أصول الفقه - ج ٧

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٧

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-72-0
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٩٢

عادة ـ مجرّدُ إمكان صدور الفعل عادة من المكلّف وإن لم يحصل له فعلاً الداعي إلى الاتيان به ، وهذا بخلاف ما لو كان الترك لأجل عدم إمكان الفعل عادة ، فإنّه لمّا لم يمكنه الفعل عادة لم يكن النهي عنه حسناً ، انتهى.

ومنه يعلم الوجه في الصورة الثانية على التعاكس. وحاصل ذلك أنّه في صورة عدم إمكان مخالفة التكليف إمكاناً عادياً ، يكون التكليف لغواً ، وفي صورة إمكانها عادياً لكن المكلّف لا يقدم عليها لعدم الداعي له إلى فعلها أو لوجود الصارف عنها ، لا يكون التكليف لغواً ويكون متّصفاً بالحسن ، والسرّ في ذلك ما ذكرناه فيما مرّ تفصيله.

بقي الكلام فيما يكون فعله ممكناً عادة لكن لم تجر العادة بفعله ، مثل السجود على أرض السوق ونحوها من الأراضي الخسيسة التي جرت العادة على ترك السجود عليها ، كما مثّل به الأُستاذ قدس‌سره في الدرس وفي الوسيلة ، فهل يلحق بالفعل غير الممكن عادة في قبح النهي عنه ، أو أنّه يلحق بما يكون متروكاً للمكلّف بداعٍ نفساني في صحّة النهي وحسنه؟ اختار الشيخ قدس‌سره (١) الأوّل. وشيخنا الأُستاذ قدس‌سره خالفه وألحقه بالثاني عند تحرير هذه المسألة في الدرس ، لكن بعد الفراغ من المسألة والدخول في مسألة الاضطرار استدرك جملة من مباحث الخروج عن الابتلاء ، ومن جملتها هذه المسألة ، وأفاد أنّ الحقّ هو ما اختاره الشيخ ، وأنّ مثل ذلك لو وقع طرفاً للعلم الاجمالي يوجب عدم تنجّزه ، وأنّه يجوز ارتكاب طرفه كما صرّح بذلك في الوسيلة ، وهذه عبارته فيها :

السابعة : لو علم بوقوع نجاسة إمّا في الماء أو على أرض لا يتّفق السجود عليها والتيمّم بها عادة ، ولكن لا لمجرّد الغنى عنها ، بل لكونها من الأراضي

__________________

(١) فرائد الأُصول ٢ : ٢٣٤ ـ ٢٣٨.

٥٦١

الخسيسة التي يتنزّه عنها في السجود والتيمّم بحسب العادة ونحو ذلك ، ففي وجوب التجنّب عن الماء أو جواز التطهّر به وشربه وجهان ، أقواها الثاني (١).

ثمّ لا يخفى أنّا لو قلنا بالإلحاق فإنّما نقول به في مورد كون الفعل غير العادي منهياً عنه ، الذي هو قرين الصورة الأُولى من الصورتين السابقتين ، أمّا في صورة كونه مأموراً به الذي هو قرين الصورة الثانية ، فلا ينبغي الإشكال في عدم إلحاقه بها ، إذ لا إشكال في حسن الأمر بالفعل الذي جرت العادة به وكان تركه غير عادي. وبالجملة : أنّ محلّ الكلام إنّما هو في إلحاق الفعل الذي لم تجر به العادة وكان ممكناً عادياً ، بالفعل الذي لم يكن ممكناً عادياً في قبح النهي المتعلّق به.

والإنصاف : أنّ هذا الالحاق محتاج إلى التأمّل ، خصوصاً بناءً على ما ذكرناه في وجه سقوط النهي في ذلك من عدم تحقّق المنع والزجر ، لإمكان القول بتحقّقه هنا كما يتحقّق في من لا داعي له إلى الفعل ، فإنّا لو التزمنا بالحاق السجود على مثل الأرض المذكورة ممّا لم تجر العادة بالسجود عليه ، أو جرت على عدمه مع فرض كونه ممكناً عادة ، بما يكون غير مقدور عادة ، لكان مقتضاه أنّه لو سجد عليها مع فرض العلم بنجاستها ومع فرض حرمة السجود على النجس ، لم يكن قد فعل حراماً ، وهذا ممّا لا يقبله الذوق.

وليس ذلك من قبيل ما لو تحمّل المشاق وطوى المقدّمات البعيدة ، وحصل على ما لم يكن مقدوراً له عادة ، فإنّه وإن صار حراماً عليه حينئذ لكونه بعد طي تلك المقدّمات مقدوراً عادة فيكون حراماً ، لكن بعد طيّ تلك المسافات ، بخلاف ما نحن فيه فإنّه لا مشقّة في مقدّماته ، بل لا مقدّمة له أصلاً ، ولم يكن في البين إلاّمجرّد عدم جريان العادة بالسجود على تلك الأرض ، فلو

__________________

(١) وسيلة النجاة : كز [ لا يخفى أنّه قدس‌سره رمز للصفحات الأُولى منها بالحروف ].

٥٦٢

خالف العادة وارتكب السجود لا يمكننا القول بأنّه لم يفعل حراماً ، كما أنّه لا يمكننا القول بأنّه قبل الإقدام على السجود ليس السجود حراماً لكنّه يكون حراماً بالاقدام عليه ، فلابدّ حينئذ من القول بأنّه حرام ومنهي عنه قبل الإقدام عليه.

لا يقال : في صورة عدم التمكّن العادي وقبل طي المسافات ماذا يكون حكم الشرب من تلك الآنية بالنسبة إلى ذلك الشخص.

