أصول الفقه - ج ٧

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٧

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-72-0
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٩٢

الظنّ بالحكم المذكور كما إذا لم يكن ذلك الظنّ مظنون الاعتبار ، فيجتمعان فيما لو كان الظنّ بالواقع مظنون الاعتبار ، إذ حينئذ يجتمع الظنّ بالواقع مع الظنّ بالحكم المذكور ، وينفرد الظنّ بالحكم المذكور عن الظنّ بالواقع فيما لو أخذ بما هو مظنون الاعتبار ولم يحصل معه ظنّ بأداء الواقع ، وينفرد الظنّ بالواقع عن الظنّ بالحكم المذكور فيما لو لم يكن الظنّ بالواقع مظنون الاعتبار.

قوله : فإذا تعيّن تحصيل ذلك بمقتضى حكم العقل الخ.

ذلك إشارة إلى الظنّ بحكم الشارع بالبراءة.

قوله : لزم اعتبار أمر آخر.

أي غير الظنّ بالواقع ، لما عرفت من أنّ مجرّد الظنّ بالواقع لا يستلزم الظنّ بحكم الشارع ببراءة الذمّة ، الذي هو المتعيّن تحصيله بمقتضى العقل.

قوله : وليس ذلك.

أي الأمر الآخر الذي يظنّ معه برضا الشارع بالعمل على طبقه ، ويكون مستلزماً لحصول المطلوب ، أعني الظنّ بالحكم المذكور.

قوله : إلاّ الدليل الظنّي الدالّ على حجّيته.

أي حجّية الطريق الذي يكون العمل على طبقه. ولكن الظاهر منه [ أنّ ] الضمير المذكور راجع إلى الظنّ بالواقع ، ولازم ذلك أن يكون الحجّة هو خصوص الظنّ بالواقع المظنون الاعتبار ، والمفروض أنّ الحجّة عند هذا المحقّق هو مجرّد الظنّ بالطريق ، سواء حصل معه الظنّ بالواقع أم لم يحصل كما عرفت فيما تقدّم ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ المراد هو أنّه في مورد حصول الظنّ بالواقع لا يكتفى بذلك الظنّ ، بل لابدّ من اعتبار أمر زائد عليه ، وهو الدليل الظنّي الدالّ على حجّية ذلك الظنّ ، فإنّ الدليل المذكور هو المدار وهو المستلزم للظنّ بحكم

٨١

الشارع بفراغ الذمّة ، ولا يحتاج معه إلى انضمام الظنّ بالواقع.

ومن ذلك كلّه يظهر لك أنّ أساس مطلب هذا المحقّق مقدّمتان :

الأُولى : أنّه يلزم علينا أوّلاً أن نحصّل العلم بحكم الشارع ببراءة ذمّتنا ، وذلك حاصل بالعلم بالواقع وبالعلم بحجّية الطريق المؤدّي إلى الواقع ، وإذا انسدّ علينا باب العلم بذلك وجب علينا تحصيل الظنّ بالحكم المذكور.

الثانية : أنّ العمل بالطريق المظنون الاعتبار مستلزم للظنّ بالحكم المذكور ، حيث إنّ جعل الطريق مستلزم للحكم المذكور ، فإذا كان الجعل مظنوناً كان الحكم المذكور مظنوناً ، وهذا بخلاف العمل على طبق الظنّ بالواقع ، فإنّه لا يستلزم الظّن بالحكم المذكور ، لعدم كون الظنّ بالواقع مظنون الاعتبار كي يكون الظنّ باعتباره مستلزماً للظنّ بحكم الشارع بإجزاء العمل على طبقه.

وإذا تمّت هاتان المقدّمتان كان الظنّ بالطريق هو الحجّة في حال الانسداد دون الظنّ بالواقع.

ولا يخفى أنّ الحجر الأساسي لمطلبه إنّما هو المقدّمة الأُولى ، وأمّا الثانية فهي متفرّعة على الأُولى ، كما أنّ ما أفاده شيخنا قدس‌سره من كون المقدّمات ثلاثاً أيضاً ليس إلاّمن قبيل ما يتفرّع على المقدّمة الأُولى.

وكيف كان ، فقد أورد في الكفاية (١) على هذا الاستدلال أوّلاً : بمنع كون فراغ الذمّة من الأُمور القابلة للحكم الشرعي ، كي يقال إنّه يجب علينا تحصيل العلم بحكم الشارع بفراغ ذمّتنا.

وثانياً : بالنقض بنفس الحكم الواقعي ، فكما أنّ جعل الطريق يستلزم الحكم بفراغ الذمّة بالعمل على طبقه ، فكذلك جعل الحكم الواقعي أيضاً ، فإنّه

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٣٢٠ ـ ٣٢١.

٨٢

يلزمه الحكم ببراءة الذمّة بالعمل على طبقه ، فيلزمه أن يكون الظنّ بالحكم الواقعي مستلزماً للظنّ بالحكم ببراءة الذمّة بالعمل على طبقه ، فيلزمه أن يكون الظنّ بالحكم الواقعي حجّة أيضاً.

وثالثاً : بأنّ الظنّ بالواقع ملازم غالباً للظنّ بأنّه مؤدّى طريق من الطرق المجعولة ، إذ لا ينفكّ غالباً الظنّ بالواقع عن الظنّ بأنّه مؤدّى طريق معتبر في المسائل العامّة البلوى ، والظنّ بأنّه مؤدّى طريق من الطرق يوجب الظنّ بحكم الشارع بالفراغ ، فيكون الظنّ بالواقع ملازماً للظنّ بحكم الشارع بالفراغ ، فلا خصوصية لقيام الظنّ على حجّية ظنّ مخصوص.

ولا يخفى أنّ ما أورده على صاحب الحاشية ثانياً قد أورده صاحب الحاشية على نفسه بطريق « إن قلت » ، وأجاب عنه بجواب مفصّل حاصله : أنّ الظنّ بالواقع لا يلازم الظنّ باعتبار ذلك الظنّ ليكون ملازماً للظنّ بالحكم الشرعي بالفراغ ، بل ربما كان ذلك الظنّ مشكوك الاعتبار ، أو كان اعتباره معلوم العدم (١).

