أصول الفقه - ج ٧

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٧

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-72-0
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٩٢

الشرط في ناحية الوضوء ، لأنّ قاعدة الطهارة لا تقف في هذا المثال في جنب استصحابها في قبال استصحاب الحدث ، لأنّ منشأ التعارض كونهما إحرازيين ، وقاعدة الطهارة أجنبية عن هذه الجهة. ومثله ما لو كان له آنية كبرى طاهرة وصغرى نجسة ، وعلم أنّه إمّا نجّس الكبرى أو طهّر الصغرى.

لكن شيخنا قدس‌سره في هذا الفرض ـ أعني فرض الوضوء ـ تابع الجماعة ، واعتمد على إجراء استصحاب طهارة الأعضاء واستصحاب الحدث ، وأنّه لا تعارض بينهما لعدم القدر الجامع ، فهما نظير استصحاب الحياة وعدم نبات اللحية ، وقد حقّق في محلّه أنّ المخالفة الاحرازية لا تكون مانعة من الجمع في أمثال ذلك ، وحينئذ تتوجّه مشكلة أنّه عند تجديد وضوئه بماء طاهر يعلم أنّ ذلك الوضوء غير مأمور به ، إمّا لكونه متوضئاً ، وإمّا لأنّ أعضاءه نجسة. وينبغي مراجعة حاشية ٢٥٦ (١) وحاشية ٢٥٩ (٢) من أواخر الاستصحاب وحاشية ١٥٦ (٣) على فرع المخدع من استصحاب الكلّي.

نعم ، في مثل ما لو كان متطهّراً من الحدث ، وعلم إجمالاً أنّه إمّا قد أحدث وإمّا نجّس ثوبه الطاهر ، فإنّه لا إشكال في تعارض الاستصحابين هنا ، لكونهما موجبين للمخالفة القطعية ، وبعد التساقط يكون المرجع هو قاعدة الطهارة في ثوبه ، وأصالة البراءة من حرمة المس ، وبعد التساقط يلزمه الوضوء وتطهير ثوبه ، هذا على كلّ من المسلكين. أمّا مسلك الجماعة ، فلما عرفت ، وأمّا على مسلك

__________________

(١) راجع المجلّد الحادي عشر من هذا الكتاب ، صفحة : ٥١٩ وما بعدها.

(٢) راجع المجلّد الحادي عشر من هذا الكتاب ، صفحة : ٥٣٩ وما بعدها ، وراجع أيضاً صفحة : ٥٤٣ وما بعدها.

(٣) راجع المجلّد التاسع من هذا الكتاب ، صفحة : ٣٨٧ وما بعدها.

٥٢١

شيخنا فلأنّ قاعدة الطهارة في الثوب كما تسقط بسقوط استصحاب طهارته ، فكذلك تسقط البراءة من حرمة المس بسقوط استصحاب الطهارة.

قوله : وقد يتوهّم أنّ العلم بنجاسة أحد الاناءين اللذين كان أحدهما متيقّن الطهارة قبل العلم الاجمالي ... الخ (١).

سيأتي إن شاء الله تعالى في أواخر الاستصحاب في حواشي ص ١٩٥ (٢) بعض النقوض على ما أفاده قدس‌سره هنا والجواب عنه.

وأمّا المثال الذي نقضوا به فنقول : إنّه لِمَ لا نقول إنّ استصحاب الطهارة فيما كان متيقّن الطهارة قبل العلم الاجمالي بطروّ النجاسة معارض باستصحاب الطهارة الثابتة قبل العلم الاجمالي بقاعدة الطهارة ، وبعد تساقط الاستصحابين يكون المرجع في كلّ منهما هو قاعدة الطهارة. أمّا في الأوّل فواضح ، وأمّا في الثاني فهي الجارية فيه بلحاظ الشكّ الناشئ من العلم الاجمالي ، وهي غير تلك التي كانت موجودة فيه قبل العلم الاجمالي. ولو قلنا بأنّ الاستصحاب المتعارض هو عبارة عن استصحاب عدم وقوع تلك النجاسة المعلومة بالاجمال في هذا ، وعدم وقوعها في ذاك ، وبعد تعارضهما يكون المرجع هو قاعدة الطهارة في كلّ منهما ، وليست هي في الثاني عبارة عن التي كانت جارية فيه قبل العلم الاجمالي ، لأنّ تلك كان منشؤها الشكّ السابق على ذلك العلم الاجمالي ، وهذه كان منشؤها الشكّ الآتي من ناحية العلم الاجمالي. وهذه المسألة داخلة في التنبيه الثاني من تنبيهات الاستصحاب الذي يبحث فيه عن جريان الاستصحاب فيما لو كان المتيقّن السابق ثابتاً بأمارة أو بأصل إحرازي أو بأصل غير إحرازي ، فراجع ما

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٧.

(٢) راجع المجلّد العاشر من هذا الكتاب ، الصفحة : ٢٣٧ وما بعدها.

٥٢٢

حرّرناه فيما علّقناه (١) على ما أفاده شيخنا قدس‌سره وتأمّل.

ولكن هذا على ما فيه من الإشكال في استصحاب مقتضى قاعدة الطهارة ، من جهة كونه من قبيل الاحراز التعبّدي لما هو محرز بالوجدان ، ومن جهة أنّه بعد سقوطه يكون المرجع قاعدة الطهارة غير القاعدة السابقة ، أنّه إنّما يتأتّى فيما لو كان المكلّف ملتفتاً إلى الإناءين قبل طروّ العلم الاجمالي ، وكان أحدهما المعيّن متيقّن الطهارة ، وكان الآخر مشكوكها ، ثمّ حدث العلم الاجمالي بوقوع النجاسة في أحدهما الموجبة لرفع إحدى الطهارتين اليقينية والظاهرية. أمّا لو كان المكلّف غافلاً ، ولم يكن إلاّ أنّه رأى النجاسة وقعت في إحداهما ، ولمّا التفت إلى ذلك علم بأنّ الكبير كان طاهراً قبل وقوع هذه النجاسة ، أمّا الصغير فلم يعلم حالته السابقة ما هي ، فهو الآن شاكّ في حالته السابقة ، ويحتمل أيضاً وقوع تلك النجاسة فيه ، ولا يكون له حينئذ إلاّحكم واحد وهو الطهارة بقاعدة الطهارة ، من دون أن يكون مسبوقاً بحكم ظاهري كي يجري فيه استصحاب ذلك الحكم ، فلمّا لم يكن ذلك الصغير مسبوقاً بالشكّ لم يكن قبل العلم الاجمالي مورداً لحكم قاعدة الطهارة قبل العلم ، بل إنّما يكون مورداً لها بعد العلم الاجمالي ، فتكون هي المعارضة للاستصحاب الجاري بعد العلم المذكور في الطرف الآخر ، فيسقطان معاً ، ولا يبقى موردها وهو الصغير محلاً لشيء من الأُصول.

