أصول الفقه - ج ٧

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٧

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-72-0
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٩٢

الآخرين ، كان نظير التخيير الناشئ عن ملاكات متعدّدة ، فحيث يدور الأمر بين العينية والكفائية ، يكون ذلك نظير التردّد بين التعيينية والتخييرية الناشئة عن ملاك واحد في الأوّل ، وعن ملاكين في الثاني.

وينبغي الالتفات إلى [ أنّ ] ما لا يكون قابلاً للتعدّد مثل دفن الميت لا يكون وجوبه إلاّكفائياً ، فلا يكون داخلاً في محلّ البحث عمّا يتردّد في وجوبه بين العينية والكفائية ، وأنّ ما يكون داخلاً في محلّ البحث هو ما يكون قابلاً للتكرار مثل الصلاة على الميّت ، وهل هو على تقدير كونه كفائياً من ذي الملاك الواحد القائم بفعل أحد المكلّفين ، أو هو من قبيل ذي الملاكين المتزاحمين في مقام الاستيفاء ، فيكون الوجوب على كلّ منهم مشروطاً بعدم فعل الآخر حدوثاً وبقاءً أو بقاءً فقط؟

ويمكن أن يكون فعل أحد المكلّفين مسقطاً محضاً عن الباقين ، ويكون الحال هو الحال فيما لا يقبل التعدّد ، لكون فعل أحدهم رافعاً لموضوع الفعل من الآخرين ، وعلى كلّ حال يكون المرجع في الشكّ في العينية والكفائية هو أصالة الاشتغال بنحو ما حرّرناه في الشكّ في التعيين والتخيير.

أمّا ما يتطلّب الاجتماع فهو قابل للعينية كما في صلاة الجمعة ، وللكفائية كما في مثل حمل الميت إلى قبره لو لم يتمكّن الواحد من نقله إليه. نعم في أصل كون الواجب هو الاجتماع على الفعل الفلاني إشكال ، لأنّ فعل الغير لا يكون إلاّ شرطاً في الوجوب بالنسبة إلى كلّ واحد ، ويكون الأمر حينئذ راجعاً إلى أنّه لا يجب الاجتماع على كلّ منهم إلاّ إذا حصل الاجتماع من كلّ منهم ، ولا يمكن تصحيح ذلك إلاّبنحو من الشرط المتأخّر.

٣٢١

قوله (١) : والظاهر أن يكون نظر المشهور في مسألة قضاء الفوائت إلى القاعدة وأنّها تقتضي الاحتياط ... الخ (٢).

لا يخفى أنّه قد عنون في مستدرك الوسائل (٣) باب من فاتته فريضة ولا يعلمها بعينها ، ومن فاتته فرائض كثيرة لا يعلم عددها ، يقضي حتّى يغلب على ظنّه الخروج عن العهدة ، إلاّ أنّه قدس‌سره لم يذكر في ذلك الباب إلاّ أخبار العنوان الأوّل ولم يتعرّض لما يدلّ على العنوان الثاني.

أمّا صاحب الوسائل (٤) فإنّه ذكر نظير ذلك ، إلاّ أنّه ذكر أنّه قد تقدّم ما يدلّ على العنوان الثاني في أعداد الفرائض. والظاهر أنّ مراده هو ما تقدّم في ذلك الباب ممّا ورد في من فاتته نوافل كثيرة ولا يعلمها بعينها (٥) ، ويشهد بذلك ما في المدارك (٦) من أنّ الشيخ في التهذيب (٧) استدلّ لما عليه المشهور بما ورد في من فاتته نوافل متعدّدة ، وقد تعرّض الفقهاء في الجواهر (٨) وغيرها لردّ هذا الاستدلال ، فراجع.

وبالجملة : أنّ عمدة نظر المشهور في خصوص هذه المسألة إنّما هو إلى

__________________

(١) الأحد ٦ شوال / ١٣٧١ [ منه قدس‌سره ].

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٤٣٨.

(٣) مستدرك الوسائل ٦ : ٤٣٧ / أبواب قضاء الصلوات ب ٩.

(٤) وسائل الشيعة ٨ : ٢٧٥ / أبواب قضاء الصلوات ب ١١.

(٥) وسائل الشيعة ٤ : ٧٨ / أبواب أعداد الفرائض ب ١٩.

(٦) مدارك الأحكام ٤ : ٣٠٦.

(٧) تهذيب الأحكام ٢ : ١٩٨ / ٧٧٨.

(٨) جواهر الكلام ١٣ : ١٢٦.

٣٢٢

تلك الأخبار ، لا إلى ما أُفيد في الحاشية (١) وغيرها من ذلك التوجيه المبني على احتمال التنجّز بالعلم الماضي ، ممّا هو مخالف لقاعدة الشكّ بعد الوقت ولقاعدة البراءة في الزائد في مسألة الشكّ بين الأقل والأكثر غير الارتباطيين.

نعم ، هنا إشكال وهو أنّ نتيجة إجراء البراءة الشرعية أو العقلية هو القطع بعدم استحقاق العقاب على التكليف الذي جرت فيه لو فرض وجوده واقعاً ، مثلاً لو أجرينا البراءة العقلية أو الشرعية في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال عندما نشكّ فيه ، تكون نتيجة ذلك هو القطع بعدم استحقاق العقاب لو اتّفق الوجوب واقعاً ، وحينئذ نقول : إنّ من مضت عليه مدّة من عمره وهو متمرّد عن جميع التكاليف ومشغول بنهب أموال الناس ، لو أدركته الرحمة الإلهية وقدم على التوبة ، وتردّد ما فاته من الصلاة والصيام عصياناً وما اشتغلت به ذمّته من أموال الناس عصياناً أيضاً بين الأقل والأكثر ، وأدّى المقدار المعلوم ، وأجرى البراءة فيما زاد على ذلك ، لا يحصل له القطع بعدم العقاب على ذلك الزائد لو فرض وجوده واقعاً ، فما فائدة جريان البراءة فيه في حقّ ذلك الشخص.

