أصول الفقه - ج ٧

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٧

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-72-0
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٩٢

قوله : لما عرفت من أنّه لا يمكن جعل الوظيفة في باب دوران الأمر بين المحذورين ، من غير فرق بين الوظيفة الشرعية والعقلية ... الخ (١).

لا يقال : بناءً على ما قيل في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي باختلاف الرتبة واندفاع التناقض بذلك ، يمكن أن يقال : إنّ الشارع يمكنه جعل الحرمة الواقعية لما تردّد بين الحرمة والوجوب ، ويكون ذلك من قبيل القول

__________________

أنّ قوّة أحد الاحتمالين توجب ترجيح الاحتياط فيه على الاحتياط في الطرف الآخر ، لكن الأوّل يتصوّر فيه احتمال الأهمية بخلاف الثاني ، إذ لا محصّل لاحتمال قوّة الاحتمال ، فتأمّل.

تنبيه : أنّ صاحب الكفاية قدس‌سره ذكر في الأمر الخامس من الأُمور التي عقدها في أوائل القطع فيما عقده لمسألة وجوب الموافقة الالتزامية ، وأنّها مانعة من جريان الأُصول في أطراف العلم الاجمالي ، ما هذا نصّه : إلاّ أنّ الشأن حينئذ في جواز جريان الأُصول في أطراف العلم الاجمالي ( يعني فيما دار الأمر فيه بين المحذورين ) مع عدم ترتّب أثر عملي عليها ، مع أنّها أحكام عملية كسائر الأحكام الفرعية [ كفاية الأُصول : ٢٦٩ ]. لكنّه في الهامش عدل عن ذلك وأفاد ما هذا لفظه : والتحقيق جريانها لعدم اعتبار شيء في ذلك عدا قابلية المورد للحكم إثباتاً ونفياً ، فالأصل الحكمي يثبت له الحكم تارةً كأصالة الاباحة ، وينفيه أُخرى كاستصحاب عدم الوجوب والحرمة فيما دار بينهما ، فتأمل جيّداً [ لا يوجد هذا الهامش في طبعة مؤسّسة آل البيت عليهم‌السلام وكذا الطبعة المحشّاة بحاشية المحقّق المشكيني قدس‌سره ، نعم ذكر في طبعة مؤسّسة النشر الإسلامي : ٣١٠ ، كما ذكر في حقائق الأُصول ٢ : ٤١ ، لكن فيه : ... تارة كأصالة الصحّة ... ].

وعلى ذلك جرى في مبحث دوران الأمر بين المحذورين [ كفاية الأُصول : ٣٥٥ ] ، لكنّه لم يدفع الإشكال على ذلك بكون الأصل محتاجاً إلى الأثر العملي إلاّبمجرّد دعوى المنع من هذا الاعتبار ، فلاحظ وتأمّل.

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٤٤٤.

٣٤١

بالسببية ، فيكون ما تردّد بين الحرمة والوجوب حراماً واقعاً بحرمة أُخرى طارئة على الفعل الذي تردّد بين الحرمة الواقعية والوجوب الواقعي ، وحينئذ نقول : لو حصل الشكّ في تلك الحرمة الطارئة على المردّد المذكور ، كان المرجع فيها هو الأُصول العملية من قاعدة الحل أو البراءة ، ونحو ذلك من الأُصول الجارية في الشبهات التحريمية.

لأنّا نقول : أوّلاً ، قد تحقّق في محلّه (١) عدم صحّة اندفاع التناقض باختلاف الرتبة ، وإلاّ لجاز أن يجعل الشارع الحرمة لما علم بوجوبه ، أو الوجوب لما علم حرمته.

وثانياً : أنّ هذا لو تمّ لم يكن جريان أصالة الحل أو البراءة في الحرمة التي هي طرف الوجوب ، بل كان ما هو مجرى قاعدة الحلّ أو البراءة هو الحرمة الطارئة على ما تردّد بين الحرمة والوجوب ، وذلك أمر آخر غير ما هو محلّ الكلام من الحرمة المقابلة للوجوب ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : أو يكون أحدهما الغير المعيّن توصّلياً (٢).

الأولى أن يقول : وكان الآخر لا بعينه تعبّدياً ، فإنّه في هذه الصورة لا يتمكّن من المخالفة القطعية كما إذا كانا معاً توصّليين ، حيث إنّه إذا ترك لا بقصد التعبّد يكون قد خالف احتمال الوجوب ، سواء كان هو التعبّدي أو كان التعبّدي هو التحريم ، لكنّه لا يعلم أنّه قد خالف التحريم ، لاحتمال كون التحريم المحتمل توصّلياً. وهكذا الحال لو فعل لا بقصد القربة ، فإنّه وإن كان قد خالف التحريم ، سواء كان تعبّدياً أو كان توصّلياً ، لكنّه لا يعلم أنّه قد خالف الايجاب ، لاحتمال

__________________

(١) راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٣٠٩ من المجلّد السادس من هذا الكتاب.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٤٥٢.

٣٤٢

كون الايجاب المحتمل توصّلياً.

قوله : فلو كان كلّ منهما تعبّدياً أو كان أحدهما المعيّن تعبّدياً ، فليس من دوران الأمر بين المحذورين (١).

مراده بكون الحرام تعبّدياً هو كون المطلوب به الذي هو الترك تعبّدياً ، أمّا ما لو كان نفس الحرام تعبّدياً كما في القول بحرمة العبادة على الحائض حرمة ذاتية ، وحصلت الشبهة الموضوعية بين الطهر والحيض ، كانت الصلاة العبادية مردّدة بين الايجاب والتحريم ، وكانت من قبيل الدوران بين المحذورين ، إذ لا يمكنها المخالفة القطعية كما لا يمكنها الموافقة القطعية.

قوله : الأمر الرابع : دوران التكليف بين الوجوب والحرمة بالنسبة إلى الفعل الواحد ، تارةً يكون مع وحدة الواقعة كما لو دار الأمر بين كون المرأة المعيّنة محلوفة الوطء أو محلوفة الترك في ساعة معيّنة ، وأُخرى مع تعدّد الواقعة كالمثال إذا فرض أنّ الحلف على الفعل أو الترك كان في كلّ ليلة من ليالي الجمعة ... الخ (٢).