لأنّا نقول : يلتزم بأنّها لا حكم لها حتّى الاباحة وإن كانت مشتملة على ملاك التحريم ، وهي في ذلك مثل الفعل الواجب في حدّ نفسه لو كان غير مقدور عقلاً بالنسبة إلى بعض الأشخاص في كونه مشتملاً على ملاك الوجوب ، وإن لم يكن واجباً على الشخص.

لا يقال : إنّه وإن لم يكن واجباً عليه إلاّ أنّه محكوم فعلاً بجواز الترك ، فمقتضى المقابلة أن يكون الشرب من تلك الآنية محكوماً بالجواز.

لأنّا نقول : إنّ ذلك الفعل غير المقدور ليس محكوماً شرعاً بجواز الترك كي يتوجّه ما ذكرته من المقابلة ، بل أقصى ما في البين هو أنّ الشارع لم يحكم بوجوبه ، غايته أنّ العقل يسوّغ تركه ، بل هو حاصل قهري ، لا أنّه محكوم بالجواز شرعاً ، فليكن ترك الشرب من تلك الآنية من هذا القبيل.

لا يقال : إنّا نرى قبح الحكم على الشرب من تلك الآنية بالاباحة حتّى فيما لو فرض خلوّها من ملاك التحريم ، وهذا يكشف عن كون الوجه في قبح النهي عن الشرب منها لأنّها معدودة في نظر العقلاء في عداد المعدوم ، ولو كان الوجه في قبح النهي هو ما ذكرتموه من عدم صدق المنع ، لكان منحصراً فيه ، فلِمَ يكون الحكم عليها بالاباحة قبيحاً.

لأنّا نقول : إنّ الاباحة يتأتّى فيها ما ذكرناه في وجه قبح النهي ، فإنّها إباحة

٥٦٣

كلّ من الفعل والترك ، فلابدّ أن يكون الفعل ميسوراً ممكناً للمكلّف ، فتأمّل. ولو كان الوجه هو ما تقدّم من عدّها في عداد المعدومات ، لكان متحقّقاً في الأمر بالشرب منها ، فإنّه لا يصحّ الأمر بالشرب من الآنية المعدومة (١) ، هذا غاية ما أمكنني تحريره في هذا المبحث من أوّله إلى آخره ، ولكن النفس بعد هذا كلّه غير راضية بالاقتناع بشيء من هذه التوجيهات لسقوط النهي والتحريم في مسألة الخروج عن الابتلاء ، والله المستعان وعليه التكلان.

قوله ـ في الحاشية على التأمّل الذي ذكره في الأصل ـ : وجهه أنّه يلزم على هذا وجوب الاجتناب عن أحد طرفي المعلوم بالاجمال مع العلم بخروج الآخر عن مورد الابتلاء ... الخ (٢).

لا يخفى أنّه بناءً على كون الشكّ في القدرة ، سواء ذلك في القدرة العقلية أو العادية من قبيل الشكّ في المسقط ، وأنّه يلزم الاحتياط فيما لو علم بملاك التكليف وحصل الشكّ في القدرة المعتبرة فيه عادية كانت أو عقلية ، لا يمكن أن ينقض بصورة العلم الاجمالي المردّد بين ما هو داخل تحت القدرة وما هو خارج عنها ، لأنّ العلم الاجمالي حينئذ يكون خارجاً عن الشكّ في المسقط ، بل يكون

__________________

(١) تنبيه : لو كان التلف أو الخروج عن الابتلاء حاصلاً قبل العلم الاجمالي ، فلا إشكال في عدم منجّزية العلم الاجمالي الحاصل بعد التلف أو الخروج عن الابتلاء ، لكن هل يجري استصحاب التكليف المردّد بين الساقط والباقي. ونظيره في الواجبات ما لو صلّى الظهر مثلاً ثمّ علم إجمالاً بوجوب الجمعة أو الظهر ، تعرّضنا لذلك في مباحث الاستصحاب في التنبيه الثالث في حاشية ص ١٥٣ [ في المجلّد التاسع من هذا الكتاب صفحة : ٣٠٨ وما بعدها ] ، وتعرّض له الأُستاذ العراقي قدس‌سره في مقالته ص ١٤٨ و ١٤٩ فراجع [ مقالات الأُصول ٢ : ٣٨٢ ـ ٣٨٤ ، منه قدس‌سره ].

(٢) فوائد الأُصول ٤ ( الهامش ١ ) : ٥٧.

٥٦٤

من قبيل الدوران بين الملاك الساقط والملاك الباقي ، ومن الواضح أنّه لا يلزم الاحتياط فيه ، لأنّه نظير العلم الاجمالي المردّد بين تكليفين قد سقط أحدهما قبل العلم الاجمالي ، كما في صور تحقّق العلم الاجمالي بعد تحقّق ما يسقط التكليف في أحد الطرفين ، مثل ما لو صلّى الظهر يوم الجمعة وعلم بعد الفراغ منها بأنّ الواجب عليه إمّا الظهر أو الجمعة ، ومثل ما لو طهّر أحد الاناءين معيّناً بأن ألقاه في الماء الكثير ثمّ علم بأنّ أحدهما قد تنجّس قبل إلقاء هذا الطرف في الماء الكثير.

وهذا بخلاف ما لو علم تفصيلاً بملاك التكليف ، بأن علم بأنّ هذا الاناء قد تنجّس ، أو أنّ هذه المرأة حرام عليه ، ولكنّه شكّ في القدرة العادية على ارتكابه ، أو علم بأنّ زيداً عالم ولكنّه شكّ في قدرته على إكرامه ، ونحو ذلك ممّا يكون مورد الملاك أو التكليف معلوماً تفصيلاً ، ويكون منشأ الوقفة فيه هو الشكّ في قدرته عليه عادة بخروجه عن ابتلائه كما في مورد النهي ، أو شكّ في القدرة عليه عقلاً كما في مورد الأمر ، فإنّه بناءً على كون الشكّ في القدرة من قبيل الشكّ في المسقط يكون من قبيل ما لو علم بالتكليف وشكّ في مسقطه ، ومن الواضح أنّ وجوب الاحتياط في صورة الشكّ في سقوط التكليف لا دخل له بمسألة دوران الأمر بين تكليف ساقط وتكليف آخر غير ساقط ، فلا يصحّ جعله نقضاً عليه.

