أصول الفقه - ج ٧

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٧

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-72-0
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٩٢

الاتيان بالمظنون لا يكاد يحصّل الامتثال الظنّي مع ترك الاحتياط في المشكوكات والاقتصار على فعل المظنونات ، فإنّ المشكوكات مع المظنونات سيّان في كونهما من أطراف العلم الاجمالي ـ مجرّد تعلّق الظنّ بالتكاليف في جملة من الوقائع المشتبهة لا يلازم الظنّ بانحصار التكاليف في المظنونات ليحصل الامتثال الظنّي بالعمل بالمظنونات الخ (١) فلعلّه خلاف الفرض ، لأنّ المفروض هو كون المظنونات بمقدار المعلوم الاجمالي ، على وجه لو عمل بها المكلّف لا يبقى محذور في الرجوع إلى أصالة البراءة في البواقي ، ولا ريب حينئذ في أنّ العمل بها يوجب تحقّق الاطاعة الظنّية ، فيكون الظنّ بوجود التكاليف في تلك الوقائع ملازماً للظنّ بانحصار ما هو المعلوم بالاجمال فيها. نعم لو كانت المظنونات غير وافية بمقدار المعلوم بالاجمال لكان الظنّ بوجود التكليف في تلك الموارد غير ملازم للظنّ بالانحصار فيها ، بل كان مقروناً بالعلم بعدم الانحصار ، فتأمّل.

ولست أقول إنّ الظنّ حجّة عقلية في حال الانسداد كالقطع في حال الانفتاح ، بل أقول إنّه من تبعيض الاحتياط كما أفاده قدس‌سره ، لكنّي أقول إنّ الظنّ في تلك الموارد ـ أعني مسألة القبلة ومسألة الفوائت ـ أيضاً من باب تبعيض الاحتياط ، ولكنّهما معاً من باب كون الاطاعة الظنّية مقدّمة على الاطاعة الاحتمالية ، وإن كان كلّ من المسألتين وما نحن فيه من باب تبعيض الاحتياط ، فإنّ كون الأخذ بالمظنونات فيما نحن فيه وفي ذينك البابين من باب ترجيح الاطاعة الظنّية على غيرها في مقام المزاحمة ، لا ينافي كون ذلك من باب تبعيض الاحتياط ، فإنّ الجميع من باب التبعيض ، ولكن العقل يرجّح الظنّ على غيره في مقام تعيّن التبعيض ، فلاحظ وتأمّل.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢٧٨.

٢١

ثمّ إنّك قد عرفت أنّ أساس القول بالكشف وقوامه إنّما هو الإجماع على عدم صحّة الاحتياط ، وأنّ الشارع لا يريد امتثال أحكامه بطريق الاحتمال ، ولكن الاعتماد على هذا الإجماع المنقول مشكل مع الاعتراف بأنّه لم يوجد في كلمات القوم ، وإنّما استفيد من مذاقهم في الفقه ، فإنّه لقائل أن يقول : إنّه لا يزيد على نسبة الإجماع إليهم في الحكم لإجماعهم على القاعدة التي تقتضيه ، أو إجماعهم على حجّية خبر العادل مع فرض وجود الخبر الدالّ على ذلك الحكم.

وإن شئت فقل : إنّ نسبة الإجماع إليهم على بطلان الاحتياط مع الاعتراف بكونه غير موجود في كلماتهم وأنّه يعرف ذلك من مذاقهم ، لا تزيد على دعوى القطع بالحكم المذكور ، فلا يمكن أن يجعل دليلاً على المسألة بحيث يكون ملزماً للخصم ، غايته أنّه يكون حجّة على القاطع بذلك. مع أنّا لو سلّمنا وجود مثل هذا الإجماع في كلماتهم لكان من المحتمل قويّاً أنّه مختصّ بصورة التمكّن من تحصيل العلم بالأحكام الواقعية أو ما يقوم مقامه ، أمّا مع فرض الانسداد كما هو محلّ الكلام فهو ممنوع أشدّ المنع ، إذ لا وجه للحكم بعدم صحّة الاحتياط في هذه المرحلة أعني مرحلة الانسداد ، بل يمكن بحسب القاعدة المنع من بطلانه حتّى في صورة الانفتاح ، فإنّ من صار بناؤه على أن يمتثل كلّ ما يحتمل أنّه يريده المولى ، لا وجه للحكم ببطلان عمله إلاّبدليل قوي ، إذ لا يعدّه العقل مقصّراً في حقّ مولاه ، إلاّفي باب العبادات لشبهة نيّة الوجه ونحوها ممّا حقّق في محلّه (١) عدم اعتباره حتّى في العبادات ، فضلاً عن باقي الأحكام الوضعية والتحريمية والواجبات التوصّلية ، هذا إذا كان مرجع الإجماع على بطلان الاحتياط إلى

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٦٦ ـ ٦٧ ، وحواشي المصنّف قدس‌سره على ذلك البحث تقدّمت في المجلّد السادس من هذا الكتاب ص ١٦٥ وما بعدها.

٢٢

الإجماع على بطلان العمل الاحتياطي ، وإن كان مرجعه إلى الحرمة التكليفية فالأمر فيه أغرب.

وبالجملة : كلامنا على فرض الانسداد وعدم وجود العلم والعلمي ، وهذا الإجماع المنقول من أضعف الأدلّة حتّى على القول بالانفتاح ، إلاّ أنّ يدّعى القطع بمقتضاه ، وحينئذ تخرج المسألة عن الاستدلال إلى دعوى القطع ، وهو لا يكون حجّة إلاّعلى القاطع. نعم هناك أمر نقطع به ، وهو أنّ الشارع بعد جعله الأحكام لم يوكلنا إلى الاحتياط ، بل لابدّ أنّه قد جعل لنا طرقاً إليها إمضاء أو تأسيساً ، إلاّ أنّ ذلك لا دخل له بما نحن فيه ، من دعوى بطلان الاحتياط على تقدير انسداد باب العلم بالأحكام وبالطرق الموصلة إليها.

