارجاً أو جعلناه جزءاً منها. وعلى الأوّل ـ أعني كونها اسماً للمسبّب ـ يكون الوجه في نسبة التذكية إلى المكلّف في إحدى النسختين ـ أعني قوله عليه‌السلام : « ذكّاه الذابح أو لم يذكّه » ـ هو إيجاد سببها ، ليكون نظير قولك طهّر الغاسل الثوب بغسله له ، بناءً على كون الطهارة اسماً للمسبّب الحاصل من الغسل ، ويكون الوجه في نسبته إلى « الذبح » في النسخة الأُخرى هو كونه سبباً له. وعلى أيّ حال ، يكون الحاصل هو كون الذبح سبباً للتذكية.

وحينئذ يقع الكلام في مفاد هذه الجملة الشريفة الواقعة في الرواية ، وهي قوله عليه‌السلام : « ذكّاه الذابح أو لم يذكّه » أو « ذكّاه الذبح » على النسخة الأُخرى ، وهل يكون المنظور إليه في هذه الجملة هو فرض وجود الذبح ، وأنّه لا تجوز الصلاة فيه ، سواء كان ذلك الذبح مؤثّراً في التذكية ومحصّلاً للذكاة أو لم يكن محصّلاً لها ومؤثّراً فيها ، فيدلّ على أنّ بعض الحيوان غير قابل للتذكية ، بحيث إنّ الذبح لا يكون محصّلاً لها ، فتكون الجملة حينئذ دالّة على ضدّ ما رامه صاحب الجواهر قدس‌سره ، أو أنّ المنظور إليه في هذه الجملة هو الحكم بالمساواة بين وجود الذبح الذي تكون سببيته للتذكية مفروغاً عنها ، وبين عدم وجوده في أنّه لا تجوز الصلاة فيه على كلّ من الصورتين من وجود الذبح المذكور وعدمه ، فتكون دالّة على أنّ الذبح الذي كانت سببيته للتذكية مفروغاً عنها لا فرق بين وجوده وعدمه في الحكم المذكور ، أعني عدم جواز الصلاة فيه ، ففيها دلالة على أنّ كلّ ذبح محصّل للتذكية ، فيكون كلّ حيوان قابلاً لها ، فتدلّ على ما رامه قدس‌سره ، من دون فرق في ذلك بين قراءة « الذابح » أو قراءة « الذبح » ، إذ المراد من الذابح إنّما هو باعتبار ما يصدر منه أعني الذبح ، فهو نظير قولك : قتله الضارب أو لم يقتله ، في أنّه عين قولك : قتله الضرب أو لم يقتله. ولا يبعد ظهور الجملة في المعنى الثاني ، لأنّ

١٩٥

المقصود هو التسوية بين التذكية وعدمها ، لا التسوية بين كون الذبح محصّلاً للتذكية أو كونه غير محصّل لها.

والحاصل : أنّه بعد الفراغ عن أنّ مثل الوبر والصوف ممّا لا يؤكل لحمه موجب لبطلان الصلاة ، وأنّ بطلانها به لا يتوقّف على التذكية ، بل تبطل به الصلاة وإن أُخذ من الحي منها ، وحينئذ يكون المراد هو التسوية في بطلان الصلاة بين وجود الذبح وعدمه ، سواء أُخذ من الحي أو أُخذ ممّا مات حتف أنفه ، وقد عبّر الإمام عليه‌السلام عن الصورة الأُولى وهي وجود الذبح بقوله : « ذكّاه الذابح » وهو واضح ، وعلى نسخة « الذبح » يكون المتحصّل هو التسوية بين أن يكون قد ذبح فصار ذكياً وأن لا يكون قد ذبح أصلاً ، وهذا المعنى ـ أعني كون المدار على نفس الصوف وإن أُخذ من الحي ـ وإن كان موجوداً فيما يؤكل لحمه ، إلاّ أنّه إنّما اعتبر فيه التذكية بقوله (١) : « إذا علمت أنّه ذكّي قد ذكّاه الذابح » ، لأجل النظر في ذلك إلى ما يعتبر فيه التذكية كالجلود ، فلاحظ وتأمّل.