ذكر قدس‌سره كما في تحريرات السيّد سلّمه الله لتعدّد الواقعة صورتين :

الأُولى : ما لو كانت الوقائع تدريجية مع كون التكليف المعلوم واحداً مردّداً بين الوجوب والحرمة مع كون المتعلّق واحداً ، وهي الصورة الثانية من صورتي هذا التحرير.

الثانية : ما لو كانت الوقائع دفعية مع كون التكليف المعلوم هو كلّ من الوجوب والحرمة مع تعدّد المتعلّق ، بأن نذر الفعل على واحدة معيّنة من زوجتيه

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٤٥٢.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٤٥٢.

٣٤٣

في ساعة معيّنة ، ونذر الترك على الأُخرى في تلك الساعة أيضاً ، واشتبهت منذورة الفعل بمنذورة الترك.

وفرّق بين الصورتين فجوّز المخالفة القطعية في الصورة الأُولى ، وجوّز للناذر الفعل في الليلة الأُولى والترك في الليلة الثانية وبالعكس ، فحكم بكون التخيير استمرارياً ، ولم يجوّز له ذلك أعني المخالفة القطعية في الصورة الثانية ، بأن يقدم على الفعل في كلّ منهما أو الترك في كلّ منهما ، بل حكم بأنّه يلزمه اختيار الفعل في إحداهما والترك في الأُخرى ، فراراً من المخالفة القطعية في إقدامه على فعلهما أو على تركهما ، ولم يكن المنشأ عنده في تجويز المخالفة القطعية في الأُولى هو خروج الليلة الثانية عن الابتلاء فعلاً ، بل إنّ المنشأ في ذلك هو أنّ كلّ واقعة من تلك الوقائع في الليالي المتعدّدة واقعة برأسها لم يعلم فيها الملاك الملزم ، وهذا بخلاف الصورة الثانية لوجود العلم بوجوب الفعل في إحدى الزوجتين وحرمته في الأُخرى ، وهذا العلم وإن كان لا يؤثّر في وجوب الموافقة القطعية إلاّ أنّه يؤثّر في حرمة المخالفة القطعية ، فراجع ما أفاده في تحرير السيّد سلّمه الله (١).

قلت : لا يخفى أنّ هذا الناذر في الصورة الثانية قد حصل له العلم الاجمالي بوجوب الوطء في هذه الساعة بالنسبة إلى واحدة معيّنة من زوجتيه ، وحرمته بالنسبة إلى الأُخرى ، فيكون عالماً بوجوب الوطء وبحرمته بالنسبة إلى إحدى الزوجتين ، وهذا العلم الاجمالي لا يمكن الحصول على موافقته القطعية بالنسبة إلى كلا التكليفين المعلومين. نعم يمكن الحصول على الموافقة القطعية في أحد التكليفين الذي هو الوجوب مثلاً ، بأن يقدم على وطئهما في تلك الساعة ، لكن

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٤٠٥ ـ ٤٠٧.

٣٤٤

ذلك مقرون بالمخالفة القطعية بالنسبة إلى التكليف الآخر الذي هو التحريم. وهكذا لو أقدم على ترك الوطء فيهما ، فإنّه يحصل على الموافقة القطعية بالنسبة إلى التحريم المعلوم ، لكنّه مقرون بالمخالفة القطعية بالنسبة إلى الوجوب ، وحينئذ تقع المزاحمة بين وجوب الموافقة القطعية لأحد التكليفين وحرمة المخالفة القطعية للتكليف الآخر.

فمن يقول إنّ حرمة المخالفة القطعية مقدّمة على الموافقة القطعية ، لكون العلم الاجمالي علّة تامّة بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية ، ومقتضياً بالنسبة إلى الموافقة القطعية ، فإذا حصل المانع منها سقطت. ويكفي في سقوط الموافقة القطعية في المقام بالنسبة إلى كلّ واحد من التكليفين ابتلاؤها بالمخالفة القطعية بالنسبة إلى التكليف الآخر ، وحينئذ يتعيّن الفرار من المخالفة الحاصلة بوطئهما أو بترك وطئهما ، بلزوم الفعل في إحدى الزوجتين والترك في الأُخرى مخيّراً بينهما ، وهذا هو مسلك الأُستاذ قدس‌سره.

ومن يقول إنّهما عرضيان ولا ترجيح لإحداهما على الأُخرى ، يلزمه أن يقول في المقام بأنّ المكلّف مخيّر بين تحصيل الموافقة القطعية ولو وقع في المخالفة القطعية ، فله أن يطأهما معاً وله أن يتركهما معاً ، وبين الفرار عن المخالفة القطعية وإن فاتته الموافقة القطعية ، بأن يطأ إحداهما ويترك الأُخرى فيكون المكلّف مخيّراً بين الصور الثلاث : وطئهما معاً ، تركهما معاً ، وطء إحداهما وترك الأُخرى.

وهذا التخيير جارٍ عند هذا الشخص في الصورة الأُولى ، وهي كون التعدّد من جهة التدريج في الزمان ، فجوّز له الوطء في الليلة الأُولى والثانية ، وتركه فيهما ، والإقدام عليه في الليلة الأُولى وتركه في الثانية وبالعكس ، فيكون التخيير

٣٤٥

عنده استمرارياً.

وأمّا شيخنا قدس‌سره فهو وإن اختار التخيير الاستمراري ، إلاّ أنّه ليس مدركه عنده هو كون حرمة المخالفة في عرض وجوب الموافقة ، بل إنّها عنده في طولها ، بل إنّ مدركه عنده هو ما تقدّم نقله من كون التكليف المعلوم في هذه الصورة واحداً مردّداً بين الوجوب والتحريم ، وأنّ الوقائع المتعدّدة بحسب الليالي تكون كلّ واحدة برأسها مردّدة بين الوجوب والحرمة ، فيكون في كلّ واقعة مخيّراً بين الفعل والترك ، وهو معنى التخيير الاستمراري ، هذا.

