أصول الفقه - ج ٧

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٧

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-72-0
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٩٢

وتكون النتيجة من ضمّ أحد هذين المطلبين إلى الآخر ، هو أنّ الشارع لابدّ أن يكون قد جعل لنا طريقاً لأحكامه ، يخلّصنا ممّا حرّمه علينا من الإهمال ، وينقذنا ممّا منعنا منه من الاحتياط والجري على طبق الاحتمال ، وذلك الطريق منحصر بالظنّ ، إذ لا طريق سواه مع فرض تمامية المقدّمة الأخيرة ، أعني قبح ترجيح المرجوح على الراجح ، وحينئذ يكون العقل حاكماً بأنّه لابدّ أن يكون قد جعل لنا طريقاً ينقذنا من هذين المحذورين ، والظنّ بالحكم الواقعي لو جعله لنا لكان كافياً وافياً في صحّة منعه لنا من الإهمال مع منعه لنا من الاحتياط ، ولا يدلّ العقل على أنّه قد جعل لنا أو أنّه يلزمه أن يجعل لنا ما هو أوسع من ذلك ، أعني مطلق الظنّ سواء كان متعلّقاً بالواقع أو كان متعلّقاً بالطريق ، ولا أقل حينئذ من كون ذلك هو القدر المتيقّن ، وحينئذ تبقى حجّية الظنّ بالطريق شرعاً مشكوكة ، فتندرج في أصالة حرمة العمل بالظنّ ، أو أصالة عدم الحجّية ، إذ لا يدلّ العقل إلاّعلى حجّية مقدار يكون منقذاً لنا من هذين المحذورين ، وحجّية الظنّ بالواقع كافية في ذلك.

بل يمكننا القول بأنّ سلسلة الدليل المذكور لا تعطي إلاّ أنّ الشارع قد جعل الظنّ بالأحكام الواقعية حجّة علينا ، لأنّها هي التي منعنا من الرجوع إلى البراءة والاحتياط فيها ، وبواسطة ذلك استكشفنا أنّ الشارع قد جعل لنا الظنّ حجّة فيها.

واعلم أنّ الشيخ قدس‌سره ذكر حجّية الظنّ بالطريق وسمّاه الظنّ في المسائل الأُصولية ، وقال : وربما منع منه غير واحد من مشايخنا رضوان الله عليهم ، وما استند إليه أو يصحّ الاستناد إليه للمنع أمران : أحدهما : أصالة الحرمة وعدم شمول دليل الانسداد (١). وحاصل ما أفاده في هذا الأمر الأوّل : أنّ دليل الانسداد إمّا يجري

__________________

(١) فرائد الأُصول ١ : ٥٤١.

١٠١

في كلّ من الظنّين على حدة ، وإمّا أن يجري بالنسبة إلى مطلق الأحكام الشرعية ، سواء كانت فرعية أو كانت أُصولية ، وإمّا أن يجري في خصوص الفرعية ، ويدّعى أنّ الظنّ في المسألة الأُصولية يوجب الظنّ في المسألة الفرعية التي تكون مبنية على تلك المسألة الأُصولية.

وأبطل الوجه الأوّل ، بأنّ الانسداد لا يجري في المسألة الأُصولية ، إذ لا يلزم من إجراء الأُصول في المسألة الأُصولية أحد المحاذير المذكورة في مقدّمات الانسداد ، لأنّ ما يوجب الظنّ من الطرق بالحكم الواقعي يكون بواسطة مقدّمات الانسداد في المسألة الفرعية معلوم الحجّية ، لكونه ظنّاً بالحكم الشرعي الفرعي ، وما لا يكون من الطرق موجباً للظنّ بالحكم الفرعي ، مثل خبر الواحد والإجماع المنقول ونحوهما إذا لم يحصل منها الظنّ الشخصي ، فليس من الكثرة بحيث يكون الرجوع فيه إلى الأُصول وطرح تلك الطرق مستلزماً لأحد المحاذير.

وأبطل الوجه الثاني ، بأنّ النتيجة وهي العمل بالظنّ مهملة ، وإنّما نحكم بتعميمها بالإجماع المركّب أو الترجيح بلا مرجّح ، والإجماع ممنوع ، بل نقل الإجماع على عدم حجّية الظنّ بالطريق المعبّر عنه بالمسألة الأُصولية. وأمّا الترجيح بلا مرجّح فهو غير جارٍ هنا ، لإمكان القول بأنّ المسألة الأُصولية أهمّ من المسألة الفرعية ، فلا يكون حجّية الظنّ في الفرعية دون الأُصولية من الترجيح بلا مرجّح.

وأبطل الوجه الثالث بما حاصله : أنّ الطريق لو كان موجباً للظنّ بالحكم الفرعي ، فقد تقدّمت حجّيته ، لكونه ظنّاً بالحكم الفرعي ، أمّا ما لا يوجبه فلا وجه لحجّية الظنّ بحجّيته ، إذ المفروض إنّما هو جريان المقدّمات في الحكم الفرعي ، ونتيجتها إنّما هي الظنّ بالحكم الفرعي ، ولا دخل لذلك بالظنّ بحجّية الطريق

١٠٢

التي هي عبارة عن الحكم الأُصولي ، إذ لا يلزم منه الظنّ بالحكم الفرعي الواقعي ، وإنّما ينشأ منه الظنّ بالحكم الفرعي الظاهري ، ودليل الانسداد غير قاض بحجّية الظنّ بالحكم الفرعي الظاهري ، وإنّما يقضي بحجّية الظنّ في الحكم الفرعي الواقعي.

