أصول الفقه - ج ٧

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٧

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-72-0
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٩٢

فكان العلم بالحرمة منتفياً عن كلّ واحد منهما بنحو السالبة الكلّية ، فكيف يجتمع هذا السلب الكلّي مع العلم بحرمة أحدهما الذي هو عبارة عن الموجبة الجزئية ، فاللازم هو عدم إجراء الأُصول في أطراف العلم الاجمالي فراراً عن المحذور المذكور.

والجواب عن هذا التناقض أوّلاً : ما عرفت من تحقّق هذا التناقض المزعوم حتّى لو قلنا بعدم شمول أدلّة الأُصول للعلم الاجمالي ، فإنّك بالوجدان ترى أنّ حرمة كلّ واحد من الطرفين غير معلومة لك ، ومع ذلك أنّك تعلم بحرمة أحدهما لا بعينه.

وثانياً وهو العمدة : أنّ العلم الطارئ على أحدهما لا يسري إلى ما في الخارج من كلّ منهما ، وليس هو من الصفات التي تلحق الطبيعة في الذهن وبتبعها الخارج ، بل هو ـ أعني العلم الطارئ على الكلّي الذي هو أحدهما ـ يكون مقصوراً على ما في الذهن ، ولا يسري إلى ما في الخارج من مصداق أحدهما.

وأمّا التناقض المدّعى بين الصدر والذيل في أخبار الاستصحاب لو طبّقناها على أطراف العلم الاجمالي ، فيمكن الجواب : أنّ مفاد الصدر هو أنّ اليقين بنجاسة الإناء الصغير لا ينقضه الشكّ في بقائها ، وهكذا اليقين بنجاسة الإناء الكبير ، فاليقين في كلّ منهما لا ينقض ، وهو محلّ السالبة الكلّية. وأمّا بقاء الذيل وهو وجوب نقض اليقين بالنجاسة باليقين بحصول الطهارة ، فهو مسلّم إلاّ أنّه لا ينطبق على العلم الاجمالي المتعلّق بالبعض كي يقال إنّ بعض اليقينات السابقة قد انتقض ، ليكون من قبيل الموجبة الجزئية في قبال تلك السالبة الكلّية ، إذ ليس محصّل العلم الاجمالي بالطهارة في بعضها إلاّ العلم بانتقاض نفس النجاسة في بعضها ، لا انتقاض اليقين بالنجاسة. فموضوع تلك السوالب هو اليقين بالنجاسة

٣٦١

وموضوع الموجبة الجزئية هو انتقاض النجاسة في بعضها وتبدّلها إلى الطهارة ، لا انتقاض بعض تلك اليقينات.

نعم ، يمكن تقرير الإشكال بكون التمسّك بعموم لا تنقض من قبيل التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية ، إذ لو طبّقناه على الصغير احتملنا أنّه هو الذي علمنا بطهارته ، فنحن نحتمل أنّ اليقين بنجاسته قد تبدّل إلى اليقين بطهارته ، لاحتمال كونه هو الذي علمنا بطهارته منهما.

والجواب عنه : بأنّ اليقين لا يقبل الاحتمال كما ذكرناه (١) في جواب إشكال عدم اتّصال زمان اليقين لو قرّر بكونه من قبيل الشبهة المصداقية ، والسرّ في ذلك هو ما ذكرناه في الجواب [ عن الإشكال ] الأوّل من أنّ اليقين المتعلّق بطهارة أحدهما لا يسري إلى ما في الخارج من مصاديقه ، فلا يكون كلّ من مصاديقه الخارجية إلاّمشكوكاً.

ولعلّ هذا هو المراد لشيخنا قدس‌سره بقوله : ولم يحصل العلم بالخلاف بالنسبة إلى كلّ واحد منها ، وإن حصل العلم بالخلاف بالنسبة إلى واحد منها على سبيل الإجمال والترديد (٢) ، وإلاّ فلو أبقيناه على ظاهره كان تسجيلاً لإشكال التناقض لا دفعاً عنه ، حيث إنّ مرجع العلم بالخلاف بالنسبة إلى واحد منها عبارة أُخرى عن الموجبة الجزئية ، التي ادّعى المُشكل أنّها مناقضة للسالبة الكلّية.

وأمّا ما أفاده ثانياً : من أنّ لازم ذلك جريان الإشكال فيما لا يلزم منه المخالفة القطعية كما في الاناءين المستصحبي النجاسة عند العلم بطهارة أحدهما ، فلعلّ الشيخ يلتزم بعدم إجراء الأُصول فيه. وعلى كلّ حال أنّ النقض لا

__________________

(١) راجع المجلّد العاشر من هذا الكتاب ، الصفحة : ١٧٨ وما بعدها.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٢٢.

٣٦٢

يدفع الإشكال ، بل هو يزيد الإشكال توسعة.

وأمّا ما أفاده ثالثاً : بأنّ الإشكال مقصور على ما يشتمل على الذيل المذكور دون ما يكون خالياً من الذيل من سائر الأُصول ، ففيه أوّلاً : أنّه التزام بالإشكال في ذي الذيل ، وأنّه لا يجري في أطراف العلم الاجمالي.

وثانياً : ما عرفت من توسعة الشيخ قدس‌سره للإشكال لا من جهة الذيل ، بل من جهة أنّ جميع الأُصول مقيّدة بعدم العلم ، وحينئذ لو أجريناها في طرفي العلم الاجمالي كان محصّله هو أنّه قد انتفى العلم في كلّ واحد من الأطراف وهو السالبة الكلّية ، مع فرض أنّه قد حصل العلم في بعضها وهو الموجبة الجزئية. وقد عرفت الجواب عنه من عدم سراية العلم من أحدهما الكلّي إلى ما في الخارج من مصاديقه ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : ويبقى التكليف المنجّز المعلوم بالاجمال على حاله ، والعقل يستقلّ بوجوب موافقته والخروج عن عهدته إمّا بالوجدان وإمّا بالتعبّد من الشارع ، ولا ينحصر طريق الخروج عن عهدة التكليف المعلوم بالإجمال بالقطع الوجداني ، ضرورة أنّ التكليف المعلوم بالإجمال لا يزيد على التكليف المعلوم بالتفصيل ، وهو لا ينحصر طريق امتثاله بالقطع الوجداني ، بل يكفي التعبّد الشرعي كموارد قاعدة الفراغ والتجاوز وغير ذلك من الأُصول المجعولة في وادي الفراغ (١).