ولكن ما أفاده قدس‌سره قابل للتأمّل ، لأنّ الوقائع في مسألة الزوجتين متعدّدة ، فكلّ زوجة هي مردّدة بين الإيجاب والتحريم في هذه الليلة ، كما أنّ كلّ ليلة مردّدة بين الايجاب والتحريم بالنسبة إلى هذه الزوجة الواحدة ، بل التعدّد في مسألة الزوجتين أوضح منه في الليالي المتعدّدة بالنسبة إلى الزوجة الواحدة.

ثمّ إنّ ما أُفيد من كون الموافقة القطعية في طول المخالفة القطعية فلا يعقل مزاحمتها بها ، قابل للتأمّل أيضاً ، فإنّ الطولية بينهما إنّما هي بالنسبة إلى التكليف الواحد ، كما لو علم بنجاسة أحد الاناءين ، فالعلم الاجمالي يحرّم عليه شربهما لأنّه مخالفة قطعية ، وينتقل إلى شرب أحدهما ، فإنّ العلم الاجمالي لا يمنع منه ، لكن يحتاج إلى أصل مسوّغ ، فاجراء الأصل في كلّ منهما ينتهي إلى محذور المخالفة القطعية ، وإجراؤه في هذا دون ذاك أو بالعكس ترجيح بلا مرجّح فتتعارض الأُصول وتتساقط ، فلابدّ من تركهما الذي هو الموافقة القطعية ، فتكون الموافقة القطعية متأخّرة رتبة عن المخالفة القطعية.

ومن الواضح أنّ هذا الترتيب لا يأتي بالنسبة إلى التكليفين اللذين تكون الموافقة القطعية في أحدهما ملازمة للمخالفة القطعية للآخر ، كما لو ترك

٣٤٦

الزوجتين معاً أو وطئهما معاً ، وكما لو ترك في الليلة الأُولى وفعل في الليلة الثانية في مسألة الزوجة الواحدة ، بخلاف ما لو خالف في الزوجتين فعلاً وتركاً ، أو وافق في مسألة الزوجة الواحدة بين الليلتين فعلاً أو تركاً ، فإنّه لا يحصل على موافقة قطعية ولا على مخالفة قطعية ، بل لا يكون في البين إلاّ الاحتمال.

فالعمدة هو المقابلة بين التكليفين أعني التحريم والايجاب ، فإن قدّمنا الأوّل ولو من جهة أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة ، كان عليه الترك في الزوجتين في الليلة الواحدة والترك في الليلتين في الزوجة الواحدة ، وإن لم نقدّم أحدهما على الآخر ، كان لازم ذلك التخيير بين الترك في الزوجتين والفعل فيهما ، والتبعيض بأن يترك إحداهما ويطأ الأُخرى ، وهكذا الحال في الليلتين بالنسبة إلى الزوجة الواحدة ، فهو مخيّر بين تركها في كلّ من الليلتين ووطئها في كلّ منهما ، أو الترك في إحدى الليلتين والوطء في الأُخرى ، فلاحظ وتدبّر. هكذا ينبغي تحرير المسألة ، وينبغي الضرب على ما ذكرناه من قولنا : وقد يقال إلى آخر البحث (١)

__________________

(١) [ ارتأينا إدراج ما أمر قدس‌سره بالضرب عليه في الهامش ، تتميماً للفائدة ، وهو ما يلي : ]

وقد يقال : إنّ هذا المكلّف لو نظر إلى الوطء في الليلة الأُولى والترك في الليلة الثانية ، لكان عالماً بأنّ أحدهما واجب والآخر محرّم ، ومقتضى علمه بالوجوب المردّد بينهما هو التزامهما ، بأن يطأ في الأُولى ويترك في الثانية ، ومقتضى علمه بالحرمة المردّدة بينهما هو تركهما ، بأن يترك الوطء في الأُولى ويفعله في الثانية ، وحينئذ يعود عليه محذور العلم الاجمالي ، وحينئذ نقول إنّه لو أقدم على الوطء في الليلة الأُولى والترك في الليلة الثانية أو العكس ، لكان قد حصل على الموافقة القطعية بالنسبة إلى الوجوب المعلوم المردّد متعلّقه بين الوطء في الأُولى والترك في الثانية ، لكنّه قد خالف التحريم المعلوم المردّد بين المتعلّقين المذكورين ، وحينئذ تقع المزاحمة بين حرمة

٣٤٧

__________________

المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية.

فمن يقول بتقدّم المخالفة القطعية كشيخنا قدس‌سره ينبغي له أن يمنعه من التبعيض ، ويلزمه بأحد الأمرين من الترك في الليلتين أو الفعل فيهما ، فراراً من المخالفة القطعية وإن فاتته الموافقة القطعية ، وحينئذ ينبغي أن يكون التخيير بدوياً لا استمرارياً. إلاّ أن نقول : إنّ العلم الاجمالي لا أثر له في التدريجيات ، لخروج الليلة الثانية عن ابتلائه فعلاً. لكن قد عرفت أنّ ذلك أعني الخروج عن الابتلاء لم يكن هو الأساس عنده قدس‌سره في استمرارية التخيير.

أمّا من يقول بكونهما عرضيين فيتّجه عنده التخيير بين الأُمور الثلاثة : الفعل في الليلتين ، والترك فيهما ، والتبعيض ، وهو معنى كون التخيير استمرارياً.