ثمّ قال : هذا غاية توضيح ما قرّره أُستاذنا الشريف قدس‌سره اللطيف في منع نهوض دليل الانسداد لإثبات حجّية الظنّ في المسائل الأُصولية (١) ، ثمّ ذكر الأمر الثاني من أدلّتهم ، وهو أنّ الشهرة والإجماع المنقول على عدم حجّية الظنّ في المسائل الأُصولية ، وهذه المسألة ـ أعني مسألة حجّية الظنّ في المسائل الأُصولية ـ مسألة أُصولية ، فلو كان الظنّ فيها حجّة لزم الأخذ بالشهرة المذكورة والإجماع المنقول ، فتكون النتيجة حينئذ هي عدم حجّية الظنّ في المسائل الأُصولية.

ثمّ إنّه أجاب عن الدليل الأوّل : بأنّ دليل الانسداد وارد على أصالة حرمة العمل بالظنّ ، وأنّ المختار في كيفية الاستدلال بدليل الانسداد في المقام ـ أعني حجّية الظنّ بالطريق ـ هو الوجه الثالث ، وهو إجراء دليل الانسداد في الأحكام الفرعية ، والظنّ في المسائل الأُصولية مستلزم للظنّ في المسألة الفرعية ، وما ذكره من أنّ الظنّ بالمسألة الأُصولية لا يستلزم إلاّ الظنّ بالحكم الفرعي الظاهري صحيح ، لكن ما ذكره من أنّ دليل الانسداد لا يقتضي إلاّ اعتبار الظنّ بالحكم الفرعي الواقعي دون الظاهري ممنوع ، لأنّ مقدّمات الانسداد لا تقتضي إلاّ اعتبار الظنّ بفراغ الذمّة من الأحكام الواقعية ، فلو حصل الظنّ بحجّية طريق كخبر الواحد ، كان هذا الظنّ كافياً في حصول الظنّ بالفراغ ، وإن لم يكن ذلك الخبر

__________________

(١) فرائد الأُصول ١ : ٥٤٦.

١٠٣

مفيداً للظنّ الشخصي بالواقع ، إذ لا فرق في السقوط والفراغ بين الاتيان بالواقع علماً أو ظنّاً ، وبين الاتيان ببدله علماً أو ظنّاً.

والحاصل : أنّ العلم بالاتيان بالواقع أو ببدله يوجب الفراغ العلمي في حال الانفتاح ، فكذلك الظنّ بالاتيان بالواقع أو ببدله يوجب الظنّ بالفراغ ، وهو ـ أعني الظنّ بالفراغ ـ كافٍ في حال الانسداد ، فكما أنّ العلم بحجّية الخبر يكون موجباً للعلم ببدل الواقع في حال الانفتاح ، فكذلك الظنّ بحجّية الخبر يكون موجباً للظنّ ببدل الواقع في حال الانسداد ، ويكون الظنّ بذلك في حال الانسداد قائماً مقام العلم به في حال الانفتاح ، فالظنّ بالبدل كالظنّ باتيان الواقع في كون كلّ منهما قائماً في حال الانسداد مقام العلم بالبدل أو بالواقع في حال الانفتاح.

واعلم أنّ ما أفاده الشيخ قدس‌سره هنا من التسوية بين الظنّ بالواقع والظنّ ببدله في كون كلّ منهما موجباً للظنّ بفراغ الذمّة ، باعتبار كون الظنّ بالواقع قائماً مقام العلم بالواقع والظنّ ببدله قائماً مقام العلم بالبدل ، لا يتنافى مع ما أفاده في ردّ صاحب الفصول وصاحب الحاشية من إنكار العلم بجعل الطرق ، فإنّ إنكار العلم بجعل الطريق الذي هو عبارة أُخرى عن جعل البدل ، لا ينافي احتمال جعل الطريق والبدل أو الظنّ بذلك ، لأنّ البدلية ملازمة لجعل الطريق ، فإذا كان جعل الطريق مظنوناً ، كانت البدلية في مؤدّاه عن الواقع مظنونة.

نعم ، إنّ هذه الكلمات منافية لما أفاده شيخنا قدس‌سره من أنّه لا أثر لجعل الطريق واقعاً ما لم يكن جعله معلوماً بالتفصيل ، وحينئذ لا ملازمة بين جعل الطريق وبين كون مؤدّاه بدلاً عن الواقع. بل مقتضى ما أفاده قدس‌سره هو عدم تحصّل المؤدّى باليد من دون إحراز الجعل ، لأنّ ذلك متوقّف على الأخذ بالأُصول المرادية ، وهو ـ أعني الأخذ المذكور ـ متوقّف على إحراز الصدور المتوقّف على العلم التفصيلي

١٠٤

بجعل الحجّية. نعم هذه الطريقة الثانية مختصّة بخصوص الأخبار ، لتوقّف إحراز مؤدّاها على الأخذ بأصالة الظهور ، بخلاف مثل الشهرة والإجماع المنقول ونحوهما ممّا لا يكون إحراز مؤدّاها متوقّفاً على إعمال قواعد الظهور ، فتأمّل.

