أصول الفقه - ج ٧

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٧

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-72-0
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٩٢

الصدور. مضافاً إلى أنّ حمله على الصدور يوجب حمل الجملة على معنى غير مهمّ ، إذ محصّله هو أنّ كلّ شيء يكون مطلقاً قبل أن يحرمه الشارع ، وهذا أشبه شيء بتوضيح الواضحات ، سيّما بعد تمامية الشريعة وتكفّلها بأحكام الأشياء بعناوينها الأوّلية ، مع صدور هذا الخبر من الأئمة المتأخرين عن زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثمّ إنّ هذا المعنى أعني كون الأشياء قبل الشريعة على الاباحة دون الحظر ، ممّا لا يناسب التعبير بالغاية ، بل المناسب له هو التعبير بالشرط ، بأن يقال : كلّ شيء مطلق ما لم ينه الشارع عنه ، فالتعبير بالغاية يدلّ على أنّ الحكم قابل للاستمرار ، ولا يكون ذلك إلاّبحمل الورود على الوصول إلى المكلّف ، وحينئذ يكون كناية عن العلم بالنهي ، ولازم ذلك أن يكون الاطلاق المغيّى به إطلاقاً ظاهرياً ، من دون حاجة إلى تكلّف حمل الشيء على خلاف عنوان الشيء وهو ما كان مشكوك الحكم ، على وجه نجعله عبارة عن نفس هذا العنوان الثانوي أعني مشكوك الحكم ، بل يبقى الشيء على ما هو عليه من عنوان الشيئية ، وهذا الحكم الوارد عليه وهو الاطلاق يكون حكماً ظاهرياً بواسطة تقييده بكونه مجهول الحكم المستفاد من الغاية المذكورة.

وكيف كان ، تكون الرواية الشريفة من أدلّة البراءة ، وتكون مختصّة بالشبهات التحريمية إن حملنا الاطلاق والنهي فيها على خصوص الفعل ، أعني كون الفعل مطلقاً وكونه منهياً عنه. وبذلك تكون معارضة لأخبار الاحتياط ، لا أنّها أخصّ منها ، إلاّ إذا حملنا الشيء فيها على الأعمّ من الفعل والترك ، فإنّ أخبار الاحتياط حينئذ تكون أخصّ منها ، إلاّ إذا تصرّفنا فيها نظير هذا التصرّف بما عرفت فيما تقدّم (١) ، فلا تكون أخصّ منها أيضاً.

__________________

(١) في الصفحة : ١٥٨ ـ ١٥٩.

١٦١

لا يقال : إنّ « كلّ شيء » يشمل ما لا شكّ في حكمه وإباحته ، فتكون الرواية متكفّلة للحكم الواقعي والظاهري ، ولا يخفى فساده.

لأنّا نقول : بعد حمل الورود على الوصول إلى المكلّف ، يكون الشيء فيها مقيّداً قهراً بما لم يثبت فيه النهي ، لما عرفت من كونه حينئذ كناية عن العلم بالنهي ، وحينئذ يكون الشيء مختصّاً بالشيء الذي يكون حكمه مشكوكاً ، فلا تكون الرواية متعرّضة إلاّللحكم الظاهري.

ثمّ إنّه يمكن كون هذه الرواية أظهر من حديث الرفع ، لتطرّق احتمال كون « ما لا يعلمون » فيه عبارة عن الغفلة والجهل المركّب بخلاف هذه الرواية فإنّها لا يتطرّق فيها الاحتمال المذكور.

قوله : وفيه أنّ الظاهر منها هو كون الجاهل معذوراً من حيث الحكم الوضعي ـ إلى قوله ـ وهذا المعنى أجنبي عمّا هو محلّ الكلام في المقام من كون الجاهل بالحكم أو الموضوع محكوماً بالبراءة أو الاحتياط ... الخ (١).

قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه : لا يقال : إنّ ارتفاع الحرمة الأبدية يتوقّف على عدم منجّزية حرمة العقد الناشئة عن كونها في العدّة ، فلابدّ من دلالتها بالالتزام على البراءة الشرعية ليرتفع منجّزية تحريم العقد ، ليكون ذلك موجباً لارتفاع الحرمة الأبدية.

لأنّا نقول : إنّ ارتفاع الحرمة الأبدية لا يتوقّف على إجراء البراءة الشرعية ، بل يكفي فيه عدم العلم بالعدّة إذا كان منضمّاً إلى عدم العلم بلزوم الاحتياط عند الشكّ في الحكم الكلّي ، أو في موضوع الحكم أعني كونها في العدّة. وبالجملة : أنّ الرواية ليست متكفّلة إلاّبارتفاع الحكم الوضعي ـ أعني الحرمة الأبدية ـ عند

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٣١٨.

١٦٢

الجهل بحرمة العقد عليها أو بكونها في العدّة ، ومن الواضح أنّ هذا المعنى أجنبي عمّا هو المطلوب من الدلالة على البراءة الشرعية ـ أعني رفع الحكم الشرعي ـ أو الاحتياط فيه عند الشكّ فيه ، انتهى.

قلت : لو كانت الرواية شاملة للجهل البسيط ولو في ناحية الجهل بأنّها في العدّة [ ثبتت الحرمة الأبدية ] إذ لا أقل من استصحاب كونها باقية في العدّة ، كما هو الغالب في من اتّفق العقد عليها من الثيّبات في العدّة من المسبوقية بعلم العاقد بأنّها كانت ذات زوج. نعم لو لم يكن العاقد مسبوقاً بشيء من ذلك واتّفق أنّها كانت ذات عدّة لم يكن فيه مورد للاستصحاب. لكن أصالة الاحتياط قاضية بالاجتناب ، إلاّ إذا كان العاقد غافلاً عن ذلك كما فرضه قدس‌سره. اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الاستصحاب أو أصالة الاحتياط وإن جرى إلاّ أنّه إنّما يمنع من الاقدام على العقد ، لكنّه لا يوجب الحرمة الأبدية ، لأنّ المأخوذ فيها هو العلم الوجداني على نحو الصفتية ، لكن يشكل ذلك فيما لو قامت البيّنة على بقاء العدّة.