ولكنّه مع ذلك فللتوقّف في ذلك والتأمّل فيه مجال ، فإنّا لو أخذناها بالمعنى الثاني لأمكن القول بعدم دلالتها على مرامه قدس‌سره ، بأن يكون مفادها أنّه لا تجوز الصلاة فيما لا يؤكل لحمه ، سواء تحقّق الذبح المحصّل للتذكية بأن كان ممّا يقبل التذكية ، أو لم يتحقّق ذلك الذبح المحصّل للتذكية بأن لم يذبح أصلاً ، أو ذبح ولكن كان غير قابل للتذكية ، فيكون قوله عليه‌السلام : « أو لم يذكّه » شاملاً للأمرين ، أعني عدم الذبح أصلاً والذبح لكن مع عدم القابلية ، لأنّ المركّب الذي هو الذبح المحصّل للتذكية ينتفي بانتفاء محصّليته للتذكية مع تحقّق نفسه ، كما ينتفي بانتفاء نفسه ، لكن قد عرفت الاشارة إلى جوابه ، من أنّ هذه الجملة بعد فرض كونها

__________________

(١) في موثّقة ابن بكير ، وقد تقدّم استخراجها في صفحة : ١٨٥.

١٩٦

مسوقة للتسوية بين الوجود والعدم ، لا تقال في مثل المقام إلاّبعد فرض المفروغية عن كون الذبح سبباً محصّلاً ، فإنّ مفادها حينئذ يكون أنّ هذا الذبح الذي هو سبب للتذكية وأنّ محصّليته لها أمر مفروغ عنه ، لا فرق بين وجوده وعدمه ، هذا كلّه فيما لو قلنا بأنّ التذكية تكون اسماً للمسبّب.

وأمّا لو قلنا بأنّها اسم لنفس السبب أعني فعل الذابح بشرائطه ، فالظاهر تعيّن النسخة الأُولى حينئذ ، إذ لا يمكن نسبة التذكية بهذا المعنى إلى نفس الذبح ، لأنّها حينئذ عين الذبح مع الشرائط ، فلا وجه لنسبتها إليه ، بل إنّما يصحّ نسبتها إلى المكلّف ، ويكون الحاصل حينئذ أنّ ما لا يؤكل لحمه لا تجوز الصلاة فيه ، سواء ذبحه الذابح أو لم يذبحه ، فتكون دالّة على ما رامه صاحب الجواهر قدس‌سره.

ويمكن أن يقال : إنّا لا نحتاج إلى تمامية العموم المذكور في الصحيحة والموثّقة ، بل يكفي لما ندّعيه من قبول كلّ حيوان للتذكية عدا ما استثني إطلاقات أدلّة التذكية وعدم الدليل على اشتراط قابلية المحل ، سواء أخذناه شرطاً في نفس التذكية وقلنا إنّها عبارة عن الذبح ، أو أخذناه جزءاً مؤثّراً لتكون التذكية عبارة عن الكيفية الحاصلة من تلك الأفعال الجامعة للشرائط ، وليس عدم القابلية إلاّعبارة عمّا يؤخذ ممّا دلّ على أنّ الحيوان الفلاني لا يطهر أو لا يحلّ أكله بالذبح ، وذلك مختصّ بخصوص نجس العين ، ولم يقم دليل على ذلك في غيره ، فيبقى الجميع داخلاً في إطلاقات التذكية ، والكثير من الاطلاقات وإن كان وارداً في حلّية الأكل ، إلاّ أنّ جملة منها وارد في غير ذلك ، مثل قوله في رواية ابن أبي حمزة ، قال : « سألت أبا عبد الله وأبا الحسن عليهما‌السلام عن لباس الفراء والصلاة فيها ، فقال عليه‌السلام : لا تصلّ فيها إلاّما كان منه ذكياً ، قال : قلت : أوَ ليس الذكي ما ذكّي بالحديد؟ قال عليه‌السلام : نعم ، إذا كان ممّا يؤكل لحمه. قلت : وما لا يؤكل لحمه من غير الغنم ،

١٩٧

فقال عليه‌السلام : لا بأس بالسنجاب فإنّه دابة لا تأكل اللحم ، وليس هو ممّا نهى عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ نهى عن كلّ ذي ناب ومخلب » (١).