وبناءً على ذلك ـ أعني وجوب الاحتياط في مسألة الشكّ في القدرة مع العلم التفصيلي بالملاك ـ لا ينبغي الريب في لزوم الاحتياط فيما لو دار الأمر في العلم الاجمالي بين الطرف المقدور والطرف الآخر المشكوك القدرة ، أعني به المشكوك خروجه عن الابتلاء ، لدوران الأمر حينئذ بين ملاك يلزم مراعاته قطعاً لو كان هو الواقع ، وملاك آخر يلزم الاحتياط في مراعاته ، فهو نظير ما لو علم بوجوب أحد الأمرين من الظهر أو الجمعة ، لكن على تقدير كونه الجمعة فهي

٥٦٥

بعد غير ساقطة قطعاً ، وعلى تقدير كونه الظهر فهو يشكّ في أنّها قد سقطت عنه.

قوله في الحاشية المذكورة : والسرّ في ذلك : هو أنّ مجرّد وجود الملاك لا يكفي في حكم العقل بوجوب رعايته ما لم يكن تامّاً في الملاكية ، ولم يعلم أنّ الملاك في الخارج عن مورد الابتلاء يكون تامّاً في ملاكيته ... الخ (١).

كأنّه يشير بذلك إلى وجه عدوله قدس‌سره عن هذا التوجيه. وصرّح السيّد سلّمه الله بذلك في تحريراته عنه قدس‌سره بقوله : كما أنّه ظهر منه فساد ما بنينا عليه في الدورة السابقة ، من كون تنجيز العلم الاجمالي في موارد الشبهة لأجل وجود الملاك الملزم في البين ، واستقلال العقل بلزوم تحصيله ما لم يجزم بالعجز ، كما في موارد الشكّ في القدرة المعتبرة في التكليف عقلاً ، فإنّك قد عرفت أنّ القدرة على المخالفة عقلية وعادية لابدّ وأن يكون لها دخل في ملاك النهي والزجر ، فمع الشكّ فيها يكون الملاك كالخطاب مشكوكاً فيه لا محالة الخ (٢).

وليس مراده من المدخلية في الملاك هو توقّف المفسدة أو المصلحة عليها ، فإنّ ذلك خلاف مسلكه في شرطية القدرة ، بل المراد هو مدخلية ذلك في تأثير الملاك في البعث والزجر ، كما يشير إلى ذلك ما أفاده عنه قدس‌سره في ص ٢٥٣ (٣) فراجعه ، وراجع ما أُفيد عنه قدس‌سره في توجيه التمسّك بالعموم في الشبهات المصداقية فيما لو كان المخصّص لبّياً (٤) وتأمّل.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ ( الهامش ١ ) : ٥٧.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٤٣٧ ـ ٤٣٨.

(٣) أجود التقريرات ٣ : ٤٣٥.

(٤) أجود التقريرات ٢ : ٣٤٢ وما بعدها.

٥٦٦

ويمكن أن يقال : إنّ المتحصّل من ذلك هو أنّ عدم القدرة إنّما يكون من قبيل المسقط ليكون الشكّ فيه من قبيل الشكّ في المسقط إذا كان حاصلاً بعد تحقّق الملاك أو التكليف بحيث يكون المسقط حادثاً بعد طروّ الملاك أو بعد توجّه التكليف ، كان من قبيل الشكّ في المسقط ولزم الاحتياط.

أمّا لو كان الشكّ فيه من قبيل الشكّ في حدوثه قبل تحقّق الملاك أو التكليف ، بحيث كان ذلك الذي يحتمل أنّه مسقط حادثاً وموجوداً قبل طرو الملاك أو قبل توجّه التكليف كما فيما نحن فيه ، حيث إنّ تلك المرتبة من الخروج عن الابتلاء كانت موجودة قبل توجّه التكليف أو قبل الابتلاء بملاكه ، فلا يلزم فيه الاحتياط ، لأنّه يكون من قبيل الشكّ في أصل توجّه التكليف لا من قبيل الشكّ في سقوطه ، لأنّ عدم القدرة على تقديرها تكون مقارنة لذلك التكليف بل سابقة عليه ، فلا يكون علمه بالملاك أو بالتكليف مع فرض الشكّ في قدرته عليه علماً بشيء ملزم له شرعاً أو عقلاً ، لما صدّر به البحث من أنّ الملاك المفروض عدم القدرة على استيفائه غير ملزم عقلاً ، كالتكليف الشرعي في مورد عدم القدرة على امتثاله. نعم لو كان من قبيل الشكّ في ارتفاع القدرة بعد أن تحقّق الملاك أو التكليف ، كان اللازم هو الاحتياط ، لأنّه من قبيل الشكّ في المسقط. وجميع موارد الشكّ في القدرة من قبيل الأوّل ، أعني من قبيل ما يكون عدم القدرة على تقديره سابقاً على طروّ الملاك أو التكليف.