نعم ، يمكن المناقشة في أصالة الاحتياط في مثل ذلك ، فإنّ الظاهر من بعضهم إجراء أصالة الحل عند الشكّ في كون المرأة محرّمة نسباً ، فراجع كتاب الربا من ملحقات العروة ص ١٩ (١).

والحاصل : أنّ العلم بحرمة التزويج بذات العدّة مع العلم بكونها في العدّة قد أخذ موضوعاً للحرمة الأبدية المعبّر عنها بالحكم الوضعي ، فلو لم يكن عالماً بذلك ولا عالماً بأنّها في العدّة ، لم تتحقّق تلك الحرمة الأبدية ، وحينئذ نقول : إنّه

__________________

(١) العروة الوثقى ٦ : ٣٦ / مسألة (١٥).

١٦٣

لو لم يكن عالماً بأنّها في العدّة ، ولكن هي أخبرته بأنّها في العدّة ، أو قامت عنده البيّنة على ذلك ، أو جرى في المورد استصحاب بقائها في العدّة ، فلا إشكال في أنّه لا يجوز له العقد عليها ، لكنّه مع ذلك أقدم على العقد عليها ، ولنفرض أنّه بعد العقد تحقّق له أنّها في العدّة ، فإن كان العلم بالعدّة مأخوذاً في موضوع الحرمة الأبدية على جهة الصفتية ، لم تحرم عليه مؤبّداً ، لعدم قيام الأمارة ولا الاستصحاب مقام العلم الموضوعي المأخوذ على نحو الصفتية ، وهو بعيد ، وحيث نقول بحرمتها الأبدية في الصورة المزبورة ، كان ذلك عبارة أُخرى عن كون العلم المذكور مأخوذاً على نحو الطريقية.

ثمّ لو لم تقم عنده الأمارة ولا الاستصحاب على كونها في العدّة ، ولم يكن لديه إلاّ الشكّ بكونها في العدّة ، أو الشكّ في حرمة العقد عليها ولو على نحو الشبهة الحكمية ، فإن قلنا في ذلك بأصالة الاحتياط لم يجز له العقد عليها ، لكنّه مع ذلك أقدم على العقد عليها ، ثمّ تبيّن أنّها في العدّة وأنّ العقد عليها محرّم ، كان الحكم بتحقّق الحرمة الأبدية في الصورة المزبورة متوقّفاً على كون العلم المأخوذ في موضوع الحرمة الأبدية مأخوذاً من حيث المنجّزية ، ليقوم الاحتياط مقامه في تحقيق الحرمة الأبدية ، بخلاف ما لو قلنا في المسألة بالبراءة وقد أقدم على العقد عليها مستنداً إلى البراءة ، فإنّها حينئذ لا تحرم عليه مؤبّداً ، وحيث قد حكم الإمام عليه‌السلام بكونه معذوراً في الإقدام على العقد عليها ، وأنّها لا تحرم عليه مؤبّداً في كلتا صورتي الشبهة الحكمية والموضوعية ، سواء كان جاهلاً مركّباً أو كان جاهلاً بسيطاً ، كشف ذلك عن كون المرجع في المورد هو البراءة ، إذ لو كان المرجع في ذلك هو الاحتياط لم يصحّ الحكم بالمعذورية ، وإن صحّ الحكم بعدم الحرمة الأبدية باعتبار دعوى كون الاحتياط لا يقوم مقام العلم الطريقي ، وحينئذ

١٦٤

تكون هذه الرواية دالّة على البراءة في مورد الشبهة الموضوعية والشبهة الحكمية ، فإنّ إطلاق الحكم بالأعذرية أو بالمعذورية في مورد الشبهة الحكمية وإن كان منزّلاً على ما هو الغالب من عدم تمكّنه من السؤال لقطعه بجواز العقد عليها ، إلاّ أنّه شامل لما إذا كان شاكّاً ، ولا داعي لتخصيصه بالقاطع بالخلاف وتخصيص مورد الشبهة الموضوعية بخصوص الشاكّ ، فإنّ مجرّد الأعذرية يكفي فيه الغلبة ، يعني أنّه في الغالب يكون أعذر ، لا أنّه دائماً يكون أعذر ليتخصّص بمورد القاطع بالخلاف أعني الجاهل المركّب القاطع بعدم حرمة العقد عليها ، فتأمّل.

لكن الشيخ قدس‌سره حمل المعذّرية على المعذورية في الحكم الوضعي ، فقال : فالمراد من المعذورية عدم حرمتها عليه مؤبّداً ، لا من حيث المؤاخذة ، ويشهد له أيضاً قوله عليه‌السلام ـ بعد قوله : « نعم أنّه إذا انقضت عدّتها فهو معذور » ـ : « جاز له أن يتزوّجها » (١) الخ (٢) ولكن لا داعي إلى هذا التصرّف ، فإنّ منشأ العذر في أن يتزوّجها هو أنّه كان في الاقدام أوّلاً على تزويجها معذوراً ، فتأمّل.