ومن ذلك يظهر لك الخدشة في دعوى الإجماع على جواز الرجوع إلى البراءة في المشكوكات والموهومات الذي استنتج منه قدس‌سره انحلال العلم الاجمالي بالتكاليف ، وأنّ الانحلال لا يكون إلاّمن جهة الظنّ ، كما يظهر ذلك من مباحثه مع الشيخ قدس‌سره بقوله : ثانيهما قيام الإجماع على اعتبار الأُصول النافية في المشكوكات الخ (١) فإنّ هذا الإجماع قابل للمنع ، إذ ليس في كلماتهم ما يظهر منه الإجماع المذكور ، وكفاك شاهداً على ذلك قول الأخباريين بالاحتياط في كثير من الشبهات ، ولو سلّم الإجماع المذكور فإنّما هو عند الانفتاح دون الانسداد.

وبالجملة : أنّ النفس لا تركن إلى دعوى هذه الإجماعات في قبال العلم الاجمالي القطعي الذي يوجب حكم العقل قطعياً بوجوب الاحتياط في أطرافه ، ولا يقف في قبال هذا العلم الاجمالي في اقتضائه الاحتياط في تمام الأطراف إلاّ مسألة اختلال النظام أو العسر والحرج.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢٧٢.

٢٣

ومن ذلك كلّه يتّضح لك الخدشة في النحو الأوّل من دعوى الإجماع ، أعني دعوى الإجماع على عدم وجوب الاحتياط التامّ في جميع الأطراف ، فإنّه مضافاً إلى ما عرفت من الاعتراف بأنّه لم يوجد في كلمات القوم وإنّما يستفاد ذلك الحكم أعني عدم وجوب الاحتياط التامّ من مذاقهم ، ومضافاً أيضاً إلى أنّه على تقدير وجوده في كلماتهم فمن المحتمل أن يكون نظرهم إلى حال الانفتاح ، من الممكن أن يكون نظرهم في الحكم بعدم وجوب الاحتياط التامّ إلى ما ذكر من اختلال النظام أو لزوم العسر والحرج.

ومن ذلك يظهر لك إمكان الخدشة في دعوى الإجماع على عدم جواز الرجوع إلى الأُصول النافية ، فإنّ ذلك الحكم وإن كان مقطوعاً به أو فرضنا التصريح به في كلماتهم ، إلاّ أنّه من المحتمل قوياً أن يكون المستند فيه هو العلم الاجمالي الارتكازي الموجود في الأذهان ، ولو من جهة العلم بأنّا لسنا كالبهائم وأنّ لنا شريعة قد صدع بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبيّنها لنا أئمّتنا ( صلوات الله عليه وعليهم أجمعين ). ولو فرض أنّ أحداً منّا لا يقول بمنجّزية العلم الاجمالي ، لكان هذا المطلب ـ وهو المنع من الرجوع إلى الأُصول النافية عند الانسداد ـ من أقوى الايرادات عليه ، وإن أمكنه الجواب عنه بالفرق بين المقامين بالاعتماد على الإجماع على [ عدم ] جواز الرجوع إلى البراءة المتحصّل من الإجماع على عدم جواز الإهمال ، بأن يقول إنّ الإجماع على عدم الرجوع إلى البراءة يكشف عن أنّ الشارع أوكل المكلّفين إلى ما تحكم به عقولهم من الاحتياط ولو بعد أن فهموا من ذلك الحكم المجمع عليه ، أعني عدم الترخيص الشرعي ، فإنّهم لو بقوا هم والعلم الاجمالي لقلت بأنّهم لا تحكم عقولهم بالاحتياط ، لكن بعد أن حكم الشارع بعدم الترخيص تكون عقولهم حاكمة بالاحتياط ومنجّزية الاحتمال عقلاً

٢٤

وسيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى ، وحينئذ يكون الاحتياط عقلياً لا شرعياً.

وبالجملة : أنّ دعوى كون الاحتياط شرعياً في المقام قابلة للمنع ، كما أنّ دعوى [ الإجماع على ] عدم وجوبه أو على عدم صحّته قابلة للمنع أيضاً ، فلم يبق عندنا إلاّ الاحتياط العقلي الناشئ عن العلم الاجمالي إمّا ابتداءً أو بعد دعوى الإجماع على عدم الترخيص ، كما أنّه ليس لنا في قبال هذا الاحتياط العقلي إلاّ مسألة اختلال النظام أو العسر والحرج ، بل سيأتي إن شاء الله تعالى (١) أنّه لا تصل النوبة إلى اختلال النظام ، فلا تكون النتيجة حينئذ إلاّلزوم تبعيض الاحتياط.

على أنّا لو سلّمنا الإجماع على بطلان الاحتياط أو على عدم وجوبه ، فأقصى ما فيه هو الكشف عن وجود حجّة شرعية قد جعلها الشارع حجّة لنا في هذا الحال ، وهي غير منحصرة في الاحتمال الظنّي والشكّي والوهمي حتّى يكون تعيّن الأوّل بقبح ترجيح المرجوح على الراجح ، فلِمَ لا نقول إنّ الحجّة المجعولة لنا في ذلك الحال هو الخبر الموثوق به ، ولو من باب الكشف عن أنّ الشارع قد أمضى الطريقة العقلائية في خصوص هذا الحال ، أعني حال الانسداد ، فتأمّل.

هذا ، مع الغض عن العلم الاجمالي بوجود ما هو الصادر فيها ممّا يكون بمقدار المعلوم بالاجمال ، فإنّ هذا العلم الاجمالي يوجب سقوط الاحتياط في العلم الاجمالي الكبير.

