أصول الفقه - ج ٧

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٧

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-72-0
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٩٢

والاحتياط بالاعادة ضعيف في الصورتين (١).

قلت : قد عرفت أنّ الوجه في وجوب العود للتدارك مع قضاء الطرف الآخر بعد الصلاة ، إنّما هو أنّه بعد سقوط قاعدة التجاوز في الطرفين ، يكون المرجع هو أصالة العدم في كلّ منهما ، لكن على مسلك شيخنا قدس‌سره من التعارض في أصالة عدم الاتيان في كلّ منهما من جهة الاحرازية ، ينبغي أن يكون المرجع بعد تساقطهما هو أصالة الاشتغال فيما يجب الرجوع إليه ، وأصالة البراءة في الطرف الآخر ، فينبغي أن يكون الحكم هو أنّه بعد العود والتدارك وإتمام الصلاة لا شيء عليه سوى سجود السهو لما هدمه من القيام أو التشهّد. ولكن الأحوط الاعادة ، لما عرفت من الإشكال في جواز الهدم اعتماداً على أصالة الاشتغال ، وإن كان السيّد في احتياطه بالاعادة ليس بناظر إلى ذلك ، بل هو في ذلك وكذا في حكمه أوّلاً بوجوب المضي ، ناظر إلى أنّ وجوب قضاء ما مضى ممّا لا يمكن تلافيه في أثناء الصلاة المردّد بينه وبين تلافي ما أمكن تلافيه من قبيل العلم الاجمالي في التدريجيات ، وأنّه لا يكون مؤثّراً على كلّ حال ، فيحتمل جريان القاعدة من كلّ من الطرفين كما أشار إليه المرحوم الأُستاذ العراقي في فرع كج من فروع العلم الاجمالي (٢).

والخلاصة : أنّ ما بنى عليه شيخنا قدس‌سره في مسألة ١٩ ومسألة ٢٠ ، من الجمع بين وجوب تلافي ما يمكن تلافيه ووجوب قضاء ما لا يمكن تلافيه بعد الصلاة ، فيلزمه في مسألة ١٩ تلافي التشهّد وقضاء السجدة ، وفي مسألة ٢٠ يلزمه تلافي السجدة من هذه الركعة التي قام عنها ، وقضاء السجدة من الركعة السابقة بعد

__________________

(١) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٣ : ٣٤٩ ـ ٣٥٠.

(٢) روائع الأمالي في فروع العلم الاجمالي : ٣٩ ـ ٤٠ / ٢٣.

٤٤١

الصلاة ، إنّما يتمّ على القول بجريان أصالة العدم في كلّ من الطرفين ، وهو قدس‌سره لا يقول بذلك ، بل يقول بسقوط أصالة العدم في كلّ من الطرفين ، لكونهما إحرازيين كما أفاده في مسألة الدوران بين الركن وغيره من تساقطهما والرجوع في ناحية غير الركن إلى أصالة البراءة ، وفي الركن إلى أصالة الاشتغال ، فينبغي هنا أن يقول بالتساقط والرجوع في السجدة إلى أصالة البراءة من قضائها ، وفي ناحية التشهّد إلى أصالة الاشتغال ولزوم هدم القيام والرجوع إلى تلافيه.

لا يقال : لعلّ نظره قدس‌سره في ذلك إلى أنّ البراءة من قضاء التشهّد قد سقطت بسقوط قاعدة التجاوز فيه ، لأنّ الأصل المحكوم الموافق للحاكم يسقط بسقوط الحاكم.

لأنّا نقول : إنّ هذا ليس من موارد تلك المسألة ، لأنّ البراءة محكومة لأصالة العدم ، وأصالة العدم محكومة لقاعدة التجاوز ، فلا يكون سقوط قاعدة التجاوز موجباً لسقوط البراءة ، ولأجل ذلك بنى قدس‌سره في صورة دوران المتروك بين الركن وغيره فيما لو حصل العلم بذلك بعد الفراغ ، على أنّ المرجع بعد تساقط قاعدتي التجاوز وتساقط أصالتي العدم هو أصالة الاشتغال من ناحية الركن ، وأصالة البراءة من ناحية غير الركن. هذا كلّه لو كان العلم المذكور حاصلاً في حال القيام.

أمّا لو كان الحصول بعد الدخول في الركوع ، أو كان بعد الفراغ ، فبعد تعارض القاعدتين وتعارض أصالة العدم وتعارض أصالة البراءة ، يبقى العلم الاجمالي بحاله ، فيلزمه في مسألة ١٩ قضاء كلّ من السجدة والتشهّد وسجود السهو مرّتين ، وفي مسألة ٢٠ لا يلزمه إلاّقضاء سجدة واحدة وسجود السهو مرّة واحدة ، وذلك واضح.

بل لو قلنا بعدم التعارض في أصالة العدم ، كان الحكم أيضاً كذلك حتّى في

٤٤٢

مسألة ٢٠ ، فلا يلزمه تكرار قضاء السجدة فيها ، للعلم التفصيلي بأنّه لم يفت منه إلاّ سجدة واحدة مردّدة بين كونها من الأُولى أو من الثانية ، وأصالة عدم الاتيان بها في الأُولى وفي الثانية لا تثبت عليه سجدتين ، إذ لا يلزم التعيين في القضاء أنّها من الأُولى أو من الثانية ، وذلك واضح.

وممّا ذكرناه في حكم من كان في حال القيام وعلم بأنّه قد ترك إمّا التشهّد أو السجدة الواحدة من الركعة السابقة ، يتّضح لك الحكم فيما لو بدّلنا السجدة بالركوع ، بأن كان في حال القيام وعلم بأنّه قد ترك إمّا التشهّد من هذه الركعة التي قام عنها أو الركوع ، فإنّه بناءً على مسلك شيخنا قدس‌سره ينبغي أن يقال بتعارض قاعدتي التجاوز وتعارض أصالتي العدم ، ويكون المرجع هو أصالة الاشتغال في كلّ من الطرفين ، فيلزمه العود وتدارك التشهّد وإتمام الصلاة وسجود السهو للقيام وإعادة الصلاة. نعم بناءً على ما ذكرناه من حكومة أصالة عدم الاتيان بالركوع على أصالة عدم الاتيان بالتشهّد ينبغي أن يكون الحكم هو إبطال الصلاة وإعادتها.