وأمّا ما أُفيد من وجوب الفحص فليس ذلك من جهة لزوم الاحتياط في الشكّ في القدرة حتّى بعد الفحص وبقاء الشكّ ، وإلاّ لم يكن الفحص لازماً ، بل كان اللازم هو الاحتياط من أوّل الأمر ، بل إنّ لزوم الفحص دليل على أنّ الاحتياط بعد الفحص وعدم ارتفاع الشكّ غير لازم ، فلابدّ أن يكون لزوم الفحص عن

٥٦٧

القدرة على تقدير القول به ناشئاً عن ملاك آخر غير لزوم الاحتياط ، ولو من جهة أنّ العقلاء لا يرون الشاكّ في القدرة قبل الفحص معذوراً ، ونحو ذلك من الدعاوي التي تحتاج إلى إثبات ، فيكون وجوب الفحص عن القدرة نظير وجوب الفحص عن الدليل في أنّه بعد الفحص وبقاء الشكّ يكون المرجع هو البراءة.

وعلى أيّ حال ، فلا يمكن أن يكون حكمهم بلزوم الفحص دليلاً على لزوم الاحتياط في موارد الشكّ في القدرة حتّى لو تفحّص وبقي الشكّ بحاله ، الذي هو المدّعى في هذا المقام.

وأمّا ما أُفيد في الأصل من أنّ للعقل حكماً طريقياً في موارد الشكّ على طبق ما استقلّ به ... الخ (١).

ومثاله باب الضرر ، فإنّه كما يحكم العقل بلزوم دفعه حكماً نفسياً ، فكذلك يحكم بلزوم دفع المحتمل منه حكماً طريقياً ، ولكن أين هذا ممّا نحن فيه ، فإنّ ذلك الحكم الطريقي إنّما هو عند احتمال وجود الضرر المؤثّر ، ومن الواضح أنّ ما نحن فيه ليس من قبيل احتمال وجود الملاك المؤثّر ، وإنّما هو من قبيل احتمال تأثير الملاك لأجل احتمال عدم القدرة عليه ، فيكون ما نحن فيه من قبيل الضرر الموجود الذي يحتمل أنّه لا يؤثّر في لزوم الدفع ، لأجل جهة توجب عدم لزومه ومن الواضح أنّ العقل لا يحكم بلزوم دفعه لا نفسياً ولا طريقياً.

ثمّ لا يخفى أنّه لو قسنا ملاكات الأحكام بالموارد التي يستقلّ العقل بلزومها ، لانسدّ علينا باب البراءة العقلية ، لأنّ العقل يحكم حكماً طريقياً في موارد الشكّ على طبق ما استقلّ به ، فلو كانت ملاكات الأحكام من الأحكام التي يستقلّ العقل بلزوم موافقتها ، لكان احتمال الحكم الشرعي موجباً لاحتمال

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٥.

٥٦٨

الملاك المؤثّر ، وهو مورد للحكم العقلي الطريقي. اللهمّ إلاّ أن يلتزم بعدم البراءة العقلية في ذلك ، ويستند إلى البراءة الشرعية ، إلاّ أنّ هذا بحث تقدّم الكلام فيه مفصّلاً عند الاستدلال على لزوم الاحتياط بقاعدة دفع الضرر المحتمل (١) ، وتقدّم إسقاط هذا الاستدلال بما لا مزيد عليه ، وما أدري كيف عاد هنا بنفسه لكن بشكل آخر ، فتأمّل.

لا يقال : ليس مراده أنّ العقل يلزم بالملاك مع قطع النظر عن الحكم الشرعي على طبقه ، لكي يرجع إلى قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل بمعنى المفسدة ، بل المراد أنّ العقل إنّما يلزم بالملاك إذا حكم الشارع على طبقه ، كما قال : والعقل يستقلّ بلزوم رعاية الملاك وعدم تفويته مهما أمكن إذا كان للمولى حكم على طبقه ، غايته أنّه عند العلم بعدم القدرة على استيفاء الملاك بكلا قسميها ، العقل لا يلزم برعاية الملاك ، للعلم بأنّه ليس للمولى حكم على طبقه ، وأمّا مع الشكّ في القدرة فالعقل يلزم برعاية الاحتمال ، تخلّصاً عن الوقوع في مخالفة الواقع ، كما هو الشأن في جميع المستقلاّت العقلية الخ (٢).

لأنّا نقول : إذا كان حكم العقل بلزوم تحصيل الملاك مقيّداً بحكم المولى على طبقه ، كان ذلك عبارة عن حكمه بلزوم الاطاعة ، ومن الواضح أنّها ليست من الأحكام العقلية التي يكون العقل حاكماً بلزوم رعايتها عند الشكّ حكماً طريقياً.

ثمّ إنّه قد علّق في هذه العبارة سقوط الالزام على العلم بعدم القدرة بكلا قسميها ، مع أنّه لو سقطت القدرة العادية وبقيت القدرة العقلية كما في موارد

__________________

(١) لعلّه قدس‌سره يشير بذلك إلى ما تقدّم في المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : ٥١٢ وما بعدها.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٥٥.

٥٦٩

الخروج عن الابتلاء ، لم يكن ذلك موجباً للالزام.

قوله : يكون حاله حال سائر موارد العلم الاجمالي بالتكليف من حيث حرمة المخالفة القطعية ... الخ (١).

الأولى تبديله بوجوب الموافقة القطعية ، لأنّ ارتكاب هذا الطرف الذي هو داخل في الابتلاء لو ارتكبه المكلّف ، لا يلزمه المخالفة القطعية ، وإنّما يلزمه عدم حصول الموافقة القطعية.

قوله : الوجه الثاني : هو ما أفاده الشيخ قدس‌سره (٢) من التمسّك باطلاقات أدلّة المحرّمات ... الخ (٣).

لا يخفى أنّ التمسّك بالاطلاق لو تمّ فهو غير نافع في المحرّمات التي يكون دليل تحريمها لبّياً ، فلا يمكننا إطلاق القول بأنّ كلّ ما شكّ في خروجه عن الابتلاء من أطراف العلم الاجمالي لا يكون ذلك الشكّ فيه موجباً لخروج العلم الاجمالي عن التنجيز ، فتأمّل.