وتنزيل الرواية في حكمها بالمعذورية أو في حكمها بعدم الحرمة الأبدية على خصوص الجاهل بكونها في العدّة وغير العالم بلزوم الاحتياط في ذلك ، لا يخلو من تكلّف ربما تأبى عنه الرواية ، فإنّ ظاهرها أنّ ملاك المعذورية وملاك عدم الحرمة الأبدية هو مجرّد الجهل بكونها في العدّة ، من دون مدخلية لجهله بلزوم الاحتياط في الحكم عليه بالمعذورية وبعدم تحقّق الحرمة الأبدية ، فتأمّل.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٠ : ٤٥٠ ـ ٤٥١ / أبواب ما يحرم بالمصاهرة ب ١٧ ح ٤.

(٢) فرائد الأُصول ٢ : ٤٤ ـ ٤٥ ( مع اختلاف يسير ).

١٦٥

قوله : نعم ، لا يبعد أن يكون حديث الرفع آبياً عن التخصيص في الجملة من جهة وروده في مقام الامتنان ، لكن إثبات ذلك في خصوص كلّ واحد واحد من فقراتها ـ ومنها « ما لا يعلمون » ـ لا يخلو عن الصعوبة ... الخ (١).

تقدّم (٢) أنّ جملة من باقي الروايات واردة في مقام الامتنان ، وأنّ كون الحكم وارداً في مقام الامتنان لا يمنع من قابليته للتخصيص ، كما خصّصنا الرفع في « ما لا يعلمون » بموارد الدماء والفروج والأموال.

ثمّ إنّ في خصوص حديث [ الرفع ] إشكالاً من جهة دعوى إفادته اختصاص الرفع بهذه الأُمّة ، وكثير من تلك التسعة ليست من خصائص هذه الأُمّة ، وكفاك في ذلك « ما لا يطيقون ». ولكن الحديث لا دلالة فيه على الاختصاص إلاّبدعوى مفهوم اللقب ، وهو ممنوع كما لا يخفى.

قوله : والحاصل أنّه لا فرق بين شرب التتن المشكوك حرمته وبين شرب المايع الخارجي المشكوك خمريته في أنّ كلّ واحد منهما فرد واحد من هذا العموم فيشمله الحكم ... الخ (٣).

قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه : إذ لا مانع من كون الشيء شاملاً لكلّ ما هو داخل تحت مشكوك الحلّية ، سواء كان موضوعاً شخصياً أو كان عنواناً كلّياً ، وليس ذلك من قبيل استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ، حيث إنّ الموضوعات الكلّية بالنسبة إلى المجتهد في مقام استنباط حكمها من قبيل الموضوعات

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٣١٩.

(٢) في الصفحة : ١٥٨ ـ ١٥٩.

(٣) أجود التقريرات ٣ : ٣٢٠.

١٦٦

الجزئية ، انتهى.

قلت : وإن شئت قلت : إنّ العناوين الكلّية ليست مأخوذة في هذه القضايا إلاّ مرآة لأفرادها الخارجية ، فيكون المراد من الشيء حينئذ كلّ مصداق خارجي لم يكن معلوم الحلّية والحرمة ، سواء كان عدم العلم بذلك ناشئاً عن عدم العلم بعنوان ذلك الشيء وتردّده بين ما يكون حكمه الحلّية أو التحريم ، أو كان عدم العلم بذلك ناشئاً عن عدم العلم بحكم ذلك الشيء مع العلم بعنوانه المنطبق عليه. وهكذا الحال في قوله عليه‌السلام : « حتّى تعلم أنّه حرام بعينه » (١) فإنّه حينئذ يكون علماً بحرمة نفس ذلك المصداق الخارجي ، سواء كان منشأ العلم بكونه بعينه حراماً هو العلم بحرمة العنوان الكلّي المنطبق عليه ، أو كان منشؤه هو العلم بأنّه منطبق عليه العنوان الكلّي المعلوم الحرمة. ومن ذلك تعرف اندفاع الجهة الأُولى من إشكالات الشمول للشبهات الموضوعية الناشئ عن ظهور لفظ « بعينه » في الشبهات الموضوعية.

قوله : الثانية : أنّ الأمثلة التي ذكرها الإمام عليه‌السلام في الرواية كلّها من قبيل الشبهة الموضوعية ... الخ (٢).

قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه : فإنّه وإن لم تكن الأمثلة من صغريات قاعدة الحل وكان ذكرها من قبيل التنظير لا التمثيل ، إلاّ أنّ الاقتصار في هذه النظائر على خصوص ما هو من قبيل الشبهة الموضوعية ممّا يشعر بأنّ المراد بالصدر هو خصوص تلك الشبهة ، انتهى.

قلت : وحينئذ يمكن القول بضعف هذه الجهة من الإشكال ، بعد فرض

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٧ : ٨٩ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ٤.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٣٢٠.

١٦٧

كون هذه الأمثلة من قبيل التنظير لأجل تقريب المطلب وعدم استغراب الترخيص الشرعي في موارد احتمال التحريم وإن كان المستند في تلك الترخيصات هو جهات أُخر مثل اليد وأصالة الصحّة ونحو ذلك ، ولا يقال : لِمَ لم ينظّر عليه‌السلام بمورد تكون الشبهة فيه حكمية. لأنّا نقول : لابدّ أن يكون ذلك النظير ممّا حكم به بالترخيص لجهة أُخرى معروفة لدى السامع مقبولة عنده ، والظاهر أنّ أغلب موارد الشبهات الحكمية التحريمية لا يكون الترخيص فيها إلاّمستنداً إلى البراءة الشرعية ، فيكون خارجاً عن التنظير والتقريب ، بل يكون عين المدّعى ، إذ لا يكون في البين ما يرخّص في ذلك إلاّ الاستصحاب النافي للحرمة وموارده قليلة.