بل يمكن أن يقال : إنّ العلم الاجمالي في تلك الأخبار يوجب سقوط الإجماع المدّعى على حرمة الرجوع إلى الأُصول النافية أو حرمة المخالفة الكثيرة عن الصلاح للكاشفية عن جعل الاحتياط أو عن جعل مطلق الظنّ حجّة ، فإنّ هذا العلم الاجمالي في هذه الدائرة من الأخبار أو بضمّ باقي الأمارات إليها ، صالح لأن

__________________

(١) في الحاشية الآتية في الصفحة : ٣٤.

٢٥

يكون هو المستند في عدم جواز الرجوع إلى الأُصول النافية الكثيرة ، فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّه بناءً على ما ذكرناه لا يكون دليل الانسداد إلاّعبارة عن العلم الاجمالي بالتكاليف ، وأنّه ليس لنا طريق في الخروج عن العهدة إلاّ الاحتياط التامّ لكنّه لأجل اختلال النظام أو العسر والحرج وجب إسقاطه بمقدار ما يرتفع به المحذور المذكور ، وحينئذ يشكل الأمر في تعيين المظنونات دون غيرها ، فإنّ الابتلاء بتلك الموارد المحتمل وجود التكليف فيها تدريجي حتّى بالنسبة إلى الفقيه الذي شغله الاستنباط ، وعليه فيكون اللازم أوّلاً هو الأخذ بالاحتياط في كلّ مورد يبتلى به وإن كان احتمال التكليف فيه مشكوكاً أو موهوماً ، إلى أن يصل الاحتياط إلى حدّ يوجب المحذور السابق الذي أوّل درجاته هو لزوم الحرج ، فيترك الاحتياط حينئذ في الموارد التي يحصل له الابتلاء بها بعد ذلك وإن كان احتمال التكليف فيها مظنوناً ، وحينئذ لا تصل النوبة إلى كون الاحتياط مخلاًّ بالنظام.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الفقيه أوّل دخوله في الاستنباط يلتفت إلى جميع محتملات التكليف ولو على سبيل الإجمال ، ويلتفت أيضاً إلى أنّ الاحتياط في جميع تلك الموارد مشتمل على المحذور المذكور ، فإذا التفت مع ذلك إلى أنّ جملة من تلك الموارد مظنونة ولو بواسطة التفاته الاجمالي إلى ما في الكتب من الأخبار وباقي الأمارات ، وأنّ تلك الموارد ممّا يحصل له الظنّ بوجود التكليف فيها عند مراجعتها ، فهو من أوّل الأمر يحكم عقله بالاحتياط في خصوص تلك الموارد فتأمّل ، وسيأتي (١) ما يوضّح بعض هذه الجهات إن شاء الله تعالى (٢)

__________________

(١) في الحاشية الآتية في الصفحة : ٣٤.

(٢) يبتني دليل الانسداد على اجماعات منقولة متضاربة.

٢٦

__________________

١ ـ فإجماع على وجوب الاحتياط شرعاً وهو مأخوذ من :

٢ ـ الإجماع على عدم جواز الرجوع إلى الأُصول النافية.

٣ ـ إجماع على عدم صحّة الاحتياط.

٤ ـ إجماع على عدم وجوبه.

٥ ـ إجماع على الرجوع إلى أصالة البراءة يستكشف منه حجّية الظنّ.

والذي تلخّص من جميع ما حرّرناه : أنّ هذه الإجماعات الخمسة المتضاربة لا تعدو أن تكون مفيدة للظنّ ، فلا يصلح الاستناد إليها في الدليل العقلي المسوق لاثبات حجّية الظنّ المعبّر عنه بدليل الانسداد. وأمّا دعوى القطع بمقتضى هذه الإجماعات أو بعضها ، فلا يصحّ جعلها دليلاً ، بل لا تكون حجّة إلاّعلى القاطع. وبعد إسقاط ذلك كلّه لم يبق لنا إلاّما ذكرناه من العلم الاجمالي الموجب في حدّ نفسه للاحتياط في تمام الأطراف ، وليس في قباله إلاّ العسر والحرج المقتضي لتبعيض الاحتياط بالنحو الذي ذكرناه ، وذلك عبارة أُخرى عن كون المتعيّن بعد فرض الانسداد هو الصورة السادسة ، فلاحظ وتأمّل.

[ ثمّ إنّه قدس‌سره لخّص الصور الست بما يلي : ]

١ ـ لو كان الاحتياط شرعياً وقام الإجماع على عدم جوازه ، كانت النتيجة هي الكشف عن حجّية الظنّ شرعاً.

٢ ـ لو كان الاحتياط عقلياً وقام الإجماع على عدم جوازه ، كانت النتيجة هي الكشف عن حجّية الظنّ شرعاً.

٣ ـ لو كان الاحتياط شرعياً وقام الإجماع على عدم وجوبه ، ردّده شيخنا قدس‌سره بين الكشف والتبعيض.

٤ ـ لو كان الاحتياط عقلياً وقام الإجماع على عدم وجوبه ، تكون النتيجة هي التبعيض ، وسمّاها شيخنا قدس‌سره عقيمة.

٥ ـ لو كان الاحتياط شرعياً وفي قباله اختلال النظام أو العسر والحرج ، في اختلال النظام

٢٧

قوله : فلا يمكن عدم نصب الطريق مع الحكم بعدم جواز إهمال الوقائع المشتبهة ، ولا يصحّ إيكال الأمر إلى العقل ، فإنّ العقل لا حكم له في غير مورد العلم بالتكليف تفصيلاً أو إجمالاً ... الخ (١).