ولو كان الأمر بالعكس ، بأن كان في حال القيام للرابعة وعلم أنّه قد ترك إمّا التشهّد على الثانية ، أو تمام السجود من هذه الركعة التي قام عنها ، بأن دار أمره بين جزء غير ركني قد فات محلّ تداركه ، أو جزء ركني قابل للتدارك بهدم القيام ، فبناءً على مسلك شيخنا قدس‌سره ينبغي أن يقال أيضاً بتساقط القاعدتين

وأصالتي عدم الإتيان في كلّ من الطرفين ، ويكون المرجع هو أصالة البراءة من قضاء الجزء غير الركني ، وأصالة الاشتغال من ناحية الجزء الركني ، فلا يلزمه إلاّهدم القيام لتلافي السجدتين وإتمام الصلاة. وهذه المسألة هي المسألة الرابعة فيما حرّرناه في هذه الرسالة ، وسابقتها هي المسألة الخامسة من هذه الرسالة ، فراجع.

ولو كان كلّ منهما لا يمكن تلافيه ، كما لو دخل في الركوع مثلاً وحصل له

٤٤٣

العلم بأنّه قد ترك ممّا سبق جزءاً ركنياً أو جزءاً غير ركني ، كان الكلام فيه عين الكلام فيما لو كان ذلك بعد الفراغ. ولو كان كلّ منهما يمكن التلافي فيه لزمه رفع اليد عمّا هو فيه من الجزء ، وحينئذ ربما كان من قبيل الشكّ في المحل بالنسبة إليهما ، كمن كان في حال القيام وعلم أنّه قد فاته إمّا التشهّد من هذه الركعة أو تمام السجود منها. وربما كان من قبيل الشكّ في المحل بالنسبة إلى أحدهما والشكّ بعد التجاوز بالنسبة إلى الآخر ، كمن كان في حال القنوت وعلم بفوت القراءة أو تمام السجود من هذه الركعة [ التي قام عنها ] ، فهذه صور أربع. كما أنّه لو كان الشكّ في أحدهما من قبيل الشكّ في المحل ، وبالنسبة إلى الآخر من قبيل الشكّ بعد التجاوز ، يكون لها صور أربع ، وحكمها انحلال العلم الاجمالي باعمال قاعدة الشكّ في المحل ، وإعمال قاعدة التجاوز ، فتكون الصور حينئذ ثمانية ، وبضمّ ما لو كان بعد الفراغ وما لو كان كلّ منهما في المحل ، تكون الصور عشراً.

وخلاصة ذلك : هو أنّك قد عرفت أنّ مسألة الدوران بين كون المتروك ركناً أو غيره لها عشر صور ، لأنّ ذلك العلم إمّا أن يكون بعد الفراغ ، وإمّا أن يكون في الاثناء. فإن كان في الأثناء فإمّا أن يكون الشكّ في كلّ منهما من قبيل الشكّ في المحل ، وإمّا أن يكون الشكّ في كلّ منهما شكّاً بعد تجاوز المحل ، وإمّا أن يكون الشكّ في أحدهما شكّاً في المحل وبالنسبة إلى الآخر شكّاً بعد تجاوز المحل.

فما كان الشكّ فيه بالنسبة إليهما شكّاً في المحل يلزمه الاتيان بهما ، غير أنّه لو كان المقدّم غير الركن ، كما لو علم في حال القيام إمّا أنّه قرأ ولم يركع ، أو أنّه ركع ولم يقرأ ، فإنّه في هذه وإن كان ينبغي أن يأتي بهما معاً ، لكن يشكل الأمر في قرائته ، لأنّها إمّا قراءة بعد الركوع أو قراءة بعد القراءة ، فيحصل العلم بأنّها غير مأمور بها.

٤٤٤

وما كان الشكّ في أحدهما في المحل وبالنسبة إلى الآخر بعد تجاوز المحل ، ينحلّ العلم الاجمالي بأصالة عدم الاتيان بما هو باقي المحل ، وقاعدة التجاوز فيما تجاوز محلّه ، سواء كان ما بقي محلّه هو الركن أو كان هو غير الركن ، وسواء كان ما تجاوز محلّه ممّا يمكن تداركه أو كان ممّا لا يمكن ، فهذه صور أربعة ، وبضمّ الشكّ في المحل فيهما وضمّ الشكّ بعد الفراغ ، تتحصّل ست صور.

أمّا ما يكون الشكّ فيه شكّاً بعد التجاوز بالنسبة إلى كلّ منهما ، ففيه صور أربع ، لأنّ كلاً منهما إمّا أن لا يكون قابلاً للتلافي ، وإمّا أن يكون أحدهما قابلاً للتلافي دون الآخر ، وإمّا أن يكون كلّ منهما قابلاً للتلافي. فإن لم يمكن التلافي في كلّ منهما ، كان ملحقاً بما بعد الفراغ ، وإن أمكن التلافي في أحدهما دون الآخر ، فإمّا أن يكون ما أمكن تلافيه هو الركن أو يكون هو غير الركن ، وهما الصورتان المتقدّمتان.

وتبقى صورة واحدة ، وهما ما أمكن التلافي في كلّ منهما مع فرض كون كلّ منهما مورداً لقاعدة التجاوز ، كمن كان في حال القيام وعلم بأنّه قد فاته إمّا التشهّد أو السجود من هذه الركعة [ التي قام عنها ] ، فيكون قيامه لغواً فيهدمه ويرجع حينئذ إلى صورة الشكّ في المحل ، وكمن كان في حال القنوت وعلم بأنّه لم يقرأ أو لم يسجد في هذه الركعة التي قام عنها ، فيكون قنوته لغواً ويلزمه تركه ، وحينئذ يعود حاله إلى صورة كون أحد الطرفين من قبيل الشكّ في المحل والآخر من قبيل الشكّ بعد تجاوز المحل ، فتجري قاعدة التجاوز في السجود وأصالة عدم الاتيان في القراءة ، فيقرأ ويمضي ولا شيء عليه.