فإنّ قوله عليه‌السلام : « نعم » تقرير لما ذكره السائل ، وهو أنّ الذكي ما ذكي بالحديد ، لكنّه لمّا كان شاملاً لما لا يؤكل لحمه ، قيّده الإمام عليه‌السلام في المقام ـ الذي هو جواز الصلاة ـ بقوله عليه‌السلام : « إذا كان ممّا يؤكل لحمه ». فليس هو قيداً للتذكية ليكون دليلاً على انحصارها فيما يؤكل لحمه ، بل هو قيد لجواز الصلاة ، ولا داعي إلى إرجاعه إلى ما تقدّم ليكون السؤال وجوابه بقوله عليه‌السلام : « نعم » جملة معترضة في أثناء كلامه عليه‌السلام ، ويكون قوله : « إذا كان » راجعاً إلى قوله عليه‌السلام : « إلاّما كان ذكياً » كما أفاده شيخنا قدس‌سره في مسألة اللباس المشكوك (٢) ، بل هو قيد لقوله : « نعم » باعتبار السؤال المذكور ، لأنّ حاصل السؤال هو أنّ الذكي ما ذكي بالحديد ، فيجوز الصلاة في جميع أقسامه ، فالإمام عليه‌السلام صدّقه في ذلك ، وقيّده بقوله : « إذا كان ممّا يؤكل لحمه ». أمّا كون مفاد ذلك هو الشرطية لا المانعية فذلك أمر آخر لا دخل له بما نحن فيه ، وإن أمكننا الذبّ عن المانعية بأنّ قوله عليه‌السلام : « إذا كان ممّا يؤكل لحمه » تسامح منشؤه اعتبار عدم كونه ممّا لا يؤكل لحمه.

وعلى كلّ حال ، يستفاد من هذه الرواية سؤالاً وجواباً ، أنّ كلّ ما ذكي بالحديد فهو ذكي ، فيكون من قبيل العموم [ الدال ] على أنّ كلّ حيوان قابل للتذكية ، فلا يكون من الاطلاقات. وهذا العموم ونحوه كافٍ في الحكم بأنّ كلّ

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ : ٣٤٨ / أبواب لباس المصلّي ب ٣ ح ٣ ، وفيه : « فقال عليه‌السلام : بلى إذا كان ... ».

(٢) رسالة الصلاة في المشكوك : ١٤٤ ـ ١٤٥.

١٩٨

حيوان قابل للتذكية. نعم خرج من ذلك نجس العين ، كما أنّه قد خرج منه الإنسان ، أمّا المسوخ فلا دليل على خروجها ، إذ لم تشتمل أخبارها إلاّعلى مجرّد التعداد ، أو بضمّ الحكم بعدم حلّية الأكل ، وذلك أجنبي عن قبوله التذكية من حيث الطهارة. وأمّا السباع فمع عدم ورود ما يدلّ على عدم قبولها للتذكية ، فقد ورد ما يدلّ على قبولها لها ، مثل ما تضمّنه موثّقة سماعة « سألته عن جلود السباع ينتفع بها؟ قال عليه‌السلام : إذا رميت وسمّيت فانتفع بجلده » (١).