إلاّ أن يقال : إنّه مجرى لأصالة البراءة من حرمة الشرب ، لكن بعد التعارض مع قاعدة الطهارة في الآخر يبقى الآخر مجرى للبراءة من حرمة شربه بلا معارض ، فإنّ البراءة من حرمة شربه محكومة فيه لقاعدة الطهارة ، فيبقى المحذور بحاله.

__________________

(١) راجع المجلّد التاسع من هذا الكتاب ، الصفحة : ٢١٠ وما بعدها.

٥٢٣

لا يقال : يجري في كلّ منهما استصحاب عدم وقوع النجاسة فيه ، وبعد التعارض يكون المرجع هو قاعدة الطهارة في كلّ منهما.

لأنّا نقول : إنّه بعد تساقط أصالة العدم في كلّ منهما يكون المرجع فيما كان طاهراً هو استصحاب طهارته في قبال قاعدة الطهارة في الآخر ، فيعود المحذور. هذا مضافاً إلى أنّ استصحاب عدم وقوع النجاسة في الآخر لا أثر له ، إذ لم يحرز بعدُ طهارته ولا نجاسته.

وربما يقال : إنّ هذا الطرف غير المعلوم حالته السابقة يكون في حدّ نفسه مشكوكاً في الرتبة السابقة على الشكّ الآتي من ناحية هذا العلم الاجمالي ، ويكون ذلك الشكّ السابق في الرتبة محكوماً بقاعدة الطهارة ، وبلحاظ الشكّ الآتي من ناحية العلم الاجمالي يحصل الشكّ في بقاء ذلك الحكم الظاهري الطارئ على ذلك الشكّ السابق في الرتبة ، فيجري استصحابه. لكن لا يخلو عن منع ، لأنّ الاستصحاب يحتاج إلى الجرّ بحسب عمود الزمان ، ولا يصحّحه الجر من السابق رتبة ، فتأمّل. هذا ما كنّا حرّرناه سابقاً.

ولكن لا يخفى أنّه لو تمّ ما ذكر من بقاء قاعدة الطهارة في الاناء الكبير بعد سقوط استصحاب الطهارة فيه ، ننقل الكلام إلى الاناء الصغير بعد سقوط قاعدة الطهارة فيه وبقي بلا أصل شرعي ، نقول إنّه هل هناك مانع يمنع من ارتكابه ولو مثل أنّ الأصل في الأشياء مع قطع النظر عن الترخيص الحظرُ والمنع ، دخلت المسألة فيما يكون أحد الطرفين وهو الكبير مجرى للأصل الشرعي النافي ، وكان الطرف الآخر مجرى للأصل العقلي القاضي بالاجتناب. وإن لم يحكم العقل بالاجتناب في ذلك بل سوّغ الارتكاب ، تعارض الأصلان مع المخالفة القطعية.

والحاصل : أنّ شيخنا قدس‌سره لابدّ أن يقول بأنّ المانع من الطرف ليس نفس

٥٢٤

العلم الاجمالي ، وإلاّ لكان مانعاً من قاعدة الطهارة في الطرف الأوّل أعني الكبير ، فلابدّ أن يكون المانع عنده من الطرف الآخر هو الاحتياط فيما لم يكن فيه ترخيص من جانب الشارع ، فتدخل المسألة فيما لو كان أحد الطرفين مجرى للأصل النافي والآخر مجرى للأصل المثبت. وإن لم يكن عنده مانع من الطرف الآخر ، وأنّ العقل يجوّزه ، سقطت قاعدة الطهارة وذلك التجويز العقلي ، فتأمّل.

وعلى كلّ حال ، لا داعي له قدس‌سره إلى الالتزام بما أفاده من سقوط قاعدة الطهارة بسقوط استصحابها.

قوله : بقي التنبيه على أُمور : الأوّل ... الخ (١).

الأولى أوّلاً أن ينقّح (٢) أنّ العلم المتعلّق بنجاسة هذا الاناء مثلاً أو غصبيته ، هل هو من قبيل العلم التفصيلي ، نظراً إلى العلم بما يوجب الاجتناب عنه إمّا لنجاسته أو لكونه مغصوباً ، بناءً على أنّ مثل هذه الجهات من الجهات التعليلية ، أو أنّه من قبيل العلم الاجمالي ، نظراً إلى أنّ هذه الجهات جهات تقييدية. وعلى أيّ حال يلزم الاجتناب عنه ، ويترتّب أثر كلّ من العنوانين ، سواء كان الأثر فيهما واحداً ، بأن يكون الحكم في كلّ منهما هو مجرّد وجوب الاجتناب ، أو كان لكلّ منهما أثر زائد على ذلك ، لزم أيضاً ترتيب كلا الأثرين ، كما لو علم نجاسته إمّا بالبول مثلاً أو بالولوغ ، بناءً على أنّه يعتبر في التطهير من نجاسة البول الغسل ثلاثاً وفي نجاسة الولوغ الغسلتان مع التعفير ، فيكون التعفير مقابلاً للغسلة الثالثة.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٩.

(٢) بسمه تعالى : إنّ هذا الذي حرّرته في هذا الفرع هنا قد عدلت عن كثير من وجوهه وفعلاً لا أعتمد على هذا المحرّر هنا ، والعمدة هو ما حرّرته في شرح العروة في التعليق على هذا الفرع ، جمادى الثانية ١٣٧٩ [ منه قدس‌سره ].