ومثل قاعدة الشكّ بعد خروج الوقت. ومنه يظهر أنّ الأُصول النافية في موارد العلم التفصيلي إنّما هي الجارية في وادي الفراغ كما في الأمثلة المذكورة ، لا الأُصول النافية الجارية في مقام الاشتغال مثل أصالة البراءة ونحوها ممّا ينفي

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٣٢ ـ ٣٤.

٣٦٣

التكليف ، إذ لا مجال لها في مقام العلم التفصيلي بالاشتغال كي يقاس عليها البراءة ونحوها في مقام العلم الاجمالي. ودعوى إرجاعها إلى وادي الفراغ ، بدعوى كون إجرائها في أحد طرفي العلم الاجمالي راجعاً إلى جعل الشارع الطرف الآخر بدلاً عن الواقع محلّ تأمّل ، فإنّ الترخيص في بعض الأطراف لو ثبت بدليل خاصّ لأمكننا القول بأنّ لازم هذا الترخيص هو جعل الطرف الآخر بدلاً عن الواقع ، وأنّ الشارع قد اكتفى به عن الواقع ، فيكون هذا التصرّف الشرعي ـ أعني الترخيص الخاصّ في هذا الطرف ـ كاشفاً عن التصرّف الآخر أعني بدلية الطرف الآخر ، ومرجع ذلك الترخيص الخاصّ إلى تنازل الشارع عن التكليف الواقعي لو كان منطبقاً على هذا الطرف الخاصّ ، وقد أشار إلى ذلك بقوله : نعم للشارع الإذن في ارتكاب البعض والاكتفاء عن الواقع بترك الآخر (١) ، وقد عقّبه هناك بقوله : ولكن هذا يحتاج إلى قيام دليل بالخصوص عليه غير الأدلّة العامّة المتكفّلة لحكم الشبهات من قبيل قوله عليه‌السلام : « كلّ شيء لك حلال » (٢) أو « كلّ شيء لك طاهر » (٣) وقوله : « لا تنقض اليقين بالشكّ » (٤) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « رفع ما لا يعلمون » (٥) وغير ذلك من أدلّة الأُصول العملية (٦).

ولكن المانع من التمسّك بالعمومات المذكورة ليس هو ما أفاده هناك

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٥.

(٢) وسائل الشيعة ١٧ : ٨٩ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ٤.

(٣) مستدرك الوسائل ٢ : ٥٨٣ / أبواب النجاسات ب ٣٠ ح ٤.

(٤) وسائل الشيعة ١ : ٢٤٥ / أبواب نواقض الوضوء ب ١ ح ١.

(٥) وسائل الشيعة ١٥ : ٣٦٩ / أبواب جهاد النفس ب ٥٦ ح ١.

(٦) فوائد الأُصول ٤ : ٢٥.

٣٦٤

بقوله : لأنّ نسبتها إلى كلّ واحد من الأطراف على حدّ سواء الخ ، بل إنّ المانع هو ما حقّقه قدس‌سره غير مرّة ، وهو أنّه إذا توقّف إجراء العموم في مورد على إعمال عناية في مورد آخر لا نحكم باجرائه ونلتزم بتحقّق تلك العناية من الشارع ، بل نحكم بسقوط العام في ذلك المورد ، ولا نلتزم بالعناية المذكورة إلاّ إذا ورد دليل خاصّ بذلك المورد ، فتصحيحاً لذلك الدليل الخاص نلتزم تلك العناية كما حقّق في مبحث الأصل المثبت (١) وغيره من المباحث.

ثمّ لا يخفى أنّه لو ثبت الترخيص الخاصّ في هذا الطرف وصحّحناه بأنّ مرجعه إلى أنّ الشارع يتنازل عن الحكم الواقعي لو كان موجوداً في هذا الطرف ، لما عرفت فيما تقدّم من استحالة الترخيص في بعض الأطراف ، لأنّ مرجعه إلى احتمال اجتماع النقيضين ، ومن الواضح أنّا إذا دفعنا التناقض المحتمل بالطريقة المزبورة ، وهي تنازل الشارع عن التكليف لو كان موجوداً في هذا الطرف ، كان ذلك موجباً لسقوط العلم الاجمالي عن كونه علماً بتكليف فعلي لا ترخيص فيه وأنّه توجب مخالفته العقاب ، فلا يبقى لنا مانع من إجراء البراءة في الطرف الآخر ، فيجوز لنا ارتكابه اعتماداً على البراءة ، وحينئذ لا يكون الترخيص المذكور بعد فرض صحّته بالطريق المذكور كاشفاً عن بدلية الطرف الآخر ، بل لو صرّح بالبدلية كنّا محتاجين إلى تصحيح اكتفاء الشارع بالطرف الآخر إلى ما عرفت من تنازله عن التكليف الموجود لو كان منطبقاً على هذا الطرف ، فلاحظ وتأمّل ، ولا يخفى أنّه عبارة أُخرى عن لزوم المخالفة القطعية ، وحينئذ ينحصر توجيه الترخيص الخاصّ بكونه راجعاً إلى جعل البدل ، فيكون تصرّفاً في مقام الخروج عن العهدة ، فلاحظ وتأمّل.

__________________

(١) راجع المجلّد العاشر من هذا الكتاب ، الصفحة : ٩٧ ـ ٩٨.

٣٦٥

ثمّ لا يخفى أنّ ما يأتي من الأُصول والأمارات الجارية في بعض الأطراف الموجبة لانحلال العلم الاجمالي أو لعدم تأثيره ، ليست ممّا نحن فيه ، بل هي موجبة للخلل في العلم الاجمالي وإخراجه عن كونه علماً بتكليف فعلي منجّز على كلّ تقدير من طرفي العلم (١).