والظاهر أنّه لا مدفع لهذه الجهة من التأمّل فيما أفاده شيخنا قدس‌سره إلاّ المنع من هذا العلم الاجمالي المدّعى ، أعني العلم بوجوب أحد الأمرين : الفعل في الليلة الأُولى والترك في الثانية وحرمة الآخر منهما ، فإنّه لا محصّل له ، إذ ليس في البين إلاّ العلم بالحرمة في كلّ من الليلتين أو الوجوب فيهما ، وليس التعبير بأنّ الوطء في الأُولى والترك في الثانية أو العكس أحدهما معلوم الوجوب والآخر معلوم الحرمة إلاّمغالطة صرفة ، إذ لا معنى لكون الترك معلوم الوجوب إلاّحرمة الوطء ، ولا معنى لحرمة الترك إلاّوجوب الفعل ، فقولنا : إمّا أن يكون الوطء في الليلة الأُولى واجباً وإمّا أن يكون الترك في الليلة الثانية واجباً ، لا يكون الشقّ الثاني فيه إلاّعبارة عن حرمة الوطء في الليلة الثانية ، فيكون حاصل الترديد أنّه إمّا أن يجب الوطء في الليلة الأُولى وإمّا أن يحرم في الليلة الثانية ، ومن الواضح أنّه لا مقابلة بينهما ، لأنّه إذا وجب في الليلة الأُولى كان واجباً أيضاً في الليلة الثانية ، وإذا كان حراماً في الليلة الثانية كان حراماً أيضاً في الليلة الأُولى.

وهكذا الحال في قولنا : إمّا أن يكون الوطء في الليلة الأُولى حراماً ، وإمّا أن يكون

٣٤٨

__________________

الترك في الليلة الثانية حراماً ، فإنّه لا معنى لحرمة الترك في الليلة الثانية إلاّوجوب الفعل ، فيكون حاصل الترديد أنّه إمّا أن يكون الوطء في الليلة الأُولى حراماً ، وإمّا أن يكون الوطء في الليلة الثانية واجباً ، ومن الواضح أنّه لا مقابلة بينهما ، لأنّه إذا كان حراماً في الليلة الأُولى كان حراماً أيضاً في الثانية ، فلا يكون الحاصل حينئذ إلاّ أنّه إمّا أن يجب الوطء في الليلتين وإمّا أنّه حرام فيهما ، فلا يكون التكليف المعلوم إلاّواحداً مردّداً بين الوجوب والتحريم ، فلا تكون الموافقة القطعية واجبة بالنسبة إلى ذلك التكليف الواحد المعلوم ، لعدم القدرة عليها ، ولا يبقى في البين إلاّحرمة المخالفة ، للقدرة عليها بالتخالف بين الليلتين ، فتكون المخالفة المذكورة ممنوعة عقلاً ، ومقتضاه كون التخيير بدوياً ، فيلزمه إمّا الفعل فيهما وإمّا الترك فيهما.

وفي هذه المسألة يكون العقل حاكماً بالمنع من التخالف ، وملزماً بالتوافق بين الليلتين فعلاً أو تركاً ، ويكون التخيير في هذه الصورة بين الفعل فيهما أو الترك فيهما بحكم العقل ، لا أنّه تكويني بحكم الطبع. وعلى كلّ حال لا يكون التخيير إلاّبدوياً.

نعم ، لو قلنا بخروج الليلة الثانية فعلاً عن ابتلائه لم يكن العقل حاكماً بحرمة المخالفة القطعية ، وكان في كلّ ليلة مخيّراً بين الفعل والترك ، وكان التخيير استمرارياً تكوينياً ، فتأمّل جيّداً في أطراف ما ذكرناه ، وفيما أفاده شيخنا قدس‌سره في تحرير السيّد سلّمه الله ، وراجع ما أفاده الأُستاذ العراقي قدس‌سره في هذه المسألة فيما حرّرناه عن درسه وفيما أفاده في المقالة [ مقالات الأُصول ٢ : ٢٢٣ ].

والشاهد لما ذكرناه من كون هذا العلم الاجمالي مغالطة صرفة وأنّه لا واقعية له ، هو ما تقدّم في مثال الزوجتين ، وأنّ الاقدام على الوطء فيهما يكون محصّلاً للموافقة القطعية للوجوب المعلوم ، لكنّه مقارن للمخالفة القطعية للتحريم المعلوم ، وأنّ الترك في كلّ منهما يكون محصّلاً للموافقة القطعية بالنسبة إلى التحريم ، لكنّه مقارن للمخالفة القطعية للوجوب ، وصورة ذلك العلم الاجمالي في جانب الترك في كلّ منهما موجودة ، فإنّه يعلم أنّ أحد التركين واجب والآخر محرّم ، وحينئذ يكون الترك في كلّ

٣٤٩

__________________

منهما محصّلاً للموافقة القطعية للواجب وهو أحد التركين ، وللمخالفة القطعية للترك المحرّم وهو أحد التركين ، فيكون تحقّق هذا العلم الاجمالي خلفاً لما هو معلوم بالوجدان من كون التركين معاً محصّلاً للمخالفة القطعية لما هو الواجب في البين ، وما ذلك إلاّلبطلان صورة هذا العلم الاجمالي ، فإنّ كون أحد التركين واجباً لا واقعية [ له ] إلاّعبارة عن كون الفعل محرّماً ، كما أنّ كون أحد التركين محرّماً لا واقعية له إلاّعبارة عن [ كون ] الفعل واجباً ، فلا يكون ذلك إلاّعبارة عن العلم بوجوب أحد الفعلين وحرمة الفعل الآخر.

ففيما نحن فيه يكون العلم الاجمالي بأنّ أحد الأمرين من الفعل في الليلة الأُولى والترك في الليلة الثانية محرّم والآخر واجب ، لا واقعية له إلاّ العلم الاجمالي بحرمة الوطء في الليلتين أو وجوبه فيهما ، وإلاّ لكان الفعل في الليلة الأُولى والترك في الليلة الثانية محصّلاً للموافقة القطعية بالنسبة إلى الوجوب المعلوم وللمخالفة القطعية بالنسبة إلى التحريم المعلوم ، فيكون عكسه وهو الترك في الليلة الأُولى والفعل في الثانية محصّلاً للموافقة القطعية بالنسبة إلى التحريم المعلوم وللمخالفة القطعية بالنسبة إلى الوجوب ، مع أنّه مثل الأصل في ذلك العلم الاجمالي الصوري ـ أعني العلم بأنّ أحد الأمرين من الفعل والترك واجب والآخر محرّم ـ فيكون محصّلاً للموافقة القطعية بالنسبة إلى الوجوب مع المخالفة القطعية بالنسبة إلى التحريم ، مع أنّه بلحاظ كونه عكساً للأصل ينبغي أن يكون محصّلاً للموافقة القطعية بالنسبة إلى التحريم والمخالفة القطعية بالنسبة إلى الوجوب ، هذا خلف ، ولا دافع لهذا الخلف إلاّما عرفت من كون العلم بالنسبة إلى الأصل والعكس صوريّاً لا واقعية له ، وأنّه ليس في البين إلاّ العلم الاجمالي بوجوب الفعل في كلّ من الليلتين وحرمته في كلّ منهما ، فتأمّل.