ولكن هذا الايراد غير مندفع بذلك ، إذ ليس المقصود هو الانتقال من الظنّ بالواقع إلى الظنّ بحكم الشارع بالفراغ بواسطة كون ذلك الظنّ مظنون الاعتبار ، بل إنّ المقصود هو أنّ كلاً من الطريق ونفس الحكم الواقعي ملازم للحكم بالفراغ ، فكما أنّا ننتقل من الظنّ بالطريق إلى الظنّ بالحكم الشرعي بالفراغ ، فكذلك ننتقل من الظنّ بالواقع إلى الظنّ بالحكم الشرعي بالفراغ ، فإنّ الحكم الواقعي لو لم يكن ملازماً للحكم الشرعي بالفراغ عند الاتيان به ، لكان العلم بالحكم الواقعي غير ملازم للحكم الشرعي بالفراغ ، حيث إنّ حجّية القطع ليست شرعية كي يكون جعل الحجّية للقطع ملازماً للحكم الشرعي بأنّ العمل على طبقه مفرغ للذمّة ،

__________________

(١) هداية المسترشدين ٣ : ٣٥٣ وما بعدها.

٨٣

وإنّما هي ـ أعني حجّية القطع ـ عقلية صرفة ، فلا يكون الملازم للقطع بالفراغ عند العمل على طبق القطع إلاّ أنّ نفس الحكم الشرعي الواقعي المقطوع به ملازم للحكم الشرعي بأنّ الاتيان بمتعلّقه مجزئ ومبرئ للذمّة ، وحينئذ فيكون الظنّ بالحكم الواقعي ملازماً للظنّ بالفراغ بالعمل على طبقه ، حتّى لو كان ذلك الظنّ المتعلّق بالواقع حاصلاً من القياس ، غايته أنّ ذلك الظنّ القياسي لو كان مخالفاً للواقع لكان غير موجب للمعذورية ، لا أنّه ـ أعني ذلك الظنّ ـ غير موجب للظنّ بالحكم الشرعي بالفراغ ، فإنّا لو قلنا بأنّ الظنّ القياسي المتعلّق بالواقع غير موجب للظنّ بالحكم الشرعي بالفراغ ، لكان الظنّ القياسي المتعلّق بحجّية طريق مثل الشهرة غير موجب للظنّ بالحكم الشرعي بالفراغ.

وبالجملة : كما أنّ الظنّ المتعلّق بالواقع قد يكون مظنون الاعتبار و[ قد ] يكون مشكوكه وقد يكون اعتباره معلوم العدم ، فكذلك الظنّ المتعلّق بحجّية الطريق فإنّه أيضاً قد يكون مظنون الاعتبار ، وقد يكون مشكوكه ، وقد يكون اعتباره معلوم العدم.

ثمّ إنّ الظاهر ممّا أفاده شيخنا قدس‌سره في مناقشاته مع صاحب الحاشية هو أنّه راجع إلى إنكار المقدّمة الأُولى ، وأمّا ما أفاده قدس‌سره أخيراً (١) من أنّه لا أثر للطريق مع عدم وصوله إلى المكلّف وعدم العلم التفصيلي بجعله ، فهو راجع إلى ما أورد به فيما تقدّم على ذلك الدليل العقلي الذي استدلّوا به لحجّية خبر الواحد ، وعلى الدليل المتقدّم لحجّية الظنّ بالطريق ، وقد تقدّم تفصيل البحث فيه ، فراجع (٢) وتأمّل.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢٩٢ ـ ٢٩٣.

(٢) راجع المجلّد السادس من هذا الكتاب ص ٤٩٩ وما بعدها.

٨٤

ولا يخفى أيضاً أنّه يمكن سوق كلّ واحد من الدليلين على وجه يكون دليلاً مستقلاً لاثبات حجّية الظنّ بالطريق ، لا أنّه يكون من فروع دليل الانسداد ، وأنّه على تقدير تمامية مقدّمات دليل الانسداد هل تكون النتيجة هي حجّية الظنّ بالواقع أو حجّية الظنّ بالطريق. وإن شئت قلت : إنّ الأوّل استدلال بالانسداد في نفس الطريق ، والثاني استدلال بالانسداد فيما يكون محصّلاً للحكم الشرعي بالفراغ.

فالأولى جعلهما دليلين مستقلّين كما صنعه صاحب الحاشية وصاحب الفصول ، فإنّ الذي صنعه صاحب الحاشية هو جعل الدليلين المذكورين مع باقي الأدلّة الثمانية من أدلّة الظنون الخاصّة ، في قبال القول بحجّية مطلق الظنّ ، وجعل دليل الانسداد هو الأوّل من أدلّة حجّية مطلق الظنّ ، والثاني منها هو الرجوع إلى الكتاب والسنّة ، فإن تمكّنا من ذلك بطريق العلم ، وإلاّ كان اللازم هو طريق الظنّ ، والثالث هو دفع الضرر المظنون.

وأمّا صاحب الفصول فإنّه ذكر لحجّية الخبر أدلّة ثمانية أو عشرة على اختلاف النسخ ، أربعة منها الآيات الشريفة ، الخامس الإجماع ، السادس سيرة المسلمين ، السابع قوله تعالى : ( وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ) الخ (١) الثامن الأخبار المتواترة ، التاسع أنّه تمسّك وطاعة للعترة الطاهرين ، العاشر الدليل المعروف بدليل انسداد باب العلم ، وقرّره بوجهين : الأوّل منهما قال فيه : وهو المعتمد وإن لم يسبقني إليه أحد : وهو أنّا كما نقطع بأنّا مكلّفون ، إلى آخر ما ذكره بما تقدّم نقله (٢). الوجه الثاني وهو المعروف في ألسنة المتأخّرين : أنّ التكليف بالأحكام ثابت في حقّنا

__________________

(١) التوبة ٩ : ٦١.