٥٢٥

نعم ، لو كان الأثر الزائد مختصّاً بخصوص أحد العنوانين ، كما لو كان الحكم في إحدى النجاستين هو الغسل مرّتين وفي الأُخرى هو الغسل ثلاثاً ، فإنّ العلم الاجمالي لا ينجّز الغسلة الثالثة ، وإن قلنا بلزومها من جهة استصحاب النجاسة ، لكن ذلك مستند إلى الاستصحاب المذكور لا إلى العلم الاجمالي.

ثمّ بعد الفراغ عن هذه الجهات ننقل الكلام إلى العلم الاجمالي المردّد بين إناءين ، فتارةً يعلم إجمالاً بأنّ كلاً من الاناءين إمّا نجس أو مغصوب ، وأُخرى يعلم إجمالاً بأنّ أحدهما لا بعينه إمّا نجس أو مغصوب ، وثالثة يعلم إجمالاً إمّا كون الصغير منهما نجساً أو كون الكبير منهما مغصوباً من دون عكس ، أمّا مع العكس فهو راجع إلى الصورة الثانية. وهذه الصور الثلاث تشترك في لزوم الاجتناب عن كلا الاناءين ، وذلك لا إشكال فيه.

وممّا يتفرّع على ما حرّرناه أوّلاً من تنجيز العلم الاجمالي المردّد بين نجاسة الاناء وغصبيته ، مسألة عدم جواز الوضوء منه كما هو الأقوى ، أو جواز ذلك كما ينقل عن المرحوم الشيخ محمّد طه نجف قدس‌سره ، وتبعه جملة من تلامذته ، ومنهم المرحوم الشيخ علي آل صاحب الجواهر قدس‌سره (١) ، ويظهر من المرحوم الشيخ أحمد كاشف الغطاء في حاشيته على العروة ، نظراً إلى أنّ حرمة الوضوء بالنجس غير ذاتية ، وأنّها تشريعية ، والحرمة التشريعية لا تجري في صورة الشكّ بالاقدام على الوضوء لاحتمال كونه طاهراً في الواقع ، فلم يبق إلاّحرمة التصرّف في المغصوب ، وحيث إنّها منفية بأصالة البراءة ، فلا مانع من جواز الوضوء به مع إجراء استصحاب الطهارة أو قاعدتها في أعضاء الوضوء.

وفيه أوّلاً : المنع من عدم تأتّي الحرمة التشريعية ، وذلك للعلم بأنّ هذا

__________________

(١) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ١ : ١١٣ مسألة (٤).

٥٢٦

الوضوء غير مطلوب منه.

وثانياً : المنع من أصالة الحل أو البراءة في الشكّ في الغصبية ، لأصالة الحرمة في الأموال ، اللهمّ إلاّ أن يكون في البين استصحاب الملكية ، لكنّه حينئذ معارض باستصحاب الطهارة ، كما لو كان ذلك الماء طاهراً مملوكاً وعلم إجمالاً إمّا بنجاسته أو بطروّ الخروج عن الملكية ، وفي غير هذا الفرض لا يتصوّر الرجوع إلى استصحاب الملكية مع كون المورد من موارد العلم الاجمالي المردّد بين النجاسة والغصب. نعم في صورة العلم الاجمالي المردّد بين كون الماء نجساً وكون الآنية من الفضّة ، لا يتأتّى فيها إشكال الرجوع إلى أصالة الحرمة.

وثالثاً وهو العمدة : أنّه يشترط في ماء الوضوء الطهارة ، وأصالة الطهارة غير جارية في المقام ، لمعارضتها بأصالة الحل.

ومن ذلك يعرف الحال فيما لو تردّد الماء بين كونه مضافاً أو نجساً فيما لو كان مورداً لاستصحاب الاطلاق ، فإنّه معارض باستصحاب الطهارة أو بقاعدتها. ولو فرضنا بقاء قاعدة الطهارة بعد سقوط استصحابها بمعارضته لاستصحاب الاطلاق ، لم يمكن الحكم بصحّة الوضوء منه ، لعدم إحراز إطلاق الماء ، فراجع ما حرّره المرحوم الشيخ أحمد في حاشيته (١) وتأمّل.

قال المرحوم الشيخ أحمد آل كاشف الغطاء في حواشيه على قوله في العروة : والقول بأنّه يجوز التوضّؤ به ... أقول : ووجهه أنّ النجاسة إنّما تؤثّر في الجهة الوضعية وهي بطلان الوضوء ، والغصبية إنّما تؤثّر في الحرمة التكليفية ، فلا مانع من جريان أصالة الطهارة فيه ولذا لا نحكم بنجاسة ما لاقاه ، ولا من جريان أصالة الاباحة فيه ، ولذا يجوز استعماله في غير الوضوء كالتبرّد به بل وإزالة

__________________

(١) لم نعثر على الحاشية المذكورة.

٥٢٧

النجاسة به. والحرمة التكليفية إنّما تمنع من الوضوء به عند تنجّزها لا بوجودها الواقعي ، وحينئذ لا مانع من الوضوء به وإن منعنا من شربه ، لأنّ كلاً من النجاسة والغصبية مؤثّرة في الحرمة التكليفية بالنسبة إلى الشرب. ومنه يعلم حكم الفرض السابق وهو ما لو علم بأنّه إمّا مضاف أو مغصوب وكانت حالته السابقة هي الاطلاق ، فإنّه يجوز شربه ويجوز الوضوء به ، وهذا وإن كان وجيهاً بمقتضى القواعد لكنّه بعدُ لا يخلو من تأمّل ، فلا ينبغي ترك الاحتياط فيه (١) ، انتهى.

قوله رحمه‌الله : فلا مانع من جريان قاعدة الطهارة فيه.

المانع هو معارضتها بقاعدة الحل المعبّر عنها بأصالة الاباحة ، لو قلنا بأنّ الأصل في شبهات الأموال هو الاباحة. نعم لو قلنا بأنّ الأصل في الأموال هو الاحتياط بالاجتناب ، لكانت قاعدة الطهارة جارية فيه ، إلاّ أنّها لا تنفع في جواز الوضوء به ، لأجل الاحتياط بلزوم الاجتناب عنه كما سيأتي.