والجواب يتوقّف على ذكر مقدّمتين :

الأُولى : أنّه لا تنافي بين الحكم بعدم استحقاق العقاب وبين ثبوت الأثر الوضعي للتكليف الواقعي ، أعني الضمان في الماليات واشتغال الذمّة في العبادات ، فإنّ النائم لو كسر آنية الغير في حال نومه ولم يعلم بذلك حتّى مات لا عقاب عليه قطعاً ، لكنّه مشغول الذمّة بما أتلفه في نومه على وجه يجب على ورثته أو وصيّه تفريغ ذمّته من ذلك المال لو علموا بذلك ، بل إنّ لصاحب تلك الآنية الاقتصاص من ماله في حال حياته وبعد مماته.

__________________

(١) لم نعثر عليه في مظانّه.

٣٢٣

وهكذا الحال فيما لو فاتته فرائض مالية أو عبادية وهو لم يعلم بفوتها حتّى مات ، فإنّ على وارثه أو وصيّه إيفاء ذلك عنه ، وللحاكم الأخذ من ماله بما يكون وافياً بما اشتغلت به ذمّته ، بل لو كان ذلك الشخص قد التفت إلى ذلك واحتمله لكنّه أجرى قاعدة الشكّ بعد الوقت ، أو قاعدة الفراغ فيما شكّ في بطلانه من عباداته ، أو قامت البيّنة عنده على عدم شغل ذلك أو على صحّة عباداته ، أو أجرى [ البراءة ] فيما زاد على ما علمه ، وقد علم الحاكم أو وصيّه أو وارثه بخطأ ذلك ، كان لهم أو عليهم الأخذ من ماله وعليهم إيفاء ذمّته ، مع فرض كونه غير مستحقّ للعقاب على ذلك ، فلو لم يعلم أحد بذلك لم يكن في البين إلاّهذا الحكم الوضعي وهو انشغال ذمّته ، ولا أثر لذلك إلاّيوم القيامة ، والله سبحانه لا يؤاخذه على ما هو راجع إليه ، أمّا ما يرجع إلى الناس فذلك أيضاً راجع إليه تعالى ولعلّه يعوّضهم عنه.

المقدّمة الثانية : أنّ هذا الشخص لو أقدم على الأخذ بالزائد واحتاط بدفع الأكثر أو فعله ، لم يكن ذلك رافعاً للعقاب الذي استحقّه على عصيانه السابق ، فإنّ ذلك العصيان لا يرتفع إلاّبالتوبة وعفو الله تعالى ، فليس الغرض من إجراء البراءة من ذلك الزائد هو رفع ذلك العقاب المستحقّ بالعصيان السابق ، وإنّما أثرها هو رفع العصيان الفعلي ، وأنّه لو لم يفعله لا يكون مستحقّاً للعقاب على عدم فعله فعلاً بالنسبة إلى حالته الفعلية الحاضرة التي هي حالة الشكّ في الزائد وعدم العلم به ، ولا ريب أنّه بالنسبة إلى حالته الفعلية يكون مورداً لعدم العلم بذلك الزائد وعدم تنجّز وجوب أدائه ، وعدم استحقاق العقاب على ترك أدائه فعلاً ، وإن كان مستحقّاً للعقاب على تركه السابق وإقدامه على أخذ ذلك المال لو كان له وجود في الواقع ، وكان أثره الوضعي أيضاً ثابتاً وهو انشغال ذمّته به ، لما عرفت من أنّ

٣٢٤

البراءة فعلاً لو كانت مخطئة لا ترفع العقاب على العصيان السابق ، كما أنّها لا ترفع الضمان الواقعي وانشغال الذمّة ، وإنّما أقصى ما فيها هو رفع العقاب على ترك تأديته فعلاً.

وبالجملة : أنّ حال البراءة من هذه الجهة حال البيّنة القائمة على نفي ذلك الزائد ، في أنّها لا توجب رفع الضمان لو كانت مخطئة ، ولا ترفع العقاب الذي استحقّه سابقاً ، وإنّما أقصى ما فيها هو الحكم الظاهري بعدم استحقاق العقاب اللاحق.

٣٢٥

[ أصالة التخيير ]

قوله : وتنقيح البحث عنها يستدعي رسم أُمور : الأوّل ... الخ (١).

لا يخفى أنّ الأُصول المعروفة أربعة : الاحتياط والتخيير والبراءة والاستصحاب ، والثلاثة الأُول تكون شرعية وعقلية ، والمدّعى أنّ ما نحن فيه من الدوران بين المحذورين لا تجري فيه هذه الأُصول بأسرها عقليّها وشرعيّها. أمّا الاحتياط العقلي والشرعي فواضح ، لعدم القدرة عليه في المقام ، لأنّ المفروض فيه هو عدم التمكّن من الموافقة القطعية كعدم التمكّن من المخالفة القطعية.

نعم ، يمكن الأمر بالاحتياط في أحد الطرفين ، بأن يرى الشارع أنّ دفع المفسدة المحتملة أولى بالرعاية من جلب المصلحة المحتملة ، فيلزم بالاحتياط بالترك. كما أنّه من الممكن أن يرى الشارع أنّ جلب المصلحة المحتملة أولى بالرعاية من دفع المفسدة المحتملة ، فيأمر بالاحتياط بالفعل. ويمكن اختلاف الموارد ، نظراً إلى إمكان اختلاف المفاسد والمصالح ، ففي بعضها يقدّم الأوّل وفي بعضها يقدّم الثاني ويكون الاحتياط في ذلك شرعياً.

ويمكن حينئذ فرضه عقلياً وذلك مع فرض عدم صدور الأمر بالاحتياط من جانب الشارع في أحد الطريقين ، فإن احتملنا تقدّم إحدى الجهتين على الأُخرى دون العكس ، دخلت المسألة في الدوران بين التعيين والتخيير ، واللازم عقلاً الالتزام بجانب التعيين. نعم لو قطعنا بالعدم ، أو جرى الاحتمال في كلّ من

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٤٤٢.

٣٢٦

الجهتين ، سقط الاحتياط في أحد الطرفين ، وتعيّن التخيير بين الفعل والترك ، وسيأتي الكلام عنه إن شاء الله تعالى في الأمر الثاني (١).