قوله : الثالثة : أنّ قوله عليه‌السلام في ذيل الرواية : « أو تقوم به البيّنة » ... الخ (١).

يمكن أن يقال إنّ قوله عليه‌السلام : « والأشياء كلّها على هذا » (٢) إشارة إلى موارد التنظير ، لا أنّه راجع إلى صدر الرواية ، وحينئذ لا يكون اختصاصه بالشبهة الموضوعية قرينة على اختصاص الصدر بذلك.

أو يقال : إنّ قوله : « هذا » وإن كان راجعاً إلى صدر الرواية ، إلاّ أنّ هذه المقابلة بين الاستبانة وبين قيام البيّنة يعطي أنّ الأوّل مسوق للشبهة الحكمية ، والثاني للشبهة الموضوعية ، خصوصاً بعد فرض [ أنّ ] المراد من الاستبانة قيام مطلق الطريق الشامل للبيّنة في الشبهات الموضوعية. ولكن [ مع ] هذا كلّه ، فلا تطمئن النفس ولا تثق بكون هذه الرواية الشريفة شاملة للشبهات الحكمية ، فإنّ للظهور العرفي الذي يعرفه أهل اللسان مقاماً ، وللمطالب والمناقشات العلمية

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٣٢٠ ـ ٣٢١.

(٢) وسائل الشيعة ١٧ : ٨٩ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ٤.

١٦٨

مقاماً آخر.

قوله : والصلة المذكورة تختصّ بالشبهات الموضوعية (١).

لما سيأتي في الرواية الآتية من كونه للتقسيم الفعلي المختصّ بالشبهة الموضوعية.

قوله : فيدور الأمر بين إرادة احتمال الحلّية والحرمة من قوله عليه‌السلام : « فيه حلال وحرام » ، وبين الالتزام بالاستخدام ... الخ (٢).

الظاهر أنّ الوجه في اختصاص هذا البحث ـ أعني الدوران بين الاستخدام في الضمير وبين التجوّز في قوله : « فيه » بحمله على القابلية ـ بصحيحة عبد الله بن سنان (٣) ، دون رواية عبد الله بن سليمان (٤) ، هو اشتمال صحيحة ابن سنان على لفظ « شيء » الظاهر في الفرد الخارجي ، دون رواية عبد الله بن سليمان ، فإنّ فيها عوض الشيء « ما » الموصولة أو الموصوفة. ولكن يمكن أن يقال : إنّ « ما » أيضاً عبارة عن الشيء معرّفاً أو منكراً ، فينبغي أن يطّرد فيها البحث المذكور.

قوله : إلاّ أنّ الالتزام به أهون من الالتزام بالاستخدام ... الخ (٥).

يمكن التأمّل في الأهونية ، بل لا يبعد أن يكون ظهور قوله « فيه » في الانقسام حاكماً على ظهور الضمير في عدم الاستخدام ، فيكون اللازم هو حمل الضمير على الاستخدام ، وإرجاعه إلى نفس ذلك الشيء باعتبار العنوان الكلّي

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٣٢١.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٣٢٣.

(٣) وسائل الشيعة ١٧ : ٨٧ ـ ٨٨ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ١.

(٤) وسائل الشيعة ٢٥ : ١١٧ ـ ١١٨ / أبواب الأطعمة المباحة ب ٦١ ح ١.

(٥) أجود التقريرات ٣ : ٣٢٣.

١٦٩

المنطبق عليه ، وإن كان الأولى هو حمل الشيء على نفس الكلّي الطبيعي ، فإنّه أيضاً مصداق الشيء ، لأنّ الشيء بقرينة إضافة « كلّ » إليه وإن كان شاملاً للمصداق الخارجي وللكلّي الطبيعي ، أو كان ظاهراً في المصداق الخارجي ، إلاّ أنّ توصيفه بكونه منقسماً فعلاً إلى الحلال والحرام يكون قرينة على إرادة خصوص ما كان منه واجداً لهذه الصفة ، أعني صفة الانقسام الفعلي ، لأنّ ظهور القيد والوصف حاكم على إطلاق الموصوف أو على ظهوره لو قلنا بكونه في حدّ نفسه ظاهراً في خصوص المصداق الخارجي ، فيكون ذلك التوصيف قرينة على الاختصاص بالشبهة الموضوعية ، لظهور القيد في كون ذلك الانقسام هو المنشأ في الشكّ المستفاد من قوله : « حتّى تعرف الحرام بعينه » (١) ، اللهمّ إلاّ أن يحمل قوله : « فيه حرام وحلال » (٢) على العلم بأنّ فيه حراماً وحلالاً في الجملة ، وإن لم تعرف أنّ الحرام منه هو لحم الأرنب مثلاً والحلال منه هو لحم الغنم ، فلو شككنا في حرمة لحم الحمير مثلاً كان حلالاً حتّى تعرف الحرام بعينه ، ولا يخفى بعده.

والحاصل : أنّ قوله عليه‌السلام : « كلّ شيء يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام بعينه فتدعه » لو قلنا إنّ « الشيء » فيه كناية عن النوع الذي يكون قسم منه مذكّى فعلاً وهو معلوم الحلّية ، وقسم منه غير مذكّى وهو معلوم الحرمة ، فكلّ نوع ينقسم إلى هذين القسمين فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام الخ ، ليكون منحصراً بالشبهة الموضوعية ، وذلك هو المعنى الذي أفاده

__________________

(١ و ٢) وسائل الشيعة ١٧ : ٨٧ ـ ٨٨ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ١.