قوله رحمه‌الله : ولذا لا نحكم بنجاسة ما لاقاه.

ليس منشأ عدم الحكم بنجاسة ملاقيه هو جريان قاعدة الطهارة في الملاقى ـ بالفتح ـ بل المنشأ فيه هو أنّ عدم إحراز نجاسة ذلك الملاقى ـ بالفتح ـ كافٍ في الحكم بطهارة الملاقي ـ بالكسر ـ استناداً إلى قاعدة الطهارة فيه وإن لم تكن جارية في الملاقى ـ بالفتح ـ.

قوله رحمه‌الله : ولا من جريان أصالة الاباحة فيه.

قد عرفت المانع وهو المعارضة بين القاعدتين.

قوله رحمه‌الله : ولذا يجوز استعماله في غير الوضوء كالتبرّد به بل وإزالة النجاسة.

إن قلنا بانقلاب الأصل في الأموال ، ولزوم الاحتياط فيها بالاجتناب ، جرت

__________________

(١) لم نعثر على الحاشية المذكورة.

٥٢٨

فيه أصالة الطهارة مع لزوم الاجتناب عن التصرّف فيه ، لعدم المنافاة بينهما ، فلا يجوز استعماله في كلّ من التبريد وإزالة النجاسة ، وإن حصلت الطهارة من الخبث باستعماله في ذلك كما تحصل في الغسل بالطاهر المعلوم الغصبية. وإن لم نقل بالانقلاب المذكور ، وقلنا بأصالة الاباحة في شبهات الأموال ، جاز استعماله في التبرّد استناداً إلى أصالة الاباحة ، لعدم معارضتها في هذا الأثر وهو التبرّد بأصالة الطهارة ، لجواز التبرّد في معلوم النجاسة ، وهذا بخلاف استعماله في إزالة النجاسة ، لمعارضتها فيه بأصالة الطهارة ، إذ ما لم يحرز طهارة الماء لا يكون الغسل فيه رافعاً لنجاسة المغسول ، وحينئذ يتعارض الأصلان أعني أصالة الطهارة وأصالة الاباحة ، فلا يبقى ما يسوّغ لنا التصرّف فيه بالغسل.

قوله رحمه‌الله : ومنه يعلم حكم الفرض السابق وهو ما لو علم بأنّه إمّا مضاف أو مغصوب ، وكانت حالته السابقة هي الاطلاق ، فإنّه يجوز شربه ويجوز التوضّي به.

لا يخفى أنّه لو كان الماء مسبوقاً بالاطلاق والاباحة ، وطرأته حالة مردّدة بين الانقلاب إلى الاضافة أو الانقلاب إلى الغصبية ، كان استصحاب إطلاقه معارضاً باستصحاب إباحته ، فيتساقطان ، وحينئذ يجوز شربه لعدم إحراز غصبيته ، بناءً على عدم لزوم الاحتياط في شبهات الأموال ، ولكن لا يصحّ التوضؤ به ، لعدم إحراز إطلاقه. ولو كان المسبوق به هو الاطلاق فقط دون الملكية والاباحة ، بأن تردّد هذا الماء المسبوق بالاطلاق بين طروّ الاضافة عليه ، وكونه مملوكاً لمن لم يأذن فيه فيكون مغصوباً من أوّل الأمر ، بمعنى أنّ هذا الماء الذي كان مطلقاً هو فعلاً مردّد بين طروّ الاضافة عليه أو كونه مغصوباً من أوّل الأمر ، لم يصحّ الوضوء منه لعدم إحراز إطلاقه ، لسقوط استصحاب الاطلاق فيه بالمعارضة

٥٢٩

مع أصالة الإباحة فيه. هذا إن قلنا بأصالة الاباحة في شبهات الأموال ، وكذا لو قلنا بأصالة الاحتياط فيها ، فإنّه وإن جرى فيه استصحاب الاطلاق ، إلاّ أنّ أصالة الاحتياط بالأموال حينئذ قاضية بلزوم الاجتناب عنه ، وعدم جواز استعماله في وضوء أو شرب.

وينبغي أن يعلم أنّه لو اقتصر في توجيه هذا القول على مجرّد أنّ النجاسة إنّما تؤثّر في الجهة الوضعية ، وهي بطلان الوضوء ، والغصبية إنّما تؤثّر في الحرمة التكليفية ، وهي إنّما تمنع من الوضوء به عند تنجّزها لا بوجودها الواقعي ، والمفروض أنّها في المقام غير منجّزة لعدم العلم بها تفصيلاً وهو واضح ، وأمّا العلم الاجمالي المردّد بينها وبين النجاسة فلا ينجّزها ، لأنّه ليس بعلم بتكليف على كلّ حال ، بل هو علم مردّد بين التكليف والوضع ، وهذا المقدار لا أثر له في التنجيز ، وحينئذ يصحّ له الوضوء ، بل والصلاة في ذلك الوضوء ، لعدم علمه ببطلان وضوئه على كلّ حال ، هذا مع الغضّ عن تعارض الأُصول وتساقطها ، وإلاّ كانت أصالة الطهارة فيه معارضة بأصالة الاباحة ، فلا يمكن الوضوء منه ، لعدم إحراز شرطه وهو طهارة الماء.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ هذين الأصلين لا تعارض بينهما ، لأنّ التعارض بين الأُصول غير الاحرازية الموجب لتساقطها منحصر بما إذا أدّى إلى المخالفة القطعية لتكليف معلوم في البين ، وليس هذا المورد من ذلك ، لأنّ الاعتماد على هذين الأصلين والاقدام على الوضوء بذلك الماء لا يوجب القطع بمخالفة تكليف موجود في البين ، غايته أنّه بعد الفراغ يعلم إجمالاً ببطلان وضوئه أو ارتكابه التصرّف بالمغصوب ، وهذا العلم لا أثر له إلاّ إذا كان لتصرّفه فيه أثر فعلي كضمان قيمته لصاحبه ، فإنّه حينئذ يعلم تفصيلاً بأنّه مكلّف بأحد الأمرين ، من

٥٣٠

إعادة الوضوء أو دفع ثمن ذلك الماء لصاحبه. وكذا لو كان لذلك الماء بقية ، فإنّه يعلم إجمالاً إمّا ببطلان وضوئه أو حرمة التصرّف في باقي الماء ، هذا غاية ما يمكن أن يقال في توجيه هذا القول.