(٢) راجع فوائد الأُصول ٣ : ٢٨١.

٨٥

بالضرورة ، وطريق العلم إليها منسدّ غالباً الخ (١) ، فنراه جعل الدليل المذكور دليلاً مستقلاً ، لا أنّه من تنبيهات دليل الانسداد المعروف ومن فروعه. نعم إنّ هذا التقريب لو تمّ لم يكن له خصوصية في الأخبار ، بل يشمل كلّ طريق مظنون الطريقية.

وأمّا ما في الكفاية (٢) من الايراد الثالث ، فهو إنّما يتّجه على صاحب [ الفصول ] القائل بالملازمة بين جعل الأحكام وجعل الطرق إليها ، وقد عرفت (٣) أنّ توجهه عليه لا يحتاج إلى الغلبة ، وإلى كون الحكم المظنون ممّا يكثر الابتلاء به.

أمّا صاحب الحاشية في هذه الطريقة فيمكن القول بأنّ هذا الايراد غير متوجّه عليه ، لأنّه لا يقول بالتلازم بين جعل الأحكام وجعل الطرق ، بل يقول إنّ جعل الطرق لأجل التسهيل ، وحينئذ فكون الحكم المظنون ممّا يكثر الابتلاء به لا يوجب الظنّ بوقوعه في إحدى الطرق ، بل أقصى ما فيه هو أنّ كونه كذلك يوجب كثرة السؤال عنه ، وحينئذ يكون ذلك ممّا يوجب حصول العلم الوجداني به لمن تقدّمنا ، وفي الحقيقة تقع الملازمة الظنّية بين كونه ممّا يبتلى به كثيراً وبين حصول العلم به لمن تقدّمنا ، ولا يكون في البين ما يوجب الظنّ بأنّه قد وقع مؤدّىً لطريق من الطرق المجعولة ، فتأمّل.

قوله : وحاصله يتألّف من مقدّمات : الأُولى ... الخ (٤).

حاصل هذه المقدّمات هو أنّه أوّلاً : يجب علينا تحصيل العلم بحكم

__________________

(١) الفصول الغروية : ٢٧٢ ـ ٢٧٧ [ في هذه النسخة لم يذكر الدليل السابع والثامن ].

(٢) كفاية الأُصول : ٣٢١.

(٣) في الصفحة : ٦٥ ، ٦٩.

(٤) فوائد الأُصول ٣ : ٢٨٧.

٨٦

الشارع بفراغ ذمّتنا. والثانية : أنّ الموجب لحصول العلم المذكور في حال الانفتاح هو أحد أمرين : الأوّل الاتيان بما علم أنّه الواقع ، والثاني الاتيان بما علم أنّه مؤدّى طريق معتبر. والثالثة : أنّه عند عدم حصول العلم المذكور لأجل انسداد بابه يتعيّن المصير إلى الظنّ بحكم الشارع بالفراغ ، وهو منحصر بالظنّ بالطريق دون الظنّ بالواقع.

وقرّب شيخنا قدس‌سره هذه المقدّمة الثالثة في الدورة الأخيرة بما حاصله : أنّه عند التنزّل عن العلم بأحد الطريقين ، يعني العلم بالواقع والعلم بمؤدّى الطريق المعتبر إلى الظنّ بذلك ، ينحصر الأمر بالظنّ بالثاني الذي هو الطريق المعتبر ، إذ لا معنى للظنّ بالأوّل الذي هو العلم بالواقع ، إذ لا محصّل لكون العلم بالواقع الذي هو السبب الأوّل متعلّقاً للظنّ ، فراجع ما حرّرته (١) عنه قدس‌سره وما حرّره عنه السيّد سلّمه الله فإنّه قال : وأمّا الطريق الآخر وهو العلم ، فعند تعذّره لا معنى للتنزّل منه إلى الظنّ ، لعدم تعقّل الظنّ بالعلم ، الخ (٢).

ولا يخفى أنّ محصّل التنزّل إلى الظنّ هو كون الظنّ قائماً مقام العلم ، وحينئذ نقول إنّه في حال الانفتاح لمّا كان العلم بالواقع أحد الطريقين ، وكان الطريق الآخر هو العلم بمؤدّى الطريق ، وجب أن نقول في حال الانسداد أنّ المرجع هو أحد الأمرين أيضاً ، أعني الظنّ بالواقع والظنّ بالطريق ، ليكون الظنّ بالواقع قائماً مقام العلم بالواقع ، والظنّ بالطريق قائماً مقام العلم بالطريق.

ثمّ لا يخفى أنّه في تحرير السيّد في المقدّمة الثانية جعل العلم بالواقع طريقاً عقلياً إلى حكم الشارع بالفراغ ، فقال : الثانية أنّ العلم بالفراغ في حكم

__________________

(١) مخطوط ولم يطبع بعد.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٢٤٩.

٨٧

المولى وإن كان قد يكون بالعلم بامتثال تكليفه وجداناً ، إلاّ أنّه طريق عقلي إلى حكمه بالفراغ ، والمناط في تحصيل العلم بالفراغ في حكمه هو اتّباع الطرق التي جعلها طرقاً إلى أحكامه ، فراجعه إلى آخر المقدّمة الثانية أعني قوله : ومن تأمّل في أحوال السلف يقطع بأنّ بناءهم في الامتثال لم يكن على تحصيل العلم الوجداني ، بل كان المناط عندهم هو اتّباع الطرق المجعولة لهم من قبل الشارع (١). وتأمّل لئلاّ تتوهّم من ذيل الكلام الانحصار بالطرق ، وأنّ الأحكام الواقعية قد تقيّدت بمؤدّيات الطرق ، أو أنّها قد انصرفت إليها ، فإنّ ذلك غير مراد لصاحب الحاشية في هذا الوجه ، كما أنّه ليس بمراد لشيخنا قدس‌سره في هذا المقام ، بل المراد هو عدم الانحصار في تحصيل العلم الوجداني وعدم تعيّنه ، وكفاية اتّباع الطرق المجعولة للشارع ، كما يظهر ذلك من قوله في المقدّمة الثالثة : فإذا كان المكلّف متمكّناً منهما فلا محالة يكون في مقام الامتثال مخيّراً بين الأمرين الخ (٢).