٤٤٥

قوله : كما إذا علم بعد الفراغ من الصلاة بفوات سجدتين وشكّ في أنّها من ركعة واحدة أو ركعتين ، فيعلم إجمالاً بوجوب أحد الأمرين ... الخ (١).

ونظيره ما لو علم بذلك بعد فوات المحل السهوي ، بأن يكون علمه بذلك في أثناء الصلاة ولكن بعد أن دخل في الركوع ، إذ لا فرق بينهما إلاّفي أنّ أحد الطرفين في الفرع الأوّل هو قضاء السجدتين فقط ، والطرف الآخر هو إعادة الصلاة ، وفي الفرع الثاني يكون أحد الطرفين هو إتمام الصلاة وقضاء السجدتين ، والطرف الآخر هو إعادة الصلاة.

ثمّ إنّ الكلام في هذا الفرع جارٍ في كلّ مورد يكون التردّد فيه بين كون المتروك ركناً وكونه ممّا يقضى بعد الصلاة ، كما لو علم بعد الفراغ أو بعد الدخول في ركن آخر بأنّه إمّا قد فاتته سجدة واحدة أو قد فاته الركوع. ويمكن توسعة العنوان إلى ما هو أوسع من ذلك ، بأن يجعل العنوان هو ما لو تردّد بين المبطل وبين ما يوجب القضاء أو سجود السهو ، ليشمل ما لو علم بزيادة الركوع أو نقصان السجدة ، وما لو علم بزيادة ركعة أو بزيادة السلام ، وهو الفرع الذي ذكره السيّد سلّمه الله عن شيخنا قدس‌سره في تحريره (٢) ، ويشمل ما لو علم بنقصان الركوع أو زيادة السجدة. لكن الأولى الاقتصار في العنوان على هذا الفرع ، وهو ما لو علم بعد الفراغ من الصلاة إمّا بترك ركن كالركوع أو ترك جزء يقضى كالسجدة الواحدة ، ويعرف البحث في غيره بالمقايسة ، والأقوال في مثل هذا الفرع ثلاثة :

الأوّل : لزوم قضاء السجدة وإعادة الصلاة ، وهو مبني على أنّه بعد تعارض قاعدة الفراغ في كلّ من السجدة والركوع ، يكون المرجع هو استصحاب عدم

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٤.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٤٢٥.

٤٤٦

الاتيان بالركوع وعدم الاتيان بالسجدة ، بناءً على أنّ الأصلين الجاريين في طرفي العلم الاجمالي لا مانع من جريانهما إذا كانا مثبتين ولو كانا إحرازيين.

ويرد عليه : مضافاً إلى ما سيأتي من عدم معارضة القاعدة في غير الركن لها في الركن ، أنّ أصالة عدم الاتيان بالركن حاكمة على أصالة عدم الاتيان بغير الركن ، لأنّ مقتضاها هو بطلان الصلاة ، الموجب لسقوط أصالة عدم الاتيان بغير الركن ، فتأمّل.

القول الثاني : هو ما اختاره الأُستاذ قدس‌سره وهو لزوم إعادة الصلاة فقط من دون لزوم قضاء السجدة ، وهو مبني على المنع من جريان الأصلين الاحرازيين ولو كانا مثبتين للتكليف ، وحينئذ نقول : إنّه بعد سقوط قاعدة الفراغ في كلّ من السجدة والركوع ، تصل النوبة إلى استصحاب العدم في كلّ منهما ، وبعد سقوط الاستصحابين تصل النوبة إلى أصالة الاشتغال بالصلاة بالنسبة إلى الشكّ في الركوع ، وأصالة البراءة بالنسبة إلى قضاء السجدة ، فينحلّ العلم الاجمالي ، لكون الأصل الجاري في أحد طرفي العلم الاجمالي مثبتاً للتكليف ، والأصل الجاري في الطرف الآخر كان نافياً للتكليف ، وقد عرفت أنّه يمكن القول بحكومة أصالة العدم في الركن عليها في غيره ، وسيأتي الكلام على هذه الجهة إن شاء الله في التأمّل الثاني فيما أفاده شيخنا قدس‌سره (١).

القول الثالث : هو لزوم قضاء السجدة من دون إعادة الصلاة ، وهو مبني على المنع من معارضة قاعدة الفراغ بالنسبة إلى الركوع بقاعدة الفراغ بالنسبة إلى السجدة ، لعدم صلاحية القاعدة الثانية للمعارضة للأُولى ، لتأخّرها عنها رتبة ،

__________________

(١) الظاهر أنّه قدس‌سره يشير إلى ما سينقله عن شيخه قدس‌سره في الدروس الفقهية وما أشكل به عليه ، فراجع الصفحة : ٤٥٧ وما بعدها ، ويأتي إشكاله الثاني في الصفحة : ٤٦١.

٤٤٧

وحينئذ يكون المرجع في طرف الركوع هو قاعدة الفراغ ، وفي طرف السجدة هو أصالة عدم الاتيان بها ، ومقتضى ذلك هو لزوم قضاء السجدة فقط من دون لزوم إعادة الصلاة.

والوجه فيما ذكره أرباب هذا القول من التأخّر الرتبي لقاعدة الفراغ في الجزء غير الركني عن قاعدة الفراغ في الجزء الركني ، وأنّها لأجل ذلك لا تصلح لمعارضتها ، هو أنّ جريان قاعدة الفراغ في الجزء غير الركني موقوف على كون الصلاة صحيحة ، ومع الشكّ في فوات الركن تكون الصحّة مشكوكة ، ومع الشكّ في الصحّة لا يمكن إجراء قاعدة الفراغ بالنسبة إلى الجزء غير الركني ، لأنّ ذلك من قبيل جريان الأصل مع الشكّ في الموضوع الذي يتوقّف ذلك الأصل على إحرازه ، ولأجل ذلك قالوا إنّ قاعدة الفراغ تجري في الركن ، ولا تعارضها القاعدة الجارية في غير الركن لكونها في طولها ، بل الجاري في غير الركن هو أصالة عدم الاتيان به ، ومقتضى ذلك هو الاكتفاء بقضاء السجدة فقط.