قوله : قلت أوّلاً : يمكننا منع كون المخصّص في المقام من الضروريات العقلية المرتكزة في أذهان العرف والعقلاء (٤).

لا يخفى أنّ هذا البحث حيث إنّه يتأتّى في شرطية القدرة العقلية في متعلّق التكاليف ، أعني به الترك في المحرّمات والفعل في الواجبات ، فالإنصاف أنّ منع كون شرطية القدرة المذكورة في ذلك من قبيل الضروريات الواضحة الملحقة

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٦.

(٢) فرائد الأُصول ٢ : ٢٣٧ ـ ٢٣٨.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٥٧.

(٤) فوائد الأُصول ٤ : ٥٩.

٥٧٠

بالتخصيص المتّصل ممنوع أشدّ المنع ، خصوصاً بناءً على ما وجّهنا به اشتراط القدرة العقلية بما تقدّم (١) ذكره من استحالة وقوع الطلب في سلسلة إرادة العبد التي لا ينبغي أن يخالف فيها أحد حتّى الأشاعرة الذين لا يلتزمون بالعدل ، ويسوّغون عليه تعالى التكليف بغير المقدور ، إذ الإشكال حينئذ لا يكون من ناحية كونه ظلماً ، بل من جهة ما عرفت من استحالة وقوع الطلب في سلسلة إرادة العبد الذي هو الغرض من جعل الطلب ، فإنّهم وإن لم يلتزموا في أفعاله تعالى بالحسن العقلي ، إلاّ أنّهم لا يمكنهم أن يقولوا إنّ أفعاله بلا غرض ، وقد عرفت أنّ الغرض من جعل التكليف هو إمكان وقوعه في سلسلة إرادة العبد ، ومع فرض كون العبد غير قادر عقلاً على المطلوب ، يتخلّف الغرض المذكور الذي هو الداعي والباعث على جعل الطلب ، هذا بالنسبة إلى القدرة العقلية.

وأمّا بالنسبة إلى القدرة العادية على الفعل المعتبرة في حسن النهي عنه ، فيشكل المنع عن كون اشتراطها فيه من قبيل الضروريات الواضحة ، خصوصاً بناءً على ما وجّهناه به من عدم تحقّق معنى المنع والزجر ، أو كون ما لا يقدر عليه عادة ملحقاً بالمعدوم.

وبالجملة : أنّ الظاهر أنّه لا إشكال في استهجان التكليف في كلّ من مورد عدم التمكّن عادة وعدم التمكّن عقلاً ، وأنّ ذلك كلّه من قبيل الاستهجان الضروري الملحق بالتقييد بالمتّصل ، وأنّ ما احتيج إلى إقامة البرهان عليه هو الوجه في ذلك الاستهجان ، ولا ريب في أنّ توجيه الفطري الضروري بوجه نظري لا يخرجه عن كونه ضرورياً.

__________________

(١) في الصفحة : ٥٥٠.

٥٧١

قوله : وثانياً : أنّ سراية إجمال المخصّص اللفظي المتّصل أو العقلي الضروري إلى العام إنّما هو ... الخ (١).

لا يخفى أنّه بعد تسليم كون التخصيص العقلي فيما نحن فيه ملحقاً بالتخصيص اللفظي المتّصل ، ينبغي الالتزام بسقوطه عن الظهور والحجّية في موارد الشكّ في الأقل والأكثر ، ولا وجه للتفصيل في العنوان الخارج المردّد بين الأقل والأكثر بين كونه من قبيل ذي المراتب وعدم كونه من هذا القبيل ، فإنّ اتّصال المخصّص المردّد بين الأقل والأكثر وإن كان من ذي المراتب ، لمّا كان موجباً لإجمال الخاصّ ، فلا محيص من كونه موجباً [ لإجمال ] لما اتّصل به من العام. ودعوى كون الشكّ في ذلك من قبيل الشكّ في التخصيص ممنوعة أشدّ المنع ، وإلاّ لصحّ أن يقال ذلك في المردّد بين الأقل والأكثر من غير ذي المراتب.

وبالجملة : بعد فرض كون المقام ملحقاً بالمخصّص اللفظي المتّصل ، لا وجه للفرق بين مثل أكرم العالم إلاّ الفاسق ، ومثل ائتني بالإنسان الأبيض أو الإنسان إلاّ الأبيض ، فكما يكون التقييد أو التخصيص بالفاسق موجباً لإجمال العام ، لتردّده بين خصوص مرتكب الكبيرة أو مطلق المرتكب حتّى الصغيرة ، فكذلك التقييد أوالتخصيص بالأبيض يكون موجباً لاجمال العام لتردّده بين خصوص صاحب المرتبة الشديدة من البياض ، أو مطلق الأبيض ولو صاحب المرتبة الضعيفة منه.

والحاصل : أنّه بعد فرض كون المقام من قبيل التخصيص اللفظي المتّصل وبعد فرض كون الخارج عنواناً خاصّاً ، أنّ ذلك العنوان الخاصّ لو كان مردّداً بين الأقل والأكثر كان موجباً لإجمال العام. نعم لو قلنا بأنّ هذا الحكم العقلي فيما

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٠.

٥٧٢

نحن فيه لا يكون موجباً لتعنون العام ، وإنّما هو من قبيل استكشاف الملاك كما حرّره في التقريرات المطبوعة في صيدا (١) ، لكان غير موجب لإجمال العام ، وكان غير مانع من التمسّك به في موارد الشكّ حتّى لو قلنا بأنّه من قبيل الضروريات الواضحة ، سواء كانت الشبهة مصداقية أو كانت مفهومية كما فيما نحن فيه.