٣٥٠

__________________

وحاصل الفرق بين مثال الزوجة الواحدة في الليلتين ومثال الزوجتين في الليلة الواحدة أنّه في مثال الزوجتين يكون لنا تكليفان معلومان ، الوجوب والحرمة ، والحصول على إطاعة أحدهما بوطئهما معاً أو بتركهما مزاحم بعصيان الآخر ، فتكون الموافقة القطعية في أحد التكليفين مزاحمة بالمخالفة القطعية في التكليف الآخر ، وحينئذ يكون الكلام في أنّ الاجتناب عن المخالفة القطعية لأحدهما مقدّم على الحصول على الموافقة القطعية في الآخر ، أو أنّهما في عرض واحد. أمّا مثال الزوجة الواحدة في الليلتين ، فلا يكون لنا إلاّتكليف واحد وهو مردّد بين الوجوب في كلّ من الليلتين والحرمة في كلّ منهما ، ويكون التخالف بين الليلتين محصّلاً للموافقة القطعية في إحدى الليلتين وللمخالفة القطعية لنفس ذلك التكليف في الليلة الأُخرى ، فيكون التزاحم بين إطاعة ذلك التكليف الواحد في إحدى الليلتين وعصيانه في الليلة الأُخرى ، فهل المقدّم هو لزوم الاجتناب عن عصيانه وإن فاتت إطاعته القطعية ، أو أنّه لا وجه للتقديم؟ وعلى الأوّل يكون التخيير بدوياً ، وعلى الثاني يكون التخيير استمرارياً.

أمّا نظرية شيخنا قدس‌سره فهي أنّه قدس‌سره يجعل الليلتين واقعتين مستقلّتين ، يكون التكليف في كلّ منهما مردّداً بين الوجوب والتحريم ، والمكلّف في كلّ من هاتين الواقعتين لا يتمكّن من الموافقة القطعية ولا من المخالفة القطعية ، فتخرج المسألة حينئذ عن المزاحمة بين الموافقة القطعية والمخالفة القطعية ، ويكون مخيّراً بين الفعل والترك في كلّ من الواقعتين.

لكن لو سلّمنا تعدّد الواقعة فلا أقل من التلازم بين الحكم في الواقعة الثانية والحكم في الواقعة الأُولى ، وهذا التلازم كافٍ في منع المكلّف من التخالف بينهما ، لأنّه موجب للمخالفة القطعية لما علمه من الوجوبين في الواقعتين أو التحريمين فيهما ، فالعقل من أوّل ليلة يزجره عن عصيان واحد من ذينك الحكمين المتلازمين المردّدين

٣٥١

قوله : أو دار الأمر بين الضدّين كما إذا دار الأمر في القراءة بين وجوب الجهر بها أو وجوب الإخفات ... الخ (١).

هذا فيما لو كان الترديد بينهما من قبيل الشبهة الحكمية ، كما في الظهر يوم الجمعة. أمّا لو كان التردّد المذكور من قبيل الشبهة الموضوعية ، كما لو علم بفوات رباعية مردّدة بين العصر والعشاء مثلاً ، فإنّ ظاهرهم عدم لزوم تكرار الصلاة ولا تكرار القراءة فيها ، بل إنّما أفتوا بأنّه يصلّي في مثل ذلك رباعية يقصد بها ما في الذمّة مخيّراً فيها بين الجهر والإخفات ، والمفروض أنّه من قبيل التردّد بين شرطية الجهر أو مانعيته ، أو من قبيل التردّد بين كون الشرط هو الجهر أو الإخفات.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ القاعدة وإن اقتضت في ذلك تكرار الصلاة أو تكرار القراءة ، إلاّ أنّا خرجنا عن القاعدة المذكورة لإطلاق دليل المسألة ، وهو المرسلة (٢) المتضمّنة لأنّه يصلّي رباعية بقصد ما في الذمّة ، من دون تعرّض لحال الجهر والإخفات فيها ، ومقتضى ذلك الاطلاق هو التخيير ، بل قيل : إنّ مقتضى إطلاقه هو سقوط اعتبار الجهر والإخفات ، حتّى قيل : إنه له أن يبعّض فيقرأ في تلك الفريضة الواحدة جهراً وإخفاتاً ، فراجع الكتب الفقهية في هذه المسألة.

ولعلّ الكلام في هذه المسألة مبني على أنّ الجهر أو الإخفات هل هو من

__________________

بين الوجوبين والتحريمين في ظرف أنّه متمكّن من ذلك العصيان الاجمالي ، فتأمّل.

وهل يحكم شيخنا قدس‌سره فيما لو نذر الوطء أو عدمه في هذه الليلة بالنسبة إلى زوجتيه معاً بأنّه يصحّ له أن يطأ إحداهما ويترك الأُخرى.

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٤٥٥.

(٢) وسائل الشيعة ٨ : ٢٧٥ / أبواب قضاء الصلوات ب ١١ ح ١ ( وفيه : عن غيرواحد ).