فائدة : أنّ من جملة الفروع المترتّبة على قاعدة انحلال العلم الاجمالي فيما لو جرى في أحد طرفيه المعيّن أصل مثبت للتكليف وفي الطرف الآخر أصل ناف للتكليف ، ما لو طلّق الرجل زوجته ثمّ بعد مدّة وبعد خروجها من العدّة تزوّج بأُخرى ، ثمّ علم إمّا بفساد كلا الأمرين من طلاق الأُولى وعقد النكاح على

__________________

(١) ثمّ إنّ موجبات سقوط العلم الاجمالي تارةً يكون هو العلم التفصيلي بنجاسة أحد الأطراف معيّناً ، ويلحق به ما قامت فيه الأمارة على ذلك ، بل يلحق به أيضاً ما كان مجرى لاستصحاب النجاسة. وتارةً يكون هو كون أحدهما المعيّن مجرى لأصالة الاحتياط ونحوه من الأُصول المثبتة للتكليف ، ويلحق به ما كان أحد الطرفين مورداً لعلم إجمالي آخر ، وجميع هذه لا تكون من قبيل إجراء الأصل النافي في أحد طرفي العلم الاجمالي ، بل إنّ الأصل النافي لا يجري إلاّعند انحلال العلم الاجمالي أو عند عدم تأثيره.

وينبغي أن يعلم أن العلم التفصيلي في بعض الأطراف ـ أعني العلم التفصيلي بنجاسة الأصغر من الإناءين ـ قد يكون سابقاً على العلم الاجمالي بنجاسة أحدهما ، وقد يكون متأخّراً عنه ، وقد يكون مقارناً له. والنجاسة المعلومة بالتفصيل في كلّ من هذه الصور الثلاثة قد تكون سابقة على النجاسة المعلومة بالاجمال ، وقد تكون متأخّرة عنها ، وقد تكون مقارنة لها فتكون الصور تسعاً. وهكذا الحال في العلم الاجمالي في قبال العلم الاجمالي الآخر ، كما لو علم بنجاسة أحد الاناءين الأصغر والأكبر ، ثمّ علم بنجاسة وقعت إمّا في الأكبر أو في الثالث المتوسّط ، فإنّ الصور فيه تسع كما ذكرناه في العلم التفصيلي ، فلاحظ وتدبّر [ منه قدس‌سره ].

٣٦٦

الثانية وإمّا بصحّة كلّ منهما ، فعلى الأوّل تكون الأُولى فقط هي زوجته فعلاً ، وعلى الثاني تكون الثانية هي زوجته فعلاً ، وحينئذ يحصل العلم الاجمالي بوجوب الانفاق على واحدة منهما ، كما أنّه يحصل له العلم الاجمالي بحرمة وطء إحداهما. ومقتضى العلم الأوّل هو وجوب الإنفاق عليهما ، ومقتضى العلم الثاني هو وجوب اجتنابه عن الوطء ، بل والنظر بالنسبة إلى كلّ منهما ، لأنّ حاصل العلم المردّد بين فساد كلّ منهما وصحّة كلّ منهما هو العلم بكون إحداهما هي زوجته الفعلية وكون الأُخرى أجنبية عنه.

ولا يمكن انحلال هذا العلم بالالتزام بترك وطء كلّ منهما استناداً إلى أصالة الاحتياط في الفروج ، وبالرجوع إلى أصالة البراءة من الانفاق على كلّ واحدة منهما ، لعدم إمكان الرجوع إليها في وجوب الإنفاق عليهما ، للعلم الاجمالي بوجوب الانفاق على واحدة منهما ، بل يتعيّن الرجوع إلى أصالة الصحّة في كلّ من الطلاق وعقد النكاح ، وليس في ذلك مخالفة إحرازية بل ولا مخالفة عملية ، لعدم انتهاء الجمع بينهما في الصحّة إلى المخالفة العملية القطعية لتكليف معلوم في البين ، وبجريانهما ينحلّ العلم الاجمالي ، لأنّ أصالة الصحّة في الطلاق مثبتة لحرمة وطء الأُولى وتنفي وجوب الإنفاق عليها ، كما أنّ أصالة الصحّة في العقد على الثانية مثبتة لوجوب الانفاق عليها وتنفي الحرمة عن وطئها ، وحينئذ تكون النتيجة هي حرمة الأُولى وعدم وجوب الإنفاق عليها ، ووجوب الإنفاق على الثانية وعدم حرمة وطئها. ولو رجعنا في الأُولى إلى استصحاب الزوجية وفي الثانية إلى استصحاب عدم الزوجية ، كانت النتيجة بالعكس ، فيجب عليه الإنفاق على الأُولى ويجوز له وطؤها ، ويحرم عليه وطء الثانية ولا يجب عليه الإنفاق عليها.

٣٦٧

والحاصل : أنّ مقتضى أصالة الصحّة في الطرفين هو الحكم بزوجية الثانية وارتفاع زوجية الأُولى ، ومقتضى الاستصحاب هو العكس أعني الحكم بزوجية الأُولى وعدم زوجية الثانية ، لكن أصالة الصحّة هي المرجع ، لحكومتها على الاستصحاب الجاري في موردها ، كما أنّها حاكمة على أصالة الحرمة في الفروج بالنسبة إلى كلّ منهما.

ولو علم بفساد أحدهما وصحّة الآخر ، فإن كان الفاسد هو الطلاق والصحيح هو النكاح ، كانت النتيجة هي ثبوت زوجية كلّ منهما ، وإن كان الفاسد هو النكاح والصحيح هو الطلاق ، كانت النتيجة هي انتفاء زوجية كلّ منهما ، وحينئذ يعلم إجمالاً إمّا بحرمة الوطء والنظر بالنسبة إلى كلّ منهما ، وإمّا بوجوب الإنفاق عليهما معاً ، فمع قطع النظر عن أصالة الصحّة يمكن القول بانحلال هذا العلم الاجمالي ، لكون الأوّل مجرى الأصل المثبت للتكليف وهو الاحتياط في الفروج ، والثاني مجرى الأصل النافي وهو البراءة من وجوب الإنفاق عليهما.