لا يقال : إنّ غاية ما ينشأ عن الطولية المزبورة هو عدم صلاحية معارضة قاعدة الفراغ في غير الركن لقاعدة الفراغ في الركن لكونها في طولها ، بمعنى أنّها لا تقع في مرتبتها ، فلِمَ لم تقولوا بأنّه بعد إجراء قاعدة الفراغ في الركن وثبوت صحّة الصلاة من هذه الناحية ، يتنقّح عندنا موضوع قاعدة الفراغ في غير الركن ، فتجري أيضاً فيه القاعدة المزبورة ، غايته أنّ جريانها فيه يكون متأخّراً في الرتبة عن جريانها في الركن ، ولا يلزم منه إلاّ اجتماع الحكمين المتضادّين أو المتناقضين ، ولا بأس بذلك فيما نحن فيه لأجل الاختلاف في الرتبة.

لأنّا نقول : إنّ الاختلاف في الرتبة لا ينفع في جواز اجتماع الضدّين أو النقيضين. ولو سلّم أنّه نافع فإنّما ينفع في مورد عدم العلم بالخلاف. ولو سلّم أنّه

٤٤٨

نافع حتّى في مورد العلم بالخلاف لكان هناك مانع آخر ، وهو لزوم المخالفة القطعية للتكليف المنجّز بالعلم الاجمالي كما فيما نحن فيه.

وحينئذ نقول : إنّ القاعدة في ناحية غير الركن وإن لم تصلح في حدّ نفسها لمعارضة القاعدة في الركن لعدم كونها في رتبتها لكونها متأخّرة عنها رتبة ، إلاّ أنّ العلم الاجمالي المذكور يمنع من الأخذ بها ولو بعد مرتبة إجراء القاعدة في الركن.

لا يقال : إنّ العلم الاجمالي إنّما يمنع من الجمع بين القاعدتين ، وكما يحصل ذلك باسقاط القاعدة في غير الركن ، فكذلك يحصل باسقاط القاعدة في الركن ، فلِمَ خصصتم القاعدة الجارية في غير الركن للاسقاط.

لأنّا نقول : إنّ الوجه في تعيّن القاعدة في غير الركن للاسقاط دون القاعدة الجارية في الركن ، هو أنّ التأخّر الرتبي يوجب جريان القاعدة في الركن ، لكونها لا مزاحم لها في رتبتها ، وبعد أن أخذت محلّها في الرتبة السابقة ، يكون العلم دافعاً للقاعدة في غير الركن ، فيكون المتعيّن للسقوط هو القاعدة في غير الركن.

لا يقال : إنّما يمكن جريان القاعدة في الركن لو قلنا إنّ المانع من جريان الأُصول النافية في أطراف العلم الاجمالي هو التعارض ، إذ لا تعارض في رتبة إجراء قاعدة الفراغ في الركن ، أمّا لو قلنا بأنّ المانع هو نفس العلم الاجمالي كما حقّق في محلّه ، فلا يمكن إجراء القاعدة المذكورة في الركن ، فإنّها في تلك المرتبة وإن لم يكن لها معارض ، لكنّها لا يمكن الأخذ بها ، لما عرفت من أنّه بناءً على كون العلم مانعاً من إجراء الأُصول النافية ، لا يمكن الرجوع إلى الأصل النافي في بعض الأطراف وإن لم يكن في الطرف الآخر أصل أصلاً.

لأنّا نقول : إنّ ذلك ليس من قبيل إجراء الأصل النافي في أحد الطرفين مع

٤٤٩

كون الآخر لا أصل فيه ، بل هو من قبيل إجرائه في أحد الطرفين مع كون الطرف الآخر مجرى للأصل المثبت الموجب لانحلال العلم ، وذلك لأنّك بعد أن عرفت أنّ قاعدة الفراغ في ناحية غير الركن لم تكن متحقّقة في رتبة إجرائها في الركن ، فقهراً يكون المتحقّق في تلك الرتبة هو أصالة عدم الاتيان بغير الركن ، وحينئذ يكون أصالة عدم الاتيان بغير الركن واقعاً في مرتبة قاعدة الفراغ في الركن ، وقد عرفت أنّه إذا كان إجراء الأصل النافي في أحد الطرفين مقروناً باجراء الأصل المثبت في الطرف الآخر ، لم يكن مانع من إجراء ذلك الأصل النافي ، لانحلال العلم الاجمالي.

لا يقال : إنّ هذا الأصل الثاني ـ أعني أصالة عدم الاتيان بالجزء غير الركني الذي هو السجدة مثلاً ـ أيضاً يتوقّف على إحراز صحّة الصلاة ، إذ لولا صحّتها لما كان يترتّب الأثر على الاتيان بذلك الجزء ولا على تركه.

لأنّا نقول : نعم إنّ الأصل المذكور يتوقّف على إحراز الصحّة ، لكنّها محرزة بقاعدة الفراغ في ناحية الركن ، ولا تنافي بين الأصل المذكور والقاعدة المزبورة ، لا من حيث العلم الاجمالي ولا من حيث المخالفة القطعية ولا من حيثية أُخرى ، بل تكون القاعدة مصحّحة لاجراء الأصل المذكور.

هذا حاصل ما تيسّر من تقريب الوجه في هذا القول ، وأساسه هو ما عرفت من تأخّر [ القاعدة ] في غير الركن عنها في الركن ، بحيث يكون ذلك التأخّر الرتبي موجباً لعدم صلاحية القاعدة في غير الركن لمعارضة القاعدة في الركن.