٣٥٢

قبيل الشرط للصلاة في حال الجزء الذي هو القراءة ، أو أنّه واجب مستقل في حال القراءة ، أو أنّه شرط لنفس القراءة. وعلى الثاني ـ أعني كونه واجباً مستقلاً في حال الجزء ـ لا مورد لتكرار القراءة ولا لتكرار الصلاة ولو كانت الشبهة حكمية ، والمرسلة منطبقة على الثاني ، بل لعلّ ما دلّ على أنّ الجاهل بالجهر والإخفات لو كان مقصّراً معاقب ولا إعادة عليه منطبق على ذلك ، لكن لازم ذلك هو عدم الاعادة فيما لو عصى وأقدم على أحدهما في مورد الآخر. وعلى الأوّل ـ أعني كونه شرطاً للصلاة في حال الجزء ـ لا مورد لتكرار القراءة ، لكن يمكن الحصول عليه بتكرار الصلاة. وعلى الثالث يكون اللازم هو تكرار القراءة إن لم يكن في البين احتمال مانعية الآخر بالنسبة إلى نفس الصلاة ، وأمّا لو كان احتمال المانعية بالنسبة إلى نفس الجزء فالظاهر أنّه لا مانع من تكرار القراءة.

ويتفرّع على هذه الوجوه الثلاثة ما لو نسي فأجهر في موضع الاخفات وتذكّر قبل الدخول في الركوع ، فإنّه على تقدير كون الاخفات واجباً مستقلاً في حال الجزء لا يلزمه شيء ، وكذلك على تقدير كونه شرطاً للصلاة في حال الجزء ، لأنّه قد فاته الشرط ولا يمكن تلافيه إلاّباعادة الصلاة ، فيكون مشمولاً لحديث « لا تعاد » (١) ، بخلاف ما لو جعلناه شرطاً للجزء فإنّه يلزمه إعادة القراءة إخفاتاً.

لكن في الفرق بين كون الشيء شرطاً للجزء أو شرطاً للصلاة في حال الجزء تأمّل حاصله : أنّه لو كان شرطاً للصلاة في حال الجزء كان شرطاً للجزء أيضاً في ضمن كونه شرطاً للكل ، وحينئذ ففي الفرع المذكور يكون ذلك الجزء فاسداً فيلزمه إعادته واجداً للشرط الضمني. اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ فساد الجزء إنّما

__________________

(١) وسائل الشيعة ٦ : ٣١٣ / أبواب الركوع ب ١٠ ح ٥.

٣٥٣

هو في ضمن فساد الكل ، فإذا جرى حديث لا تعاد في فساد الكل الذي مقتضاه سقوط الشرطية بالنسبة إلى الكل ، كان ذلك موجباً لصحّة الجزء في ضمن صحّة الكل.

ثمّ إنّه في دوران الأمر بين المانعية والجزئية التي أفاد قدس‌سره أنّ اللازم فيها هو تكرار الصلاة ، لو فرضنا عدم سعة الوقت للتكرار فالظاهر التخيير ، إلاّ أنّه مع ذلك خارج عمّا نحن فيه ، لإمكان المخالفة القطعية بالاتيان به لا بقصد القربة. نعم يكون التخيير عقلياً ويلزمه الثاني بعد الوقت.

وهكذا الحال فيما لو تردّد الجزء بين الضدّين ، مثل أن نتردّد في أنّ الجزء هو القراءة الجهرية أو القراءة الاخفاتية بناءً على كونهما من قبيل شرط الجزء ، فإنّه لو قرأ لا بقصد القربة المطلقة يكون قد خالف التكليف الواقعي قطعاً. كما أنّه يمكنه الموافقة القطعية بأن يكرّر القراءة ، إمّا بأن يأتي بكلّ من الأُولى والثانية بداعي احتمال الوجوب الواقعي ، وإمّا أن يأتي بكلّ منهما بداعي أمره الواقعي المردّد بين الوجوب والندب ، حيث إنّ الوجوب تعلّق بأحد النوعين الجهرية والاخفاتية ، وينحصر الأمر الاستحبابي بالآخر ، فقبل الشروع يكون له أمران وجوبي وندبي ، ومتعلّق أحدهما الاخفاتية والآخر الجهرية ، فيأتي بالجهرية مثلاً بداعي أمرها الواقعي المردّد بين الوجوب [ والندب ] وبعد الفراغ من الجهرية لا يبقى له إلاّ أمر واحد مردّد بين الوجوب والندب متعلّق بالاخفاتية [ فيأتي بها ] بداعي ذلك الأمر الواقعي (١)

__________________

(١) انتهى الكلام بحمد الله تعالى على الجزء الثالث في القطع والظن والبراءة ، ويتلوه إن شاء الله تعالى الكلام على الجزء الرابع في أصالة الاشتغال [ منه قدس‌سره ].

٣٥٤

[ أصالة الاشتغال ]

قوله ـ من الجزء الرابع ـ : الفصل الثاني من المقام الثالث : في الشكّ في المكلّف به ، والكلام فيه يقع في مقامين : المقام الأوّل في تردّد المكلّف به بين المتباينين. المقام الثاني : في تردّده بين الأقل والأكثر (١).

عدّ مسألة الأقل والأكثر من أقسام الشكّ في المكلّف به مقابلة لمسألة المتباينين لا يخلو من تسامح ، حيث إنّ النزاع فيها صغروي ، فالقائل فيها بالبراءة يقول إنّها من مسائل الشكّ في التكليف ، والقائل بالاحتياط يقول من مسائل الشكّ بين المتباينين ، والأمر سهل. كما أنّه ينبغي إسقاط الشكّ في المحصّل ، لأنّه راجع إلى الشكّ في الامتثال مع عدم التصرّف الشرعي مثل قاعدة الشكّ بعد الوقت.

كما أنّ الكلام في هذه المباحث على حرمة المخالفة فيما تعرّض له ص ٤ إلى ص ٨ (٢) لم يكن في الحقيقة لإثبات حرمة المخالفة ، وإنّما كان لبيان إمكان إجراء الأُصول في الأطراف وعدم إمكان ذلك من ناحية مناقضتها للعلم أو للمعلوم أو لزوم المخالفة القطعية ، وأنّ الأُصول غير الاحرازية إذا كانت نافية للتكليف كالبراءة ونحوها لا تجري في أطراف العلم الاجمالي بالتكليف ، لكون الجمع في تلك الأطراف باجراء البراءة فيها موجباً للمخالفة القطعية ، فكانت النتيجة هي أنّ

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤.