وقد صرّح صاحب الحاشية في أثناء الجواب عن « إن قلت » الأُولى ـ بعد أن حكم بأنّ الجميع يعني العلم بالواقع والعلم بالطريق في مرتبة واحدة ، لا أنّ الثاني في طول الأوّل ـ ما هذا لفظه : والحاصل أنّ القدر اللازم أداء الفعل وحصول البراءة بحسب حكم الشارع ، وهو حاصل بكلّ من الوجهين ، وتعيّن تحصيل العلم بالواقع مع فرض انتفاء العلم بالطريق المقرّر أو انتفائه واقعاً ليس لكونه متعيّناً في نفسه ، بل لحصول البراءة به على النحو الذي ذكرناه. وفرق بيّن بين كون الشيء مطلوباً بذاته وكون المطلوب حاصلاً به ، فهو إذن أحد الوجهين في تحصيل تفريغ الذمّة ، فإذا انسدّ باب العلم بتفريغ الذمّة على الوجه المفروض

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٢٤٨.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٢٤٨ ـ ٢٤٩.

٨٨

بكلّ من الوجهين المذكورين ، بأن لم يحصل هناك طريق قطعي من الشارع يحكم معه بتفريغ الذمّة ، وانسدّ سبيل العلم بالواقع القاضي بالقطع بتفريغ الذمّة كذلك ، رجع الأمر بعد القطع ببقاء التكليف إلى الظنّ بتفريغ الذمّة في حكم الشارع حسبما عرفت ، وهو يحصل بقيام الأدلّة الظنّية على حجّية الطرق المخصوصة حسبما يقام الدليل عليها في محالّها ، من غير أن يكتفى في إفادة حجّيتها بمجرّد كونها مفيدة للظنّ بالواقع كما هو قضية الوجه الآخر ، الخ (١).

وأجلى عباراته في ذلك وأوضحها في بيان أنّ الشارع لم يقيّد المكلّفين بتحصيل القطع الوجداني بتكاليفه الواقعية ، واكتفى منهم بالعمل بالطرق التي جعلها لهم من دون أن يكون ذلك موجباً لسقوط القطع بالأحكام الواقعية لو اتّفق للمكلّفين حصوله ، هو ما فصّله في الأمر الرابع (٢) من الأُمور التي ساقها لبيان البحث عن الأدلّة ، وذلك قبل عبارته التي نقلناها سابقاً في أوّل أدلّته على ما رامه من حجّية الطريق بأربع أوراق ، وهو الذي أشار إليه بقوله : حسبما مرّ تفصيل القول فيه (٣) ، وقد نقله الشيخ قدس‌سره (٤) عنه ، إلاّ أنّه لطوله لم ينقله بتمامه ، فراجعه تجده صريحاً فيما ذكرناه من أنّ المقصود هو بيان عدم الانحصار ، وأنّ الشارع لم يكلّف عباده بتحصيل القطع الوجداني بأحكامه الواقعية ، بل سهّل عليهم ، وجعل لهم طرقاً سوّغ لهم العمل على طبقها ، وتلك الطرق موجبة للحصول على الحكم الشرعي ببراءة ذمّتهم بالعمل على طبقها.

__________________

(١) هداية المسترشدين ٣ : ٣٥٣.

(٢) هداية المسترشدين ٣ : ٣٢٥.

(٣) هداية المسترشدين ٣ : ٣٥٢.

(٤) فرائد الأُصول ١ : ٤٥٥.

٨٩

واعلم أنّ صاحب الحاشية قدس‌سره وإن ظهر منه الالتزام بالصرف أو التقييد ، إلاّ أنّ ذلك في الأمر الثاني من أدلّته الذي هو عين ما تقدّم من دليل صاحب الفصول ، وقد ذكر أيضاً ما مرّ من الإشكال عليه بأنّ الظنّ بالواقع يكفي كالظنّ بالطريق وأجاب عن ذلك في الوجه الثاني بما يرجع إلى التقييد ، قال في الوجه الثاني : فإن قلت : إنّه كما قام الظنّ بالطريق مقام العلم به من جهة الانسداد ، فأيّ مانع من قيام الظنّ بالواقع مقام العلم به حينئذ ، وإذا قام مقامه كان بمنزلة العلم بأداء الواقع ، كما أنّ الظنّ بالطريق بمنزلة العلم به ، فكما يحصل البراءة بالعلم مع انفتاح سبيله يحصل أيضاً بالظنّ مع انسداد سبيله.

قلت : لو كان أداء التكليف المتعلّق بكلّ من الفعل والطريق المقرّر مستقلاً صحّ ذلك ، لقيام الظنّ في كلّ من التكليفين مقام العلم به مع قطع النظر عن الآخر ، وأمّا إذا كان أحد التكليفين منوطاً بالآخر مقيّداً له ، فمجرّد حصول الظنّ بأحدهما من دون حصول الظنّ بالآخر الذي قيّد به لا يقتضي الحكم بالبراءة. وحصول البراءة في صورة العلم بأداء الواقع إنّما هو لحصول الأمرين به ، نظراً إلى أداء الواقع وكونه من الوجه المقرّر ، لكون العلم طريقاً إلى الواقع في حكم العقل والشرع ، فلو كان الظنّ بالواقع ظنّاً بالطريق أيضاً جرى الكلام المذكور في صورة الظنّ أيضاً ، لكنّه ليس كذلك ، فلذا لا يحكم بالبراءة حسبما قلنا (١).