وعلى كلّ حال ، نحن لو احتملنا أنّ الشارع ألزمنا في مسألة الدوران بين المحذورين بالاحتياط في جانب الترك فقط ، يمكننا إجراء البراءة العقلية والشرعية في نفي هذا الاحتمال ، ويمكننا أيضاً إجراء استصحاب العدم فيه ، ولا يعارض ذلك بما في طرف جانب الفعل ، إذ المفروض أنّ الاحتياط في جانبه مقطوع العدم. وهكذا الحال في جانب الوجود لو احتملناه فقط.

نعم ، لو كان الاحتياط محتملاً في كلّ من الجانبين ، كانت المسألة كأصلها من دوران الأمر بين المحذورين ، من دون فرق في ذلك بين العلم بأنّ الشارع أوجب الاحتياط في أحد الجانبين وحصل التردّد بينهما ، وبين أن لا يكون إلاّ احتمال الاحتياط في كلّ منهما.

وينبغي أن يعلم أنّا لا نريد أن ندّعي الجزم بأنّ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة ، بل أقصى ما ندّعيه هو الاحتمال ، وإمكان أن يكون الشارع المقدّس قد أمر بالاحتياط في جانب الترك ، لأجل أنّه يرى أنّ دفع المفسدة المحتملة أولى من جلب المصلحة المحتملة. ومرادنا من المفسدة والمصلحة في المقام هي ملاكات الأحكام ، لا خصوص المصالح والمفاسد الدنيوية أو الشخصية المعبّر عنها بالنفع والضرر الراجع إلى شخص الفاعل.

وأيضاً لا ندّعي هذا الاحتمال في جميع موارد التقابل بين الواجب والحرام ، لكي يرد علينا أنّه رُبّ واجب أهم من ترك الحرام ، بل إنّا نقول : إنّ هذا الفعل الخاصّ الذي تردّد بين كونه واجباً أو حراماً من الممكن أن تكون المفسدة

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٤٥٠.

٣٢٧

في حرمته على تقدير كونه حراماً أقوى من المصلحة في وجوبه على تقدير كونه واجباً ، ويكون ذلك علّة في الأمر بالاحتياط في جانب الترك ، كما ربما يلتزم به في دوران الأمر في هذا الشخص بين كونه واجب القتل وكونه محرّم القتل. وبالجملة : نحن نحتمل أن يكون هذا الذي ابتلينا به ممّا دار بين الوجوب والتحريم هو نظير المثال في تقدّم احتمال الحرمة.

ومن جميع ذلك يتّضح لك التأمّل فيما أُفيد في هذا التحرير (١) أوّلاً وثانياً وثالثاً. أمّا التأمّل في الأوّل ، فلما عرفت من أنّا لا ندّعي الجزم وإنّما أقصى ما عندنا هو الاحتمال ، مضافاً إلى ما عرفت من عدم التزامنا بذلك كلّية. وأمّا التأمّل في الثاني فلأنّه قد حقّق في محلّه (٢) الفرق بين الواجب والحرام ، وأنّ الأوّل ما كان ناشئاً عن صلاح في الفعل والثاني ما كان ناشئاً عن فساد في الفعل ، ولو اتّفق أنّ فعلاً يكون في نفسه ذا صلاح ويكون تركه ذا فساد ، لم يكن ذلك الفعل واجباً محضاً ، بل كان تركه حراماً مضافاً إلى كون فعله واجباً ، فلو تركه كان مستحقّاً لعقابين ، عقاب ترك الواجب وعقاب فعل الحرام. وأمّا التأمّل في الثالث فلما عرفت من أنّ المراد هو ملاكات الأحكام لا المنافع والمضارّ الشخصية ، فلاحظ وتأمّل.

وينبغي الضرب على بقية البحث وعلى بقية الحواشي إلى حاشية قوله في ص ١٦٥ ، فيكون المضروب عليه هو من قولنا : ولكن شيخنا قدس‌سره ، إلى حاشية قوله في ص ١٦٥ : أو يكون أحدهما ... الخ (٣)

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٤٥١ ـ ٤٥٢.

(٢) راجع المجلّد الثالث من هذا الكتاب ص ٩٨ والمجلّد الرابع منه ص ٣ ـ ٤.

(٣) [ ارتأينا إدراج ما أمر قدس‌سره بالضرب عليه في الهامش تتميماً للفائدة ، وهو ما يلي : ]

٣٢٨

__________________

ولكن شيخنا قدس‌سره اهتمّ في مسألة الاحتياط هنا ، وتعرّض لبيان عدم منجّزية العلم الاجمالي في المقام ، وغايته قدس‌سره من ذلك هو بيان أنّ المقام غير قابل للتخيير العقلي والشرعي ، خصوصاً في الدورة الأخيرة التي اشتمل عليها تحرير السيّد سلّمه الله ، فإنّه قد اشتمل على تفصيل في بيان عدم منجّزية العلم الاجمالي في المقام ، لأنّ منجّزيته إنّما تتمّ بأمرين ، الأوّل إمكان الخطاب بالقدر المعلوم. والثاني تفرّع وجوب الموافقة القطعية على حرمة المخالفة القطعية.

وحاصل الأوّل ، أنّه في المقام لا يمكن الخطاب بالقدر المعلوم في المقام ، ليكون نظير دوران الأمر بين وجوب شيء وحرمة شيء آخر ، من كون الخطاب الشرعي نظير التخيير الشرعي ، فإنّه غير ممكن في المقام ، لأنّ التخيير فيه قهري طبعي.

وحاصل الثاني ، هو أنّه بعد أن كانت المخالفة القطعية غير ممكنة ، لم يعقل إيجاب الموافقة القطعية ، لكونه في طول حرمة المخالفة القطعية. واستنتج من ذلك أنّ التخيير في المقام لا يكون شرعياً ولا عقلياً. أمّا الأوّل فواضح ، وأمّا الثاني فلأنّه إنّما يكون في المورد الذي يمكن فيه المخالفة القطعية ولا يمكن الموافقة القطعية ، مثل ما لو كان غريقان أحدهما يجب إنقاذه والآخر لا يجب إنقاذه ولا يحرم بل كان مباحاً ، ولم يتمكّن المكلّف من إنقاذهما ، فإنّ العقل يحكم بإنقاذ أحدهما تخييراً ، فراراً من تركهما الموجب للوقوع في المخالة القطعية ، هذا.