ثمّ إنّك قد عرفت معنى الحكومة ، وأنّها لو كانت بمعنى التنقّل بحسب حكم العقل من الاطاعة العلمية إلى الاطاعة [ الظنّية ] ، لتمّ ما أفاده الشيخ قدس‌سره وما أفاده شيخنا قدس‌سره من التسوية بين الظنّ بالواقع والظنّ ببدله ، وأمّا إذا قلنا بأنّ معنى الحكومة هو تبعيض الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي من التكاليف الواقعية المحتملة ، والاقتصار في ذلك الاحتياط على المظنونات ، فالظاهر هو لزوم الاقتصار على الظنّ بالواقع ، دون الظنّ بما هو بدله من مؤدّيات الطرق المظنونة وإن لم تفد الظنّ بالواقع ، إلاّ أن ندّعي التبعيض في المحتملات ، وأنّ ما يظنّ كونه بدلاً عن الواقع من محتملات التكاليف الواقعية هو أولى بالاحتياط ممّا لا يظنّ بدليته عن الواقع من تلك المحتملات ، فيكون الاحتياط في كلّ من موارد الظنّ بالتكليف وموارد الظنّ بما هو بدل عن الواقع وإن لم يكن مظنون التكليف ، أولى من الاحتياط في باقي موارد احتمال التكليف مع عدم حصول الظنّ بأحد الوجهين ، لكنّه في غاية الإشكال ، إذ لا موجب للاحتياط في أطراف محتملات البدلية إلاّبعد العلم بجعل البدل ولو إجمالاً ، والمفروض أنّهما قد أنكرا ذلك ، فيكون الاحتياط اللازم دائراً مدار محتملات الواقع فقط ، ويكون التبعيض اللازم منحصراً في خصوص المظنونات من تلك المحتملات ، دون محتملات البدلية بما هي أبدال عن الواقع ، فلاحظ وتأمّل.

وأمّا الدليل الثاني ، أعني الشهرة والإجماع المنقول ، فقد أجاب عنه :

أوّلاً : بالمنع من الشهرة والإجماع ، لكون المسألة حادثة.

١٠٥

وثانياً : أنّا لو سلّمنا الشهرة أو الإجماع ، فإنّما يكون ذلك من القائلين بالانفتاح من جهة قيام الأدلّة الخاصّة على الطرق الخاصّة ، وهي منحصرة بالطرق القائمة على الحكم الشرعي الفرعي ، فلا تكون تلك الأدلّة الخاصّة شاملة للمسألة الأُصولية ، ولأجل ذلك قالوا بعدم حجّية الظنّ في المسألة الأُصولية ، بل يبقى ذلك الظنّ تحت أصالة حرمة العمل بالظنّ ، ولم يعلم من مذهبهم الفرق بين الفروع والأُصول لو تمّت مقدّمات الانسداد وحكم العقل بكفاية الخروج الظنّي عن عهدة التكاليف الواقعية.

وثالثاً : أنّا لو سلّمنا قيام الإجماع أو الشهرة على ذلك حتّى في حال الانسداد ، لم يمكن الاعتناء بهما في قبال حكم العقل بعدم الفرق بينهما ، فإنّ المسألة حينئذ تكون عقلية ، ولا مجال فيها لحجّية الشهرة والإجماع المنقول.

ورابعاً : أنّه لو تمّت مقدّمات الانسداد وحكم العقل بالتسوية ، كان ذلك مانعاً من حصول الظنّ من الشهرة والإجماع المنقول ، فتخرج بذلك عن إفادة الظنّ بعدم حجّية الظنّ في المسألة الأُصولية.

وخامساً : لو سلّمنا أنّهما مع ذلك يفيدان الظنّ ، كانت المسألة داخلة في الظنّ المانع والظنّ الممنوع ، قال : وقد عرفت أنّ المرجع فيه إلى متابعة الظنّ الأقوى (١).

قلت : وسادساً : أنّ حجّية هذا الظنّ الحاصل من الشهرة والإجماع يلزم من وجودها عدمها ، فلا تكون حجّة ، نظير ما تقدّم (٢) من حجّية خبر الواحد القائم

__________________

(١) فرائد الأُصول ١ : ٥٤٨.

(٢) في المجلّد السادس من هذا الكتاب ص ٤٢٤ ـ ٤٢٥ ، وراجع أيضاً الصفحة : ٤٥٣ ـ ٤٥٤ من المجلّد المذكور.

١٠٦

على عدم حجّية خبر الواحد ، ونظير الإجماع المنقول للسيّد على عدم حجّية خبر الواحد ، بناءً على كون حجّية الإجماع المنقول من باب حجّية خبر الواحد.

قوله : الأمر الثاني : هل يقتضي دليل الانسداد كلّية النتيجة أو يقتضي إهمالها ... الخ (١).

لقد أطالوا الكلام على هذا التنبيه ، وفعلاً لم تسنح لي الفرصة للتأمّل في جميع ما حرّرناه فيه عن شيخنا قدس‌سره. ولكن نقول على الإجمال : إنّ النتيجة تارةً تكون على الكشف ، وأُخرى على الحكومة بمعنى حكم العقل بكون التنقّل من الاطاعة العلمية إلى الاطاعة الظنّية ، وثالثة على تبعيض الاحتياط.

أمّا على الأوّل ، فقد عرفت أنّه لا مدرك له إلاّ الإجماعان القائم أحدهما على أنّ الشارع لم يرخّص في شيء من أحكامه ولم يتنازل عنها ، والآخر على أنّ الشارع لا يريد امتثال أحكامه بطريق الاحتياط ، وعن هذين الإجماعين نستكشف أنّ الشارع قد جعل لنا الظنّ حجّة في هذا الحال ، ولو بواسطة قبح ترجيح المرجوح على الراجح ، وبناءً على ذلك لابدّ أن تكون النتيجة واضحة مبيّنة ، وإلاّ لم يكن الجعل في الجملة مخلصاً لنا من ورطة الإجماعين المرقومين ، وحينئذ تكون النتيجة كلّية من حيث الموارد والأسباب والمرتبة.