فأنت تراه في هذا الوجه الثاني ملتزماً بالتقييد ومع ذلك لم يعزل العلم بالواقع عن كونه مبرئاً للذمّة. وذكر عين هذا الإشكال في الدليل الأوّل المختصّ به وأجاب عنه بجواب آخر غير مبنيّ على ما هو ظاهر ذلك الجواب من الالتزام بالتقييد وأنّ القطع بالواقع محصّل للقيد.

__________________

(١) هداية المسترشدين ٣ : ٣٦١ ـ ٣٦٢.

٩٠

والحاصل : أنّ صاحب الحاشية ذكر طرقاً ثمانية لمسلكه الذي هو حجّية الظنّ بالطريق ، أوّلها : هو ما تقدّم نقل عبارته فيه. والثاني : ما هو راجع إلى طريقة الفصول فإنّه قال : الثاني : أنّه كما قرّر الشارع أحكاماً واقعية كذا قرّر طريقاً للوصول إليها ، إمّا العلم بالواقع أو مطلق الظنّ أو غيرهما ، قبل انسداد باب العلم وبعده ، وحينئذ فإن كان سبيل العلم بذلك الطريق مفتوحاً فالواجب الأخذ به والجري على مقتضاه ، ولا يجوز الأخذ بغيره ممّا لا يقطع معه بالوصول إلى الواقع من غير خلاف فيه بين الفريقين ، وإن انسدّ سبيل العلم به تعيّن الرجوع إلى الظنّ به ، إلى آخر كلامه (١).

والظاهر أنّ مراده أنّ الطريق في حال الانفتاح هو العلم بالواقع أو مطلق الظنّ أو غيرهما ، فإذا انسدّ علينا باب العلم بذلك الطريق لزمنا الانتقال إلى الظنّ بذلك الطريق ، وحيث إنّه لا محصّل لتعلّق الظنّ بالعلم بالواقع ، يتعيّن المصير إلى الظنّ بالطرق الأُخر غير العلم. وهذه الطريقة على الظاهر هي عين طريقة الفصول ، غير أنّه في الفصول أوضحها بأزيد من هذه العبارة. وقد صرّح الشيخ قدس‌سره بأنّ الطريقة الثانية هي عين طريقة الفصول ، فقال : الوجه الثاني ما ذكره بعض المحقّقين من المعاصرين مع الوجه الأوّل وبعض الوجوه الأُخر ، قال : لا ريب الخ (٢).

وكيف كان ، فإنّ صاحب الحاشية قدس‌سره قد عقّب كلاً من الطريقتين بالسؤال المذكور بطريق إن قلت : إنّ الظنّ بالواقع مساوٍ للظنّ بالطريق في الحصول على ما هو المطلوب. لكنّه أجاب عن هذا السؤال في الكلام على الطريقة الأُولى بما

__________________

(١) هداية المسترشدين ٣ : ٣٥٨.

(٢) فرائد الأُصول ١ : ٤٥٤.

٩١

تقدّم نقله أوّلاً من أنّ الظنّ بالواقع لا يلازم الظنّ بالحكم الشرعي بالفراغ ، وفي الكلام على الطريقة الثانية أجاب عن السؤال المذكور بما تقدّم نقله ثانياً ممّا يرجع إلى دعوى التقييد (١)

__________________

(١) وهاك فهرست ما أفاده في الحاشية :

ففي شرح قول صاحب المعالم « المطلب الخامس في الإجماع » أفاد : أنّ المصنّف شرع في بيان الأدلّة الشرعية ، وقال : إنّ الأدلّة منحصرة في الكتاب والسنّة والإجماع ودليل العقل ، وقال : ولنذكر قبل الشروع في بيانها مطالب :

المطلب الأوّل : في بيان معنى الدليل وتفسيره. ثانيها ـ إلى قوله ـ خامسها : في بيان أنّ الحجّة في زمان الغيبة هل هي مطلق الظنّ أو ظنون خاصّة ، والمعظم على الثاني وهو المختار. ثمّ بعد كلام طويل قال : ولنقدّم أوّلاً حجج المختار ، ثمّ بعد النقض فيها والإبرام نذكر ما يتيسّر لنا من وجوه الاحتجاج ، فنقول :

احتجّوا على ذلك بوجوه : الأوّل : الآيات والأخبار الناهية عن اتّباع الظنّ. الثاني : الإجماع ويقرّر من وجوه. الثالث : أنّه لم يرد من صاحب الشريعة ما يدلّ على حجّية مطلق الظنّ. الرابع : أنّ الظنون المطلقة غير مضبوطة فيلزم الهرج والمرج.

وبعد الفراغ من ذلك قال : ثمّ إنّ لنا طرقاً أُخرى في المقام ووجوهاً شتّى ، أحدها : هو ما ذكره من طريقته. الثاني : هو ما ذكرنا أنّه راجع إلى طريقة الفصول. الثالث : أنّ مقتضى بقاء التكليف مع انسداد سبيل العلم به هو الرجوع إلى الظنّ في الجملة ، وهذا الإجمال يتعيّن بكونه مظنون الحجّية. الرابع : هو ذاك مع تسليم عدم الترجيح بالظنون ، فتكون النتيجة هي حجّية الجميع ، إلاّ أنّ ما يظنّ عدم حجّيته يكون ساقطاً. الخامس : هو ذاك ، لكن ... [ هنا سقط في الأصل ].

السادس : هو أنّه لا إشكال في وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنّة ، فإن تمكّن من العلم بها فهو ، وإلاّ تعيّن المصير إلى الظنّ.