وهذا التفصيل في الأحكام العقلية ـ أعني به التفصيل بين كون الحكم العقلي موجباً لتعنون العام وكونه من قبيل استكشاف الملاك ـ هو الذي أفاده الأُستاذ قدس‌سره في باب العموم والخصوص (٢) ، وقد بنى عليه جواز التمسّك بالعموم في الشبهات المصداقية فيما لو كان المخصّص لبّياً.

أمّا التفصيل الموجود هنا بين الأقل والأكثر ذي المراتب والأقل والأكثر غير ذي [ المراتب ] بعد فرض كون المخصّص العقلي موجباً لتعنون العام ، كما هو الظاهر من قوله : إنّ سراية إجمال المخصّص اللفظي المتّصل أو العقلي الضروري إلى العام إنّما هو فيما إذا كان الخارج عن العموم عنواناً واقعياً غير مختلف المراتب ، وتردّد مفهومه بين الأقل والأكثر الخ (٣) بضميمة قوله : وأمّا إذا كان الخارج عن العموم عنواناً ذا مراتب مختلفة الخ (٤).

فإنّ الظاهر من هاتين الجملتين ، هو الاعتراف بكون الحكم العقلي فيما نحن فيه من قبيل الحكم على العنوان لا من قبيل استكشاف الملاك ، ومع ذلك يريد أن يفصّل فيه بين الأقل والأكثر ذي المراتب والأقل والأكثر من غير ذي المراتب ، هذا.

وأمّا التفصيل الذي أشرنا إليه ـ وهو ما حرّره في التقريرات المطبوعة في

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٤٣٣ وما بعدها.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣٤٢ وما بعدها.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٦٠.

(٤) فوائد الأُصول ٤ : ٦٠.

٥٧٣

صيدا ـ ففيه أوّلاً : ما حرّرناه في باب العموم والخصوص (١) من منع تصرّف العقول البشرية في ملاكات الأحكام. وثانياً : أنّا لو سلّمنا إمكان ذلك ، فالظاهر أنّ ما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، لما شرحناه غير مرّة في هذا المبحث (٢) من عدم مدخلية القدرة العقلية في ملاكات الأحكام الشرعية فضلاً عن القدرة العادية ، إلاّ أن يكون المراد هو المدخلية في تأثيرها في إصدار الردع والزجر لا في أصل الملاك ، فراجعه وتأمّل.

وأمّا ما أفاده في التقرير المشار إليه بقوله : وحيث إنّ إحراز كون مورد ممّا يحسن فيه التكليف أو لا ليس ممّا يصحّ إيكاله إلى المكلّف الخ (٣) ، فلا يخفى ما فيه ، فإنّ جهات حسن التكليف مختلفة ، فبعضها راجع إلى الملاكات التي لا تنالها العقول البشرية ، وبعضها راجع إلى الطوارئ والعوارض الطارئة على المكلّفين الموجبة لاختلاف التكليف باختلافها ، وذلك مثل القدرة العقلية والقدرة العادية ، والتي لا يصحّ إيكالها إلى المكلّف إنّما هو القسم الأوّل دون الثاني.

قوله : قلت هذا الكلام بمكان من الغرابة ، فإنّ إطلاق الكاشف بنفسه يكشف عن إمكان الاطلاق النفس الأمري ، وصحّة تشريع الحكم على وجه يعمّ المشكوك فيه ... الخ (٤).

لا يخفى أنّه لو كان من يدّعي سقوط الاطلاق يستند إلى الشكّ في صحّة

__________________

(١) راجع حاشيته قدس‌سره في المجلّد الخامس من هذا الكتاب ، الصفحة : ٢٢٣ ومابعدها.

(٢) راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٥٦٦.

(٣) أجود التقريرات ٣ : ٤٣٤ ـ ٤٣٥.

(٤) فوائد الأُصول ٤ : ٦١.

٥٧٤

المنكشف أعني الحكم النفس الأمري ، لتوجّه عليه ما أُفيد من أنّ إطلاق الكاشف يكشف عن إمكان الاطلاق في المنكشف ، أعني الحكم الواقعي المجعول في نفس الأمر والواقع ، أمّا لو استند المدّعي المذكور إلى الشكّ في صحّة الكاشف ، لما ذكرناه من عدم صدق المنع بالنسبة إلى من لا يتمكّن من الفعل عادة ، لكان سقوط الاطلاق في مقام الشكّ من أوضح الواضحات. وهذا هو الحجر الأساسي في عدم إمكان التمسّك بالاطلاق في هذا المقام.

وإن شئت فقل : إنّ الشكّ في صحّة المنكشف ـ أعني الحكم الواقعي النفس الأمري ـ من جهة الشكّ في حسنه وعدم استهجانه لدى العقلاء ، وهذه الجهة من الشكّ ليست براجعة إلى الشارع كي يستدلّ على نفي الاستهجان فيها باطلاق الكاشف ، بل هي راجعة إلى أمر آخر وهو إمكان الابتلاء به وعدمه ، وهذا الأمر ليس براجع إلى الشارع بناءً على ما تقدّم (١) في توجيه خروج ما هو خارج عن الابتلاء عن مفاد النهي ، والسرّ في ذلك هو أنّه بناءً على ذلك الوجه يكون خروج ما لم يتمكّن فيه عادة من الفعل عن أدلّة التحريم ملحقاً بالخروج التخصّصي ، بل هو هو بعينه. نعم خروج ما هو غير مقدور عقلاً على تركه في المحرّمات وعلى فعله في الواجبات لعلّه من باب التخصيص والخروج الحكمي ، وإن أمكن فيه أيضاً القول بأنّه من قبيل التخصّص والخروج الموضوعي ، لكن لو قلنا بأنّه من قبيل التخصيص والخروج الحكمي ، فلو كانت الشبهة مفهومية لا مانع من التمسّك باطلاق الأدلّة اللفظية بناءً على كون حكم العقل بخروج غير المقدور من قبيل الأحكام النظرية ، لكن الشبهة هناك غالباً مصداقية ، فلا يكون التمسّك بالاطلاق فيها ممكناً أيضاً على ما حرّرناه فيما تقدّم.