يمكن أن يقال : إنّ العقل بعد اطّلاعه على حكم الشارع بعدم جواز الإهمال الذي هو عبارة عن حكمه بعدم الترخيص ، وأنّ الشارع لم يتنازل عن أحكامه في هذا الحال ، يحكم بلزوم الاحتياط بمجرّد الاحتمال ، فيكون الاحتمال حينئذ منجّزاً بحكم العقل ، فيمكن إيكال الشارع الأمر إلى العقل بعد أن فرض الحكم الشرعي بعدم الترخيص. ومن ذلك يظهر لك التأمّل في قوله : ولا إشكال أنّهما يقتضيان عقلاً نصب الشارع طريقاً الخ.

قوله : فلابدّ أوّلاً من قطع النظر عن العلم الاجمالي ، وفرض كون جميع الوقائع من الشبهات البدوية ، أو فرض عدم كون العلم الاجمالي منجّزاً للتكليف كما هو رأي بعض ... الخ (٢).

كيف يمكن فرض كون جميع الوقائع من الشبهات البدوية ، مع العلم بأنّ الشارع لم يتنازل عن أحكامه ، ولم يرخّص في مخالفتها. نعم يمكن فرض كون

__________________

يسقط الاحتياط التامّ ويتبعّض ويحتمل الكشف ، وفي العسر والحرج يبقى الاحتياط وإن لزم العسر والحرج ، لكن في تحريرات السيّد سلّمه الله ردّد بين الاحتياط وإن لزم العسر وبين الكشف.

٦ ـ لو كان الاحتياط عقلياً وفي قباله اختلال النظام أو العسر والحرج ، تكون النتيجة هي التبعيض وهي محلّ النزاع مع الكفاية [ منه قدس‌سره ].

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢٣٩.

(٢) نفس المصدر.

٢٨

غضّ النظر عن العلم الاجمالي غير منجّز للتكليف بناءً على رأي ذلك البعض (١).

قوله : والطريق الواصل بنفسه في حال انسداد باب العلم والعلمي ليس هو إلاّ الاحتياط ... الخ (٢).

لا يستفاد من هذه الجمل في هذا المقام إلاّكون الاحتياط محرزاً بنفسه للواقع ، بمعنى أنّ العمل عليه ولو مع قطع النظر عن جعله شرعاً يكون محرزاً للواقع ، بخلاف الظنّ فإنّه بنفسه لا يكون العمل على طبقه محرزاً للواقع ما لم يجعله الشارع حجّة ، ولكن أين هذا ممّا هو المطلوب من الفرق بينهما بكون الاحتياط واصلاً بنفسه ، وكون الظنّ واصلاً بطريقه ، فإنّ كون الاحتياط موصلاً بنفسه للواقع بخلاف الظنّ ، غير ما هو المراد من كونه واصلاً بنفسه بخلاف الظنّ.

فالأولى في ترجيحه على الظنّ هو دعوى كونه أتمّ إحرازاً ، وأوصل إلى الواقع من الظنّ. أو يقال : بعد تسليم أنّ حكم الشارع بعدم الترخيص كاشف عن جعل طريق منجّز ، يدور الأمر في ذلك الطريق المنجّز بين الاحتياط والظنّ من دون ترجيح بينهما ، لكن حيث قام الدليل على عدم الاحتياط يكون المتعيّن [ هو الظنّ ].

ولكن التحقيق : أنّ جعل عدم الترخيص شرعاً لا يستكشف [ منه ] إلاّ أنّ الشارع يطالب في هذا الحال بأحكامه ، وأنّه لم يتنازل عنها ، وذلك موجب لتنجّزها بمجرّد الاحتمال ، وهو معنى الاحتياط العقلي ، فيكون هذا الاحتياط

__________________

(١) [ هكذا وردت العبارة في الأصل ، والظاهر أنّها من سهو القلم ، والمراد بها هو الشقّ الثاني المذكور في المتن أي : فرض عدم منجّزية العلم الاجمالي ، فلاحظ ].

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٢٤٠.

٢٩

الناشئ عن جعل عدم الترخيص بمنزلة الاحتياط الناشئ عن العلم الاجمالي ، فنحتاج إلى سدّ بابه بأحد الوجوه الآتية. وما أدري كيف يكون هذا الإجماع على عدم جواز الاهمال ـ أعني عدم الترخيص الشرعي ـ كاشفاً عن جعل الاحتياط شرعاً ، في حين دعوى الإجماع من الناحية الأُخرى على عدم جواز الاحتياط ، أو على عدم وجوبه. فالأولى أن يقال كما أشرنا إليه غير مرّة : إنّ الاحتياط لا يكون إلاّ عقلياً ، سواء كان دليل المقدّمة الثانية هو الإجماع أو لزوم الخروج أو العلم الاجمالي ، لكن هذا الاحتياط لا يمكن الالتزام به للأدلّة المتقدّمة (١).

والذي يحصل فعلاً للنظر القاصر قبل الدخول في المقدّمة الثالثة ، هو أنّ الكشف أو الحكومة لا يؤخذ من دليل المقدّمة الثانية ، أعني الإجماع والخروج من الدين أو العلم الاجمالي ، بل مأخذ هذين الوجهين أعني الكشف والحكومة ، هو أنّ الدليل على إبطال الاحتياط الآتي من ناحية حكم الشارع بالمنع من ترك التعرّض للأحكام ، أو من ناحية العلم الاجمالي ، هل هو دعوى أنّ الشارع لا يريد امتثال أحكامه بطريق الاحتمال والاحتياط ، فلابدّ حينئذ من القول بأنّه قد جعل الظنّ حجّة ، أو هو دعوى كونه موجباً للعسر والحرج ، فلابدّ من القول بالتبعيض والأخذ بالمظنونات من باب الاحتياط ، من دون فرق في ذلك الاحتياط المبعّض بين كونه بحكم الشرع ، كما هو مقتضى الدليلين الأوّلين لعدم جواز الاهمال ، أو كونه بحكم العقل كما هو مقتضى الدليل الثالث الذي هو العلم الاجمالي ، فلاحظ وانتظر ما يتحصّل في المقدّمة الثالثة إن شاء الله تعالى.