السابع : أنّه يجب على الفقيه الافتاء ، فإن تمكّن من العلم فهو ، وإلاّ دار الأمر بين الظنّ

٩٢

ومنه يظهر لك أنّه في طريقته الأُولى لم يكن قائلاً بالتقييد ، وإنّما يقول به في طريقته الثانية الراجعة إلى طريقة الفصول ، ولأجل ذلك اختلف جوابه عن السؤال المذكور في الطريقتين.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أُفيد في هذا التحرير بقوله : وكأنّ منشأ تخيّل المحقّق صاحب المقالة في اختياره اعتبار خصوص الظنّ بالطريق عند عدم التمكّن من تحصيل العلم بالواقع ، هو أنّ مجرّد نصب الشارع طريقاً إلى أحكامه يقتضي اشتغال الذمّة بمؤدّى الطريق ، ويكون مدار فراغ الذمّة والخروج عن عهدة التكاليف عليه لا على الواقع ، كما كان هذا منشأ تخيّل صاحب الفصول فيما أفاده من الوجه المتقدّم ، وقد عرفت أنّ مجرّد نصب الطريق ما لم يكن محرزاً لدى المكلّف وواصلاً إليه لا أثر له ، ولا يحصل الامتثال والفراغ بمجرّد مطابقة

__________________

المطلق والظنّ الخاصّ ، والثاني هو المقدّم.

الثامن : أنّ الدليل القاطع قائم على حجّية الظنون الخاصّة والمدارك المخصوصة ، وقد دلّ على أنّ هناك طريقاً خاصّاً مقرّراً من صاحب الشريعة وهو الكتاب والسنّة الخ.

ثمّ قال : حجّة القول بحجّية مطلق الظنّ وجوه : أحدها الانسداد ، وقرّره بمقدّمات أربع : التكاليف ثابتة. طريقنا إليها هو العلم. باب العلم منسدّ. لا ترجيح لبعض الظنون على بعض.

الثاني : لو لم يعمل بالظنّ لزم ترجيح المرجوح على الراجح.

الثالث : أنّ دفع الضرر المظنون واجب.

هذا فهرست أُصول مطالبه في هذه الحاشية الطويلة البالغة ١٦ ورقة المعلّقة على قول المصنّف [ في هداية المسترشدين ٣ : ٣١٥ وما بعدها ] : المطلب الخامس في الإجماع ، وبعدها حاشيته على قول المصنّف [ في المصدر المتقدّم : ٤٤٠ وما بعدها ] : الثالثة ، حكى فيها أيضاً عن بعض الأصحاب الخ. [ منه قدس‌سره ]

٩٣

العمل لمؤدّاه من باب الاتّفاق والمصادفة ، الخ (١).

فإنّك قد عرفت أنّ طريقته الأُولى لم تكن مبنية على الالتزام بالتقييد ، وإنّما التزم به في طريقته الثانية الراجعة إلى طريقة صاحب الفصول. ولا يخفى أيضاً أنّ ما أُفيد هنا من كون طريقة الفصول مبنية على التقييد لعلّه منافٍ لما أُفيد تعريضاً بصاحب الكفاية قدس‌سره بقوله : وليس غرضه ( يعني صاحب الفصول ) تقييد الأحكام الواقعية إلى مؤدّيات الطرق أو صرفها إليها ، فإنّ ذلك من التصويب الباطل الذي يخالف المذهب ، فلا يليق بصاحب الفصول الالتزام به ، الخ (٢).

وأمّا قوله : وقد عرفت أنّ مجرّد نصب الطريق ما لم يكن محرزاً لدى المكلّف وواصلاً إليه الخ ، فقد أوضحه في الدورة الأخيرة بما حرّرناه عنه وحرّره عنه السيّد سلّمه الله بقوله : وأمّا الثالثة فلأنّ الطرق الشرعية بوجوداتها الواقعية لا تتّصف بالطريقية حتّى تكون هي في عرض العلم كافياً في حصول الامتثال الخ (٣) ، وقد تقدّم البحث عن هذه الجهة في الدليل الأوّل الذي أُقيم على حجّية خبر الواحد عقلاً فراجع (٤) ، كما أنّه قد تقدّمت الاشارة في الكلام على مسلك الفصول إلى أنّ هذه المقدّمة أعني توقّف طريقية الطريق على الوصول التفصيلي لو تمّت لكانت موجبة لانسداد العمل بالظنّ بالطريق في حال الانسداد ، فراجع ما علّقناه على ما أفاده ص ١٠٤ (٥) من هذا التحرير.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢٩٢.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٢٨٢.

(٣) أجود التقريرات ٣ : ٢٥٠.

(٤) راجع المجلّد السادس من هذا الكتاب ص ٤٩٩ وما بعدها.

(٥) وهي الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٦١ وما بعدها ( راجع الصفحة : ٧٠ وما بعدها ).

٩٤

وقد نقل شيخنا قدس‌سره حسبما حرّرته عنه عن المرحوم المحقّق الشيخ محمّد باقر نجل المحقّق صاحب الحاشية الجواب عن هذه الجهة بما هذا لفظه حسبما حرّرته عنه : ومن ذلك كلّه يظهر أنّه لا يمكن إصلاح ما ذكره بما أفاده نجله المرحوم المدقّق الشيخ محمّد باقر قدس‌سرهما من أنّ للطريق مرتبة واقعية ومرتبة تنجّز ، والذي يتوقّف على الوصول هو مرتبة التنجّز للطريق ، فإنّ فيه ما عرفت من عدم تحمّل الطريق للوجود الواقعي ، وأنّ المكلّف لا يخلو من طريق منجّز حتّى في حال الانسداد ، انتهى. وقد تقدّم البحث عن هذه الجهات في البحث المشار إليه فراجع.

وعلى كلّ حال ، فقد ظهر لك أنّ صاحب الحاشية حتّى في طريقته الثانية المبنية على التقييد لم يعزل العلم بالواقع عن التأثير ، بل التزم بكونه مؤثّراً ، غايته أنّه يدّعي أنّ العلم محصّل لما هو المدّعى من التقييد لكونه بنفسه طريقاً ، فلابدّ أن يكون المراد ممّا في تحرير السيّد ممّا مرّت الاشارة إليه من قوله : ومن تأمّل في أحوال السلف يقطع بأنّ بناءهم في الامتثال لم يكن على تحصيل العلم الوجداني ، بل كان المناط عندهم هو اتّباع الطرق المجعولة لهم من قبل الشارع (١) هو ما عرفت من عدم الانحصار بالعلم الوجداني.