__________________

(١) في الصفحة : ٥٥٤ وما بعدها.

٥٧٥

أمّا القدرة العادية بالنسبة إلى فعل المحرّمات فالاطلاق فيها ساقط بالمرّة ، سواء كانت الشبهة حكمية مفهومية كما هو الغالب ، أو كانت شبهة موضوعية مصداقية كما لو فرض أنّ أحد الأطراف كان مردّداً بين الخارج عن الابتلاء والداخل فيه ، مثل ما لو علم إجمالاً حرمة إحدى المرأتين المعيّنتين ، وكانت إحداهما فعلاً مجهولة الحال بين أن تكون بنت السلطان المفروض كونها خارجة عن ابتلائه ، أو تكون بنت أحد الناس العاديين ، هذا غاية ما تصوّرناه من مثال الشكّ في الابتلاء على نحو الشبهة المصداقية الذي عنونه في التقريرات المطبوعة في صيدا (١).

نعم ، لو قلنا بالحاق ما لم تجر به العادة بما لم يتمكّن منه عادة ، لكانت أمثلة الشبهة المصداقية في ذلك كثيرة ، لكن المقرّر المزبور لم يلحقه بذلك. وعلى أيّ حال ، فلو كانت الشبهة مصداقية لم يمكن التمسّك بالاطلاق فيها ، لكونها مصداقية ، ولما عرفت من عدم إحراز تحقّق المنع الذي هو المانع من التمسّك بالاطلاق في الشبهات الحكمية.

وينبغي أن يعلم أنّ المنظور إليه في « إن قلت » الثانية (٢) إنّما هو صاحب الكفاية قدس‌سره حيث قال : ولو شكّ في ذلك كان المرجع هو البراءة لعدم القطع بالاشتغال ، لا إطلاق الخطاب ، ضرورة أنّه لا مجال للتشبّث به إلاّفيما إذا شكّ في التقييد بشيء بعد الفراغ عن صحّة الاطلاق بدونه ، لا فيما شكّ في اعتباره في صحّته الخ (٣)

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٤٣٣ وما بعدها.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٦١.

(٣) كفاية الأُصول : ٣٦١.

٥٧٦

ويمكن أن يقال : إنّ مراده هو أنّه بعد فرض مرجعية شرطية الابتلاء إلى إمكان داعوية النهي المتوقّفة على إمكان توجّه إرادة العبد نحو الفعل ، كان ذلك الاشتراط راجعاً إلى اعتبار ما هو متأخّر عن نفس الخطاب ، لأنّ إمكان داعويته متأخّر رتبة عن نفس جعله ، فكما لا يصحّ أخذه قيداً من جانب الشارع لا يصحّ الاطلاق من هذه الجهة ، فلا يكون المتّبع في مثل ذلك إلاّحكم العقل بحسن الخطاب وعدمه ، فيكون حال هذا القيد حال التقييد بداعي الأمر على مسلكه في باب التعبّدي من كونه بحكم العقل لا بحكم الشرع ، كما صرّح بذلك في حاشيته على الرسائل على قول الشيخ قدس‌سره : وأمّا إذا شكّ في قبح التنجيز فيرجع إلى الاطلاقات ... الخ (١). فإنّه قدس‌سره قال في الحاشية على ذلك ما هذا لفظه : فيه أنّه إنّما يجوز الرجوع إلى الاطلاقات في دفع قيد كان التقييد به في عرضه ومرتبته ، بأن يكون من أحوال ما أُطلق وأطواره ، لا في دفع ما لا يكون كذلك. وقيد الابتلاء من هذا القبيل ، فإنّه بحكم العقل والعرف من شرائط تنجّز الخطاب المتأخّر من مرتبة أصل إنشائه ، فكيف يرجع إلى الاطلاقات الواردة في مقام أصل إنشائه في دفع ما شكّ في اعتباره في تنجّزه ، فتدبّر جيّداً (٢).

وما أفاده شيخنا قدس‌سره في هذا التحرير في « إن قلت » الثالثة (٣) وجوابها ناظر إلى هذه الجملة التي أفادها صاحب الكفاية في حاشيته على الرسائل ، والعمدة في المسألة هو كون الابتلاء وعدمه من الانقسامات المتأخّرة رتبة عن الخطاب الشرعي ، وشيخنا قدس‌سره في مقام الجواب ناظر إلى نفس الابتلاء وعدمه ، ومن

__________________

(١) فرائد الأُصول ٢ : ٢٣٨.

(٢) حاشية كتاب فرائد الأُصول : ١٤٦.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٦٢.

٥٧٧

الواضح أنّه ليس من هذا القبيل ، لكن صاحب الكفاية قدس‌سره ناظر إلى الوجه في اشتراطه ، وهو إمكان داعوية الخطاب ، والظاهر أنّ إمكان داعوية الخطاب وعدمه من الانقسامات المتأخّرة رتبة عن نفس الخطاب ، كنفس الداعوية في مسألة التعبّدي والتوصّلي.

ولكن لازم ذلك هو تأخّر شرطية القدرة ، لأنّ برهانها هو قبح طلب ما لا يكون ، ومن الواضح أنّ تقسيم نفس الطلب إلى طلب ما يكون وطلب ما لا يكون من التقسيمات اللاحقة لنفس الطلب ، التي لا يعقل أن يكون الطلب في مقام جعله منظوراً به القدر الجامع بين طلب ما يكون وطلب ما لا يكون ، أو يكون منظوراً به هو خصوص طلب ما يكون.