ولا يخلو عن تأمّل ، أمّا بناءً على كون العلم الاجمالي مانعاً من جريان الأصل النافي فواضح ، لأنّ القاعدة في الركن إذا كانت سابقة في الرتبة على أصالة عدم الاتيان بغير الركن ، كانت سابقة على الانحلال ، فإنّه إنّما يحصل من الأصل

٤٥٠

المثبت المفروض تأخّره رتبة ، اللهمّ إلاّ أن يكملوا ذلك بعدم الاحتياج إلى أصالة العدم في غير الركن ، وذلك بما يدّعيه القائلون بسقوط قاعدة التجاوز في غير الركن للعلم بعدم امتثال أمرها ، من كون قاعدة التجاوز في الركن متكفّلة لإثبات وجوب قضاء غير الركن وسجود السهو له ، وسيأتي (١) الإشكال في ذلك إن شاء الله تعالى.

وأمّا بناءً على كون المانع هو المعارضة ، فلما تقدّم من أنّه بعد جريان قاعدة التجاوز في الركن يتنقّح موضوع قاعدة التجاوز في غير الركن ، ولا يمكن الجمع بينهما ولو كانا في رتبتين. ولا وجه لما تقدّم من الجواب عنه بأنّ الساقط هو الثانية لأنّ الأُولى أخذت محلّها ، فإنّه جواب إقناعي غير مبتنٍ على أساس علمي ، إذ بعد تنقّح موضوع قاعدة التجاوز في غير الركن يكون جريانها فيه قهرياً.

وما قيل في الجواب عنه ، من أنّه إذا لم تجر قاعدة التجاوز في السجود والقراءة في رتبة قاعدة التجاوز في الركوع ، لم تجر في رتبة لاحقة لها ، لأنّه يلزم من جريانها عدمه ، لأنّها إذا جرت عارضت قاعدة التجاوز الجارية في الركوع ، للعلم الاجمالي بكذب إحداهما ، وإذا عارضتها سقطت الأُولى فتسقط الثانية ، فيعلم تفصيلاً بسقوطها عن الحجّية على كلّ حال ، فيتعيّن الرجوع في موردها إلى أصالة عدم الاتيان لا غير (٢).

ولا يخفى أنّ سقوط الأُولى بالتعارض لا يوجب عدم إمكان التعارض ، لأنّ الثانية في مرتبة التعارض صالحة للمعارضة الناشئة عن عدم إمكان الجمع ، إذ لا

__________________

(١) في الصفحة : ٤٧١ وما بعدها ، وراجع أيضاً الصفحة : ٤٦٧ ـ ٤٧٠.

(٢) مستمسك العروة الوثقى ٧ : ٦٢٤.

٤٥١

معنى لتعارض الأُصول إلاّهذا المعنى ، أعني عدم إمكان الجمع بينها ، وهذا المعنى محقّق وجداناً في مرتبة الثانية ، وإن لم تكن هي متحقّقة في مرتبة الأُولى ، كما أنّ الأُولى لم تكن متحقّقة في مرتبة الثانية ، إلاّ أنّه مع ذلك لا يمكن الجمع بينهما كلاً على مرتبته ، وحينئذ يسقطان معاً ، وإن كان ينشأ عن سقوطهما معاً ارتفاع موضوع الثانية ، لأنّ هذا الارتفاع متأخّر رتبة عن هذا السقوط المتأخّر والمتولّد عن عدم إمكان الجمع الحاصل من إجراء كلّ منهما في مرتبته ، وإلاّ لكان هذا الإشكال ـ أعني لزوم عدم الجريان من الجريان ـ متأتّياً في الأُولى ، لأنّه يلزم من جريانها جريان الثانية في رتبتها ، ومن جريان الثانية في رتبتها يلزم عدم جريان الأُولى لتحقّق التعارض والتساقط.

ومن ذلك يظهر التأمّل في قوله : فيعلم تفصيلاً بسقوطها عن الحجّية على كلّ حال ، فإنّ المراد منه هو أنّ الثانية إن لم تجر الأُولى كانت ساقطة لعدم إحراز موضوعها ، وإن كانت الأُولى جارية كانت الثانية أيضاً ساقطة بالتعارض ، فيحصل العلم التفصيلي بأنّها ساقطة على كلّ حال من جريان الأُولى وعدمه ، وهذا بخلاف الأُولى فإنّها إنّما تسقط في حالة جريان الثانية بالتعارض ، أمّا إذا فرضنا عدم جريان الثانية فلا مانع من جريان الأُولى ، هذا حاصل المراد في الفرق بين القاعدتين.

إلاّ أنّه لا يمنع من التعارض ، لأنّ مفروض المسألة أنّ الأُولى في حدّ نفسها جارية في موردها ، وبذلك يتحقّق جريان الثانية في موردها ، وحينئذ يحصل الجمع بينهما ، وهو ممنوع للمخالفة القطعية. وكون الثانية لا تجري في حدّ نفسها عند فرض عدم جريان الأُولى ، كما لا يرفع محذور الجمع بينهما لا يكون موجباً لتعيّن الثانية للسقوط ، لأنّ محلّ الكلام إنّما هو بعد فرض جريان الأُولى ، فتأمّل

٤٥٢

جيّداً.

نعم ، لو كان جريان الأُولى في موردها حاكماً بلزوم قضاء السجدة وسجود السهو كما يدّعيه أرباب القول الآتي ، لكانت حاكمة على الثانية ، إلاّ أنّ الكلام مع أرباب هذا القول المبني على الطولية ، التي لا يكون أثرها إلاّتوقّف جريان الثانية على جريان الأُولى.