١٧٠

الشيخ قدس‌سره (١) وشيخنا قدس‌سره (٢). لكن يتوجّه عليه أنّ لفظ « هو » لا يكون راجعاً إلى نفس ذلك النوع ، إذ لا معنى للحكم بحلّية نوع اللحم مثلاً المفروض أنّ بعضه مذكّى مثلاً وهو معلوم الحلّية ، وبعضه غير مذكّى وهو معلوم الحرمة ، [ فلا يقال ] هو حلال لك حتّى تعرف الحرام ، لأنّ الحرام فيه معلوم وهو غير المذكّى ، وحينئذ لابدّ من إرجاع الضمير المنفصل إلى مصداق ذلك النوع المردّد بين كونه مصداقاً لهذا وكونه مصداقاً لذاك ، فيكون الضمير راجعاً إلى النوع باعتبار بعض أفراده ، ويلزمه الاستخدام ، لكنّه عكس الاستخدام الذي أفاده الشيخ وشيخنا قدس‌سرهما في قوله « فيه » من رجوعه إلى مصداق الشيء باعتبار كلّيه ونوعه ، بناءً على المعنى الثاني وهو كون الشيء عبارة عن المصداق ، ثمّ بعد ارتكاب الاستخدام في قوله « فهو » لا تكاد تكون الغاية مناسبة ، لأنّ الحاصل حينئذ هو أنّ المصداق المشتبه من ذلك النوع يكون حلالاً لك حتّى تعرف القسم الحرام من ذلك النوع ، ولأجل ذلك أنّ الأنسب حينئذ أن يقال حتّى تعرف أنّه حرام.

وحينئذ نقول : إنّ الأولى هو ما أفاده الأُستاذ المرحوم العراقي قدس‌سره فيما حرّرته عنه : من أنّ المراد من قوله « فيه حلال وحرام » ليس هو أنّ فيه قسماً محرّماً وهو غير المذكّى ، وقسماً محلّلاً وهو المذكّى ، بل المراد أنّ قسماً منه حرام وقسماً منه حلال ، لكن ذلك على سبيل الإجمال ، بحيث إنّا نعلم أنّ في اللحم ما هو محرّم وفيه ما هو محلّل على الإجمال من دون معرفة ما هو الحرام وما هو الحلال ، وحينئذ يكون الحاصل هو أنّ اللحم الذي يعلم بكون بعض منه

__________________

(١) فرائد الأُصول ٢ : ٤٧.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٣٢٢.

١٧١

حراماً وبعض منه حلالاً ، ولا نعرف ما هو الحلال وما هو الحرام ، فذلك النوع الذي هو مطلق اللحم لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه ، فاللحوم كلّها لك حلال حتّى تعرف ما هو الحرام الواقعي بعينه فتدعه ، فتكون دالّة على الحلّية في الشبهة الحكمية ، هذا ملخّص ما استفدته منه قدس‌سره في الدرس ، ولعلّه أشار إليه فيما أفاده في المقالة.

ولكن الظاهر أنّها حينئذ لا تنطبق إلاّعلى العلم الاجمالي في الشبهة الحكمية ، بأن نعلم إجمالاً أنّ بعض اللحوم حرام وبعضها حلال ، فاللحوم يعلم إجمالاً بحرمة بعضها ، فتكون بأجمعها لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه ، أي حتّى يحصل لك العلم التفصيلي بحرمة بعضها المعيّن فتدعه.

والحاصل : أنّ تعريف الحرام في قوله عليه‌السلام : « حتّى تعرف الحرام » وقوله عليه‌السلام : « بعينه » في قبال العلم بالحرمة إجمالاً (١) يؤيّد هذا المعنى ، أعني حملها على العلم الاجمالي ، لكنّه لا يمكن الالتزام به في الشبهات الحكمية وإن أمكن الالتزام به فيما لو نزّلناها على الشبهة الموضوعية المقرونة بالعلم الاجمالي بعد تنزيلها على الشبهة غير المحصورة أو الخارج بعض أطرافها عن الابتلاء.

ولا يخفى أنّ حملها على الشبهة الموضوعية المقرونة بالعلم الاجمالي لا يحتاج إلى دعوى كون الشيء بمعنى المصداق الخارجي ، بل يكفي فيه كونه بمعنى النوع أعني الجبن مثلاً ، وكان قد اتّفق أنّ بعض أقسامه كان محرّماً لكونه

__________________

(١) ولعلّ قوله عليه‌السلام : « فتدعه » من جملة المؤيّدات لحملها على الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي ، ليكون الضمير المفعول فيه راجعاً إلى الحرام الذي عرفته تفصيلاً لا إلى الشيء [ منه قدس‌سره ].

١٧٢

من الميتة ، فذلك النوع بجميع أفراده لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، والقاعدة وإن اقتضت الاحتياط حينئذ للعلم الاجمالي ، لكن لمّا كان المورد من قبيل الشبهة غير المحصورة ، أو كان من قبيل ما يكون بعض الأطراف فيه خارجاً عن محلّ الابتلاء ، كان العلم الاجمالي فيه غير مؤثّر في لزوم الاحتياط ، وكانت أطراف الشبهة المذكورة لك حلالاً حتّى تعرف الحرام بعينه تفصيلاً فتدع ذلك الذي عرفت حرمته تفصيلاً.