ولكن لا يبعد القول بعدم الحاجة إلى هذين الضابطين لتنجيز العلم الاجمالي في استنتاج كون التخيير في المقام غير عقلي ولا شرعي. أمّا الأوّل فلأنّه موقوف على نفس المطلوب ، أعني عدم إمكان الخطاب الشرعي في المقام. وأمّا الثاني ، فلأنّ هذا الاستنتاج لا يتوقّف على كون وجوب الموافقة القطعية في طول حرمة المخالفة القطعية ، بل إنّ هذه النتيجة حاصلة حتّى لو قلنا إنّها في عرضها أو قلنا إنّ العلم الاجمالي لا يوجب إلاّحرمة المخالفة القطعية وأنّه لا يوجب الموافقة القطعية ، فإنّ

٣٢٩

__________________

المقام بعد فرض كون حرمة المخالفة القطعية ساقطة فيه لعدم التمكّن منها ، لا يكون التخيير فيه بحكم العقل فراراً من المخالفة ، بل لا يكون إلاّبحكم الطبع ، فإنّ التخيير العقلي تارةً يكون ناشئاً عن التزاحم مع العلم بأن كلاً من الغريقين واجب الإنقاذ ، مع فرض عدم تمكّن المكلّف من الجمع بينهما ، وفرض عدم رجحان إنقاذ أحدهما على الآخر ، وهذا لا دخل له فيما نحن فيه ، وهو واضح.

وتارةً يكون التخيير العقلي ناشئاً عن العلم الاجمالي بوجوب إنقاذ أحدهما وإباحة إنقاذ الآخر مع فرض عدم إمكان الجمع ، ففي هذه الصورة يحكم العقل بلزوم إنقاذ أحدهما تخييراً ، فراراً من لزوم المخالفة القطعية لو تركهما معاً ، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، لما عرفت من عدم القدرة على المخالفة القطعية ، فلا يكون التخيير فيه بين الفعل والترك بحكم العقل فراراً عن المخالفة القطعية ، بل لا يكون ذلك إلاّبحكم الطبع ، بمعنى أنّ هذا التردّد لا يحكم فيه العقل بالتخيير ولا الشرع ، بل هو حاصل قهراً على المكلّف ، فهذا ليس له وظيفة عقلية ولا وظيفة شرعية ، أمّا الاحتياط فلما عرفت من عدم إمكانه ، وأمّا التخيير بين الفعل والترك فلما عرفت من أنّه قهري على المكلّف.

والحاصل : أنّ المانع من الاحتياط والتخيير في المقام هو عدم المعقولية فيهما ، من دون نظر إلى مصادمة العلم الاجمالي ، وفي الحقيقة يكون الحاصل هو إنكار أصالة التخيير ، وتكون الأُصول منحصرة في ثلاثة : الاستصحاب والبراءة والاحتياط ، فإنّ ما ذكروه لمجرى أصالة التخيير هو دوران الأمر بين المحذورين ممّا كان جنس التكليف فيه معلوماً ولم يمكن فيه الاحتياط ، ومن الواضح أنّه لا مجرى فيه للاستصحاب ولا للاحتياط ولا للبراءة ، وبعد عدم إمكان جريان أصالة التخيير فيه تبقى أصالة التخيير بلا مورد ، كما أنّه لو تمّ ما تقدّمت الاشارة إليه ويأتي البحث عنه في الأمر الثاني من كون المقام من قبيل الدوران بين التعيين والتخيير ، لكان ذلك موجباً لسقوط أصالة

٣٣٠

__________________

التخيير.

لا يقال : في الشبهة غير المحصورة لا تكون المخالفة القطعية مقدورة ، فينبغي أن لا يكون العقل حاكماً بجواز ارتكاب بعض أطرافها ، ولا إشكال في حكمه في ذلك بالتخيير وجواز ارتكاب البعض.

لأنّا نقول : مرادنا من التخيير العقلي الذي منعناه عند عدم التمكّن من المخالفة القطعية هو إلزام العقل بأحد الأطراف تخييراً ، لا التخيير في أحدها بين الفعل والترك الذي هو الاباحة. والحاصل : أنّ العقل عند عدم التمكّن من الموافقة القطعية مع فرض التمكّن من المخالفة القطعية ، يكون حاكماً بلزوم بعض الأطراف فراراً من المخالفة القطعية ، وهذا هو التخيير العقلي الذي قلنا إنّه لا يتأتّى في صورة عدم التمكّن من المخالفة القطعية ، ومن الواضح أنّ العقل لا يلزم بأحد الأطراف في الشبهة غير المحصورة. نعم هو يحكم بالتخيير فيها بين الفعل والترك ، وهذا هو عبارة أُخرى عن الإباحة.

وأمّا بقية الوظائف من قاعدة الحل والبراءة العقلية والشرعية والاستصحاب ، فقد تعرّض لها شيخنا قدس‌سره فيما سيأتي ، فراجع هذا التحرير وتحرير السيّد ، فلعلّ بيانه أوفى لكونه من الدورة المتأخّرة عن هذا التحرير.

ومن جملة ذلك ما حرّره [ في أجود التقريرات ٣ : ٤٠٠ ] بقوله : الثانية أنّ المراد من الأصل المدّعى عدم جريانه في المقام هو الأصل الجاري في كلّ من الطرفين ، أو الأصل الجاري في نفس الجامع المعلوم كأصالة الاباحة ، وأمّا الأصل الجاري في أحد الطرفين فقط من دون أن يكون معارضاً بجريانه في الطرف الآخر ، كما إذا كان المردّد بين الوجوب أو الحرمة مسبوقاً بالوجوب مثلاً ، فلا ريب في جريانه وانحلال العلم الاجمالي به ، وخروج مورده عن دوران الأمر بين المحذورين ، انتهى.