أمّا أصالة الصحّة في كلّ منهما الحاكم على أصالة الاحتياط في الفروج ، فلا يمكن الرجوع إليهما. أمّا على مسلك شيخنا قدس‌سره فللمخالفة الاحرازية ، مضافاً إلى المخالفة العملية ، وذلك ـ أعني المخالفة العملية ـ هو المانع من الرجوع إليها في كلّ منهما على مسلك غيره ، أعني حصر المانع من جريان الأُصول بالمخالفة العملية.

وبيان لزوم المخالفة العملية ، هو أنّه قد علم إمّا بحرمة الاثنتين أو بوجوب الإنفاق على الاثنتين ، وحينئذ يكون وطؤه للثانية استناداً إلى صحّة نكاحها ، وتركه الإنفاق على الأُولى استناداً إلى صحّة طلاقها مخالفة عملية قطعية لذلك العلم الاجمالي المردّد بين حرمة الاثنتين ووجوب الإنفاق على الاثنتين ، إذ لو كان

٣٦٨

الواقع الأوّل وهو حرمة الاثنتين يكون وطؤه الثانية مخالفة له ، وإن كان الثاني وهو وجوب الإنفاق على الاثنتين يكون تركه الإنفاق على الأُولى مخالفة له.

وبالجملة : يلزمه على كلّ من مسلك شيخنا قدس‌سره ومسلك غيره عدم الاعتماد على أصالة الصحّة ، كما أنّه لا يجوز له الرجوع في الأُولى إلى استصحاب الزوجية وفي الثانية إلى استصحاب عدم الزوجية ، لما في ذلك من المخالفة الاحرازية والمخالفة العملية ، وحينئذ يتعيّن الطريق في التخلّص عن هذا العلم الاجمالي القاضي باجتنابهما وبلزوم الإنفاق عليهما ، بما عرفت من الرجوع في الطرف الأوّل وهو حرمتهما إلى الأصل المثبت ، وهو أصالة الاحتياط في الفروج ، وفي الطرف الثاني وهو وجوب الإنفاق عليهما إلى أصالة البراءة ، فلاحظ.

ثمّ إنّ انحلال العلم الاجمالي فيما لو كان أحد طرفيه مجرى الأصل المثبت والآخر مجرى الأصل النافي ، يتّضح فيما لو كان الأصل المثبت جارياً فيه قبل العلم الاجمالي ، كما لو كانت المرأة مشكوكة الحلّية ثمّ حدث العلم الاجمالي بحرمتها أو وجوب الإنفاق على زيد مثلاً. أمّا لو لم تكن مشكوكة الحلّية فيما سبق بل كانت معلومة الحلّية ، ولكن طرأ ما يوجب حرمتها أو وجوب الإنفاق على زيد ، فكان احتمال الحرمة فيها مولداً من كونها طرف العلم الاجمالي ، فيكون جريان أصالة الحرمة فيها متأخّراً رتبة عن العلم الاجمالي ، مضافاً إلى تأخّره زماناً.

ولعلّ المسألة حينئذ تبنى على كون العلم الاجمالي بنفسه علّة في سقوط الأصل النافي في أطرافه ، أو أنّ سقوطها من جهة تعارضها بواسطة انتهائها إلى المخالفة القطعية ، فعلى الأوّل لا يمكن الركون في وجوب الإنفاق على زيد في المثال إلى البراءة بخلافه على الثاني ، إذ لا تكون أصالة البراءة من الإنفاق عليه

٣٦٩

معارضة لأصالة الحرمة في المرأة المذكورة ، لعدم ترتّب المخالفة القطعية على الجمع بينهما.

ولعلّ من هذا القبيل ما سيأتي (١) من أنّه في مسألة الدوران بعد الفراغ بين ترك الركن والسجدة الواحدة وبعد تعارض الأُصول والقواعد ، يكون المرجع في ناحية ترك الركن أصالة الاشتغال ، وفي ناحية وجوب قضاء السجدة أصالة البراءة. أمّا ما لا تكون شبهاته البدوية محكومة بالاحتياط بل بالبراءة والأُصول النافية كما في محتمل النجاسة ، وأنّ المرجع فيه قاعدة الطهارة ، فإنّ الاناء الكبير الذي كان طرفاً للعلم بنجاسته أو نجاسة الصغير يلزم اجتنابه ، ثمّ صار طرفاً للعلم بالنجاسة المردّدة بينه وبين المتوسّط ، فإنّ هذا العلم الاجمالي الثاني لا يؤثّر ، وإنّما يؤثّر العلم فيما لو لم يكن مسبوقاً بشيء من ذلك كما في العلم الأوّل ، بأن كان كلّ من الاناءين معلوم الطهارة ثمّ وقعت قطرة بول في أحدهما. ولو كان الكبير مشكوك الطهارة ثمّ حصل العلم بوقوع نجاسة إمّا فيه أو في الصغير ، فقد يتوهّم أنّ هذه القطرة لا نعلم بأنّها أحدثت وجوب الاجتناب مردّداً بين الكبير والصغير ، لاحتمال كون الكبير نجساً قبل ذلك ، فلا يكون وقوع النجاسة فيه محدثاً لوجوب الاجتناب عنه ، فلا يكون هذا العلم الاجمالي مؤثّراً.

ولكن الجواب عنه واضح ، إذ ليس المدار في تنجيز العلم الاجمالي على العلم بحدوث التكليف في كلّ من الطرفين ، بل يكفي فيه العلم بوجود التكليف في كلّ منهما وإن كان سابقاً ، فالكبير على تقدير وقوع النجاسة فيه وإن لم يكن وجوب الاجتناب عنه حادثاً بحدوثها ، بل يحتمل سبق الوجوب فيه ، فإنّ هذا الاحتمال لا يخرج العلم عن كونه علماً بوجود وجوب الاجتناب على تقدير كلّ

__________________

(١) في الصفحة : ٣٧٣.