واعلم أنّ مضمون هذه الجمل موجود بعينه في كلام صاحب الحاشية في رابع الأُمور التي قدّمها (٢) ، وهو الذي أشار إليه هنا بقوله : حسبما مرّ تفصيل القول فيه وقد نقله عنه الشيخ قدس‌سره ، فراجع (٣)

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٢٤٨.

(٢) هداية المسترشدين ٣ : ٣٢٥.

(٣) فرائد الأُصول ١ : ٤٥٥.

٩٥

ثمّ إنّ من جميع ما حرّرناه يظهر لك : أنّ الحجر الأساسي في دعوى صاحب الحاشية قدس‌سره في طريقته الأُولى إنّما هو دعوى الاحتياج إلى الحكم الشرعي بفراغ الذمّة ، وأنّ ملخّص الجواب عنه هو عدم الحاجة إلى ذلك ، بل إنّ هذا الحكم ليس براجع إلى الشارع وأنّه راجع إلى العقل ، وأنّ العقل حاكم بأنّ الاتيان بنفس الواقع والاتيان ببدله الذي قام عليه الطريق المعتبر مبرئ للذمّة ، هذا في حال الانفتاح. وبعد الانتقال في حال الانسداد إلى الظنّ يكون كلّ من الظنّ بالواقع والظنّ بمؤدّى الطريق المعتبر مبرئاً للذمّة.

كما أنّ الظاهر هو أنّ الحجر الأساسي في طريقته الثانية التي هي عين طريقة صاحب الفصول هو دعوى الصرف أو التقييد ، وأنّ الجواب عنه هو منع ذلك وأنّه راجع إلى التصويب ، وحينئذ نبقى نحن والعلم الاجمالي بنصب الطرق ، وذلك لا يقتضي إلاّ الاحتياط فيها ، فيكون ذلك راجعاً إلى الدليل الأوّل من الأدلّة العقلية التي أقاموها على حجّية خبر الواحد.

قوله : فإنّ باب الامتثال وفراغ الذمّة ليس ممّا يقبل الجعل الشرعي ... الخ (١).

استثنى قدس‌سره في الدورة الأخيرة موارد مثل قاعدة التجاوز والفراغ ، لأنّ ذلك من باب التصرّف الشرعي في الواجب الواقعي ، فراجع ما حرّرته عنه (٢) قدس‌سره وما حرّره السيّد سلّمه الله بقوله : نعم عند الشكّ في حصول امتثال التكليف من جهة الشكّ في انطباق المأمور به على المأتي به ، لا مانع من حكم الشارع بالانطباق تعبّداً ، كما في موارد قاعدة الفراغ أو التجاوز ، لكن ذلك أجنبي عمّا هو محلّ

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢٨٩.

(٢) مخطوط ولم يطبع بعد.

٩٦

الكلام في المقام من وجوب تحصيل العلم بالفراغ في حكم المولى بالقياس إلى التكاليف الواقعية (١).

قلت : والدليل على ذلك هو أنّه لو انكشف الخلاف في ذلك الحكم التعبّدي وكان المتروك ممّا يوجب الاعادة كالركن مثلاً ، وجبت الاعادة. وهكذا الحال في حكمه بالإجزاء في موارد الحكم الظاهري لو انكشف الخلاف بعد العمل كما يدّعى الإجماع عليه في العبادات ، فإنّه أيضاً أجنبي عمّا نحن بصدده ، إذ مرجع ذلك الدليل الدالّ على الاجزاء إلى تنازل الشارع عن جزئية الجزء المتروك ، أو شرطية الشرط المتروك كما حقّقناه في مبحث الاجزاء (٢).

قوله : ولعلّ منشأ توهّم اختصاص النتيجة بخصوص الظنّ بالواقع ، هو أنّ مقدّمات الانسداد إنّما تجري في المسائل الفرعية والأحكام الشرعية دون المسائل الأُصولية ـ إلى قوله ـ ولكن لا يخفى أنّ المقدّمات وإن كانت تجري في خصوص الأحكام الشرعية ، إلاّ أنّ نتيجتها أعمّ من الظنّ بالواقع والظنّ بالطريق ـ إلى قوله ـ وهو كما يحصل مع الظنّ بالواقع يحصل مع الظنّ بالطريق ، هذا بناءً على الحكومة وكون النتيجة حكم العقل بكفاية الامتثال الظنّي ... الخ (٣).

لو كان الظنّ بالطريق ملازماً للظنّ بالحكم الواقعي ، لكان حاله حال الظنّ بالواقع في كونه من الاطاعة الظنّية بالنسبة إلى الواقع ، أمّا إذا لم يكن الطريق المظنون موجباً في حدّ نفسه للظنّ بالواقع ، فلا يكون العمل به محقّقاً للظنّ

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٢٤٩.

(٢) راجع المجلّد الثاني من هذا الكتاب ص ٤٢٠ وما بعدها.

(٣) فوائد الأُصول ٣ : ٢٩٣ ـ ٢٩٤.

٩٧

بالواقع. نعم يكون محقّقاً للظنّ بما هو عند الشارع قائم مقام الواقع ، وهو كافٍ في الظنّ بالخروج عن عهدة الواقع ولو بواسطة الاتيان بما نظّن أنّه عند الشارع قائم مقام الواقع. ولكن ما الداعي لدعوى اختصاص دليل الانسداد بالنسبة إلى خصوص الأحكام الفرعية ، ولِمَ لا نقول إنّها عامّة للطرق ، فإنّ من جملة المقدّمات هو انسداد باب العلم بالواقع وانسداد باب العلم بالطرق المؤدّية إليه ، وحيث تنتهي المسألة إلى الانتقال من العلم إلى الظنّ ، يكون الانتقال إلى الظنّ بما كان باب العلم به منسدّاً وهو الواقع نفسه وطريقه ، فتكون النتيجة حينئذ هي الأعمّ من الظنّ بالواقع والظنّ بالطريق.