لا يقال : إذا كان الدليل على الاحتياط هو العلم الإجمالي ، لم يكن للشارع تصرّف في ذلك الاحتياط بالمنع عنه.

__________________

(١) في الحاشية السابقة في الصفحة : ١٥ وما بعدها.

٣٠

لأنّا نقول : ليس ذلك المنع من العمل بالاحتياط إلاّكناية عن لازمه ، الذي هو جعله لحجّية الظنّ الموجب لانحلال العلم الاجمالي ، فنحن نستكشف من حكمه بأنّي لا أُريد امتثال أوامري بطريق الاحتمال ، أنّه قد جعل لنا حجّة شرعية في المقام وهي الظنّ ، وذلك يوجب انحلال العلم الاجمالي كما يوجبه جعله لحجّية خبر الواحد.

ثمّ لا يخفى أنّ الإجماع على المنع من الاهمال ، وكذلك المنع من الخروج ليس ذلك إلاّمن قبيل حكومة العقل بالامتثال الذي هو عبارة عن لزوم الاطاعة وحرمة المعصية ، ومحصّل ذلك في المقام هو الاحتياط بحكم العقل ، وحينئذ يتأتّى التبعيض لأجل العسر والحرج ، والنتيجة هي الحكومة ، أو لأجل أنّ الشارع لا يريد الامتثال الاحتمالي ، الكاشف عن جعله الظنّ حجّة ، فتكون النتيجة هي الكشف. ولو سلّمنا كون ذلك الحكم بهذين الدليلين ـ أعني الإجماع وما بعده ـ حكماً شرعياً الذي هو عبارة عن وجوب الاحتياط ، لتأتت حينئذ طريقة الحكومة وطريقة الكشف ، أمّا الأُولى فبدعوى العسر والحرج وتبعيض ذلك الاحتياط الواجب شرعاً وحصره بالمظنونات. وأمّا الثاني فبدعوى أنّ الشارع لا يرضى بالاطاعة الاحتمالية ، ومع ذلك يمنعنا من الاهمال ، فذلك كاشف عن أنّه قد جعل لنا الظنّ حجّة شرعية.

قوله : وأمّا المقدّمة الثالثة ، وهي عدم جواز الرجوع إلى الطرق المقرّرة للجاهل ، فقد عرفت أنّها ثلاثة ، الأولى التقليد ... الخ (١).

لا يخفى أنّ الوظائف المقرّرة حتّى التقليد ، إن كانت من جملة ما انسدّ فيه باب العلم والعلمي ، كانت المقدّمة المذكورة ساقطة بالمرّة ، وإنّما يحسن الكلام

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢٣٤.

٣١

على هذه المقدّمة إذا تصوّرنا الانفتاح في تلك الوظائف ، وعلى هذا التقدير نقول إنّه لا ينبغي الإشكال في عدم جواز التقليد ، لما أفاده قدس‌سره.

أمّا الأُصول النافية من البراءة والاستصحابات النافية ، فعلى الظاهر أنّه لا ينبغي إدخالها في هذه المقدّمة ، بل هي داخلة في المقدّمة الثانية ، لأنّ أغلب موارد احتمال التكليف تكون مورداً للأُصول النافية ، فيلزم من الرجوع فيها إلى الأُصول النافية ما تقدّم في المقدّمة الثانية من كونه خلاف الإجماع ، أو كونه موجباً للمخالفة الكثيرة الموجبة للخروج من الدين ، أو المخالفة لما نعلمه من اهتمام الشارع بالأحكام ، أو كونه موجباً للمخالفة القطعية للعلم الاجمالي.

أمّا أصالة التخيير ، فلأجل انحصارها في موارد التردّد بين المحذورين وهي قليلة جدّاً ، فلا يكون الرجوع إليها في تلك الموارد مؤثّراً فيما نحن بصدده من دعوى الانفتاح أو دعوى الانسداد ، ولو سلّم كثرة تلك الموارد بحيث إنّه يعلم إجمالاً بمخالفة الكثير منها للواقع ، توجّه عليها ما توجّه على الرجوع إلى الأُصول النافية من محذور مخالفة الإجماع ، ولزوم الخروج من الدين ، ومنافاته لاهتمام الشارع بأحكامه ، ومخالفته للعلم الاجمالي.

وأمّا الأُصول المثبتة ، فإن كانت هي أصالة الحرمة في الدماء والأموال والفروج ، فلا مانع على الظاهر من الرجوع إليها ، إلاّ أنّها لا توجب انحلال العلم الاجمالي بثبوت التكاليف في غير الموارد المذكورة ، كما أنّه لا ينافيه العلم الاجمالي بعدم التكليف في جملة من تلك الموارد ، إذ ليست هي ـ أعني أصالة الحرمة في تلك الموارد ـ من قبيل الأُصول الاحرازية.

وأمّا أصالة الاشتغال في موارد الشكّ بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، ففيها أوّلاً : ما أفاده الأُستاذ قدس‌سره من أنّ المختار هو الرجوع في ذلك إلى البراءة الشرعية.

٣٢

وثانياً : أنّها لا تنفع في انحلال العلم الاجمالي ودفع محاذير المقدّمة الثانية ، لقلّة مواردها وانحصارها في طائفة خاصّة من محتملات التكاليف. فينحصر الكلام في هذه المقدّمة بالاستصحابات المثبتة للتكليف ، ولا إشكال في أنّها لا توجب انحلال العلم الاجمالي الكبير ، ولو ضممنا إليها المعلومات القطعية من الأحكام ، إذ لا يكون مجموع ما علم قطعياً من الأحكام وما جرت فيه الاستصحابات المثبتة بمقدار ذلك المعلوم الاجمالي الكبير.