٣٧٠

من وقوع النجاسة في الكبير ووقوعها في الصغير ، وهذا بخلاف ما لو كان الكبير ملتقى العلمين الاجماليين ، فإنّ العلم الاجمالي الثاني إنّما يؤثّر لو قلنا بأنّ المنشأ في تأثيره وعدم جريان الأُصول النافية في أطرافه هو نفس العلم ، أمّا لو قلنا بأنّ المنشأ في ذلك هو تعارض الأُصول ، فلا يكون العلم الثاني مؤثّراً لعدم تعارض الأُصول في أطرافه.

والخلاصة : هي أنّ المشكوك في حدّ نفسه مع قطع النظر عن العلم الاجمالي تارةً يكون مجرى للأُصول النافية ، وأُخرى يكون مجرى للأُصول المثبتة أعني الاحتياط كما في الفروج ، وهذا القسم الأخير إن كان مطروّاً للشكّ قبل العلم الاجمالي ، كما لو شكّ في حلّية هذه المرأة فلزمه الاجتناب عنها لأصالة الحرمة في الفروج ، ثمّ حصل له العلم الاجمالي بوقوع أحد هذين الأمرين أعني حصول الرضاع المحرّم ، بأن قد أرضعت زوجته الصغيرة أو أنّه قد فعل ما يوجب الكفّارة عليه ، فأصل العدم وإن كان جارياً في كلّ من السببين ، إلاّ أنّه ساقط فيهما بالتعارض لكونه من الأُصول الاحرازية ، أو لانتهائهما إلى المخالفة القطعية ، فتصل النوبة إلى أصالة الحرمة في المرأة ، وأصالة البراءة من وجوب الكفّارة.

وهكذا الحال في الاناء الكبير الذي هو طرف العلم الاجمالي بالنجاسة بينه وبين الصغير لو علم بوقوع نجاسة مردّدة بينه وبين المتوسط ، ففي ذلك وأمثاله نقول بناءً على أنّ تعارض الأُصول هو الموجب لتنجيز العلم الاجمالي ، نقول إنّه يجوز الرجوع في الطرف الآخر إلى الأصل النافي ، إذ لا يلزم من ذلك المخالفة القطعية ولا الاحرازية ، ولو قلنا إنّ نفس العلم هو المانع من إجراء الأُصول النافية ولو في طرف واحد ، امتنع إجراء الأصل النافي في الطرف الآخر.

والظاهر أنّ الحال كذلك فيما لم يكن مسبوقاً بالشكّ ، بل لم يكن له شكّ

٣٧١

قبل العلم ، بل كانت المرأة زوجته ، ولكن حصل له العلم إمّا بأنّها قد أرضعت زوجته الصغيرة وإمّا بأنّه قد صدر منه ما يوجب الكفّارة ، فإنّ هذا العلم الاجمالي يوجب الشكّ في حرمة المرأة عليه وفي وجوب الكفّارة عليه ، فبناءً على كون المنجّز هو التعارض نقول إنّه لا تعارض في البين ، بل يجمع بين العمل بأصالة التحريم وبأصالة البراءة من وجوب الكفّارة. ومنه ما لو رجعت المسألة إلى أصالة الاشتغال وأصالة البراءة من وجوب السجدة فيما لو علم بأنّه قد ترك الركوع أو ترك سجدة واحدة.

أمّا بناءً على كون المنجّز هو العلم فهو مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة ولو كان الجاري في الطرف الآخر هو أصالة الحرمة ، فالذي ينبغي هو سقوط أصالة البراءة من الوجوب ، فيلزمه الاحتياط بالاجتناب عن المرأة والقيام بالكفّارة.

أمّا ما يكون من الأطراف مسبوقاً بالعلم التفصيلي بنجاسته أو بقيام أمارة عليه أو بأصل إحرازي ، فلا يكون العلم الاجمالي بوقوع النجاسة في أحدهما مؤثّراً ، لكونه من قبيل العلم التفصيلي والشكّ البدوي ، هذا كلّه في القسم الثاني.

ولكن لا يبعد التفرقة بين ما يكون الشكّ فيه متأخّراً رتبة عن العلم الاجمالي فلا يوجب انحلاله ، أمّا ما يكون الشكّ فيه سابقاً على العلم الاجمالي فيمكن القول بأنّه يوجب انحلاله ، ومع انحلاله لا يبقى مانع من جريان الأصل النافي في الطرف الآخر على كلا القولين ، بخلاف ما يكون الشكّ فيه متأخّراً عن العلم الاجمالي ، فإنّه لأجل أنّه لا يوجب انحلال العلم الاجمالي يكون إجراء الأصل النافي في الطرف الآخر مبنياً على التعارض دون القول الآخر.

٣٧٢

أمّا القسم الأوّل وهو ما يكون حكم الشكّ فيه هو البراءة ونحوها من الأُصول النافية ، فلا إشكال في منجّزية العلم الاجمالي لو كان الشكّ متولّداً من العلم الاجمالي ، كما لو علم بوقوع النجاسة في أحد الإناءين الطاهرين ، وكذا لو كان الصغير منهما مشكوك الطهارة قبل العلم الاجمالي المذكور. وأمّا دعوى أنّه لا يشتمل على العلم بحدوث التكليف بالاجتناب على كلّ من التقديرين قد عرفت الجواب عنها.