وإن شئت فقل : إنّ المتحصّل ممّا أُفيد في وجه عدم جريان الثانية ، هو أنّ الأُولى لو لم تكن جارية كانت الثانية ساقطة لعدم الموضوع ، وإن كانت الأُولى جارية كانت الثانية ساقطة بالتعارض ، فتكون الثانية ساقطة على كلّ حال. وحينئذ نقول : إنّ هذا يمكن أن يؤلّف منه قياس استثنائي ، فيقال إنّ الأُولى لو كانت جارية كانت الثانية ساقطة بالتعارض ، لكن الأُولى جارية في حدّ نفسها فتكون الثانية ساقطة بالتعارض ، وذلك عبارة أُخرى عن سقوطهما معاً ، فيكون الثابت هو السقوط التعارضي لا السقوط لعدم الموضوع ، ويكون ذلك نظير قولنا لو كان هذا الجسم فرساً لكان حيواناً ، ولو كان إنساناً كان حيواناً أيضاً ، لكنّه إنسان ، فهو حيوان ، فيكون الثابت هو الحيوان الناطق لا الحيوان الصاهل.

ومنه يتّضح لك الجواب عمّا ربما يقال من أنّ إجراء القاعدة في غير الركن يلزم من وجوده عدمه ، حيث إنّها لو جرت لسقطت بالمعارضة معها في الركن ، فإنّ هذا المحذور جارٍ في كلّ متعارضين ، إذ يلزم من جريان أحدهما معارضته للآخر فيسقطان معاً ، بل إنّه جارٍ في الأُولى أيضاً ، إذ يلزم من إجرائها إجراء الثانية لتحقّق موضوعها حينئذ ، ويلزم من إجراء الثانية سقوط كلّ منهما بالمعارضة ، فيكون اللازم من إجراء الأُولى سقوطها وعدم إجرائها.

وأمّا التشبّث لعدم الجريان في غير الركن ، بأنّ العام لا يشمل الأفراد

٤٥٣

الطولية ، فقد حقّق الجواب عنه في مبحث حجّية خبر الواحد في البحث عن شموله للإخبار بالواسطة ، فراجع (١).

وربما يقال : إنّه بعد تسليم كون الثانية في رتبتها معارضة للأُولى ، نقول إنّ معنى التعارض أوّلاً هو سقوط أحد الأصلين ، وحيث لا معيّن يتعيّن إسقاطهما فراراً عن الترجيح بلا مرجّح ، وفي المقام يمكن ترجيح سقوط الثانية ، لا لما مرّ من أنّ الأُولى قد أخذت محلّها في الرتبة السابقة ، بل لأنّ إسقاط الأُولى يكون موجباً لاسقاط الثانية ، بخلاف إسقاط الثانية فإنّه لا يوجب إسقاط الأُولى ، فيكون المتعيّن إسقاطها ، لأنّه أرجح حينئذ من إسقاط الأُولى.

ولكن لا يخفى أنّه أيضاً إقناعي غير مبتنٍ على أساس علمي ، لأنّ سقوط الثانية عند إسقاط الأُولى لبقائها بلا موضوع لا يرجّح ويعيّن إسقاطها ، لامكان إسقاط الأُولى وإن بقيت الثانية بعد إسقاطها بلا موضوع. وبالجملة : ليس المقام من قبيل الدوران بين الاسقاط الواحد والاسقاطين.

ثمّ لا يخفى أنّه لو دار الأمر بين الثلاثة ، بأن علم بعد الفراغ بأنّه قد ترك إمّا الركوع أو السجدتين أو التشهّد ، فعلى مسلك الأُستاذ قدس‌سره يتعارض القواعد ، ويتعارض أصالة عدم الاتيان ، وبعد التساقط يكون المرجع هو أصالة الاشتغال بالصلاة وأصالة البراءة من قضاء التشهّد. وعلى مسلك من أسقط قاعدة التجاوز في غير الركن لأجل العلم بعدم امتثال أمره ، يكون المرجع هو قاعدة التجاوز في كلّ من الركوع والسجدتين ، ولا يلزمه إلاّقضاء التشهّد وسجود السهو. لكن على مسلك القائل باسقاط القاعدة في غير الركن من جهة الطولية ، ينبغي القول بعدم جريان القاعدة في الأطراف الثلاثة. أمّا التشهّد فواضح ، وأمّا الركوع والسجدتان

__________________

(١) المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : ٤٢٥ ـ ٤٣٣.

٤٥٤

فللدور ، لأنّ كلاً منهما متوقّفة على إجراء الأُخرى ، فلا يكون المرجع إلاّ أصالة العدم ، فتأمّل فإنّه بناءً على ذلك ينبغي أن يكون الحال كذلك فيما لو احتمل كلاً من الثلاثة على نحو الشبهة البدوية ، فيكون اللازم في ذلك عنده هو الإعادة وحدها بناءً على ما ذكرناه من حكومة أصالة العدم في الركن عليها في غير الركن ، أو يكون اللازم هو الاعادة مع قضاء التشهّد لو قلنا بالجمع بين الأُصول الثلاثة ، فتأمّل فإنّه في غاية الغرابة. وكذلك الإشكال فيما لو كان الاحتمال البدوي ثنائياً ، بأن احتمل ترك الركوع بدوياً كما احتمل أيضاً بدوياً ترك السجدتين من إحدى الركعات.

والأولى أن يقال : إنّ صحّة الصلاة ليست موضوعاً شرعياً لقاعدة التجاوز في السجدة ، وإنّما هي مورد لذلك ، بمعنى أنّه مع فساد الصلاة لا مورد للحكم بأنّك أتيت بالسجدة ، لا أنّ موضوع هذا الحكم هو صحّة الصلاة على وجه يكون له تقدّم رتبي عليه ، وذلك نظير ما قالوا في وجه حكومة الأمارة على الاستصحاب من أنّه مقيّد بالشكّ بخلاف الأمارة ، مع فرض كون مورد الأمارة قهراً هو الشكّ في الواقع وعدم العلم به ، فلم يكن مجرّد هذه الموردية موجباً لكون موضوع الأمارة هو الشكّ وعدم العلم كي تكون متأخّرة عنه رتبة ، وتكون في عرض الاستصحاب في كون كلّ منهما متأخّراً رتبة عن الشكّ ، وأنّه موضوع لكلّ منهما ، ولعلّ هذا هو المراد لشيخنا قدس‌سره من إيراده الأوّل (١) بأنّه يكفي الصحّة التقديرية.