وأمّا ما أشكل به شيخنا قدس‌سره (١) على هذه الاستصحابات من العلم الاجمالي في مؤدّاها على الخلاف ، فيمكن المناقشة فيه بمنع العلم الاجمالي بمخالفة بعض تلك الاستصحابات للواقع.

نعم ، في خصوص أصالة عدم ترتّب الأثر في باب المعاملات ربما أمكن أن يقال بأنّا لو جرينا على طبق هذا الأصل في جميع موارد الشكّ في صحّة المعاملة ، يحصل لنا القطع بعدم مصادفة جملة من موارد ذلك الأصل للواقع ، ولكن لو أسقطنا الأصل المذكور ماذا تكون النتيجة. نعم تكون النتيجة أشبه شيء بالدوران بين المحذورين بالنسبة إلى العوض والمعوّض ، فإنّ المعاملة إن كانت صحيحة كان التصرّف فيما انتقل عنه حراماً ، وإن كانت فاسدة كان التصرّف فيما انتقل إليه حراماً ، فيكون اللازم على كلّ من المتعاقدين هو اجتناب ما انتقل عنه وما انتقل إليه ، وهو محصّل أصالة الحرمة في الأموال ، ولعلّ ذلك موجب للعسر والحرج خصوصاً في مثل النكاح ، إلاّ إذا جدّد العقد بما هو القدر المتيقّن إن كان في البين قدر متيقّن.

وكيف كان ، فإنّ هذا الأصل وهو أصالة الحرمة في الأموال قد عرفت أنّه لا

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢٣٦.

٣٣

يوجب انحلال العلم الاجمالي ، ولا يرفع بقية محاذير المقدّمة الثانية ، كما أنّ البناء على أصالة عدم ترتّب الأثر لا يوجب العسر والحرج ، سيّما بعد أن كان لنا إطلاقات كتابية لم يقع لنا ريب في حجّية ظهورها تقلّل من موارد الشكّ في المعاملات ، فيقتصر على ما هو المتيقّن صحّته ولو بواسطة تلك المطلقات ، فما أُفيد في هذا التحرير (١) من أنّه قد يفضي إلى العسر والحرج لعلّه محتاج إلى التأمّل.

قوله : فلو اضطرّ المكلّف إلى الاقتحام في بعض أطراف العلم الاجمالي ، كان الاضطرار موجباً عقلاً للترخيص فيما يدفع به الاضطرار ، سواء كان الاضطرار من جهة لزوم الضرر أو العسر والحرج ، أو غير ذلك من الأسباب ، وسواء كان الاضطرار إلى البعض المعيّن أو غير المعيّن ... الخ (٢).

باب كون الحكم الشرعي المعلوم بالاجمال ضررياً ، أو كون المكلّف مضطرّاً إلى مخالفته باب ، وباب العسر والحرج في الجمع بين محتملات التكليف وأطراف العلم الاجمالي باب آخر ، فإنّ ذلك الباب لو كان فيه أحد الأطراف ضررياً أو كان مضطرّاً إليه كان موجباً لسقوط التكليف في ذلك المعيّن.

ويلحق به ما لو كان المضطرّ إليه غير معيّن ، بدعوى أنّ التكليف الواقعي لو كان منطبقاً على هذا الطرف المعيّن أو على هذا الطرف الذي اختاره المكلّف لسدّ اضطراره ، لكان ذلك التكليف الواقعي مرتفعاً عنه ، لصدق الاضطرار أو الضرر عليه حينئذ.

أمّا باب العسر والحرج الناشئ عن الجمع بين محتملات التكليف وأطراف العلم الاجمالي فلا تتأتّى فيه تلك الطريقة ، ولا ينطبق على ذلك الطرف الذي

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢٣٦.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٢٥١ ـ ٢٥٢.

٣٤

يختاره المكلّف أنّ التكليف لو كان فيه لكان ذلك موجباً للعسر والحرج ، إذ لا يكون ذلك التكليف الموجود فيه موجباً للعسر والحرج. نعم لو كانت الشبهات وجوبية وقد احتاط المكلّف بفعل كثير منها إلى حدّ يكون احتياطه في الباقي حرجياً عليه ، لقلنا يسقط الاحتياط في الباقي ، لأنّه لو كان فيه تكاليف وجوبية لكانت بنفسها حرجية بعد أن احتاط وفعل الكثير ممّا يحتمل وجوبه.

وهكذا الحال في التروك في الشبهات التحريمية التدريجية ، لو كان احتياطه في مقدار كثير منها قد وصل إلى حدّ لو ترك الباقي يقع في العسر والحرج ، بل لو علم تفصيلاً بوجوب الباقي في الصورة الأُولى أو بحرمته في الصورة الثانية لجاز له المخالفة فيه ، لكونه مورداً للحرج.

وهكذا الحال فيما لو كانت الشبهات مختلفة فبعضها وجوبية وبعضها تحريمية كما فيما نحن فيه ، فإنّ على المكلّف أن يحتاط في كلّ شبهة ترد عليه إلى أن يبلغ حدّ الحرج فيسقط الاحتياط حينئذ.

والأولى بل المتعيّن هو أن يعامل هذه الشبهات معاملة ما علم فيه التكليف تفصيلاً ، فأيّ شبهة ابتلي بها منها يلزمه الجري على طبق ما يحتمله من التكليف فيها إن لم يكن ذلك حرجياً ، فإذا اتّفق الحرج في الجري على بعضها ولو من جهة مسبوقيته بالاحتياط في غيرها ، سقط الاحتياط فيها ، ثمّ بعد هذا لو ابتلي بغيرها أو تكرّر له الابتلاء بنفس تلك الشبهة السابقة التي لم يحتط فيها ، واتّفق أن كان الاحتياط فيما تجدّد له منها أو من غيرها غير موجب للحرج ، كان عليه الاحتياط فيما تجدّد وإن مرّت عليه سابقاً ولم يكن قد احتاط فيها لكون الاحتياط فيما مرّ حرجياً ، وعلى هذا لا تصل النوبة إلى الاحتياط المخلّ بالنظام ، ولا إلى التبعيض بحسب الاحتمالات الظنّية والشكّية والوهمية.