والحاصل : أنّ هذه الروايات منزّلة على العلم الاجمالي في الشبهة الموضوعية التحريمية مع فرض كونها غير محصورة ، أو كون بعض أطرافها خارجاً عن محلّ الابتلاء ، ومقتضى ذلك هو جواز ارتكاب الأطراف فيها حتّى تعرف ما هو الحرام بعينه معرفة تفصيلية فتدع ذلك المعلوم التفصيلي ، ولا نحتاج حينئذ إلى كون الشيء بمعنى المصداق لنقع في التعارض بين ظهور لفظة « في » في التقسيم الفعلي ، وبين ظهور الضمير المجرور بها في الرجوع إلى نفس الشيء الذي هو المصداق ، كما أنّا نلتزم بكون المراد من الشيء هو النوع الذي علمنا أنّ بعضه الميتة وهو محرّم وبعضها غير ميتة وهو المحلّل ، ويكون اختلاط الميتة بغيرها هو الموجب للشكّ في كلّ واحد من تلك الأطراف ، ويكون عدم انحصارها أو خروج بعضها عن الابتلاء هو الموجب للحكم بحلّية ذلك النوع وجواز الأكل من كلّ واحد من أطرافه حتّى تعرف وتعلم ما هو الميتة بعينه معرفة تفصيلية فتدعه ، ويكون ضمير « هو » راجعاً إلى نفس ذلك النوع ، وتكون الرواية واردة لحكم الشبهات الموضوعية التحريمية المقرونة بالعلم الاجمالي مع فرض عدم الانحصار ، أو خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء.

١٧٣

ولعلّ رواية أبي الجارود المروية في كتاب المحاسن ، قال : « سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الجبن ، فقلت أخبرني من رأى أنّه يجعل فيه الميتة ، فقال عليه‌السلام : أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم جميع ما في الأرض ، فما علمت أنّه ميتة فلا تأكله ، وما لم تعلم فاشتر وبع وكل » الحديث (١) أظهر فيما ذكرناه من العلم الاجمالي في الشبهة الموضوعية التحريمية الغير المحصورة ، أو الخارج عن الابتلاء بعض أطرافها من رواية ابن سنان ورواية ابن سليمان ، فتأمّل.

ولعلّ رواية ضريس مثل رواية المحاسن فيما ذكرناه ، وهي قال : « سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن السمن والجبن نجده في أرض المشركين بالروم أنأكله ، فقال عليه‌السلام : ما علمت أنّه خلطه الحرام فلا تأكل ، وما لم تعلم فكله حتّى تعلم أنّه حرام » (٢).

قوله : فإنّ الأخباريين لا يقولون بالحرمة ، وإنّما قالوا بترك الاقتحام فيها لاحتمال الحرمة ، فتأمّل (٣).

لا يخفى أنّ الأخباريين وإن لم يقولوا بالحرمة بل قالوا بلزوم الاحتياط ، إلاّ أنّ هذا اللزوم ليس بعقلي ، بل هو عندهم شرعي ، وحينئذ تكون نسبته إلى الشارع قولاً بغير علم. ولو اعتمدوا في ذلك على الأخبار الآتية التي استدلّوا بها ، لقلنا إنّ قولنا بالبراءة الشرعية ليس قولاً بغير علم ، لاعتمادنا فيه على أخبار البراءة.

__________________

(١) المحاسن ٢ : ٢٩٦ / ب ٧٧ ( الجبن ) ح ١٩١٦ ، وسائل الشيعة ٢٥ : ١١٩ / أبواب الأطعمة المباحة ب ٦١ ح ٥ ( مع اختلاف يسير ).

(٢) وسائل الشيعة ٢٤ : ٢٣٥ ـ ٢٣٦ / أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٦٤ ح ١ ( مع اختلاف يسير ).

(٣) فوائد الأُصول ٣ : ٣٧١.

١٧٤

قوله : فيكون حاصل مفاد قوله عليه‌السلام : « الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة » (١) ، هو أنّ ترك التعرّض للشبهة التي يحتمل انطباق التكليف عليها خير من الوقوع في عقاب مخالفة التكليف إذا صادفت الشبهة متعلّق التكليف ، فعلى هذا يكون الأمر بالتوقّف للارشاد وهو تابع للمرشد إليه ... الخ (٢).

وإن شئت فقل : إنّ موارد احتمال التكليف الجاري فيها أدلّة البراءة الشرعية من مثل حديث الرفع (٣) ومثل « كلّ شيء لك حلال » (٤) ونحوه ، تكون خارجة موضوعاً عن الشبهة في قوله عليه‌السلام « قف عند الشبهات » (٥) وحينئذ تكون أخبار البراءة حاكمة أو واردة على ما دلّ على وجوب التوقّف عند الشبهة ، ومع قطع النظر عن هذه الحكومة أو الورود فلا أقل من طريقة التخصيص ، فإنّ أدلّة الترخيص في الشبهة وإن قوبلت بأدلّة التوقّف فيها ، إلاّ أنّه قد خرج عن الأُولى الشبهات في أطراف العلم الاجمالي والشبهات قبل الفحص ، وبعد ذلك تكون أخبار الترخيص أخصّ من أخبار التوقّف ، فتقدّم عليها لكونها حينئذ أخصّ منها. على أنّا لا نحتاج إلى ذلك كلّه ، فإنّ الشبهة في أخبار التوقّف مقيّدة باحتمال العقاب ، وأخبار الترخيص رافعة لهذا القيد.

ومن ذلك يظهر لك الحال في قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فإنّها وإن لم

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٥٤ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٢ ، ٩ ، ١٣ ، ١٥ ، ٥٧.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٣٧٤.

(٣) وسائل الشيعة ١٥ : ٣٦٩ / أبواب جهاد النفس ب ٥٦ ح ١.

(٤) وسائل الشيعة ١٧ : ٨٩ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ٤.

(٥) نفس المصدر المتقدّم في الهامش (١) لكن مع اختلاف في اللفظ.