ولكن لا يخفى أنّ الجمع بين هذين الأصلين وإن لم يكن منتهياً إلى المخالفة القطعية لتكليف معلوم في البين بالنسبة إلى خصوص هذا الأثر أعني الوضوء ، إلاّ أنّهما ينتهيان إلى ذلك بالنسبة إلى الآثار الأُخر كالشرب مثلاً ، وذلك كاف في تعارضهما وسقوطهما ، إذ لا يعقل التفكيك بالقياس إلى الآثار ، بحيث يكون الأصلان متعارضين متساقطين في بعضها وجاريين في البعض الآخر الذي لا يلزم منه المخالفة العملية القطعية كما حقّق ذلك في محلّه ، وإلاّ كان اللازم عدم تعارض الأُصول في مسألة الشبهة المحصورة بالنجاسة بين الاناءين بالنسبة إلى الوضوء ، وجاز للمكلّف أن يتوضّأ من أحدهما ، بدعوى أنّه لا يلزم من الوضوء بأحدهما أو كلّ منهما اعتماداً على قاعدة الطهارة في كلّ منهما مخالفة عملية قطعية لتكليف معلوم في البين بالقياس إلى هذا الأثر أعني الوضوء ، إذ ليس في ذلك إلاّ الحكم الوضعي أعني البطلان ، ولا دافع لذلك إلاّما عرفت من أنّهما وإن لم ينتهيا إلى المخالفة العملية القطعية بالنسبة إلى الوضوء ، إلاّ أنّهما ينتهيان إلى ذلك بالنسبة إلى الشرب ، فتأمّل.

فإنّ فيه أوّلاً : أنّ الشرب في المثال معلوم الحرمة. وثانياً أنّ ذلك منقوض بما لو علم نجاسة هذا التراب أو غصبيته ، وكذلك هو منقوض بما لو علم بنجاسة أحد الترابين ، فإنّ قاعدة الطهارة في كلّ منهما معارضة بها في الآخر ، مع أنّ الأثر منحصر في الجهة الوضعية وهي بطلان التيمّم. وكذلك الحال فيما لو علم إجمالاً بنجاسة هذا التراب أو خمرية ذلك المايع أو غصبيته ، بل وكذلك الحال في

٥٣١

الماءين المعلوم نجاسة أحدهما ، بل في الماء الذي علم إجمالاً نجاسته أو خمرية ذلك المائع ، فإنّ أصالة الطهارة في جواز شربه وإن كانت معارضة بقاعدة الحل في ذلك المائع ، إلاّ أنّ جواز الوضوء به استناداً إلى قاعدة الطهارة لا يعارضها أصالة الحل ، إذ لا يلزم منهما مخالفة عملية لتكليف إلزامي في البين.

وما ذكرناه من عدم التبعيض في الآثار ممنوع ، إذ لا يلزم من سقوط الحكم بجواز شربه استناداً إلى قاعدة الطهارة لأجل معارضتها بقاعدة الحل في ذلك المايع سقوط جواز الوضوء به استناداً إلى قاعدة الطهارة.

وبالجملة : أنّ مقتضى ما ذكرناه من عدم الانتهاء في الأُصول في الجهات الوضعية إلى المخالفة القطعية لتكليف إلزامي ، هو أن لا يكون مانع من الرجوع إلى قاعدة الطهارة في الماء الذي علم نجاسته أو خمرية ذلك المايع ، والتراب الذي علم نجاسته أو نجاسة التراب الآخر أو نجاسته وخمرية ذلك المايع ، ففي مثل الماءين أو الترابين المعلوم نجاسة أحدهما لا نحتاج إلى تكرار الوضوء بالنحو الذي ذكروه في الشبهة المحصورة ، أو إلى تكرار التيمّم في كلّ من الترابين ، بل لازمه جواز الوضوء أو التيمّم بأحد الطرفين استناداً إلى قاعدة الطهارة ، إذ لا تعارضها قاعدة الطهارة في الطرف الآخر ، وكذا لا مانع من الوضوء أو التيمّم بهذا الطرف استناداً إلى قاعدة الطهارة ، ولا تعارضها أصالة الحل في ذلك المايع ، إذ لا يلزم من إجراء الأصلين مخالفة عملية لتكليف إلزامي.

وهكذا الحال فيما علم بكون ثوبه ممّا لا يؤكل لحمه أو خمرية ذلك المائع ، فإنّه يجوز الصلاة فيه استناداً إلى البراءة من مانعيته ، ولا تعارضها أصالة الحل في ذلك المائع ، إذ لا يلزم من إجراء الأصلين مخالفة عملية قطعية لتكليف إلزامي. وكونه بعد الصلاة يعلم إجمالاً إمّا ببطلان صلاته أو حرمة ذلك المائع

٥٣٢

عليه ، لا دخل له في تحقّق التعارض بين الأصلين ، مضافاً إلى أنّه ربما لا يلزم الوقوع في العلم الاجمالي المذكور كما إذا شرب ذلك المائع قبل الصلاة.

وهكذا الحال فيما لو علم بكون أحد ثوبيه ممّا لا يؤكل لحمه ، فلا يقع فيه تعارض بين الأصلين في كلّ منهما ، فيجوز له حينئذ الصلاة بأحدهما. نعم لو صلّى فيهما معاً صلاة واحدة علم تفصيلاً ببطلان صلاته ، أو صلّى صلاة بأحدهما وأُخرى بالآخر يعلم إجمالاً بفساد إحدى الصلاتين ، إلاّ أنّ ذلك أمر آخر لا يوجب تحقّق التعارض بين الأصلين. وهكذا الحال فيما لو علم بأنّه مجنب أو أنّ ذلك الثوب ممّا لا يؤكل لحمه ، أو علم إمّا أنّه مجنب أو أنّ إمامه مجنب.