(٢) وهو في الطبعة الجديدة من ص ١٠ إلى ص ٢٤.

٣٥٥

المانع من هذا النحو من الأُصول هو لزوم المخالفة القطعية وهي ممنوعة ، لا أنّ الموجب لحرمة المخالفة القطعية هو عدم جريان ذلك الأصل في الأطراف.

نعم ، إنّ حاصل الدليل على حرمة المخالفة القطعية والمنع العقلي منها هو ما أشار إليه بقوله : فإنّ المخالفة العملية ممّا لا يمكن أن تنالها يد الإذن والترخيص ، لأنّها عبارة عن المعصية ، ولا يعقل الإذن في المعصية ، لاستقلال العقل بقبح المعصية الخ (١) والشاهد في هذه العبارة هو الجملة الأخيرة ، وهي قوله : لاستقلال العقل بقبح المعصية ، فإنّ هذه هي الملاك في حرمة المخالفة القطعية ، لا ما أُفيد من عدم جريان البراءة في الأطراف ، لأنّها توجب المخالفة القطعية فراجع تحريرات السيّد سلّمه الله من قوله : أمّا الدعوى الأُولى ـ إلى قوله ـ وفي غيرها ( يعني غير الأُصول التنزيلية ) فيما إذا لزم من جريانها مخالفة عملية ، ومعه فلا يمكن تجويز المخالفة القطعية الخ (٢).

ولكن الأمر في ذلك سهل ، فإنّه قد تقدّم الكلام على ذلك مفصّلاً في مباحث القطع الاجمالي (٣) وأنّه هل هو كالقطع التفصيلي في حرمة المخالفة القطعية ، فكان الكلام هناك من الجهتين : الأُولى كلامية ، وهي هل أنّ معصية التكليف المعلوم بالاجمال كمعصية التكليف المعلوم بالتفصيل. والثانية أُصولية ، وهي بيان إمكان جريان الأُصول في الأطراف ، وهي ما كرّره هنا ، فلاحظ (٤)

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ١٧.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٤١٢ ـ ٤١٧.

(٣) راجع فوائد الأُصول ٣ : ٧٥ وما بعدها.

(٤) [ وجدنا ورقة منفصلة ألحقها المصنّف قدس‌سره بهذا الموضع وقد كتب فيها ما يمكن أن

٣٥٦

__________________

يكون تعليقاً على قوله في فوائد الأُصول ٤ : ٤ في ضابط الشكّ في المكلّف به ، وحاصله ... الخ ، وإليك نصّ ما كتبه قدس‌سره : ]

حاصل الضابط : هو أنّ ثبوت التكليف يتوقّف على إحراز كلّ من الكبرى والصغرى ، فلو حصل الشكّ في إحداهما ، كان من الشكّ في ثبوت التكليف ، والمرجع فيه هو الأُصول النافية أعني البراءة العقلية والشرعية ، ولو كان كلّ منها محرزاً تفصيلاً كان من العلم التفصيلي. ولو كان الاحراز إجمالياً بأن كان متردّداً بين المتباينين ، كان من قبيل الشكّ في المكلّف به ، سواء [ كان ] التردّد في الكبرى لتردّدها بين كبريين ، أعني وجوب صلاة الظهر أو وجوب صلاة الجمعة ، أو كان التردّد في الصغرى بعد إحراز الكبرى تفصيلاً ، كما لو علم بوجوب الصلاة إلى القبلة وتردّدت بين جهتين ، وكما لو علم بحرمة الخمر وتردّد بين إناءين ، فإنّ المكلّف به في جميع ذلك يكون مردّداً بين المتباينين ، سواء كان التردّد في الكبرى أو كان التردّد في الصغرى ، والأوّل على نحو الشبهة الحكمية والثاني على نحو الشبهة الموضوعية.

[ هذا وقد كتب المصنّف قدس‌سره في ظهر الورقة ما يلي : ]

إنّ المعلوم الاجمالي لابدّ أن يكون له تعيّن في الواقع ، غايته أنّ العالم بالاجمال لا يعلمه ، وهذا فيما لو علم إجمالاً بنجاسة أحد الاناءين وطهارة الآخر واضح ، وأمّا لو علم بنجاسة أحدهما واحتمل طهارة الآخر فتارة يحصل له أوّلاً العلم التفصيلي بنجاسة أحدهما المعيّن مع احتمال طهارة الآخر ثمّ اشتبها عليه ، وهذا كالأوّل فيما ذكرنا ، وأُخرى يكون الحاصل له أوّلاً التردّد بين كون النجس كليهما وكونه أحدهما ، فيكون القدر المتيقّن هو كون النجس واحداً منهما لا كليهما ، وبعد إجرائه الطهارة أو البراءة فيما زاد على الواحد يبقى القدر المتيقّن وهو الواحد منهما ، وهذا من قبيل العلم الاجمالي بنجاسة واحد منهما ، لكنّه لا تعيّن له في الواقع.

ومن ذلك ما لو احتمل أوّلاً أنّ الواجب عليه يوم الجمعة هو الجمعة والظهر ، ثمّ أخذ

٣٥٧

وربما يشكل على جريان الاستصحاب في أطراف العلم الاجمالي بأنّه من قبيل التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية.

ولا يخفى أنّه لو فتحنا هذا الباب لانسدّ علينا باب الاستصحاب في الشبهات البدوية ، فإنّ أغلب ما يكون ناقضاً للحالة السابقة يكون عند وقوعه مورداً لليقين مثل الوضوء عند استصحاب الحدث ، فيحتمل أنّ يقينه بالحدث قد انتقض باليقين بالطهارة.