ثمّ إنّ هذه الكلمات إنّما تتمشّى مع الحكومة ، بمعنى حكم العقل بالانتقال من الاطاعة العلمية إلى الاطاعة الظنّية ، ليكون الظنّ في حال الانسداد بمنزلة العلم في حال الانفتاح في كونه حجّة عقلية ، لكنّك قد عرفت من كلمات شيخنا قدس‌سره إبطال الحكومة بهذا المعنى ، أعني حكومة العقل بالانتقال من الاطاعة العلمية إلى الاطاعة الظنّية ، وأنّه ليس في البين إلاّتبعيض الاحتياط ، وأنّ المظنونات مقدّمة على باقي الأطراف في مقام التزاحم ، وحينئذ يسهل الأمر ، إذ نقول إنّ العقل كما يقدّم التكاليف المظنونة في مقام الاحتياط على التكاليف المشكوكة أو الموهومة ، فكذلك يقدّم التكاليف المحتملة التي قام عليها ما يظنّ حجّيته من الطرق ـ وإن لم تكن تلك التكاليف الواقعية مظنونة ، بل كانت مشكوكة أو موهومة ـ على التكاليف التي لم تكن مظنونة في حدّ نفسها ولم يقم عليها طريق يظنّ بحجّيته ، فتأمّل.

٩٨

قوله : وأمّا بناءً على المختار من الكشف ، فقد يتوهّم أنّ أقصى ما يستكشف من المقدّمات هو حجّية الظنّ في الأحكام الشرعية ... الخ (١).

مرجع هذا الاستدلال إلى دعوى اختصاص الحجّية بخصوص الظنّ بالواقع ، وأنّ المقدّمات لا تقتضي حجّية الظنّ بالطريق ، لكن في تحرير السيّد سلّمه الله جعل الاستدلال بطريقة القدر المتيقّن ، لكون الأمر دائراً بين الأقل وهو خصوص الظنّ بالواقع ، وبين الأكثر وهو الأعمّ منه ومن الظنّ بالطريق ، والقدر المتيقّن هو الأوّل. وعلى كلّ حال ، فإنّ الظاهر ممّا نقله الشيخ قدس‌سره عن شريف العلماء قدس‌سره هو دعوى اختصاص حجّية دليل الانسداد بالظنّ بالواقع دون الظنّ بالطريق ، لا مجرّد كون القدر المتيقّن منها هو الأوّل فقط ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى نقل كلام الشيخ قدس‌سره (٢).

وكيف كان ، فإنّ شيخنا قدس‌سره أجاب حسبما نقله عنه قدس‌سره في هذا التحرير عن الإشكال المزبور بناءً على الكشف بقوله : فإنّه لا موجب لاستكشاف نصب الشارع خصوص الظنّ في المسألة الفرعية طريقاً ، بل العقل يستكشف من المقدّمات نصب مطلق الظنّ طريقاً ، كان مؤدّاه مسألة فرعية من كون الشيء واجباً أو حراماً ، أو مسألة أُصولية من كون الشيء طريقاً الخ (٣).

ولا يخلو هذا الجواب من إجمال ، إذ لم يذكر الوجه في هذا التعميم في قبال دعوى التخصيص ، إذ لا أقل من دعوى كون القدر المتيقّن ممّا يستكشفه العقل هو خصوص الظنّ بالواقع ، الذي حرّر به الإشكال فيما نقله عنه السيّد

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢٩٤.

(٢) في الصفحة : ١٠١ ـ ١٠٣.

(٣) فوائد الأُصول ٣ : ٢٩٤.

٩٩

سلّمه الله بقوله : وحيث إنّ النتيجة على الكشف مردّدةً بين أن تكون حجّية خصوص الظنّ بالواقع أو الأعمّ منه ومن الظنّ بالطريق ، فيكون الأمر في الحجّة دائراً بين الأقل والأكثر ، ومن المعلوم أنّ لازم ذلك هو الاقتصار على المتيقّن ليس إلاّ (١) وقد أجاب عنه في التحريرات المذكورة بقوله : ولكنّه لا يخفى أنّه لا موجب لدوران الأمر في المقام بين الأقل والأكثر ، وذلك لما ذكرناه من أنّ كلّ ما كان تحصيل العلم به لازماً حال الانفتاح كان الظنّ به كافياً حال الانسداد أيضاً ، وحيث إنّ العلم بالواقع أو بالطريق لم يكن بينهما فرق حال الانفتاح ، لم يكن بين الظنّين فرق أيضاً حال الانسداد ، والوجه في ذلك هو أنّ الأحكام التي هي مؤدّيات الطرق ـ بعد جعل الشارع صفة الحجّية وإعطائه الوسطية في الإثبات لها ـ بعينها أحكام واقعية ، فراجعه إلى آخر البحث.

وهذا الجواب يمكن التأمّل فيه ، فإنّ مقدّمات الانسداد بناءً على الكشف لا تؤدّي إلى أنّ كلّ ما كان تحصيل العلم به لازماً في حال الانفتاح يكون تحصيل الظنّ به لازماً في حال الانسداد ، لأنّ هذه الكلمات إنّما تلائم تقرير مقدّمات الانسداد على الحكومة أو على تبعيض الاحتياط. وكذلك ما أُفيد من كون مؤدّيات الطرق المجعولة هي بعينها أحكام واقعية لا يكاد يلتئم مع التقرير على الكشف ، وذلك لما عرفت في تقرير مقدّمات الانسداد على الكشف من أنّ حاصل تلك المقدّمات هو ضمّ حرمة الاهمال المأخوذة من الإجماع على عدم جواز الرجوع إلى البراءة المستفاد منها أنّ الشارع مطالب بأحكامه غير متنازل عنها في حال الانسداد ، إلى الإجماع المدّعى على أنّه لا يريد الاحتياط ، وأنّه باطل غير جائز عنده.

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٢٥١.

١٠٠