وعمدة هذه الإشكالات في هذه الفروع وأمثالها إنّما نشأ من تلك الدعوى التي ادّعيناها ، وهي عدم التعارض بين الأصل النافي في هذا الماء أو هذا التراب أو هذا الثوب مع الأصل النافي في الطرف الآخر ، بتخيّل أنّه لا يلزم من العمل بالأصلين مخالفة عملية قطعية لتكليف إلزامي معلوم في البين ، وليسا من الأُصول الاحرازية كي يكون الحكم بالاحرازين مع العلم الاجمالي بالخلاف موجباً تعارضهما وسقوطهما.

وطريق الحل في جميع هذه الفروع هو أن يقال : يكفي في المعارضة المخالفة العملية للوجوب الشرطي أو للنهي المولّد للمانعية ، فإنّ مخالفة هذا الوجوب الشرطي أو المانعية كافية في التعارض ، حيث إنّ العقل يمنع من مخالفة الوجوب الشرطي كما يمنع من مخالفة الوجوب النفسي الاستقلالي ، خصوصاً بناءً على ما أفاده شيخنا قدس‌سره (١) من أنّ الوجوب الشرطي وجوب نفسي غايته أنّه

__________________

(١) لاحظ حواشي المصنّف قدس‌سره المتقدّمة في المجلّد الثاني من هذا الكتاب ، الصفحة :

٥٣٣

ضمني ، ويكون من هذه الجهة حاله حال الوجوب الجزئي.

وبالجملة : أنّ العقل يلزم بإطاعة الوجوب الشرطي ، وبالملاك الذي نقول إنّ العقل يلزم باطاعته نقول إنّه يمنع من عصيانه ، وإن لم يكن في البين عقاب على نفس ذلك الترك ، وذلك لكفاية العقاب على ترك الواجب النفسي الحاصل بترك شرط ذلك الواجب.

وأنت بعد التأمّل في ذلك تعرف أنّ قاعدة الطهارة في الماء المذكور في أصل المسألة معارضة بقاعدة الحل فيه ، لأنّ إجراء الأصلين موجب للوقوع في المخالفة العملية القطعية ، إمّا للوجوب الشرطي في طهارة ماء الوضوء أو للحرمة النفسية للتصرّف في الماء المذكور.

وهذه المعارضة لا تتوقّف على ما في المستمسك (١) من دعوى كون قاعدة الطهارة في الماء موجبة لمخالفة الأمر بالوضوء بغيره ، فإنّ الأمر بالوضوء في المقام لو كان ذلك الماء نجساً في الواقع لا يكون عبارة عن قوله توضّأ بغير هذا الماء ، كي يكون إجراء قاعدة الطهارة في هذا الماء موجبة لمخالفة ذلك التكليف الالزامي ، أعني توضّأ بغير هذا الماء. نعم إنّ هذا المكلّف مأمور بالوضوء بالماء الطاهر ، وليس هذا الأمر هو أحد طرفي العلم الاجمالي ، لأنّه موجود قبل الابتلاء بذلك الاناء وقبل الترديد المذكور. نعم إنّ هذا المكلّف وعند إجرائه قاعدة الطهارة في هذا الماء مع إجرائه قاعدة الحل يكون قد خالف أحد التكليفين ، أعني حرمة التصرّف في ذلك الماء أو وجوب الوضوء بالماء الطاهر ، وهو عبارة

__________________

١٩٦ وما بعدها ، ولاحظ بالخصوص ما ذكره قدس‌سره في توضيح مرام المحقّق النائيني قدس‌سره في الصفحة : ٢٠٩ وما بعدها من ذلك المجلّد.

(١) مستمسك العروة الوثقى ١ : ٢٥٠.

٥٣٤

أُخرى عمّا ذكرناه من الوجوب الشرطي الذي هو كون ماء الوضوء طاهراً ، بل إنّ نفس وجوب الوضوء أيضاً شرطي لكونه شرطاً في الصلاة ، فلاحظ وتأمّل فإنّه دقيق نافع ، وقد تعرّضنا لذلك في آخر مباحث القطع الاجمالي فراجع (١) ، وفيما علّقنا على العروة الوثقى.

ولكن هذا كلّه إنّما يتمّ فيما لو كان الأمر بالمشروط وجوبياً ، بأن كان الوضوء في المثال واجباً ، أو كانت الصلاة في الأمثلة المذكورة واجبة ، أمّا لو كان الأمر المذكور استحبابياً كالوضوء للكون على الطهارة أو مقدّمة لفعل استحبابي ، ففيه إشكال ، إذ لا يكون في البين تكليف إلزامي على كلّ حال ، إلاّ أن نلتزم كما هو غير بعيد في المخالفة العملية الموجبة لسقوط الأُصول غير الاحرازية بالاكتفاء بالمخالفة العملية ولو لتكليف غير الزامي ، فلاحظ وتأمّل.

والذي تلخّص من هذا المبحث : هو أنّ لنا فرعين ، أحدهما الماء الواحد المردّد بين النجاسة والغصبية ، والآخر الاناءان الأصغر والأكبر مع العلم الاجمالي بنجاسة الأصغر أو غصبية الأكبر ، والمرحوم الشيخ محمّد طه قدس‌سره أجاز الوضوء من الاناء في المثال الأوّل ، وحينئذ يكون الحكم بجواز الوضوء من الاناء الأصغر في المثال [ الثاني ] بطريق أولى. كما أنّ غيره قد منعوا من الوضوء من الاناء الأصغر في المثال [ الثاني ] ، ويكون منعهم من الوضوء من الاناء في المثال الأوّل بطريق أولى.

ولا يخفى أنّ الكلام في هذين الفرعين إنّما هو بعد فرض كون المرجع في احتمال الغصبية في الماء إلى أصالة الحل ، وإلاّ فلو قلنا بانقلاب [ الأصل ] في الأموال كالدماء ، فكان الأصل في احتمال الغصبية هو الاحتياط بالاجتناب ،

__________________

(١) راجع المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : ٢٣٧ وما بعدها.