١٧٥

تكن قاضية بالخروج عن نفس الشبهة ، إلاّ أنّها قاضية بالخروج عن الشبهة التي يكون ارتكابها موجباً للوقوع في العقاب لو صادفت الواقع ، فإنّ تعليل الحكم بعلّة يوجب تقييد موضوع الحكم ، نظير قولك لا تأكل الرمّان فإنّ الحموضة مضرّة لك في كونه موجباً لتقييد الرمّان بالحامض ، وحينئذ تكون الشبهة التي أُمرنا بالتوقّف فيها مقيّدة بمفاد التعليل الذي حاصله الأمر بالوقوف عند الشبهة التي يكون الاقدام فيها موجباً لاحتمال الوقوع في العقاب ، ومع فرض كون شبهتنا مجرى لقاعدة قبح العقاب بدون بيان ، تكون خارجة عن الشبهة التي يحتمل فيها العقاب التي يكون الاقتحام فيها اقتحاماً في الهلكة التي هي العقاب.

ومن ذلك يظهر لك الجواب عن أخبار التثليث ، وحينئذ تنحصر الشبهة التي أمر بالتوقّف [ فيها ] بالشبهة التي يكون احتمال التكليف فيها منجّزاً ، كما في الشبهة قبل الفحص ، والشبهة في أحد أطراف العلم الاجمالي.

ويشهد بذلك تطبيق تلك الكبرى وذلك التقسيم الثلاثي على الخبر الشاذّ النادر في قبال الخبر المشهور كما في المقبولة (١) عند الترجيح بالشهرة ، ولا ينافي ذلك تعليل التوقّف في بعضها « بأنّ المعاصي حمى الله » (٢) و « من رعى غنمه قرب الحمى بارتكاب الشبهات نازعته نفسه إلى أن يرعاها في الحمى » (٣) فإنّ ذلك محذور آخر في ارتكاب الشبهات المذكورة التي يكون الاحتمال فيها منجّزاً. وأمّا رواية الفضيل « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : من الورع من الناس؟ قال عليه‌السلام :

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٦ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١ ، لكن أورد التقسيم الثلاثي في صفحة : ١٥٧ / ب ١٢ ح ٩.

(٢ و ٣) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٦١ ، ١٦٩ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٢٧ ، ٥٢ ( نقل بالمضمون ).

١٧٦

الذي يتورّع من محارم الله ويجتنب هؤلاء ، فإذا لم يتّق الشبهات وقع في الحرام وهو لا يعرفه » (١) وهذه لسانها لسان الاستحباب ، ولو حملت على الوجوب كان المراد بالشبهات فيها هي الشبهات المنجّزة ، فتأمّل.

والذي تلخّص : أنّ الجواب عن الاستدلال بأخبار التوقّف عن الشبهات معلّلاً بأنّ التوقّف فيها خير من الاقتحام في الهلكات يمكن أن يكون من وجوه :

الأوّل : أنّ أخبار البراءة حاكمة أو واردة عليها ، فإنّ ترخيص الشارع في ارتكاب محتمل الحرمة يخرجه عن كونه من الشبهات ، ولا يتوقّف ذلك على كون الترخيص ترخيصاً واقعياً ليكون موجباً لاختصاص التحريم بالعلم ، بل يكفي فيه الترخيص الظاهري ، سيّما بعد أن قلنا بأنّ مرجع ذلك إلى جعل حجّية احتمال العدم. نعم يرد عليه أنّ مرجع الاحتياط إلى جعل حجّية احتمال الوجود فيتعارضان ، فلابدّ في توجيه التقديم من سلوك الوجه :

الثاني : أنّ أخبار البراءة وإن لم ترفع الشبهة نفسها إلاّ أنّها ترفع قيدها المستفاد من التعليل ، وهو كون الشبهة موجبة للوقوع في العقاب عند المصادفة ، وحينئذ تكون أخبار البراءة الشرعية رافعة لذلك القيد ، بل إنّ البراءة العقلية وحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان رافعة لذلك القيد.

الثالث : أنّ أخبار البراءة قد خرج منها الشبهة في العلم الاجمالي والشبهة قبل الفحص ، والشبهة في الدماء والفروج بل والأموال ممّا ثبت فيه انقلاب الأصل ، وبعد إخراج هذه الشبهات عن أخبار البراءة تكون أخصّ من أخبار التوقّف فتقدّم عليها.

الرابع : أنّ أخبار التوقّف في حدّ نفسها لمّا كان موضوعها احتمال العقاب ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٦٢ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٣٠.

١٧٧

لم تكن هي مولّدة لاحتمال العقاب ، بل لابدّ أن يكون احتمال العقاب فيها متحقّقاً في حدّ نفسه مع قطع النظر عن وجوب التوقّف ، ولا يكون ذلك إلاّفي موارد العلم الاجمالي والشبهة قبل الفحص ، كذا قرّر.

ولكن يمكن تطرّق المنع إلى ذلك ، فإنّ دعوى أنّ احتمال العقاب منحصر بالعلم الاجمالي والشبهة قبل الفحص إنّما هو من جهة تحكيم أدلّة البراءة في غيرهما ، فيكون هذا الجواب راجعاً إلى الثاني أو الثالث ، كما أنّ الأوّل راجع إلى أحدهما ، وحينئذ ينحصر الجواب بهما فلاحظ.

ولا يخفى أنّ طريقة التخصيص المتحصّلة من الجواب الثالث تريحنا من دعوى أنّه يستفاد من تعليل الوقوف عند الشبهة باحتمال العقاب ، أنّ كلّ شبهة يحتمل فيها العقاب ، فيجب التوقّف عندها ، فإنّ هذه الدعوى لو تمّت فأقصى ما فيها هو العموم ، ولكن هذا العموم مخصّص بإخراج الشبهات الغير المنجّزة ، وذلك بما عرفت من كون أخبار البراءة بعد خروج الشبهات المنجّزة منها تكون أخصّ من هذا العموم فتقدّم عليه.