أمّا على الطريقة [ الثانية ] أعني طريقة الحكومة بالمعنى [ المتقدّم ] ، فأيضاً لابدّ فيه أن تكون النتيجة واضحة بيّنة لا غبار عليها ، فإنّ الحاكم هو العقل ، وهو المطّلع على سعة موضوعه وضيقه ، ولا يعقل أن يكون العقل واقفاً غير عالم بشيء من السعة والضيق ، فإنّ [ العقل ] هو الحاكم وهذا أحد موارد ما يقال إنّ الإهمال في مقام الثبوت محال ، وإنّما يمكن الإهمال في مقام الاثبات والاستدلال

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢٩٤.

١٠٧

على الواقع ، لأنّ المستدلّ والمتوقّف إنّما هو غير الحاكم.

وأمّا الطريقة الثالثة ، فالظاهر أنّها أجنبية عن عالم الحجّية ، وإنّما جلّ ما عندنا هو تبعيض الاحتياط ، إمّا بالنحو الذي ذكرناه وهو لزوم الجري على جميع موارد احتمالات التكاليف التي يبتلى بها المكلّف تدريجاً إلى أن يصل إلى درجة العسر والحرج ، فيسقط التكاليف الباقية لو كان فيها تكاليف ، ومن الواضح أنّه بناءً على هذا لا يكون في البين تبعيض بحسب الظنّ أو الركون إلى الظنّ. وإمّا بالنحو الذي أفادوه وهو إسقاط الاحتياط أوّلاً في الموهومات ، فإن وفى ذلك بارتفاع العسر والحرج في الاحتياط في البواقي فهو ، وإلاّ ضمّ إليه المشكوكات ، ويقتصر على الاحتياط في المظنونات بجميع مواردها ومراتبها وأسبابها ، فإن بقي العسر والحرج لزم التبعيض في مراتب الظنّ وهكذا.

ومن هذا كلّه يظهر أنّه ليس في البين إلاّ إسقاط الاحتياط في مقدار من المحتملات ، ولزوم العمل في البواقي على مقتضى الاحتياط ، وليس في البين حجّية ظنّ كي نتكلّم في أنّ الحجّة هو مطلق الظنّ ، أو الظنّ في الجملة الذي هو معنى الاهمال.

ومن ذلك كلّه يظهر لك الكلام في الأمر الثالث (١) المعقود لخروج القياس ، فإنّه قد اتّضح لك أنّه بناءً على الوجه الأوّل وهو الكشف لا إشكال في خروجه ، وكون دليله مخصّصاً للقضية الكلّية الشرعية المستكشفة بطريق العقل ، وهي كون كلّ ظنّ حجّة شرعاً ، كما أنّه بناءً على الوجه الثالث وهو تبعيض [ الاحتياط ] ينبغي القول بإسقاط الاحتياط فيما يؤدّي إليه القياس لأنّه من مظنونات التكليف ، إذ لا أقل من كون أدلّة المنع من الأخذ بالقياس موجبة لسقوط الاحتياط في

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٣٢٠.

١٠٨

موارده ، وإنّما يتوجّه الإشكال بناءً على الوجه الثاني وهي الحكومة العقلية بالمعنى المتقدّم.

ولكن هذا كلّه مع قطع النظر عمّا يستفاد من أدلّة المنع عن العمل بالقياس من كونه مشتملاً على المفسدة ، بحيث تكون موجبة للمنع عن العمل به منعاً موضوعياً ، أو كون ما يفسده أكثر ممّا يصلحه ، يعني أنّ موارد خطئه أكثر من موارد إصابته ، ولأجل هاتين الجهتين يمكننا الجزم بحرمة العمل به والركون إليه ولو من باب الاحتياط باعتبار كونه محقّقاً للظنّ بالواقع ، هذا بالنظر إلى الجهة الأُولى من جهات المنع عنه.

وأمّا بالنظر إلى الجهة الثانية ، فلابدّ أن نقول : إنّ العقلاء إنّما يحصل لهم الظنّ منه لأجل الغفلة عن هذه الجهة الثانية وهي كثرة خطئه ، أمّا بعد التفاتهم إلى هذه الجهة الثانية التي نبّههم الشارع عليها ، فلا يحصل لهم الظنّ العقلائي منه ، فلا يعتنون به حتّى في مقام الاحتياط. نعم الاتيان بمؤدّاه بما أنّه أحد محتملات الواقع لا مانع منه.

وممّا ذكرناه (١) في شرح ما أفاده شريف العلماء قدس‌سره من عدم حجّية الظنّ بالطريق ، يظهر لك أنّ المقدّم في مسألة الظنّ المانع والممنوع هو الظنّ الممنوع حتّى على القول بالكشف. نعم بناءً على عموم النتيجة للظنّ بالطريق ، يكون الأمر كما أُفيد من تقديم الظنّ المانع ، بناءً على كونهما من قبيل الأصل السببي والمسبّبي ، بل إنّهما أوضح منهما ، لصراحة الظنّ المانع بعدم حجّية الظنّ الممنوع ، وكون الظنّ الممنوع لا تعرض له لحجّية الظنّ المانع فتأمّل ، فإنّ ذلك إنّما يتمّ فيما لو اختلف الظنّان في السنخ ، أمّا لو اتّحدا سنخاً بأن قامت الشهرة

__________________

(١) في الصفحة : ١٠١ وما بعدها.

١٠٩

على عدم حجّية الشهرة ، كان الساقط هو الظنّ المانع ، مثل ما لو قام خبر الواحد على عدم حجّية خبر الواحد ، كما تقدّم من إخبار السيّد بالإجماع على عدم حجّية خبر الواحد ، ونظيره ما لو قال : كلّ خبري كاذب ، وقلنا بشمول القضية لنفسها ، فتأمّل.