٥٣٥

لا نعكس الحكم على كلّ من الفريقين في كلّ من المثالين. أمّا على المرحوم الشيخ في المثال الأوّل ، فلأنّ أصالة الاحتياط مانعة حينئذ من الوضوء من ذلك الماء المردّد بين النجاسة والغصبية. وأمّا على الجماعة فلأنّ المرجع في المثال الثاني هو أصالة الاحتياط في الاناء الكبير ، وحينئذ ينحلّ العلم الاجمالي ، لكون الأصل في [ أحد ] طرفيه وهو الاناء الكبير مثبتاً وفي الطرف الآخر وهو الاناء الصغير نافياً.

ثمّ بعد البناء على خلاف ذلك وأنّ المرجع في احتمال الغصبية هو أصالة الحل تقع الشبهة السابقة ، وهو أنّه قبل الإقدام لا تكون المسألة من قبيل العلم بتكليف منجّز ، وبعد الفراغ لا يحصل العلم ببطلان الوضوء ، لاحتمال كون الماء مغصوباً مع فرض عدم تنجّز الغصبية حين الإقدام.

والجواب عنه منحصر بما عرفت من التعلّق بالوجوب الشرطي ، وهو وجوب شرعي نفسي ، غايته أنّه ضمني ، وحينئذ يكون الجمع بين قاعدة الطهارة وقاعدة الحل في ذلك الماء موجباً للوقوع في المخالفة القطعية للتكليف الموجود في البين ، وهو إمّا حصّل الشرط وإمّا اجتنب عن المغصوب. ولو لم نقل بكون الشرط واجباً نفسياً بل قلنا بكونه واجباً غيرياً مقدّمياً ، لكان ذلك كافياً أيضاً في المنع من جريان قاعدة الطهارة مع قاعدة الحل ، لأنّ الوجوب المقدّمي مستتبع للعقاب ولو على ذي المقدّمة ، وذلك كافٍ في المنع [ عن ] جريان الأصل النافي ، ولأجل ذلك نقول : إنّه لو دار الأمر بين وجوب الفعل الفلاني مقدّمة لواجب آخر ، أو حرمة ذلك الاناء لكونه خمراً ، لا يمكن الجمع بين أصالة البراءة من الوجوب المذكور وأصالة الحل في ذلك الاناء. نعم يشكل الأمر فيما لو كان الوضوء المذكور استحبابياً ، فتأمّل.

٥٣٦

ولكن ذلك لا يخلو عن تأمّل ، فإنّ الوجوب الشرطي وكذلك المقدّمي لا يزيد على وجوب الوضوء ، وليس هو من طرفي هذا العلم الاجمالي ، ولا أثر لنجاسة الماء إلاّفساد الوضوء به الموجب لبقاء الأمر بالوضوء ، وليس ذلك تكليفاً شرعياً في قبال حرمة المغصوب ، فلاحظ.

قال في المستمسك : ولذا نقول لا يجوز رفع الخبث به أيضاً الخ (١) ، لكن لو رفع به الخبث غفلة ثمّ حصل له العلم الاجمالي المذكور المردّد بين كونه نجساً أو مغصوباً ، حكم بارتفاع النجاسة استناداً إلى قاعدة الطهارة في ذلك الماء ، باعتبار أثرها الفعلي وهو رافعية الخبث ، ولا يعارضها حينئذ قاعدة الحل لعدم الأثر لها بعد الفراغ عن اتلافه. نعم لو كان له بقية أو كان هناك ضمان تعارض الأصلان. وهكذا الحال فيما لو توضّأ به غفلة.

قال : نعم لا يبعد جواز التصرّف فيه ـ إلى قوله ـ فيرجع في الطرف الآخر إلى أصالة البراءة بعد سقوط أصالة الحل وأصالة الطهارة بالمعارضة الخ (٢). الظاهر أنّ أصالة البراءة ساقطة بسقوط أصالة الحل ، لأنّهما معاً معارضان لأصالة الطهارة ، لأنّ مفادهما واحد. ولو التزمنا باختلاف مفادهما على وجه جعلنا قاعدة الحل حاكمة على البراءة ، لكانت البراءة ساقطة أيضاً بسقوط قاعدة الحل ، بناءً على ما أفاده شيخنا قدس‌سره من سقوط كلّ من الحاكم والمحكوم بالمعارضة مع الأصل الآخر ، فلا يجوز التصرّف فيه ولو بمثل التبريد ونحوه ممّا هو غير مشروط بالطهارة. نعم لو قلنا بأنّ أصالة البراءة لا تسقط بسقوط أصالة الحل ، جاز ذلك التصرّف وإن لم يجز ما هو مشروط بالطهارة مثل الوضوء به وإزالة النجاسة ، لعدم إحراز ما هو

__________________

(١) مستمسك العروة الوثقى ١ : ٢٥٠.

(٢) المصدر المتقدّم.

٥٣٧

الشرط أعني طهارة الماء.

ثمّ إنّ الوجه في ابتناء المسألة على انحلال العلم الاجمالي فيما لو كان أحد طرفيه مجرى للأصل المثبت بناءً على ما ذكره من كون أصالة البراءة غير ساقطة بالمعارضة واضح ، فإنّه بعد أن تعارض فيه قاعدة الطهارة وقاعدة الحل بقينا نحن والعلم الاجمالي المردّد بين الوجوب الشرطي أو وجوب الوضوء بغيره ، وبين الحرمة التكليفية المتعلّقة بحرمة التبريد به ، والأصل في الأوّل مثبت ، إذ لا أقل من عدم إحراز الشرط ، وفي الثاني ناف لأصالة البراءة من حرمة التبريد به. اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ العلم الاجمالي علّة في التنجّز وإن لم تتعارض الأُصول في أطرافه فلاحظ وتأمّل.