نعم إنّ هذه الدعوى لو تمّت تضرّ بدعوى الحكومة ، فإنّ طريقة الحكومة إنّما تتمّ على تقدير تقييد الشبهة في أخبار التوقّف بالشبهة التي يحتمل فيها العقاب ، أمّا إذا لم يكن في البين تقييد ، بل كان مفاد أخبار التوقّف هو كون كلّ شبهة يحتمل فيها العقاب فلا تتأتّى الحكومة حينئذ ، بل لابدّ من سلوك طريقة التخصيص ، فتأمّل.

والحاصل : أنّ طريقة الحكومة موقوفة على استفادة التقييد من التعليل ، وإنّما يتأتّى ذلك ـ أعني استفادة التقييد من التعليل ـ فيما لو كان التقسيم معلوماً من الخارج ، كما في مثل لا تأكل الرمّان لأنّ الحموضة مضرّة لك ، إذ نعلم من

١٧٨

الخارج أنّ الرمّان قسم منه غير حامض وقسم منه حامض ، وحينئذ لابدّ من التقييد للرمّان بأنّه الحامض ، وهذا التقسيم فيما نحن فيه ليس بمعلوم من الخارج ، إلاّبالنظر إلى أخبار البراءة وإلى دليل الاحتياط في موارد العلم الاجمالي ، وفي الشبهة قبل الفحص ، وفي موارد الاحتياط الشرعي كالدماء والفروج ، فبالنظر إلى أخبار البراءة وإلى أدلّة الاحتياط تكون الشبهة على قسمين : منجّزة وغير منجّزة ، والأُولى يحتمل فيها العقاب ، والثانية لا يحتمل.

وبناءً على ذلك لا تكون في البين حكومة ، بل تكون لنا أدلّة ثلاثة : دليل البراءة ، ودليل الاحتياط في الموارد المذكورة ، وهذا الدليل أعني قوله : « قف عند الشبهة فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام بالهلكة » بناءً على استفادة التقييد من التعليل بما إذا كانت الشبهة محتملة للعقاب ، وهي موارد الدليل الثاني ، وحينئذ لا يكون بين هذه الأدلّة تعارض كي تتأتّى الحكومة أو طريقة التخصيص ، ولكن كلّ ذلك متوقّف على تحقّق ذلك التقسيم من الخارج ، فالأولى هو النظر إلى نفس الدليل الثالث الذي يفيد العموم لكلّ شبهة ، فإنّ مفاده في حدّ نفسه هو أنّ كلّ شبهة يحتمل فيها العقاب ، لكن الأدلّة الأُولى وهي مفاد البراءة بعد تخصيصها بالأدلّة الثانية تكون أخصّ من الدليل الثالث ، فتقدّم عليه تخصيصاً لا حكومة ، فلاحظ وتدبّر.

لا يقال : كما أنّ أخبار البراءة قد خرج منها الشبهات المنجّزة ـ أعني الشبهة قبل الفحص ، والشبهة في أطراف العلم الاجمالي ، والشبهة في الدماء والفروج ـ فكذلك أخبار التوقّف والتثليث (١) قد خرج منها الشبهة الوجوبية والشبهات

__________________

(١) أخبار التثليث ، منها : ما في مقبولة عمر بن حنظلة الواردة في الخبرين المتعارضين

١٧٩

الموضوعية ، للإجماع من الأُصوليين والأخباريين على عدم وجوب الاحتياط فيها ، وحينئذ ينحصر أخبار التوقّف بالشبهات التحريمية الحكمية ، سواء كانت بدوية أو كانت منجّزة بأحد المنجّزات المذكورة ، وبعد هذين التخصيصين تكون النسبة بين أخبار التوقّف وأخبار البراءة العموم من وجه ، حتّى مثل قوله : « كلّ

__________________

بعد الأمر بالأخذ بالمشهور منهما وترك الشاذّ النادر معلّلاً بقوله عليه‌السلام : « فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه » وقوله عليه‌السلام : « إنّما الأُمور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ حكمه ( علمه ) إلى الله ورسوله ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجا من المحرّمات ، ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم » [ وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٦ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١ ، ١٥٧ / ب ١٢ ح ٩ ].

ومنها : ما عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في مرسلة الصدوق : « أنّه خطب وقال : حلال بيّن وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك ، فمن ترك ما اشتبه عليه من الاثم فهو لما استبان له أترك ، والمعاصي حمى الله ، فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها [ وسائل الشيعة ٢٧ : ١٦١ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٢٧ ].

ومنها : ما عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : « قال جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في حديث يأمر بترك المشتبهات بين الحلال والحرام ـ : من رعى غنمه قرب الحمى نازعته نفسه إلى أن يرعاها في الحمى ، ألا وإنّ لكلّ ملك حمى ألا وإنّ حمى الله محارمه [ وسائل الشيعة ٢٧ : ١٦٩ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٥٢ ( مع اختلاف يسير ) ].

ومثل ذلك قوله عليه‌السلام في رواية الفضيل بن عياض : « قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : من الورع من الناس؟ قال عليه‌السلام : الذي يتورّع من محارم الله ويجتنب هؤلاء ، فإذا لم يتّق الشبهات وقع في الحرام وهو لا يعرفه » [ وسائل الشيعة ٢٧ : ١٦٢ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٣٠ ] ولسانها ظاهر في الاستحباب ، ولو حملت على الوجوب كانت مختصّة بالشبهات المنجّزة كما شرحناها في غيرها [ منه قدس‌سره ].

١٨٠