وأمّا الحشرات ممّا هو من قبيل ذي النفس ، مثل الفار والجرذ وابن عرس واليربوع ونحوها ، فلم يرد فيها ما يدلّ على عدم القبول للتذكية ، فيكون العموم فيها هو المحكّم. وقد ذكر في الجواهر (٢) الضب. وكونه من ذي النفس غير معلوم ، على أنّ الذي يظهر منه قدس‌سره في كتاب الطهارة (٣) أنّه ليس من ذي النفس. وينبغي مراجعة ما حرّرناه في رسالة عملناها في حكم بيع جلده ، كما ينبغي مراجعة ما حرّرناه في شرائط التذكية من فري الأوداج وشرحها وبيان الشرائط الأُخر مثل الاستقبال والتسمية (٤).

ثمّ إنّ التمسّك باطلاقات التذكية واضح على القول بكونها اسماً للسبب ، وكذلك على القول بكونها اسماً للمسبّب ، فإنّه يكون نظير التمسّك باطلاق المعاملة كالبيع مثلاً فيما لو شكّ في اعتبار شيء فيه ، بناءً على كونها أسماء

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٤ : ١٨٥ / أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٣٤ ح ٤.

(٢) جواهر الكلام ٣٦ : ١٩٩.

(٣) جواهر الكلام ٥ : ٣٠٠.

(٤) مخطوطان ، لم يطبعا بعد.

١٩٩

للمسبّبات.

ويمكن أن يقال : إنّ من جملة إطلاقات التذكية لكلّ حيوان قوله في حديث البرقي فيما نقله في لباس المصلّي في الوافي (١) عن التهذيب (٢) قال عبد الله : وحدّثني علي بن أبي حمزة « أنّ رجلاً سأل أبا عبد الله عليه‌السلام ـ وأنا عنده ـ عن الرجل يتقلّد السيف ويصلّي فيه ، قال : نعم ، فقال الرجل : إنّ فيه الكيمخت (٣) فقال عليه‌السلام : وما الكيمخت؟ فقال : جلود دواب ، منه ما يكون ذكياً ومنه ما يكون ميتة ، فقال عليه‌السلام : ما علمت أنّه ميتة فلا تصلّ فيه » (٤) لكن وروده في الصلاة يشعر بأنّه لابدّ أن يكون ممّا يؤكل لحمه ، ومع ذلك فلا يخلو عن إشعار بالعموم ، إذ أقصى ما في البين هو كون الرواية مخصّصة بما لا يؤكل لحمه ، من جهة الأدلّة الدالّة على عدم جواز الصلاة فيما لا يؤكل لحمه ، وهذا لا ينافي ما يستفاد من

__________________

(١) الوافي ٧ : ٤٢٠ / ٦٢٤٣.

(٢) التهذيب ٢ : ٣٦٨ / ١٥٣٠.

(٣) قال في المجمع [ ٢ : ٤٤١ ] في مادّة كمخ : وفي الحديث « لا بأس بتقليد السيف في الصلاة فيه الغِراء والكيمخت » بالفتح فالسكون. وفسّر بجلد الميتة المملوح ، وقيل : هو الصاغري المشهور ، انتهى. وكأنّه اجتهاد في قبال ما فسّر به في هذه الرواية. وقال في المجمع [ ١ : ٣١٥ ] في مادّة غرا : وفي الحديث ذكر الغِراء والكيمخت. الغراء ككتاب شيء يتّخذ من أطراف الجلود يلصق به ، وربما يعمل من السمك ، انتهى. وفي الوافي [ ٧ : ٤١٧ / ذيل ح ٦٢٣٤ ] الغراء ـ بكسر الغين المعجمة والراء المهملة والمد ـ ما يلصق به ويتّخذ من الجلود والسمك ، انتهى. ذكر ذلك في بيان قوله : عن تقليد السيف في الصلاة فيه الغِراء والكيمخت ، فقال عليه‌السلام : لا بأس ما لم يعلم أنّه ميتة [ منه قدس‌سره ].

(٤) وسائل الشيعة ٣ : ٤٩١ / أبواب النجاسات ب ٥٠ ح ٤.

٢٠٠