١١٠

[ أصالة البراءة ]

قوله : فإنّ المفعول المطلق النوعي والعددي يصحّ جعله مفعولاً به ـ إلى قوله ـ نعم هما بمعنى المصدر لا يصحّ تعلّق التكليف بهما (١).

الظاهر أنّ المصدر المبيّن للنوع أو العدد لا يصحّ جعله مفعولاً به ، وأنّ اسم الحدث إن أُخذ بالمعنى المصدري لا يصحّ جعله مفعولاً مطلقاً ، بل يكون حينئذ عاملاً عمل فعله والمفعول المطلق لا يعمل ، ولا يصحّ جعله مفعولاً مطلقاً إلاّ إذا [ أُخذ ] بالمعنى الاسم المصدري ، الذي هو عبارة عن نفس الحدث غير مأخوذ فيه النسبة ، فإنّه إذ ذاك يكون مفعولاً مطلقاً ، لكونه حينئذ هو المفعول للفاعل بلا توسّط تعلّق مثل قولك به أو فيه أو له ، كما نصّ عليه ابن الناظم وهو الذي يساعد عليه الاعتبار.

وأمّا السموات والأرض ونحوهما ممّا يقع تحت الخلق ، فهي وإن كانت عين الخلق خارجاً ، إلاّ أنّها تخالفه اعتباراً ، فإنّ الخلق باعتبار كونه اسم الحدث من خَلَقَ يباين الذات التي وقع عليها الخلق ، وملاك المفعول به والمفعول المطلق هو المباينة ، فالمفعول به يباين اسم الحدث ، والمفعول المطلق يكون عينه. نعم إنّ المفعول به يكون له تقرّر في وعاء نفسه ، ويكون تقرّره غالباً سابقاً على نفس الحدث ، ولا أقل من السبق الرتبي ، بخلاف المفعول المطلق فإنّه عين الحدث من

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٣٣٣.

١١١

ذلك الفعل الذي سلّط عليه ، بل لا تسليط في البين ، لما عرفت من الاتّحاد والعينية ذاتاً ورتبة ، فتأمّل.

قوله : وثانياً : على فرض ظهور الآية الشريفة في إرادة التكليف من الموصول ، وإرادة الوصول والاعلام من الإيتاء ... الخ (١).

يمكن أن يقال : إنّه لو كان الأمر كذلك ، لكانت الآية الشريفة دالّة على تقيّد التكاليف بالعلم. فالأولى أن يقال : إنّه لو كان الأمر كذلك ، لكان مساقها مساق ما يدلّ على أنّ التكليف لا أثر له إلاّبعد الوصول إلى درجة الاعلام والتبليغ ، التي هي درجة الاجراء والفعلية ، وأنّه قبل الوصول إلى تلك الدرجة يكون من قبيل اسكتوا عمّا سكت عنه الله تعالى ، نظير الأحكام في أوائل البعثة والتشريع ، والأحكام المخزونة عند وليّه عجّل الله فرجه وجعل أرواحنا فداه.

قوله : فأقصى ما تدلّ عليه الآية المباركة هو أنّ المؤاخذة والعقوبة لا تحسن إلاّبعد بعث الرسل وإنزال الكتب وتبليغ الأحكام والتكاليف إلى العباد ... الخ (٢).

الأولى حذف لفظ المؤاخذة والعقوبة ، وإبدالهما بما عرفت من أنّه لا أثر للتكليف الواقعي ما لم يبلغ إلى درجة الفعلية والاجراء ، كي لا يتوهّم أنّ هذا راجع إلى ما نحن فيه من الشكّ بعد البعث والإنزال والتبليغ وعروض الاختفاء ، والأمر سهل بعد وضوح المراد.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٣٣٣.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٣٣٣.

١١٢

قوله : أمّا أوّلاً : فلأنّ الاستدلال بالآية المباركة على البراءة لا يجتمع مع القول بأنّ مفادها نفي فعلية التعذيب لا استحقاقه ... الخ (١).

وكأنّه لأجل ذلك أجاب في الكفاية (٢) عن الاستدلال بها للبراءة بعين هذا الجواب ، الذي ذكر جواباً للاستدلال بها على إنكار الملازمة ، وحاصله : أنّ هذه الآية لا تنفع منكر الملازمة ، لأنّ إنكار الملازمة لابدّ فيه من إثبات عدم الاستحقاق ، والآية لا تدلّ على عدم الاستحقاق ، وإنّما تدلّ على نفي الفعلية ، كما أنّها لا تنفع القائل بالبراءة لأنّه لابدّ له من إثبات نفي الاستحقاق ، وهي لا تدلّ إلاّ على نفي الفعلية. فالخلاصة : أنّ الآية لا يمكن الاستدلال بها على البراءة ، كما لا يمكن الاستدلال بها على إنكار الملازمة ، هذا ما حرّرناه سابقاً.

ولكن بعد ذلك عرض لنا في هذه الدورة (٣) إشكال ، وهو أنّ النظر في الآية الشريفة في نفي التعذيب قبل الارسال في قبال قاعدة الملازمة ، إن كان المراد من الرسول هو الظاهر أعني نبوّة النبي ، فقبله لا تجري الملازمة ، لأنّ موردها هو مورد التشريع ، فقبله لا مورد لها ، نظير الاقتضاء ، وبعده تجري الملازمة ، فإن تمّت الملازمة صار العقاب مستحقّاً وفعلياً ، وإن لم تتمّ بأن لم يدرك العقل قبح الفعل الفلاني ، لم يكن هناك استحقاق ولا فعلية ، فأين المورد الذي يقال إنّ نفي فعلية العقاب لا يدلّ على نفي الاستحقاق الذي توجبه الملازمة.