والأولى أن يقال : إنّ التكليف بالوضوء وكذلك التكليف بشرطه الذي هو طهارة مائه لم يكن حادثاً بهذا العلم الاجمالي ، بل إنّه قبل الابتلاء بذلك الماء المردّد كان يجب عليه أن يتوضّأ بماء طاهر ، ولم يحدث له عند ابتلائه بذلك الماء إلاّمجرّد احتمال تكليف بالاجتناب عنه لاحتمال كونه مغصوباً ، فلا يكون هذا من العلم الاجمالي المنجّز للتكليف في حدّ نفسه ، لكن مع ذلك لا يمكنه الركون في ذلك الماء إلى قاعدة الطهارة وقاعدة الحل ، لأنّه بالجمع بينهما وإقدامه على الوضوء منه استناداً إليهما يكون قد وقع إمّا في مخالفة ذلك التكليف السابق الذي كان معلوماً لديه تفصيلاً وهو : توضّأ بالماء الطاهر ، وإمّا في مخالفة لا تتصرّف في هذا الماء ، وهذا المقدار من المخالفة القطعية كاف في المنع من الجمع بين هذين الأصلين ، وذلك موجب لتعارضهما وتساقطهما ، ولأجل ذلك لو قلنا بأنّه يعلم تفصيلاً بأنّ وضوءه من ذلك الماء غير مأمور به فهو لا يمكنه التقرّب به ، للعلم التفصيلي بأنّه غير مطابق لأمره الواقعي ، لم يكن بذلك بأس ،

٥٣٨

وهو أسهل الطرق في الحكم ببطلان الوضوء من الماء المذكور ، وبه يندفع المحذور في الوضوء الاستحبابي ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : التنبيه الثالث (١).

الكلام في هذا التنبيه يعاكس الكلام في التنبيه المعقود لمسألة الاضطرار إلى بعض الأطراف ، فإنّ الكلام في ذلك التنبيه معقود لما إذا كان بعض الأطراف لا يمكن امتثال التكليف فيه لو كان منطبقاً عليه ، والكلام في هذا التنبيه معقود لما إذا كان بعض الأطراف لا يمكن مخالفة التكليف فيه لو كان منطبقاً عليه.

ثمّ إنّ عدم إمكان مخالفة التكليف ، وبعبارة أُخرى عدم القدرة على مخالفة التكليف في بعض الأطراف ، تارةً يكون من جهة عدم القدرة عقلاً ، وأُخرى من جهة عدم القدرة شرعاً ، وثالثة من جهة عدم القدرة عادة. يعني أنّ المخالفة في بعض الأطراف تارة تكون غير مقدورة عقلاً ، كما لو فرض حصول العلم الاجمالي بنجاسة أحد الاناءين بعد تلف أحدهما. وأُخرى تكون غير مقدورة شرعاً ، لكون أحدهما ملكاً للغير ولا يأذن في التصرّف فيه ، ونظيره ما لو علم إجمالاً بأنّه قد حصل الرضاع المحرّم إمّا بينه وبين زوجته أو امرأة خليّة ، أو بينه وبين عمّته مثلاً. وثالثة تكون المخالفة للتكليف في أحد الطرفين غير مقدورة عادة ، لكونه لا يتمكّن عادة من الحصول على ذلك الطرف.

أمّا القسم الأوّل أعني غير المقدور عقلاً كما في التلف ، فلا شبهة في كونه موجباً لسقوط العلم الاجمالي عن التأثير ، فلا يكون علماً بتوجّه خطاب بالاجتناب على كلّ تقدير ، فإنّه كما يكون التكليف بالاجتناب عمّا لا يقدر عقلاً الاجتناب عنه محالاً ، لكونه تكليفاً بغير المقدور ، فكذلك يكون التكليف

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٠ / الأمر الثالث.

٥٣٩

بالاجتناب عمّا لا يقدر عقلاً على ارتكابه محالاً ، إمّا لكونه تحصيلاً للحاصل ، وإمّا لكون التكليف بالاجتناب عنه قبيحاً ، لأنّ الغرض من النهي هو إحداث الداعي إلى الاجتناب حيث يمكن أن تنقدح إرادة العبد للارتكاب ، فإذا لم يكن انقداح إرادة العبد ممكناً كان النهي عنه قبيحاً.

وأمّا القسم الثاني فالأولى أن يعلّل عدم التنجّز فيه بما مرّ (١) الكلام فيه في انحلال العلم الاجمالي بما إذا كان بعض أطرافه معلوم الحرمة تفصيلاً ، من دون حاجة إلى تكلّف أنّ غير المقدور شرعاً ملحق بغير المقدور عقلاً ، وعليه فلا فرق حينئذ بين كون احتمال الإذن أو الشراء من صاحبه قريباً أو بعيداً.

والأولى أن يمثّل لذلك بما إذا وجب إتلاف أحد الطرفين في جهة خاصّة مثل إطفاء نار يخشى منها على النفس أو إسقائه لنفس محترمة من جهة خوف التلف عليها من العطش ، ومثله أيضاً ما لو توقّف حفظ نفسه على شربه خوف التلف من العطش ، فإنّ مخالفة النهي المتعلّق باستعمال ذلك الطرف فيما لا يجوز استعماله فيه إلاّبالطهارة تكون غير مقدورة شرعاً ، فتأمّل.

وأمّا القسم الثالث وهو المعبّر عنه بالخروج عن محلّ الابتلاء ، فخلاصة العلّة في سقوط العلم الاجمالي به هو ما أشرنا إليه أخيراً في القسم الأوّل ، وهو أنّ النهي إنّما يحسن عند إمكان تعلّق إرادة العبد بارتكاب المنهي عنه ، وإذا كان الارتكاب ممتنعاً عادة بحيث إنّه كان الارتكاب غير ممكن عادة ، كان تعلّق إرادة العبد به غير ممكن عادة ، فلا يتحقّق ملاك حسن النهي ، وهو إمكان تعلّق إرادة العبد بالارتكاب. وقد شرحنا ذلك مفصّلاً وأوضحناه بما لا يمكننا المزيد عليه فعلاً في شرح عبارة الأُستاذ قدس‌سره في الوسيلة المتعلّقة بهذه المباحث.

__________________

(١) راجع فوائد الأُصول ٤ : ٣٧ وما بعدها.

٥٤٠