والجواب : أنّ المراد هو كون الحالة الفعلية هي حالة شكّ فيما تقدّم إلى زمان اليقين السابق ، وإن كان يحتمل أنّه طرأ عليه اليقين بالخلاف في الأثناء ، إلاّ أنّ ذلك لا ينافي كون حالته الفعلية هي حالة شكّ وجداني بالنسبة إلى تمام ما مضى. وهكذا الحال في أطراف العلم الاجمالي فيما لو كان المعلوم بالاجمال من هذا القبيل من الأُمور الاختيارية التي تكون عند وقوعها مورداً لليقين. نعم إنّ الطرفين في بعض حال ما مضى كان أحدهما مورداً لليقين بالطهارة مثلاً والآخر كان مورداً لليقين بالبقاء على النجاسة ، وحينئذ تتأتّى شبهة عدم اتّصال زمان

__________________

بالقدر المتيقّن وأجرى البراءة فيما زاد على الواحدة منهما ، ولكن بقي مردّداً في تلك الواحدة بينهما ، فهو يعلم إجمالاً بوجوب إحداهما ولا تعيّن في الواقع لما هو المعلوم بالاجمال. لكن لا يخفى أنّ العلم الاجمالي والتردّد بينهما إنّما هو على تقدير كون الواجب هو أحدهما لا كليهما ، إذ لو كانا معاً واجبين لم يكن علم إجمالي بوجوب إحداهما ، وإنّما يحصل له العلم الاجمالي بأحدهما لو صحّ ما بنى عليه من عدم وجوب الاثنين معاً ، فهو على تقدير أن لا يكون الواجب كليهما بل كان الواجب واحداً منهما يكون عالماً إجمالاً بوجوب أحدهما ، ولا شكّ أنّه متعيّن في الواقع على تقدير وحدة الواجب وعدم تعدّده بكونه كليهما.

٣٥٨

الشكّ بزمان اليقين التي حرّرها شيخنا قدس‌سره في تنبيهات الاستصحاب (١). ولكن ليس النظر في باب الاستصحاب وغيره من الأُصول إلاّ إلى نفس الحالة الفعلية ، وهي ليست إلاّحالة شكّ بالنسبة إلى تمام ما مضى إلى حال اليقين السابق ، فلا يكون ذلك من قبيل عدم اتّصال زمان الشكّ باليقين ، ولا يكون من قبيل التمسّك [ بالعام ] في الشبهة المصداقية.

قوله : وإن رجع كلامه إلى مقام الاثبات ، وأنّ أدلّة الأُصول لا تشمل الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي ، فيرد عليه أوّلاً ... الخ (٢).

قال العلاّمة الخراساني قدس‌سره في حاشية الرسائل في توجيه كلام الشيخ قدس‌سره (٣) في توجيه التناقض اللازم من إجراء الأُصول في أطراف العلم الاجمالي ص ١٤٢ من حواشي البراءة ما هذا لفظه : قوله قدس‌سره : لأنّها كما تدلّ على حلّية كلّ الخ ، فيلزم من شمولها للشبهة المحصورة التناقض في مدلولها ، فإنّ الحكم في المغيّى كما يشمل كلاً من الطرفين كذا يشمل الحكم في الغاية أحدهما المعلوم بالاجمال حرمته ، والتناقض بين الايجاب الكلّي والسالبة الكلّية (٤) واضح ، فيكشف ذلك عن عدم الشمول فتفطّن (٥).

والظاهر أنّ الإيجاب الكلّي غلط من الناسخ ، لأنّ التناقض إنّما هو بين الإيجاب الجزئي وهو حرمة أحدهما والسلب الكلّي الآتي من إجراء الأصل في

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥١٠ وما بعدها.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٢١.

(٣) فرائد الأُصول ٢ : ٢٠١.

(٤) [ في المصدر : السالبة الجزئية ، فلاحظ ].

(٥) حاشية كتاب فرائد الأُصول : ١٤٢.

٣٥٩

كلّ منهما ، ويشهد بذلك عبارته في ص ٢٩ (١). وعلى كلّ حال أنّ هذا التناقض لا يختصّ بشمول دليل الحلّية ، بل هو محقّق في كلّ علم إجمالي ولو لم يكن في البين أصالة الحل ، لأنّ كلّ واحد من الطرفين ليس بمعلوم الحرمة ، والفرض أنّ أحدهما معلوم الحرمة ، فحصل التناقض في ناحية العلم بين السلب الكلّي والايجاب الجزئي.

والجواب : هو عدم التوارد ، فإنّ عدم العلم بالحرمة وارد على كلّ واحد بخصوصه وفي حدّ نفسه ، والعلم بالحرمة وارد على الكلّي أعني القدر الجامع المجرّد عن الخصوصية.

هذا ما كنّا حرّرناه سابقاً ، ولكنّه يحتاج إلى توضيح التناقض المنقول عن الشيخ قدس‌سره فنقول : أمّا في أخبار الاستصحاب ، فتقريبه هو أنّه لو كان لنا إناءان صغير وكبير قد حصل العلم بطهارة كلّ منهما ، ثمّ حصل العلم بأنّه قد تنجّس أحدهما لا بعينه ، فهناك كان لنا يقين بطهارة الصغير ويقين بطهارة الكبير ، ويكون حكم اليقين الأوّل أنّه لا ينقض وحكم اليقين الثاني أنّه لا ينقض ، هذا بالنسبة إلى صدر رواية الاستصحاب ، وهو سالبة كلّية. ولو طبّقنا عليه الذيل وقلنا بأنّ اليقين الآخر شامل لليقين بنجاسة أحدهما ، كان محصّل الجمع بين الصدر والذيل أنّ كلاً من اليقينين السابقين لم ينتقض ، وأنّ بعضهما وهو أحدهما قد انتقض.

وعلى وتيرة هذا الإشكال أو نحوه يقال في جميع الأُصول الجارية في أطراف العلم الاجمالي ، فإنّه وإن لم يكن في أدلّتها صدر وذيل ، إلاّ أنّه لا ريب في أنّ جريان الأصل في حلّية هذا الطرف يتوقّف على كونه غير معلوم الحرمة وهكذا في الطرف الآخر ، فالأوّل غير معلوم الحرمة والثاني غير معلوم الحرمة ،

__________________

(١) من المصدر المتقدّم.

٣٦٠