ولكن الفرق بين المقامين واضح ، فإنّ القدرة تكون من أطوار المتعلّق للطلب ، لا من أطوار نفس الطلب ، ومسألة الابتلاء وإن كانت من أطوار المتعلّق أيضاً ، إلاّ أنّ إمكان داعوية الطلب مأخوذ فيها ، فتكون من الأطوار اللاحقة للمتعلّق بعد لحاظ تعلّق الطلب به ، فتكون متأخّرة عن نفس الطلب ، كتقيّد متعلّق الأمر بداعي الأمر في باب التعبّدي. وفيه تأمّل واضح ، لأنّ القيد ليس هو إمكان الداعوية ، بل إنّما هو إمكان انقداح إرادة المكلّف لإيجاد نفس [ المتعلّق ] ، ومن الواضح أنّه ليس بمتأخّر رتبة عن الطلب.

ثمّ إنّ بينهما فرقاً آخر ، وهو أنّ القدرة لا يتصوّر فيها الشبهة المفهومية ، وإنّما أقصى ما في البين هو تصوّر الشبهة المصداقية ، فلا يجوز التمسّك بالعموم فيها ، لكون الحكم العقلي بخروج غير المقدور من الواضحات الملحقة بالقرائن المتّصلة الموجبة لسقوط ظهور العموم إلاّفي المقدور.

ولو أغضينا النظر عن ذلك ، وسلّمنا كونه ممّا يحتاج إلى إعمال مؤونة

٥٧٨

وتأمّل واستدلال الموجب لإلحاقه بالقرائن المنفصلة ، لم يجز التمسّك بالعموم فيها ، وإن كان المخصّص لبّياً ، لما حقّقناه في محلّه (١) من أنّ جواز التمسّك بالعموم في الشبهات المصداقية فيما لو كان المخصّص لبّياً منحصر بما يرجع إلى عالم الملاك ، دون ما يكون موجباً لتقييد العام وإعطاء عنوان خاصّ لموضوعه.

ثمّ لا يخفى أنّ هذه الجملة التي أفادها في الكفاية وفي حاشية الرسائل لو لم تتمّ ، لكان ما تقدّم من الجهة الأُولى التي تكفّلتها « إن قلت » (٢) الأُولى كافية في المنع عن التمسّك بالعموم ، لكون الحكم العقلي بقبح ردع من لا يمكن عادة انقداح إرادة الفعل في نفسه من القضايا الواضحة الملحقة بالقرائن المتّصلة ، وفي مثله لا يجوز التمسّك بالعموم ، سواء كانت الشبهة مفهومية أو كانت مصداقية. ومع قطع النظر عن هذه الجهة ننقل الكلام إلى الجهة الثانية ، وهي كون الشكّ في المقام إنّما هو في حسن الخطاب وعدم استهجانه ، فلا يمكن إحرازه بنفس إطلاق الخطاب ، ولعلّ هذه الجهة هي المراد ممّا أفاده في الكفاية.

لا يقال : كيف يتصوّر الشبهة المفهومية فيما هو موضوع الحكم العقلي ، والعقل لا يشكّ في سعة موضوع حكمه وضيقه.

لأنّا نقول : ليس هذا الحكم من الأحكام العقلية الصرفة التي لا مجال للشكّ فيها ، وإنّما هو من الأحكام العقلائية التي جرى عليها العقلاء ، فإنّهم يستقبحون ويستهجنون مثل ذلك التكليف ، فهو من هذه الجهة لا يكون إلاّمن قبيل الأحكام العرفية التي هي قابلة لشكّ العرف فيها بأنفسهم ، فضلاً عن أحد المكلّفين وإن

__________________

(١) راجع حواشي المصنّف قدس‌سره في المجلّد الخامس من هذا الكتاب ، الصفحة : ٢١٢ وما بعدها.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٥٩.

٥٧٩

كان هو منهم.

وربما أورد على من تمسّك بالعموم في المقام بالنقض بما لو كان بعض الأطراف معلوم الخروج عن الابتلاء ، نظراً إلى أنّ النجس الواقعي المعلوم وجوده في البين يكون ممّا يشكّ في الابتلاء به ، وإن كان منشأ الشكّ هو تردّده بين الطرفين.

وهذا الإشكال نظير الإشكال على من تمسّك في المقام بأصالة الاحتياط كما تقدّم في الحاشية في هذا التحرير ص ١٩ (١) وقد تقدّم الجواب عنه ، وتوضيحه هنا بأن يقال : إنّ مورد العلم بكون ذلك الطرف خارجاً عن الابتلاء ، يكون من قبيل الدوران بين ما هو باقٍ وما هو خارج قطعاً ، وما نحن فيه من قبيل الدوران بين ما هو باقٍ وما يحتمل خروجه.

وربما قيل في وجه عدم التمسّك بالعام في المقام بكون المخصّص عقلياً. ولا يخفى أنّ مجرّد كون المخصّص عقلياً لا يكون موجباً لسقوط العام في مورد الشكّ ، إلاّ أن يرجع إلى ما تقدّم ، فراجع وتأمّل.

قوله : كما يستكشف من إطلاق قوله عليه‌السلام : « اللهمّ العن بني أُميّة قاطبة » عدم إيمان من شكّ في إيمانه من هذه الطائفة ... الخ (٢).

يمكن التفرقة بين هذا المثال ونحوه وبين ما نحن فيه ، فإنّ حكم الإجماع أو العقل بحرمة لعن المؤمن ممّا له دخل في ملاك الحكم على وجه يستفاد منه أنّ في لعن المؤمن مفسدة لا تقابلها المصلحة في لعن الأموي ، وحينئذ نقول : إنّه

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ ( الهامش ١ ) : ٥٧ ، وقد تقدّم تعليق المصنّف قدس‌سره على ذلك في الصفحة : ٥٦٤ وما بعدها.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٦٢.

٥٨٠