ومن هذا القبيل ما لو احتمل عروض الارتداد الفطري على المسلم ، فإنّه يوجب

٣٣١

__________________

وجوب قتله بعد أن كان محرّم القتل ، لكن استصحاب الحرمة جارٍ ، وفي قباله أصالة البراءة من الوجوب ، فينحلّ العلم بجريان الأصل المثبت في أحد طرفيه والنافي في الآخر.

ومثاله في الاحتياط ما لو علم بارتداد زيد فطرياً ، ولكن تردّد في هذا الشخص الحاضر هل هو زيد المذكور أو غيره ، فإنّ أصالة الحرمة في النفوس توجب لزوم ترك قتله احتياطاً ، وإجراء أصالة البراءة من احتمال وجوبه. وهكذا لو كان قد ترك وطء زوجته لمدّة تزيد على أربعة أشهر فوجب عليه ذلك ، وحضرت عنده امرأة مردّدة بين كونها هي زوجته أو أجنبية ، فإنّه يحتاط بالترك ويجري البراءة في الوجوب ، إن لم نرجع ذلك إلى المثال الأوّل أعني الاستصحاب في أحد الطرفين ، بدعوى أنّ الأصل عدم طروّ الارتداد على هذا الشخص الحاضر ، والأصل عدم طروّ الزوجية على هذه المرأة الحاضرة.

ويمكن أن يقال : إنّه عند جريان الاستصحاب في أحد الطرفين تخرج المسألة عن الدوران بين المحذورين ، ويكون الطرف الآخر منتفياً بنفس جريان الاستصحاب المذكور من دون حاجة إلى البراءة. نعم لو كان الجاري في أحدهما هو الاحتياط كان الطرف الآخر محتاجاً إلى البراءة.

ومن ذلك يظهر لك أنّه يمكن للشارع أن يجعل الاحتياط في أحد الطرفين معيّناً ، بأن يقول عند الدوران بين المحذورين يجب الاحتياط بالترك ، ولو من جهة أنّ دفع المفسدة عنده أولى من جلب المصلحة. نعم لا دليل على هذا الاحتياط الشرعي ، لكنّا نقول إنّه لو احتمل المكلّف هذا الوجوب الشرعي الاحتياطي الذي هو في جانب الترك فقط ، أمكنه إجراء أصالة البراءة فيه ، لكنّه يبقى على حاله من التخيير الطبعي ، وأمكنه الاحتياط الاستحبابي في ذلك بالتزام الترك ، وكان العقل حاكماً بحسن هذا الاحتياط ولو لأجل احتمال أنّ الشارع أوجبه ، لكن ذلك خارج عمّا تقدّم من عدم

٣٣٢

__________________

معقولية الاحتياط ، لأنّ ذلك هو الاحتياط في الطرفين وهو غير مقدور ، وهذا احتياط في أحدهما وهو الترك وهو مقدور ومعقول.

ومن ذلك يظهر لك إمكان الحكم شرعاً أو عقلاً بالتخيير في قبال ذلك الاحتمال ـ أعني احتمال تعيّن الترك شرعاً أو عقلاً ، احتياطاً من المفسدة وأنّ دفعها أولى من جلب المصلحة ـ بأن يحكم الشارع أو العقل بالتخيير بين الطرفين ، في قبال احتمال تعيّن الالتزام بالترك فراراً من الوقوع في المفسدة. لكنّه أيضاً غير ذلك التخيير السابق الذي كان لمجرّد التردّد بين لزوم الترك ولزوم الفعل ، الذي هو عبارة عن كونه طبعياً لا عقلياً ، فتأمّل.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ هذا التخيير الشرعي أو العقلي ليس في الحقيقة حكماً بالتخيير ، بل هو عبارة عن حكم الشرع أو العقل بعدم لزوم الاحتياط في ناحية الترك الناشئ عن ملاك كون دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة ، فليس هو في الحقيقة إلاّطرد ذلك الاحتمال ونفيه ، لا أنّه حكم بالتخيير ، وبعد طرد ذلك الاحتمال يبقى المكلّف وما يقتضيه طبعه.

وعلى كلّ حال ، أنّ هذا الأصل ـ أعني التخيير الشرعي ـ لا دليل عليه لو سلّمنا إمكانه. لكن يشكل الأمر في البراءة الشرعية في كلّ من الطرفين ، فإنّا إذا فتحنا باب إمكان جعل الاحتياط الشرعي في أحدهما ، إمّا في جانب الترك فلاحتمال أنّ الشارع رجّح دفع المفسدة المحتملة على جلب المصلحة المحتملة ، وإمّا في جانب الفعل

فلاحتمال أنّ الشارع رجّح جلب المصلحة المحتملة على دفع المفسدة المحتملة ، فإنّا وإن قطعنا بأنّه لم يجعل الاحتياط في كلّ منهما ولم يجمع بين الاحتياطين ، إلاّ أنّا نحتمل جعله في أحدهما المعيّن فقط ، بأن نحتمل أنّ الشارع جعل الاحتياط في جانب الترك فقط دون جانب الفعل ، كما أنّا نحتمل أنّه جعل الاحتياط في جانب الفعل فقط دون جانب الترك ، وحينئذ يكون لنا إجراء البراءة الشرعية في الترك في قبال

٣٣٣

__________________

احتمال جعل الاحتياط فيه فقط ، كما أنّ لنا إجراء البراءة في الفعل في قبال احتمال جعل الاحتياط فيه فقط.

والظاهر أنّه لا مانع من الجمع بين البراءتين ، إذ لا يلزم منه مخالفة عملية ، كما أنّه لا يلزم منه مخالفة وجوب الالتزام بالأحكام ، إذ لا تكون البراءة في كلّ من الطرفين مانعة من الالتزام بالحكم الواقعي في المقام على ما هو عليه.