لا يقال : إنّ مسألة فوت الركوع أو السجدة بعد تعارض قاعدة الفراغ فيهما ، وأصالة العدم في كلّ منهما ، وانتهاء الأمر في ناحية الركوع إلى أصالة الاشتغال وأصالة البراءة من ناحية السجدة ، تكون المسألة من قبيل الانحلال ، فلا مانع من إجراء البراءة في ناحية السجدة ، وذلك من جهة أنّ محصّل الشكّ في الركوع هو الشكّ في البطلان ، ومحصّل الشكّ في البطلان هو الشكّ في امتثال الأمر بالصلاة المفروض كونه ـ أعني الأمر بالصلاة ـ معلوماً بالتفصيل ، فيكون حاله حال ما لو كان أحد الطرفين معلوم النجاسة أو كان مورداً لاستصحاب النجاسة ثمّ حصل العلم بوقوع نجاسة فيه أو في الطرف الآخر ، فكما لا يكون هذا العلم الاجمالي مؤثّراً ، فكذلك العلم الاجمالي بفوات الركوع أو السجدة.

لأنّا نقول : فرق واضح بين ما نحن فيه وبين ما لو كان أحد الاناءين الذي هو الكبير معلوم النجاسة أو مستصحب النجاسة ثمّ حصل العلم الاجمالي بوقوع نجاسة فيه أو في الطرف الآخر الذي هو الصغير ، فإنّ العلم الاجمالي في المثالين يرجع إلى الأقل والأكثر ، حيث إنّ نجاسة الكبير معلومة بالوجدان أو بالاستصحاب ، ويكون الشكّ في الزائد الذي هو تنجّس الصغير ، وهذا بخلاف ما نحن فيه حيث إنّ العلم الاجمالي فيه يكون من قبيل المتباينين ، لأنّه وإن كان

٣٧٣

عالماً تفصيلاً بأنّه مأمور بالصلاة ، إلاّ أنّ محصّل علمه بترك الركوع أو السجدة يكون راجعاً إلى أنّه في هذا الحال عالم إمّا ببقاء الأمر بالصلاة أو بأنّ ذلك الأمر قد سقط ، وتوجّه إليه التكليف بالسجدة وسجود السهو أو بسجود السهو فقط فيما لو علم بأنّه إمّا نقص ركوعاً أو أنّه نقص قراءة مثلاً ممّا لا أثر له إلاّسجود السهود ، ولا ريب في مباينة بقاء الأمر بالصلاة لوجوب السجدة أو وجوب سجود السهو ، فلا يكون هذا العلم منحلاً إلى الأقل والأكثر كي لا يكون مؤثّراً.

ومثل ذلك ما لو علم تفصيلاً بنجاسة هذا الاناء ، ثمّ علم إجمالاً إمّا ببقاء نجاسته أو أنّه طهّره بماء راجع للغير على وجه تكون ذمّته مشغولة بقيمة الماء ، فإنّه يعلم إجمالاً إمّا ببقاء النجاسة أو انشغال ذمّته بقيمة الماء.

وهكذا الحال فيما لو كان في الوقت وعلم أنّه إمّا قد صلّى أو أنّه قد كسر آنية زيد ، فإنّه حينئذ يعلم إمّا ببقاء الأمر بالصلاة وإمّا بانشغال ذمّته بقيمة آنية زيد ، فالعلم في جميع ما يكون من هذا القبيل يكون مؤثّراً ، ولا ينحل بأصالة الاشتغال في الصلاة كي يصحّ الرجوع في التكليف الآخر إلى البراءة بناءً على كون المانع هو العلم نفسه.

نعم بناءً على [ أنّ ] المنجّز والمانع هو التعارض ، لا مانع من إجراء أصالة البراءة مع فرض كون المرجع في الطرف الآخر هو أصالة الاشتغال ، إذ لا تعارض بين الأصلين المذكورين ، ونحن وإن وافقنا شيخنا قدس‌سره في سقوط قاعدتي الفراغ وفي سقوط أصالتي العدم ، لكنّا لمّا التزمنا بأنّ المانع من إجراء الأُصول النافية في بعض [ الأطراف ] هو العلم الاجمالي ، كان اللازم علينا في المسألة هو إعادة الصلاة وقضاء السجدة أو سجود السهو. وهكذا الحال فيما هو نظير ذلك.

ولو علم بأنّه إمّا نقص ركوعاً أو زاد قياماً ، كان أصالة عدم الركوع قاضياً

٣٧٤

بالبطلان ، وأصالة عدم القيام الزائد نافياً لوجوب سجود السهو ، فإن كانت المخالفة الاحرازية مانعة وصلت النوبة إلى أصالة الاشتغال وأصالة البراءة من سجود السهو ، وإن قلنا بأنّها غير مانعة دخلت المسألة فيما نحن فيه من جريان الأصل المثبت في أحد الطرفين ، وهو أصالة عدم الاتيان بالركوع ، وجريان الأصل النافي في الطرف الآخر وهو أصالة عدم القيام الزائد ، فلاحظ.

ولا يخفى أنّ هذا الذي ذكرناه في العلم الاجمالي المردّد بين كون المنسي هو الركوع وكون المنسي هو السجدة الواحدة ، لا فرق فيه بين القول بكون قضاء السجدة على تقدير فوتها من قبيل الجزء الذي تأخّر محلّه ، أو كونه من قبيل القضاء بأمر جديد مستقل ، فإنّ محصّل العلم الاجمالي على القول الأوّل يكون من قبيل التردّد بين كون الباقي هو الأمر بالصلاة بتمامها ، أو كون الباقي هو الأمر بجزئها منفرداً ، وهما متباينان. وعلى الثاني يكون من قبيل التردّد بين بقاء الأمر بالصلاة أو توجّه أمر جديد ، وهما متباينان أيضاً ، ويكون حال السجدة المقضية حال سجود السهو فيما لم يكن له قضاء ، كما لو تردّد بين بقاء الأمر بالصلاة أو توجّه أمر جديد.

ولا يخفى أنّه بناءً على الوجه الأوّل أعني كون قضاء السجدة بالأمر السابق ، لا وجه للرجوع إلى البراءة في السجدة ، بل يكون الجاري فيها هو أصالة الاشتغال ، ولا تكون المسألة حينئذ من قبيل جريان الأصل النافي في أحد الطرفين ، بل يكون الأصل الجاري في كلّ من الطرفين هو الاشتغال.