وإن كان المراد من الرسول هو الحجّة ولو عقلية ، وإن شئت فقل : إنّه الشامل للرسول والحجّة العقلية ، فقبلهما لا استحقاق ولا فعلية ، وبعدهما يتحقّق

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٣٣٤.

(٢) كفاية الأُصول : ٣٣٩.

(٣) ٤ ذي القعدة سنة ١٣٨٤ [ منه قدس‌سره ].

١١٣

كلّ من الاستحقاق والفعلية إلاّبالعفو ، وقبل الأوّل دون الثاني ـ [ وهو ] فرض لا واقعية له ـ لا استحقاق ولا فعلية ، وقبل الثاني دون الأوّل لا استحقاق ولا فعلية.

وأمّا الكلام فيها بالنظر إلى كونها دليلاً على البراءة ، فإن كان الرسول هو الظاهر فقبله لا مورد للبراءة قطعاً ، وبعده يترتّب العقاب ، وتكون الآية من أدلّة الاحتياط ، إلاّ أن نجيب عنها بأنّ دليل البراءة حاكم على مقتضى الاحتياط.

وإن كان المراد الأعمّ من الحجّة ، فقبلهما لا مورد للبراءة لعدم الرسول ، وبعدهما يتعيّن الاستحقاق وفعلية العقاب ، لأنّ قاعدة الملازمة دليل قطعي على التكليف ، كما أنّه لا مورد للبراءة قبل الرسول مع فرض الحجّة. أمّا العكس يعني بعد الرسول ولم تقم الحجّة لعدم إدراك العقل قبح الفعل الفلاني ، فلا استحقاق ولا فعلية ، وتكون الآية دالّة على البراءة في هذه [ الصورة ] ، فأين يتحقّق الاستحقاق دون الفعلية.

قوله : الأوّل : لا يصحّ استعمال الرفع وكذا الدفع إلاّبعد تحقّق مقتضي الوجود ، بحيث لو لم يرد الرفع أو الدفع على الشيء لكان موجوداً في وعائه المناسب له ... الخ (١).

قد يتأمّل فيما أُفيد من إرجاع الرافع إلى الدافع الذي هو عبارة أُخرى عن المانع ، بأن يقال : إنّ ذلك إنّما يمكن تسليمه في التكوينيات ، بناءً على ما أفاده قدس‌سره من احتياج الممكن في بقائه إلى العلّة كأصل حدوثه ، على أنّ تلك الدقّة العقلية ممّا يقطع بعدم ابتناء المحاورات والاستعمالات عليها.

أمّا الأُمور الشرعية فحيث إنّها لا تتوقّف في أصل تحقّقها في عالمها ولا في بقائها على أزيد من الجعل الشرعي إمضاءً أو تأسيساً ، فينبغي القول بتحقّق الرفع

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٣٣٦.

١١٤

بالنسبة إليها ، ومهما نشكّ في شيء فإنّا لا نشكّ في أنّ الطلاق مثلاً رافع لعلقة الزوجية ، والعتق رافع للملكية والرقّية ، وأمثلة ذلك في الفقه كثيرة ، وعليها تدور رحى أغلب موارد الاستصحاب ، خصوصاً بناءً على عدم شمول أدلّته للشكّ في المقتضي.

ولو كان كلّ رافع راجعاً إلى الدافع الذي هو عبارة عن المانع للمقتضي عن تأثيره فيما يقتضيه ، لكان الاستصحاب في جميع تلك الموارد راجعاً إلى قاعدة المقتضي والمانع ، إذ لا يكون الشكّ حينئذ في وجود الرافع أو رافعية الموجود إلاّ من قبيل الشكّ في المانع أو مانعية الموجود ، ولا يكون ملاك الاستصحاب هو الأخذ بالموجود السابق المتيقّن وجوده سابقاً حتّى يعلم بوجود رافع ذلك الوجود السابق ، إذ لا أثر للوجود السابق ، ويكون الملاك في الاستصحاب هو الاعتماد على المقتضي فيما يأتي ، وعدم الاعتناء باحتمال وجود ما يكون مانعاً من تأثير المقتضي أثره ، ويكون مرجع الاستصحاب حينئذ إلى عدم الاعتناء باحتمال وجود ما يزاحم العلّة في تأثيرها ، لا إلى الأخذ بما كان متيقّناً موجوداً وعدم الاعتناء باحتمال طروّ رافع لذلك الموجود.

ومن جملة ما يكون رافعاً في الشرعيات النسخ ، بناءً على أنّ المصلحة المحدودة بالزمان وإن لم تقتض إلاّ الحكم المحدود فيكون النسخ من قبيل الدفع ، إلاّ أنّه من الممكن أن يجعل الشارع نفس الحكم غير محدود ، غايته أنّه يلزمه أن يرفعه عند انتهاء أمد مصلحته ، وربما كان سلوك الشارع الطريقة الثانية أولى عنده من الطريقة الأُولى ، لأجل مصلحة لاحظها في سلوك الطريقة الثانية ، كمن يرى نفسه محتاجاً إلى الزواج لمدّة محدودة ، لكن كانت هناك جهة توجب عليه إيجاد النكاح غير محدود ، ثمّ بعد انتهاء أمد حاجته إليه يوقع الطلاق.