وما أشبه هذا الإشكال بالإشكال الذي يورد على التمسّك باطلاقات البيع بناءً على القول بالأعمّ ، فيقال : إنّ الفاسد لا يؤمر بالوفاء به ، فعند الشكّ في اعتبار العربية لو وقع البيع بالفارسية لا يمكن التمسّك باطلاق الوفاء وإطلاق ( أَحَلَّ اللهُ

__________________

(١) سيأتي هذا الإيراد فيما ينقله عنه قدس‌سرهما في الدروس الفقهية ، فراجع الصفحة : ٤٥٧.

٤٥٥

الْبَيْعُ ). ومنه يظهر لك أنّه يمكن المنع من التقييد ، بل من الموردية أيضاً.

وإن شئت فقل : إنّ كلاً من قاعدة التجاوز في السجدة وقاعدة التجاوز في الركن ، إنّما يجري في سدّ الاحتمال من ناحية مورده على ما شرحناه (١) في الجواب عن القول بأنّ قاعدة التجاوز في غير الركن لا محلّ لها للعلم بعدم امتثال أمرها ، وحينئذ يتحقّق التعارض بينهما والتساقط.

وخلاصة البحث أوّلاً : هو المنع من الطولية ، لأنّ الصحّة بالنسبة إلى قاعدة التجاوز في غير الركن مورد لا موضوع ، بل قد عرفت أنّه يمكن المنع حتّى من الموردية فضلاً عن التقييد الموجب للطولية.

وثانياً : أنّه لا يتمّ على القول بكون المانع من جريان الأصل النافي في أطراف العلم الاجمالي هو العلم نفسه. ودعوى الانحلال بأصالة عدم الاتيان بغير الركن ممنوعة ، لأنّ هذا الأصل أيضاً متوقّف على إحراز الصحّة بقاعدة التجاوز في الركن ، فمع فرض كون جريانها متوقّفاً على جريان أصالة العدم في غير الركن دور محض.

وثالثاً : أنّا لو أغضينا النظر عن مسلكهم ، وقلنا بمسلكنا من جواز جريان الأصل النافي في بعض أطراف العلم الاجمالي ، لكانت قاعدة الفراغ في غير الركن ولو في الرتبة الثانية معارضة لقاعدة الفراغ في الركن ولو في الرتبة السابقة.

ويتلخّص المنع من جريان قاعدة الفراغ في غير الركن بأُمور خمسة :

الأوّل : دعوى أنّ العموم لا يشمل الأفراد الطولية. وهذا قد حقّق الجواب عنه في مسألة حجّية خبر الواحد عند الكلام على شمول دليل الحجّية للإخبار بالواسطة.

__________________

(١) راجع الصفحة : ٤٧٠ ـ ٤٧١.

٤٥٦

الثاني : ما ذكرناه من كون الأُولى تأخذ محلّها في الرتبة السابقة ، فلا تبقي مجالاً للثانية. وقد عرفت أنّه أشبه شيء بالخطابة ، حيث إنّه بعد فرض شمول عموم دليل قاعدة التجاوز للأفراد الطولية ، يكون كلّ من الركن وغير الركن مورداً لها مع فرض عدم إمكان الجمع بينهما ولو في مرتبتين.

الثالث : ما ذكرناه من ترجيح الأُولى على الثانية ، وهو أيضاً أشبه بالخطابة.

الرابع : دعوى أنّه يلزم من جريان الثانية عدم جريانها. وقد عرفت الجواب عنه بالنقض في كلّ متعارضين ، بل هو منقوض في الأُولى نفسها.

الخامس : دعوى كون الثانية غير جارية على كلّ حال من جريان الأُولى وعدم جريانها ، فيرجع إلى دعوى العلم التفصيلي بعدم جريان الثانية. وقد عرفت الجواب عنه ، وأنّ الوجه هو جريان الأُولى في حدّ نفسها ، وحينئذ تجري الثانية في حدّ نفسها ويسقطان معاً بالمعارضة. ثمّ بعد سقوطهما بالمعارضة يكون المرجع في الركن هو أصالة عدم الاتيان وهي قاضية ببطلان الصلاة ، وبذلك تكون حاكمة على أصالة عدم الاتيان بغير الركن ، بل على كلّ أصل يمكن جريانه فيه حتّى أصالة البراءة من قضائه وسجود السهو له. ثمّ بعد هذا يتوجّه عليهم الإشكال في مسألة العلم الاجمالي بفوت أحد الثلاثة أعني الركوع والسجود والتشهّد ، وأشكل منه ما لو كان كلّ من هذه الثلاثة محتملاً بنحو الشبهة البدوية ، فراجع وتأمّل.

ثمّ إنّ شيخنا قدس‌سره تعرّض لهذه الجهة فيما أفاده قدس‌سره في الدروس الفقهية ، وأجاب عن هذا التأخّر الرتبي بما حاصله فيما حرّرته عنه قدس‌سره في الدروس ، وهو :

أوّلاً : أنّ هذا الإشكال جارٍ في مسألة علم المقلّد بأنّ مجتهده قد خرج عن أهلية التقليد ، إمّا بالموت أو بالفسق ، فإنّه لا يمكن فيه استصحاب العدالة ، لأجل

٤٥٧

الشكّ في الحياة التي هي بمنزلة الموضوع للعدالة ، فيكون الجاري هو استصحاب الحياة فقط ، مع أنّ مقتضى العلم الاجمالي هو عدم جواز بقائه على تقليده. ونحن قد أجبنا عن الإشكال في استصحاب العدالة بأنّه يكفي فيه كون المستصحب هو العدالة على تقدير الحياة ، كما حقّق في محلّه في أوائل خاتمة الاستصحاب.

وفيما نحن فيه نقول : إنّه يكفي في جريان القاعدة بالنسبة إلى غير الركن هو صحّة الحكم عليه بأنّه قد أتى به على تقدير الصحّة ، فتكون الصحّة التقديرية كافية في جريان القاعدة في الجزء غير الركني.