ومن ذلك يظهر إمكان إجراء البراءة العقلية في كلّ من الطرفين ، لأنّ كلاً منهما يحتمل العقاب فيه باحتمال جعل الاحتياط فيه بخصوصه. كما أنّ منه يظهر لك أنّه لا مانع من إجراء البراءة شرعيّها وعقليّها من ناحية أنّه لا يترتّب أثر عملي على إجرائها ، لما عرفت من ترتّب الأثر العملي على إجرائها في جانب الترك ، لكونها موجبة لعدم لزوم الجري على طبقه احتياطاً ، وترتّب الأثر أيضاً على إجرائها في جانب الفعل ، لكونها موجبة لعدم لزوم الجري العملي على طبقه احتياطاً.

ومنه يظهر لك أنّه لا مانع منها من ناحية عدم إمكان الاحتياط الشرعي ، لما عرفت من إمكانه في كلّ واحد من الطرفين وإن كان غير معقول في مجموع الطرفين ، كما أنّا نقطع بأنّه لم يجعل الاحتياط في كلّ منهما على وجه الجمع بين الاحتياطين ، فإنّ ذلك لا ينافي احتمال جعل الاحتياط في الترك فقط دون الفعل وفي الفعل فقط دون الترك ، وهذا الاحتمال كافٍ في فتح باب البراءة الشرعية والعقلية في كلّ منهما.

نعم ، لو أُريد إجراؤها في نفس القدر الجامع بين الحكمين ، أعني الحكم الالزامي الأعمّ من الوجوب والحرمة ، توجّه عليها الإشكال المزبور وهو عدم الأثر العملي ، وكونها مصادمة لما هو المعلوم أعني ذلك القدر الجامع ، وكان حالها في ذلك حال إجراء أصالة الإباحة ، كما يتوجّه عليها أيضاً عدم معقولية الاحتياط بالنسبة إلى المجموع.

ومنه يظهر لك التأمّل فيما أُفيد عن شيخنا قدس‌سره في تحرير السيّد سلّمه الله وذلك قوله :

٣٣٤

__________________

وأمّا الأصل الشرعي الغير التنزيلي المتوهّم جريانه فينحصر بأصالة البراءة عن الوجوب والحرمة ، وهو مضافاً إلى عدم ترتّب أثر عملي عليه لا يمكن جريانه ، لأنّ مفاده هو رفع التكليف في مورد يمكن فيه الوضع بإيجاب الاحتياط ، وحيث إنّه في المقام غير معقول لعدم إمكان الاحتياط ، فيكون رفعه أيضاً كذلك ـ إلى قوله ـ مضافاً إلى عدم ترتّب أثر عملي عليها ، فراجعه [ في أجود التقريرات ٣ : ٤٠١ ] ، وراجع ما أُفيد في هذا التحرير أعني قوله : وأمّا أصالة البراءة ـ إلى قوله ـ نعم في البين جهة أُخرى توجب المنع عن جريان البراءة ـ إلى قوله ـ فأدلّة البراءة الشرعية لا تعمّ المقام أيضاً ، فتأمّل جيّداً [ فوائد الأُصول ٣ : ٤٤٧ ـ ٤٤٨ ].

لا يقال : إذا فتحنا باب احتمال الاحتياط في كلّ من الطرفين ، تكون النتيجة أنّه يلزمنا الاحتياط إمّا في الفعل وإمّا في الترك ، فلا تزيد المسألة بذلك على أصلها الذي هو الدوران بين المحذورين.

لأنّا نقول : إنّ فتح باب احتمال الاحتياط في كلّ من الطرفين لا تكون نتيجته هي لزوم الاحتياط في أحدهما ، لأنّ ذلك إنّما يلزمنا إذا حصل العلم الاجمالي بلزوم الاحتياط في أحدهما ، وليس الأمر كذلك ، بل أقصى ما ذكرناه هو احتمال الاحتياط في الترك دون الفعل ، واحتماله في الفعل دون الترك ، منضمّاً ذلك إلى احتمال عدم الاحتياط في كلّ منهما ، وحينئذ تكون الاحتمالات ثلاثة : لزوم الاحتياط في الترك دون الفعل ، ولزوم الاحتياط في الفعل دون الترك ، وعدم لزومه في كلّ منهما ، وحينئذ يكون حال هذه المسألة من ناحية احتمال الاحتياطين فيهما في قبال احتمال عدمهما ، حال ما لو احتملنا وجوب الفعل الفلاني وحرمته وإباحته ، ولا ريب في أنّ ذلك تجري البراءة فيه بالنسبة إلى احتمال الوجوب واحتمال الحرمة ، وتكون النتيجة حينئذ هي عدم لزوم الاحتياط في كلّ من الفعل والترك. وفيما نحن فيه أيضاً تجري البراءة في احتمال الاحتياط في الترك وفي احتمال الاحتياط في الفعل ، وتكون النتيجة هي البراءة من كلّ

٣٣٥

__________________

من الاحتياطين ، وأنّه ليس ملزماً شرعاً بكلّ منهما.

لا يقال : إنّه حينئذ يبقى على حاله من التخيير الطبعي.

قلنا : نعم ، لكن لابدّ من إجراء البراءة في كلّ من الاحتمالين ، كما أنّ الأمر كذلك في المثال المذكور ، فإنّه بعد إجراء البراءتين يكون الحاصل هو التخيير الطبعي لا الحكم بالاباحة ، فإنّ البراءة لا تثبت الاباحة.

وبالجملة : أنّ احتمال تنجّز التحريم باحتمال لزوم الاحتياط فيه شرعاً لابدّ من رفعه بالبراءة ، وكذلك احتمال تنجّز الوجوب باحتمال لزوم الاحتياط فيه شرعاً لابدّ من رفعه بالبراءة ، وليس احتمال تنجّز التحريم أو تنجّز الوجوب فيما نحن فيه بواسطة احتمال جعل الاحتياط فيه في الحاجة إلى نفيه بالبراءة ، إلاّكاحتمال تنجّز التحريم في الشبهة البدوية فيما لو احتملنا حرمة شرب التتن ، أو احتمال تنجّز الوجوب فيما لو احتملنا وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، غير أنّه في الشبهة البدوية يكون احتمال تنجّز التكليف في قبال عدمه الذي هو الاباحة ، وفيما نحن فيه يكون احتمال تنجّز التحريم مثلاً في قبال احتمال كون الحكم هو الوجوب ، واحتمال تنجّز الوجوب في قبال احتمال كون الحكم هو التحريم.