١١٥

وحاصل المراد : أنّ من سبر الفقه يرى أنّ جملة من الأُمور الشرعية سواء كانت وضعية أو كانت تكليفية ، قد جعل الشارع لها روافع ترفعها بعد أن تحقّق جعلها في الشريعة ، كما في النكاح ورافعه الطلاق ، وكما في الطهارة من الحدث ورافعها هو الحدث ، وكما في كلّ حكم ورافعه الذي هو النسخ على ما عرفت.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ جميع المجعولات الشرعية ليست إلاّ اعتبارية من جانب الشارع ، خصوصاً بناءً على عدم جعل السببية كما حقّق في محلّه (١) ، فإنّه بناءً عليه لا تكون العلّة في تلك المجعولات إلاّجعل الشارع واعتباره ، فتكون تلك المجعولات معلولة لذلك الجعل الشرعي ، الذي هو الاعتبار الشرعي كما في الوضعيات ، أو نفس جعل التكليف كما في التكليفيات ، وليس محصّل رفعها أو جعل الرافع لها إلاّحدوث جعل آخر واعتبار آخر ، وتحقّق هذا الجعل والاعتبار الطارئ يكون عبارة أُخرى عن رفع اليد عن الجعل الأوّل أو الاعتبار الأوّل ، فعند التحقيق لا يكون ذلك المجعول أو المعتبر ثانياً رافعاً لما هو المجعول والمعتبر أوّلاً ، بل يكون نفس الجعل أو الاعتبار الثاني واقعاً في رتبة الجعل والاعتبار الأوّل في كونه موجباً لعدم تأثيره.

وأمّا الرافع في باب الاستصحاب فهو مبني على الذوق العرفي ، المبني على أنّ ما يكون مانعاً من تأثير العلّة في الاستمرار يسمّى رافعاً ، وما يكون مانعاً من تأثيرها في أصل الوجود يسمّى دافعاً.

ثمّ لا يخفى أنّ هذا الذي ذكرناه من الاعتبار الأوّل والاعتبار الثاني لا يصحّح كون الجعل الثاني من قبيل الدفع الحقيقي بالنسبة إلى الجعل الأوّل ، بل لا يكون إلاّ من مجرّد رفع اليد عن الجعل والاعتبار الأوّل ، فلا يكون حينئذ من الدفع ، بل

__________________

(١) راجع الحاشية الآتية في المجلّد التاسع من هذا الكتاب ، الصفحة : ١٧٨ ومابعدها.

١١٦

ولا من الرفع.

وكيف كان ، فهذه أُمور لا دخل لها بما نحن بصدده من الجهة اللفظية الاستعمالية التي يكون قوامها هو الفهم العرفي ، غير المبني على هذه التدقيقات التي ربما لا يتعقّلها غالب أهل اللسان ، وفائدة هذه الجهة الاستعمالية وإن كانت لاستنتاج فهم المراد من كلام الشارع وهو العالم الحكيم ، إلاّ أنّ كلامه منزّل على الفهم العرفي الذي يفهمه أهل اللسان ، إذ الخطاب إنّما هو معهم ، وإذا رجعنا إلى أهل اللسان نجدهم يفرّقون بين قولهم : رفعت الحجر عن الأرض ، وقولهم : دفعت الحجر عن زيد ، إذا منعه من الوصول إليه ، فإنّهم يحكمون بأنّ المراد من الرفع في الجملة الأُولى غيره في الجملة الثانية على وجه لو استعمل الرفع في الثاني لكان في أنظارهم غلطاً ، إلاّ إذا نزّل اقتضاء قوّة الرامي لذلك الحجر منزلة وقوعه على زيد ونحو ذلك من التنزيلات. أمّا استعمال الدفع في مورد الجملة الأُولى فلا أستحضر له مصحّحاً ولو على نحو التنزيل وعناية التجوّز ، ولا أستحضر له فعلاً مثالاً عرفياً مقبولاً.

ثمّ إنّه قد وقع الرفع مسنداً إلى الشارع في كثير من الموارد ، وليس المراد به الرفع الحقيقي ، كما في حديث « رفع القلم عن الصبي حتّى يحتلم ، والمجنون حتّى يفيق ، والنائم حتّى يستيقظ » (١) ونحو ذلك ممّا ورد فيه الرفع منسوباً إلى الشارع مع العلم بخلوّ صفحة التشريع قبل ذلك الرفع عن ذلك المرفوع ، ولعلّ من هذا القبيل قوله عليه‌السلام : « ما حجب الله تعالى علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » (٢) بناءً على أنّ المراد من حجب العلم عدم صدور البيان من جانب

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ٤٥ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٤ ح ١١ ( مع اختلاف في اللفظ ).

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٦٣ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٣٣.

١١٧

الشارع ، ويكون من قبيل « اسكتوا عمّا سكت الله عنه » (١).

فإنّ جميع ما كان من هذا القبيل لا يراد به الرفع الحقيقي ، أعني رفع شيء موجود متحقّق في وعائه. كما أنّه ليس المراد هو الدفع الحقيقي ، بل المراد به عدم الجعل ، غايته أنّه لابدّ في تلك الموارد من كون المورد قابلاً للجعل ، لتكون تلك القابلية مصحّحة لتنزيل المعدوم منزلة الموجود في صحّة نسبة الرفع إليه ، ليكون من قبيل الاستعارة التي يبتني عليها أغلب الاستعمالات ، ولعلّ ذلك المقدار من القابلية هو المصحّح لكون المقام من قبيل الدفع ، إلاّ أنّ التعبير بالرفع يكون في أمثال هذه المقامات ممّا يكون مسوقاً مساق المنّة أبلغ من التعبير بالدفع.

وليس المراد من القابلية المصحّحة لنسبة الرفع هي القابلية التامّة حتّى بالنظر إلى عدل الشارع وحكمته ولطفه وعدم صدور القبيح منه ، وإلاّ لما صحّ استعمال الرفع في المجنون ونحوه ، بل المراد القابلية في الجملة ، في قبال الرفع عن الحيوان والجماد مثلاً ، وهذا المقدار من القابلية في الجملة مصحّح لاستعمال الرفع ، ويكون بحسب النتيجة موازناً لعدم الجعل كما في دليل نفي الحرج.