٣٥

أمّا لو كانت الشبهات التحريمية دفعية ، كما في الأواني الكثيرة التي يكون اجتنابها جميعاً حرجياً ، ولابدّ له في دفع الحرج من ارتكاب البعض ، فإنّ أيّ بعض منها يرتكبه لا يكون التكليف الواقعي حرجياً لو كان فيها كي يسوغ له ارتكابه بدليل نفي الحرج.

إلاّ أن نقول : إنّه بعد أن كان تركها جميعاً حرجياً عليه ، كان مضطراً إلى ارتكاب بعضها ، لما سيأتي منه من قوله : بل العسر والحرج من أفراد الاضطرار ، فإنّه لا يعتبر في الاضطرار عدم القدرة التكوينية على الاحتياط الخ (١).

وكيف كان ، أنّ هذا الفرض الأخير خارج عمّا نحن فيه ، لما هو واضح من أنّ الابتلاء بالشبهات فيما نحن فيه لا يكون إلاّتدريجياً. مضافاً إلى إمكان [ جريان ] دليل نفي الحرج فيه أيضاً ، بأن نقول : إنّ منعه من ارتكاب هذا الذي اختاره لدفع الحرج حرجي ، فيكون ذلك المنع الواقعي لو كان موجوداً فيه حرجياً ، على حذو تطبيق دليل الاضطرار على ما يختاره المكلّف في صورة الاضطرار إلى غير المعيّن.

ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمّل فيما ذكره في الكفاية (٢) من عدم جريان دليل العسر والحرج في نفس الجمع ، أعني وجوب الاحتياط بحكم العقل ، لعدم كونه جارياً في الأحكام العقلية ، ولو أجريناه في الحكم الواقعي الذي لزم الحرج من الجمع بين محتملاته كان مقتضاه سقوط ذلك التكليف المعلوم بالاجمال ، وسقوط الاحتياط بالمرّة ، فلا وجه للتبعيض ، لما عرفت من إمكان جريانه فيما بقي بعد الوصول في الاحتياط إلى درجة العسر والحرج في الشبهات التدريجية

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢٥٧ ـ ٢٥٨.

(٢) كفاية الأُصول : ٣١٣.

٣٦

وفيما يختاره لرفع حرجه في الشبهات الدفعية ، من دون توقّف ذلك على إجرائه في نفس الجمع كي يقال إنّه ليس بحكم الشارع ، أو إجرائه في نفس التكليف الواقعي المعلوم بالاجمال ، كي يقال إنّه مع إجرائه فيه وسقوطه لا يبقى مجال للاحتياط أصلاً.

نعم ، الظاهر أنّه لا يرد عليه ما أفاده في هذا التحرير عن شيخنا قدس‌سره بقوله : وأمّا ما أفاده من المنع عن التبعيض في الاحتياط على تقدير تسليم الحكومة فلم يبيّن وجهه الخ (١) لما عرفت من وضوح الوجه في ذلك ، بناءً على إرجاع نفي الحرج إلى الحكم الواقعي الموجود في البين ، من جهة كونه موجباً للجمع بين تلك المحتملات الذي هو حرجي ، فليس منشأ سقوط الاحتياط على هذا الفرض هو ما احتمله شيخنا قدس‌سره من التلازم بين سقوط وجوب الموافقة القطعية وسقوط حرمة المخالفة القطعية ، ولا كون العلم الاجمالي مع الاضطرار إلى بعض الأطراف لا يقتضي التنجّز ، كما أُفيد بقوله في هذا المقام : ولعلّه مبني على ما اختاره الخ (٢) بل إنّ الوجه في سقوط الاحتياط بالمرّة هو ما عرفت من فرض كون مجرى نفي الحرج هو التكليف الواقعي الموجود في البين الذي لزم منه العسر والحرج بواسطة الجمع بين محتملاته ، ومن الواضح أنّ ذلك الحكم الواقعي لو ارتفع بنفي الحرج لا يبقى مجال لتبعيض الاحتياط.

وأمّا ما أفاده شيخنا قدس‌سره فيما حرّره عنه السيّد سلّمه الله بقوله : فما أفاده قدس‌سره ( يعني صاحب الكفاية ) من أنّ شمول أدلّة الحرج للمقام لا يكون إلاّبرفع الأحكام الواقعية المعلومة بالإجمال الناشئ من قبلها الحرج ، ولازم ذلك سقوط الاحتياط

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢٥٥.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٢٥٥.

٣٧

رأساً ، شعر بلا ضرورة ، بل لازم شمولها هو ارتفاع الأحكام بمقدار الحرج لا أزيد (١).

قلت : إنّ نفي الحرج بعد أن تسلّط على الحكم الواقعي كان مقتضاه هو رفعه من أصله ، ومعه لا مجال للاحتياط أصلاً ، ولا وجه لتبعيضه. ودعوى كون رفع الحرج مسلّطاً على نفي ذلك الحكم بمقدار الحرج لم يعلم وجهه ، فإنّ نفس الحكم الواقعي المفروض كونه حرجياً ولو بواسطة الجمع بين محتملاته ليس بذي مراتب ، كي نقول إنّه ارتفع منه المرتبة المقتضية للحرج وبقيت بقيّة مراتبه ولو أُريد من ذلك رفع اقتضائه للحرج لا رفعه بنفسه ، كان ذلك عبارة أُخرى عن إجراء نفي الحرج في حكم العقل بلزوم الاحتياط ، فإنّ هذا الحكم العقلي عبارة أُخرى عن كون الحكم الواقعي مقتضياً للحرج ، الذي هو الجمع بين محتملاته.

ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمّل فيما أُفيد في هذا التحرير في وجه التبعيض بقوله : وحاصله لزوم رعاية التكاليف بالمقدار الممكن عقلاً ، لأنّ الضرورات تتقدّر بقدرها الخ (٢) فإنّ ذلك إنّما يقال إذا كانت أدلّة الحرج متوجّهة إلى الحكم العقلي بلزوم الاحتياط ، والمفروض خلافه ، وإنّما توجّهت إلى الحكم الشرعي الواقعي الموجود فيما بين الأطراف ، فيكون المرتفع هو نفس ذلك الحكم الواقعي الشرعي ، ومع ارتفاعه لا يبقى مجال لوجوب الاحتياط في الباقي فتأمّل.

وأمّا ما أفاده شيخنا قدس‌سره في توجيه جريان نفي العسر والحرج في نفس الجمع بين المحتملات ، باعتبار كونه رعاية للأحكام الواقعية الشرعية وإن لم يكن هو بنفسه ـ أعني ذلك الجمع ـ واجباً شرعياً بل كان واجباً عقلياً ، إلاّ أنّه لمّا

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٢٣٥.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٢٥٦.

٣٨

كان برعاية الأحكام الشرعية ، كان ذلك مصحّحاً لجريان دليل الحرج فيه ، كما أفاده في مقام الايراد ثانياً على صاحب الكفاية قدس‌سره بقوله : وثانياً : أنّه يمكن أن تكون أدلّة نفي العسر والحرج حاكمة على نفس الحكم العقلي بالاحتياط الخ (١) ففيه تأمّل ، وكيف يكون قوله تعالى : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ )(٢) رافعاً للحكم العقلي بالاحتياط مع فرض كونه مسوقاً لرفع الحكم الشرعي الحرجي ، إلاّبنحو ما في الكفاية (٣) من تسليطه النفي على نفس الحكم الشرعي ، باعتبار كونه عند الجهل به موجباً للوقوع في الحرج بواسطة حكم العقل بالاحتياط ، وحينئذ يسقط الاحتياط بتاتاً ، أو بنحو ما أفاده هو قدس‌سره في توجيه جريان نفي الحرج بما شرحناه في الشبهات التدريجية والشبهات الدفعية.

ثمّ لا يخفى أنّ النتيجة على ما شرحناه في الشبهات التدريجية وإن كانت هي تبعيض الاحتياط ، لكنّه ليس بحسب الظنّ والشكّ والوهم ، بل بحسب ما يبتلى به أوّلاً فأوّلاً ، فيلزمه الاحتياط فيه وإن علم أنّه يبتلى بعد ذلك بغيره ، إلاّ أنّه فعلاً لمّا لم يكن الاحتياط في هذه الأوائل حرجياً ، لم يكن له إسقاط الاحتياط فيها ، بل عليه أن يحتاط فيها وإن كان احتمال التكليف فيها موهوماً ، إلى أن يصل إلى درجة يكون الاحتياط فيما يأتي حرجياً ، فيتركه في ذلك الباقي ، ويكون من قبيل الاضطرار إلى المعيّن ، وإن عاد الحرج عاد إلى ترك الاحتياط.

وأمّا الشبهات الدفعية فقد عرفت أنّها خارجة عمّا نحن فيه ، لأنّ شبهاتنا عند الانسداد تدريجية الابتلاء ، إلاّ أنّه مع ذلك يكون من قبيل الاضطرار إلى غير

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢٥٨.

(٢) الحج ٢٢ : ٧٨.

(٣) كفاية الأُصول : ٣١٣.

٣٩

المعيّن.

والذي ينبغي أن يقال فيه : هو أنّ اختيار ما يسدّ به الحرج يكون راجعاً إلى المكلّف نفسه ، ولا يتعيّن عليه أن يختار ما يكون الاحتمال فيه ضعيفاً ، فإنّهم على ما ببالي لم يفصّلوا هذا التفصيل في باب العلم [ الاجمالي ] في مسألة الاضطرار إلى غير المعيّن ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ سكوتهم عن هذا التفصيل في ذلك المبحث لأنّ الغالب فيه هو تساوي الأطراف في الاحتمال ، وأنّه في الغالب لا تختلف الأطراف من ناحية الاحتمال قوّة وضعفاً. وعلى كلّ حال ، لا مانع عن الترجيح فيما نحن فيه وفي ذلك المبحث بالقوّة والضعف ، بل يمكن القول بتعيّن ذلك عقلاً كما بنى عليه القوم في هذا المقام ، فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ ما أفاده في الكفاية في بيان الإشكال في جريان قاعدة الحرج في المقام بقوله : وأمّا فيما لا يوجب فمحلّ نظر بل منع ، لعدم حكومة قاعدة نفي العسر والحرج على قاعدة الاحتياط ، وذلك لما حقّقناه في معنى ما دلّ على نفي الضرر والعسر من أنّ التوفيق بين دليلهما ودليل التكليف أو الوضع المتعلّقين بما يعمّهما هو نفيهما عنهما بلسان نفيهما ، إلى آخر المطلب (١) ، وإن كان ظاهره أنّ الإشكال مختصّ بهذه الطريقة التي اختارها في كيفية الحكومة ، من كون مفاد لا ضرر ولا حرج من باب نفي الحكم الشرعي الوارد على ما فيه الضرر أو الحرج بلسان نفي الموضوع ، إلاّ أنّ الإشكال المزبور لا يختصّ بذلك ، بل يتأتّى على طريقة شيخنا قدس‌سره في كيفية الحكومة ، من كون المنفي هو الحكم الشرعي الموجب للضرر أو الحرج ، فإنّ أي الطريقتين سلكناها في الحكومة نحتاج في المقام إلى حكم شرعي يكون وارداً على ما فيه الضرر أو الحرج على طريقة

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٣١٣.

٤٠