وأنت بعد اطّلاعك على هذه التفاصيل يظهر لك التأمّل فيما أُفيد في هذا التحرير عن شيخنا قدس‌سره ، وذلك قوله : أو كان ممّا تجري فيه أصالة الحرمة لكونه من الدماء والفروج والأموال ، أو كان ممّا يجب الاجتناب عنه عقلاً لكونه من أطراف

٣٧٥

العلم الاجمالي (١) ، فألحق موارد أصالة الحرمة وما هو ملتقى العلمين بما علم تفصيلاً نجاسته ، وقد عرفت الفرق ، وأنّ ما علم تفصيلاً نجاسته ثمّ وقع طرفاً للعلم الاجمالي يكون من قبيل العلم التفصيلي والشكّ البدوي ، بخلاف ما يكون مورداً لأصالة الحرمة ، أو يكون ملتقى العلم الأوّل والعلم الثاني ، فإنّ عدم تأثير العلم الاجمالي فيه مبني على كون التنجيز ناشئاً عن تعارض الأُصول لا عن نفس العلم الاجمالي.

كما أنّ ما أفاده بقوله : لسبق التكليف بوجوب الاجتناب الخ (٢) ، لا يتأتّى في الموردين المذكورين ، وإنّما يتأتّى فيه ما أفاده بقوله : وبتقريب آخر الخ.

وهذا التقريب الآخر لا يتأتّى في الصور السابقة ، أعني صورة العلم التفصيلي أو الأمارة أو الاستصحاب ، فإنّ الموجب لسقوط العلم الاجمالي فيها ليس هو عدم التعارض ، وإن كان هو ـ أعني عدم التعارض ـ متحقّقاً فيها ، إلاّ أنّ الموجب لسقوط العلم الاجمالي فيها هو أنّه ليس بعلم إجمالي حقيقة ، بل هو علم تفصيلي وشكّ بدوي. كما أنّه ليس الموجب لسقوطه في تلك الصور هو مجرّد أنّه لا يعلم بحدوث تكليف آخر ، لما عرفت فيما قدّمناه من أنّ العلم بالحدوث لا يتوقّف عليه منجّزية العلم الاجمالي ، بل يكفي العلم بوجود التكليف وإن لم يكن التكليف في أحدهما قد حدث جديداً ، بل كان موجوداً قبل طروّ العلم الاجمالي ، فلاحظ وتأمّل.

وينبغي أن يعلم أنّ هذا الذي ذكرناه من كون جريان الأصل في المقام مبنياً على أنّ الموجب للتنجّز هو التعارض لا العلم نفسه وارد على من يقول بأنّ

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٣٧.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٣٧ ـ ٣٨.

٣٧٦

الجاري في المسألة ـ أعني العلم الاجمالي بترك الركوع أو السجدة ـ هو قاعدة الفراغ في الركوع وأصالة عدم الاتيان بالسجدة ، بناءً على تقدّم قاعدة الفراغ في الركوع رتبة عليها في السجدة ، أو لأنّ قاعدة الفراغ في السجدة لا تجري ، للعلم بعدم امتثال أمرها إمّا لبطلان الصلاة بترك الركوع ، وإمّا لعدم الاتيان بها ، فإنّ القاعدة أعني قاعدة الفراغ إنّما يمكن إجراؤها إذا قلنا إنّ العلم ليس بمانع من جريانها ، وأنّ المانع هو التعارض ، والمفروض أنّ ذلك لا يقول به هذان القائلان. أمّا القول الأوّل أعني القول بالتقدّم الرتبي فواضح ، لبقاء العلم الاجمالي بحاله. وأمّا على القول الثاني أعني سقوط قاعدة الفراغ في السجدة للعلم بعدم امتثال أمرها فكذلك ، ولا يمكنه ادعاء الانحلال وصيرورة المسألة من قبيل العلم التفصيلي السابق بنجاسة المعيّن ، وذلك لما قرّر في محلّه من [ أنّ ] العلم التفصيلي المتولّد من العلم الاجمالي لا يوجب انحلاله ، بل يلزم من انحلاله عدمه كما حقّق ذلك في مسألة عدم الانحلال العقلي في الشكّ بين الأقل والأكثر الارتباطيين (١).

نعم ، إنّهم في تلك المسألة التزموا بجريان البراءة الشرعية في الجزء المشكوك ، وادّعوا أنّها توجب انحلال العلم الاجمالي. ولا يخفى الفرق بين البراءة الشرعية هناك وبين مثل قاعدة الفراغ في الركن هنا ، لأنّ الأصل النافي هنا يراد إجراؤه في أحد طرفي العلم الاجمالي أعني فوت الركن ، بخلاف الأصل النافي هناك فإنّه إنّما يجري في الجزء المشكوك ، لا في تمام المركّب منه ومن

__________________

(١) راجع فوائد الأُصول ٤ : ١٥١ ـ ١٦٢ خصوصاً قوله رحمه‌الله في ص ١٦٠ : والعلم التفصيلي بوجوب الأقل ... وللمصنّف قدس‌سره حواش على المطلب تأتي في المجلّد الثامن من هذا الكتاب ص ٢٧١ وما بعدها.

٣٧٧

غيره الذي هو طرف العلم الاجمالي الذي هو الأكثر.

أمّا دعوى رجوع قاعدة الفراغ في الركوع إلى إثبات وجوب قضاء السجدة كما ربما يستفاد ممّا حرّره الأُستاذ العراقي قدس‌سره في مسائل العلم الاجمالي ، وذلك قوله في بيان وجوب قضاء السجدة : لأنّ احتمال عدم وجوبها من جهة فساد الصلاة ، مدفوع بقاعدة التجاوز في الركوع كما لا يخفى (١) فكأنّه يجعل قاعدة التجاوز في الركوع مثبتة لوجوب قضاء السجدة ونافية لعدم وجوبها.