ولا فرق بين العبارتين في أصل المؤدّى الواقعي إلاّباعتبار راجع إلى خصوصيات بيانية راجعة إلى فنّ البلاغة ، وربما كان لها أثر مهم ، كما يظهر في تحكيم بعض الأدلّة على بعض مع كون المؤدّى الواقعي واحداً ، وإنّما كان اللسان فيه مختلفاً ، ولهذا الاختلاف أثره في باب الحكومة ، كما في حكومة الأدلّة الاجتهادية على الأُصول العملية ، وحكومة الأُصول بعضها على بعض ، فإنّ ذلك

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٧٥ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٦٨. وفيه : « وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسياناً فلا تكلّفوها ».

١١٨

ليس إلاّللخصوصيات اللسانية البيانية ، وإن كان المؤدّى الواقعي واحداً.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّه قد سبق إلى النظر القاصر قياس ما نحن فيه من حديث الرفع (١) على الأمثلة المزبورة ، فيقال : إنّه ليس المراد بالرفع في هذا الحديث الشريف في جميع التسعة إلاّمعنى واحداً ، وهو مجرّد عدم الجعل ، غايته أنّه يكون واقعياً فيما عدا « ما لا يعلمون » ، وفي خصوص « ما لا يعلمون » لا يكون الرفع الذي هو عبارة عن عدم الجعل إلاّظاهرياً ، وذلك الاختلاف لا يوجب اختلافاً في معنى الرفع لغة واستعمالاً ، بل لا يكون الرفع في الجميع إلاّ بمعنى واحد ، وهو عبارة عن عدم الجعل ، وخصوصية كونه ظاهرياً أو واقعياً إنّما يكون في المنسوب إليه الرفع وهو المرفوع ، فحيث كان موضوعه في « ما لا يعلمون » هو عدم العلم بالحكم الواقعي ، وكان الرفع وارداً في طريق ذلك الحكم الواقعي ، لم يكن رفع ذلك الحكم الذي هو عبارة عن عدم جعله إلاّحكماً ظاهرياً ، بخلاف باقي التسعة ، والقرينة الموجبة لحمل التصرّف في « ما لا يعلمون » على الحكم الظاهري هي ما أقمناه من الأدلّة القطعية العقلية والنقلية على مشاركة العالم والجاهل في الأحكام الواقعية الشرعية ، فإنّ تلك الأدلّة تكون من قبيل القرينة القطعية الموجبة لعدم حمل الرفع المسند إلى « ما لا يعلمون » على الرفع الحقيقي الواقعي ، فلابدّ حينئذ من التنزّل إلى حمله على الرفع الظاهري.

هذا حاصل ما وقع في الذهن القاصر من توجيه الرفع في الحديث الشريف ، ومجمله : حمل الرفع في جميع فقراته على مجرّد عدم الجعل ، مع فرض كون المورد في جميع هذه الفقرات التسع قابلاً للجعل الشرعي ، ويكون

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٥ : ٣٦٩ / أبواب جهاد النفس ب ٥٦ ح ١.

١١٩

وزان الحديث الشريف حينئذ وزان حديث رفع القلم عن الصبي والمجنون والنائم ، غايته أنّه يكون الرفع الذي هو بمعنى عدم الجعل واقعياً في جميع الفقرات التسع ما عدا « ما لا يعلمون » ، وفي خصوص « ما لا يعلمون » يكون ذلك ـ أعني الرفع بمعنى عدم الحكم ـ ظاهرياً.

ولا يخفى أنّ هذا المعنى أعني كون الرفع في « ما لا يعلمون » ظاهرياً وفي غيره واقعي ، لا يختلف الحال فيه بين أخذ الرفع بمعنى عدم الجعل ، أو أخذه بمعناه الأصلي الذي هو رفع الشيء الموجود ، غايته أنّه في المقام يكون رفع الشيء المنزّل منزلة الموجود باعتبار الاقتضاء ، وحينئذ يكون الرفع في « ما لا يعلمون » مخالفاً في السياق لباقي التسع من وجهين ، أحدهما : من جهة المسند إليه ، فإنّ المرفوع فيه هو نفس الموصول الذي هو عبارة عن الحكم ، والمرفوع فيها هو أحكامها لا نفسها. الثاني : من جهة المسند ، فإنّه في « ما لا يعلمون » لا يكون إلاّظاهرياً ، وفي باقي التسع لا يكون إلاّواقعياً ، وهذه الجهة ـ أعني الواقعية والظاهرية ـ توجب الاختلاف في ناحية نفس المجعول الذي هو المسند إلى كلّ واحدة من هذه الفقرات ، وإن كان الاختلاف ناشئاً عن المسند إليه.

ولا يخفى أنّ التعبير عن هذه الجهة الثانية باختلاف السياق لا يخلو عن مسامحة ، لأنّ اختلاف السياق إنّما يكون في المتعاطفات من دون أن تجمعها ثمّ بعد ذلك تذكر التعاطف ، وما نحن فيه قد أسند الرفع أوّلاً إلى مجموع التسع ثمّ تلاها التعاطف ، فليس الإشكال من جهة اختلاف السياق ، بل هو راجع إلى الجمع بين معانٍ متعدّدة في لفظ واحد.

نعم ، الإشكال من الجهة الأُولى سياقي ، لأنّ الاختلاف فيه إنّما هو في المتعاطفات ، فبعضها وهو « ما لا يعلمون » سلّط عليه الرفع باعتبار نفسه ،

١٢٠