وثانياً : أنّه لو سلّمنا عدم كفاية ما ذكرناه من التقدير فنقول : إنّ ما نحن فيه لا يقاس باستصحاب العدالة فيما تقدّم من المثال ، فإنّ الحياة في ذلك المثال ليست شرطاً شرعياً للعدالة ، وإنّما هي شرط عقلي ، وحينئذ فلا يكون استصحاب الحياة نافعاً في إثبات ما يتوقّف عليه جريان استصحاب العدالة من الحياة التي هي موضوع عقلي لها ، إلاّبالأصل المثبت.

وأمّا ما نحن فيه ، فإنّ ترتّب ما يتوقّف عليه القاعدة في الجزء غير الركني على الاتيان بالركن ، أعني بذلك صحّة الصلاة ، ترتّب شرعي ، فيكون المصحّح لجريان القاعدة في غير الركن الذي هو صحّة الصلاة من الآثار الشرعية المترتّبة على جريان قاعدة الفراغ في الركن.

وبعبارة أُخرى : يكون لجريان القاعدة في الركن أثران : أحدهما نفس الاتيان بالركن والخروج عن عهدة وجوبه. والآخر هو صحّة الصلاة التي يتوقّف عليها صحّة جريان القاعدة في غير الركن ، فبالنسبة إلى نفس الاتيان بالركن والخروج عن عهدة وجوبه تكون القاعدتان متعارضتين بواسطة العلم الاجمالي

٤٥٨

بترك أحدهما ، ولكن بالنسبة إلى الأثر الآخر للقاعدة الجارية في الركن ، أعني صحّة الصلاة التي يتوقّف عليها جريان القاعدة في غير الركن ، لا يكون للقاعدة المذكورة معارض من جهة هذا الأثر ، وبعد تعارض القاعدتين بالنسبة إلى الأثر الأوّل ، نرجع إلى الأصل الآخر وهو استصحاب عدم الاتيان بالركن وعدم الاتيان بالجزء غير الركن ، وبعد سقوط هذين الأصلين لكونهما إحرازيين على خلاف العلم الاجمالي ، تنتهي النوبة إلى الاشتغال والبراءة ، ومقتضى الاشتغال بالنسبة إلى الركن هو الاعادة ، وبالنسبة إلى غير الركن هو البراءة من قضائه ومن سجود السهو بعد الفراغ ، وبذلك ينحل العلم الاجمالي.

لا يقال : إذا كان جريان الأصل في الجزء غير الركني متوقّفاً على صحّة الصلاة بالاتيان بالركن ، كان الأصل النافي للركن حاكماً على الأصل الجاري في غير الركن ، فبعد استصحاب عدم الاتيان بالركن ، تكون الصلاة محكومة بالبطلان ، ومعه لا يبقى مجال لجريان أصالة عدم الاتيان بغير الركن ، فلا يكون الاستصحابان متعارضين كي يتساقطا ويرجع بعد التساقط إلى أصالة البراءة في الجزء غير الركني ، وقاعدة الاشتغال في الجزء الركني ، بل يكون الاستصحاب الجاري في عدم الاتيان بالركن حاكماً على الاستصحاب الجاري في عدم الاتيان بغير الركن.

لأنّا نقول : إنّك قد عرفت أنّ القاعدة الجارية في الركن بالنسبة إلى الأثر الثاني ـ أعني صحّة الصلاة ـ لا معارض لها ، وبهذا الأثر يتمّ إجراء الأصل في الجزء غير الركني وتتمّ المعارضة بين الاستصحابين.

قلت : توضيح ذلك : أنّ مقتضى أصالة عدم الاتيان بالركن وإن كان هو البطلان الموجب لارتفاع موضوع الأصل الجاري في غير الركن ، إلاّ أنّ الأثر

٤٥٩

الباقي من القاعدة في الركن الذي تقدّم أنّه خارج عن مورد المعارضة بين القاعدتين ، يكون من هذه الجهة حاكماً على استصحاب عدم الركن.

والحاصل : أنّك قد عرفت فيما تقدّم أنّ لقاعدة التجاوز في الركن أثرين ، أحدهما هو مورد المعارضة بينها وبين القاعدة في غير الركن ، وهو نفس الاتيان بالركن ، والأثر الآخر هو تصحيح الصلاة من جهة نفس الركن وترتّب صحّة الجزء غير الركني عليه ، وقد عرفت أنّ هذا الأثر خارج عن مورد التعارض ، فيكون باقياً بعد سقوط القاعدتين.

وإن شئت فقل : إنّ القاعدة في الركن باقية من جهة الأثر الثاني ، وإن سقطت من جهة الأثر الأوّل ، وهذا الأثر الثاني يكون حاكماً على ما يقتضيه استصحاب عدم الاتيان بالركن من بطلان الصلاة ، لأنّ الأثر المذكور ثابت بقاعدة التجاوز أو الفراغ وهي حاكمة على الاستصحاب.

ولكن قد يقال : إنّ استصحاب عدم الاتيان بالركن إذا لم يترتّب عليه بطلان الصلاة للحكومة المذكورة فأيّ أثر له بعد ذلك ، وإذا سقط أصالة عدم الاتيان بالركن ، كانت الصلاة حينئذ محكوماً بصحّتها وبعدم الاتيان بغير الركن منها ، فلا يلزمه إلاّقضاؤه.

ويمكن الجواب عنه : بأنّا بعد أن فرضنا وتصوّرنا لقاعدة التجاوز والفراغ في الركن التي هي عبارة عن الحكم بالاتيان بالركن أثرين ، وفككنا في تلك القاعدة بين الأثرين ، كان محصّل ذلك أنّ للاتيان بالركن أثرين ، أحدهما إسقاط وجوبه والآخر تصحيح الصلاة من جهته ، ففي مقام استصحاب عدم الاتيان بالركن نفكّك أيضاً بين هذين الأثرين ، ونقول : إنّ هذا الاستصحاب لو خلّي ونفسه لترتّب عليه نفي كلا الأثرين ، ولكنّه لمّا كان من جهة الأثر الثاني محكوماً

٤٦٠