وأوضح من ذلك ما ذكره في ص ٩٨ ، فإنّه بعد أن بيّن سقوط قاعدة التجاوز في السجدة بواسطة العلم بعدم الاتيان بها موافقة للأمر ، فلا يكون احتمال عدم وجوب قضائها مستنداً إلى وجودها على وفق الأمر ، بل يكون احتمال عدم وجوب قضائها مستنداً إلى فساد الصلاة من جهة احتمال فوت الركن ، قال ما هذا لفظه : فقاعدة التجاوز عن الركن يثبت الصحّة ويرفع احتمال فسادها المستتبع لعدم وجوب قضاء السجدة ، فيجب السجدة أو القضاء ، لأنّ شأن الأصل قلب نقيض الأثر بنقيض موضوعه الثابت بمثله (٢).

وليته سلك في إثبات وجوب السجدة بما أفاده شيخنا قدس‌سره (٣) من أنّ لقاعدة الفراغ في الركوع أثرين ، أوّلهما الاتيان بالركوع وهذا [ ساقط ] بالمعارضة مع قاعدة الفراغ في السجدة ، ويبقى أثرها الثاني وهو الصحّة ، وهذا يصحّح إجراء قاعدة الفراغ في السجدة.

__________________

(١) روائع الأمالي في فروع العلم الإجمالي : ٤١ / ٢٤.

(٢) المصدر المتقدّم الصفحة : ١١١.

(٣) راجع ما ينقله المصنّف قدس‌سره عن الدروس الفقهية للمحقّق النائيني قدس‌سره في الصفحة : ٤٥٧ وما بعدها من هذا المجلّد.

٣٧٨

وشيخنا قدس‌سره جاء بهذا الترتيب في قبال من أسقط قاعدة الفراغ في السجدة من جهة الطولية ، ونحن قد تأمّلنا في ذلك من جهات حرّرناها فيما سيأتي إن شاء الله تعالى (١).

لكن نقول : كان على شيخنا الأُستاذ العراقي قدس‌سره بعد أن صار بصدد تصحيح توجيه الأمر بالسجدة المتوقّف على صحّة الصلاة ، أن يقول إنّ الصلاة صحيحة ببركة قاعدة الفراغ في الركوع ، فهي تنفي وجوب الاعادة وتثبت وجوب السجدة.

وعلى كلّ حال ، أنّ ما أفاده في إثبات كون قاعدة الفراغ في الركوع مثبتة لوجوب السجدة ، لا يدفع الإشكال أعني إشكال إجراء الأُصول النافية في بعض الأطراف وإن كان الطرف الآخر مجرى للأصل المثبت ، لأنّ ثبوت الاتيان بالركن استناداً إلى قاعدة الفراغ فيه لا يترتّب عليه ترك السجدة الموجب لقضائها إلاّ بالأصل المثبت ، وليس ذلك من قبيل البراءة عن الدين والاستطاعة ، فإنّ الأوّل هناك موضوع للثاني بخلافه هنا. ومع قطع النظر عن الاثبات نقول : إنّه غير دافع لإشكال إجراء الأصل النافي في أحد طرفي العلم الاجمالي ، لما قدّمنا من أنّ جريان الأصل المثبت في أحد الطرفين لا يوجب انحلال العلم ، كي يكون ذلك مجوّزاً لاجراء الأصل النافي في الطرف الآخر. بل وهكذا الحال فيما لو قلنا إنّه ليس لنا إلاّ أصل واحد يكون مثبتاً للتكليف في أحد الطرفين ونافياً له عن الآخر ، إلاّ أن يكون أصلاً إحرازياً ليكون حاله في حلّ العلم الاجمالي كحال الأمارة التي تعيّن أحد الطرفين وتنفي الآخر.

لا يقال : إنّ قاعدة الفراغ تجري مع العلم التفصيلي ، فكيف لا تجرونها مع

__________________

(١) في الصفحة : ٤٥٨ وما بعدها.

٣٧٩

العلم الاجمالي.

لأنّا نقول : جريان القاعدة مع العلم التفصيلي مسلّم إلاّ أنّه مع العلم التفصيلي بالاشتغال ، لأنّه من جريان الأصل في وادي الفراغ مع العلم التفصيلي بالاشتغال ، والمطلوب فيما نحن فيه إجراؤها في وادي الفراغ مع العلم الاجمالي بعدم الفراغ.

وأمّا قياس اقتضاء قاعدة التجاوز إثبات التكليف في الطرف الآخر بأصالة البراءة من الدين القاضية بوجوب الحجّ ، كما ربما يستفاد ذلك من مقالة الأُستاذ العراقي قدس‌سره ، فإنّه بعد أن منع من إجراء الأُصول النافية في بعض أطراف العلم الاجمالي ، وأبطل القول المنسوب إلى الشيخ قدس‌سره من جعل البدل ، قال ما هذا لفظه : نعم ربما يرد في بعض الفروض مثل هذا الإشكال ، وهو ما لو كان التكليف في أحد الطرفين مشروطاً بعدم التكليف في الآخر ، فإنّه لا إشكال عندهم في جريان استصحاب العدم في الطرف الآخر ، وبه يثبت التكليف في طرفه ، مع أنّ المورد تحت العلم الاجمالي بأحد التكليفين ، المستلزم لعدم جريان الأصل النافي قبل إحراز المصداق أو الانحلال ، وحينئذ كيف يحرز الأصل المثبت بعموم الأصل النافي في الطرف الآخر.

ولكن يمكن الفرار عنه بإمكان كون النظر في الأصل النافي إلى مجرّد إحراز موضوع المثبت ووسيلة لجريان المثبت ، بلا نظر منه إلى إثبات عذر فيه ، وأنّ العذر إنّما يثبت بجريان المثبت ، وكأنّ في المقام نحو حيلة لإثبات الأُصول المثبتة ببركة الأصل النافي ، كما أنّه لو بنينا على حجّية الأُصول المثبتة أمكن إجراء هذه الحيلة في جميع الموارد ، ولكنّه كما ترى (١)

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٣٤ ـ ٣٥.

٣٨٠