وبالجملة : أنّ ملاك جريان البراءة في التكليف المحتمل هو إمكان جعل الاحتياط في ذلك التكليف المحتمل ، وهذا الملاك موجود فيما نحن فيه بالنسبة إلى احتمال التحريم فقط دون الوجوب ، وبالنسبة إلى احتمال الوجوب فقط دون التحريم ، فتكون البراءة جارية في كلّ من الاحتمالين.

والخلاصة : أنّ هذا التخيير الذي سمّيناه طبعياً لا يتأتّى إلاّبعد نفي الاحتمال [ الأوّل ] ونفي الاحتمال الثاني بالبراءة ، وما لم تجر البراءة في نفي احتمال جعل الاحتياط في طرف التحريم يكون اللازم على المكلّف هو الالتزام بالترك ، وما لم تجر البراءة في نفي احتمال جعل الاحتياط في طرف الوجوب يكون اللازم على المكلّف هو الالتزام

٣٣٦

__________________

بالفعل ، ولا مؤمّن من هذين الاحتمالين إلاّ البراءة ، فاللازم هو إجراؤها تخلّصاً من احتمال لزوم الالتزام بالترك واحتمال لزوم الالتزام بالفعل.

هذا ما خطر في النظر القاصر ، ولكنّه توهّم صرف منشؤه ما ذكروه في المثال السابق ، وهو دوران الأمر في الفعل الواحد بين الوجوب والتحريم والاباحة ، من كون المرجع فيه هو أصالة البراءة ، مع أنّه مثل ما نحن فيه من دوران الأمر بين المحذورين ، في عدم التمكّن من كلّ من الموافقة القطعية والمخالفة القطعية ، وأنّه لا مندوحة فيه من أحد الأمرين الفعل والترك ، وحينئذ يتوجّه فيما نحن فيه ما عرفته سابقاً من أنّ احتمال أحد الاحتياطين فيه ولو كان مقروناً باحتمال عدم الاحتياط في كلّ منهما ، إلاّ أنّه لو لم تجر البراءة في كلّ من الاحتياطين لا محيص له إلاّ الفعل أو الترك كحاله بعد إجرائها ، فلا يترتّب على هذه البراءة أثر عملي ، ويكون حاله حال أصل المسألة.

والذي ينبغي أن يقال في المثال : هو عدم إمكان إجراء البراءة فيه ، إذ لا يترتّب على إجرائها أثر عملي ، فإنّ حال المكلّف قبل إجرائها كحاله بعد إجرائها لا مندوحة له إلاّ الفعل أو الترك من التخيير الطبعي.

لكن الذي يظهر منهم هو الرجوع إلى البراءة في هذا المثال ، فراجع ما ذكروه في شرح عبارة الشيخ قدس‌سره [ في فرائد الأُصول ١ : ٢٥ ـ ٢٦ ] في بيان وجه الحصر في الأُصول الأربعة ، من أنّ الشكّ الذي لم يلحظ فيه الحالة السابقة إمّا أن يمكن فيه الاحتياط وإمّا أن لا يمكن ، وأنّ الثاني هو مجرى التخيير. والأوّل إمّا أن يكون من قبيل الشكّ في التكليف ، وإمّا أن يكون من قبيل الشكّ في المكلّف به ، وأنّ الأوّل مجرى البراءة والثاني مجرى الاحتياط. وهذه العبارة موجودة في بعض النسخ في أوائل القطع ، وهي التي أثبتها الشيخ في أوائل البراءة [ من فرائد الأُصول ٢ : ١٣ ـ ١٤ ] ، فأوردوا عليه بأنّ لازمها هو كون المرجع في المثال وهو دوران الأمر في الفعل الواحد بين الوجوب والتحريم والاباحة هو التخيير ، لأنّه لا يمكن فيه الاحتياط مع أنّ المرجع فيه

٣٣٧

__________________

هو البراءة لا التخيير.

قال الآشتياني قدس‌سره في أوائل القطع : فإنّ في دوران الأمر بين الوجوب والتحريم وبين غيرهما من الأحكام الغير الالزامية كالاباحة مثلاً يرجع إلى البراءة اتّفاقاً دون التخيير ، مع أنّ مقتضى ما أفاده الرجوع إلى التخيير لا البراءة ، فينتقض الطرد من أحدهما والعكس من الآخر [ بحر الفوائد ١ : ٤ ]. ثمّ إنّه أجاب عن النقض بالحيثية واستشكل فيه فراجعه ، وراجع ما أفاده العلاّمة الخراساني [ في حاشية كتاب فرائد الأُصول : ٣ ] والعلاّمة الهمداني [ في حاشية فرائد الأُصول ٢٤ : ٢٥ ] في الجواب عن هذا النقض ، بأنّه يمكن الاحتياط في المثال في الجملة ، ولو بالالتزام بأحد الأمرين من الفعل أو الترك.

وذكر الآشتياني في أوائل البراءة نظير ما ذكره في أوائل القطع ، عند تعرّضه لهذا

المثال ، وأنّه من مصاديق ما لا يمكن الاحتياط فيه ، فقال : مع اتّفاقهم فيه على الرجوع إلى البراءة كما ستقف على تفصيل القول فيه [ بحر الفوائد ٢ : ٨ ].

وقال في أواخر مسألة الدوران بين المحذورين في تعليقه على قول المصنّف قدس‌سره : وأمّا دوران الأمر بين ما عدا الوجوب والحرمة [ فرائد الأُصول ٢ : ١٩٤ ] ، ما هذا لفظه : نعم قد بقي من صور الدوران ما لم يتعرّض له في الكتاب ، وهو دوران الأمر بين الحكمين الالزاميين وغيرهما من الأحكام الثلاثة الباقية بأقسامه وصوره المتصوّرة ، وإن كان يستفاد حكمه ممّا أفاده في حكم دوران الأمر بين الوجوب وغير التحريم وعكسه ، فإنّ مرجع الدوران في الفرض حقيقة إلى الالزام وغيره ، فيرجع إلى البراءة في نفي الالزام وتجويز كلّ من الفعل والترك ، والوجه في عدم تعرّضه له هو ظهور حكمه ممّا ذكره في القسمين ، وقد ذكرنا بعض الكلام فيه عند الكلام في حصر الأُصول في الأربعة فراجع [ بحر الفوائد ٢ : ٨٦ ].

وراجع ما أفاده شيخنا قدس‌سره في تحرير السيّد في أوائل القطع وفي أوائل البراءة [ من

٣٣٨

__________________

أجود التقريرات ٣ : ١٠ ، ٢٨٣ ] في بيان ضابط موارد الأُصول من أنّه ما لم يلاحظ فيه الحالة السابقة إمّا أن يكون جنس الالزام فيه معلوماً أو لا ، وأنّ الأوّل إمّا أن يمكن [ فيه ] الاحتياط أو لا. فجعل مجرى التخيير منحصراً بما علم فيه جنس الالزام ولم يكن الاحتياط فيه ممكناً ، وجعل مجرى البراءة هو ما لم يكن جنس الالزام فيه معلوماً ، وحينئذ يكون مثال الدوران بين الوجوب والحرمة والاباحة خارجاً عن موارد التخيير وداخلاً في موارد البراءة ، لأنّ جنس الالزام فيه ليس بمعلوم.

قوله : وأنت خبير بما فيه ، فإنّ ما تقدّم من اقتضاء الأصل التعيينية عند الشكّ في التعيين والتخيير ـ إلى قوله ـ وأين هذا ممّا نحن فيه ، فإنّ التخيير في دوران الأمر بين المحذورين ليس لاقتضاء الخطاب ذلك ، بل إنّما هو من التخيير العقلي التكويني كما تقدّم ... الخ [ فوائد الأُصول ٣ : ٤٥٠ ].

نعم ، يمكن أن يدّعى أنّ ما نحن فيه من قبيل التزاحم بين الاحتياطين ، فيكون احتمال الرجحان في أحدهما المعيّن من قبيل الدوران بين التعيين والتخيير ، وذلك بما عرفت من احتمال الاحتياط الشرعي في جانب الترك دون الفعل ، وفي جانب الفعل دون الترك ، منضمّين إلى احتمال عدم الاحتياط في كلّ منهما ، وبعد عدم إمكان جريان البراءة في كلّ من الاحتياطين وعدم إمكان الجمع بين الاحتياطين ، يكون العقل حاكماً بالتخيير بين الاحتياطين لوقوع التزاحم بينهما ، فإن احتمل أهميّة الاحتياط في جانب الترك دون الفعل كان من دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، وبناءً على أصالة التعيين يكون الاحتياط فيه مقدّماً على الاحتياط في جانب الفعل ، فتأمّل جيّداً ، لإمكان القول بأنّ الاحتياطين المحتملين بعد عدم إمكان موافقتهما القطعية بالجمع بينهما ، وعدم إمكان مخالفتهما القطعية بتركهما معاً ، يحصل القطع بعدم الأثر لكلّ منهما ، فلا يكون احتماله مؤثّراً في هذا الطرف لمزاحمته فيه في الطرف الآخر وبالعكس ، وبعد حصول القطع المذكور لا يكون المقام من التزاحم بين الاحتياطين ، بل نبقى نحن

٣٣٩

__________________

وأصل المسألة وهو التخيير التكويني ، فلا يكون احتمال أهميّة أحدهما المعيّن على الآخر مؤثّراً ، فتأمّل.

ثمّ إنّك قد عرفت فيما تقدّم أنّ التخيير العقلي تارةً يكون لأجل التزاحم بين التكليفين المعلومين مثل إنقاذ الغريقين ، وهذا يكون الترجيح فيه بأهمية أحدهما ، وحينئذ يكون احتمال أهمية أحدهما المعيّن من قبيل دوران الأمر بين التعيين والتخيير. وأُخرى يكون لأجل العلم الاجمالي بأحد الأمرين مع فرض عدم إمكان الاحتياط وعدم التمكّن من الموافقة القطعية مع فرض التمكّن من المخالفة القطعية ، كما في غريقين أحدهما مسلم يجب إنقاذه والآخر حيوان أو كافر يباح إنقاذه ، ولا يمكن الجمع بإنقاذهما جميعاً ، والتخيير في هذه الصورة يكون من قبيل لزوم تبعيض الاحتياط بإنقاذ أحدهما ، لكون المفروض عدم إمكان الاحتياط التامّ بإنقاذهما. والترجيح في هذه لا يكون بالأهمية إذ لا مورد لها ، وإنّما يكون الترجيح بقوّة الاحتمال في أحدهما ، ولا مورد فيه لاحتمال الأهمية ، فلا يتصوّر فيه الدوران بين التعيين والتخيير.

وقد عرفت فيما تقدّم أنّ التخيير فيما نحن فيه ليس من قبيل الأوّل ، وهو واضح ، كما أنّه ليس من قبيل الثاني ، لما عرفت من أنّ مرجع التخيير في الثاني إلى المنع من المخالفة القطعية ، وإلزام العقل بإنقاذ أحد هذين الجسمين فراراً من المخالفة القطعية ، وحيث إنّ ما نحن فيه لا يمكن فيه المخالفة القطعية ، فلا يتأتّى فيه التخيير المذكور ، فلا محصّل فيه للقول بالترجيح بالأهمية ولا للترجيح بقوّة الاحتمال ، هذا بالنسبة إلى نفس التكليف المعلوم المردّد بين الوجوب والتحريم.

نعم ، لو تمّ ما ذكرناه من كونه من قبيل التزاحم بين الاحتياطين ، أمكن الترجيح فيه بكلّ من الأهميّة وقوّة الاحتمال ، لأنّ أهميّة أحد التكليفين الذي هو التحريم مثلاً توجب ترجيح الاحتياط فيه على الاحتياط في الطرف الآخر الذي هو الوجوب ، كما

٣٤٠