أصول الفقه - ج ٨

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٨

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-73-7
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٦١٢

١
٢

[ ملاقي أطراف العلم الاجمالي ]

قوله : وتفصيل ذلك : هو أنّه لا إشكال في وجوب ترتيب كلّ ما للمعلوم بالاجمال من الآثار والأحكام الشرعية على كلّ واحد من الأطراف ، تحصيلاً للقطع بالامتثال والفراغ عمّا اشتغلت الذمّة به ، فكما لا يجوز شرب كلّ واحد من الاناءين اللذين يعلم بخمرية أحدهما ، كذلك لا يصحّ بيع كلّ واحد منهما ، للعلم بعدم السلطنة على بيع أحد الاناءين ، فلا تجري أصالة الصحّة في بيع أحدهما ... الخ (١).

لا يخفى أنّ لزوم تحصيل القطع بالامتثال والفراغ عمّا اشتغلت به الذمّة لا دخل له بصحّة البيع وفساده ، ونحو ذلك من الآثار الوضعية ، إذ ليس في مثل ذلك اشتغال للذمّة بشيء كي يتأتّى فيه أنّ شغل الذمّة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، فإنّ هذه القضية إنّما تقال في الأحكام التكليفية الالزامية ، وأين ذلك من الأحكام الوضعية كالصحّة والفساد. كما أنّ حديث سلب السلطنة لا دخل له أيضاً بتنجيز العلم الاجمالي لما تعلّق به من التكليف الالزامي ، ولا ربط له بكون المبيع أحد طرفي العلم الاجمالي بالخمرية كي يتكلّم فيما لو كان بيع أحدهما متأخّراً عن بيع الآخر ، وأنّ ذلك من قبيل تنجّز الحكم قبل وجود موضوعه الذي هو بيع الآخر ، إلى آخر ما أُفيد من الجمل المسطورة في هذه الصفحة إلى قوله : وعلى هذا يتفرّع

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٨.

٣

وجوب الاجتناب عمّا للأطراف من المنافع والتوابع المتّصلة والمنفصلة الخ (١) ، فإنّ كلّ واحدة من هذه الجمل له مورد ومأخذ غير مورد الجملة الأُخرى ومأخذها.

أمّا عدم صحّة بيع أحد طرفي العلم الاجمالي بالخمرية أو بالنجاسة ، فإنّ مأخذه هو أنّ النهي عن التصرّف بالخمر أو النجس يوجب سلب منافعه الموجب لإسقاطه عن المالية ، فمع العلم الاجمالي به وسقوط الأصل في جواز التصرّف فيه يكون ملحقاً بما يشكّ في ماليته ، ولا دخل لسلب السلطنة في ذلك ، ولا لكون التكليف المعلوم بالاجمال ممّا اشتغلت به الذمّة. نعم لو كان بيع الخمر أو النجس محرّماً شرعياً مولوياً ، وكان تحريم المعاملة موجباً لفسادها لكونه موجباً لسلب السلطنة عليها ، كان المقام من موارد شغل الذمّة ، وكان من قبيل سلب السلطنة ، إلاّ أنّ المرجع فيه ليس هو أصالة الصحّة ، بل أصالة البراءة من الحرمة ، وهي مورد التعارض لا أصالة الصحّة.

وربما كان العلم الاجمالي موجباً للشكّ في مملوكيته ، كما لو علم بأنّ أحد هذين الشخصين المعروضين للبيع حرّ ، وربما كان موجباً للشكّ في السلطنة عليه ، كما لو علم بأنّ أحد المعروضين للبيع مرهون أو متعلّق لحقّ شخص آخر بغير الرهانة ، فإنّ جميع ما كان من هذا القبيل يكون العلم الاجمالي فيه موجباً للشكّ في تحقّق شرط من شروط البيع فيه مع عدم الأصل المحرز له ، لكونه حسب الفرض مورداً للعلم الاجمالي الموجب لسقوط الأصل المذكور فيه ، ومع عدم إحراز الشرط المذكور يكون البيع فيه مورداً لأصالة الفساد ، بمعنى أصالة عدم ترتّب الأثر ، وهذا هو الحجر الأساسي في هذين المثالين.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٣.

٤

نعم ، في الأوّل منهما جهة تكليفية راجعة إلى البائع توجب منعه من بيع أحدهما إذا فرض كونه يعلم إجمالاً أنّه غير مالك لأحد الشخصين ، وتلك الجهة هي منعه من التصرّف فيما لا يملكه ، كما أنّه في المثال الثاني جهة تكليفية راجعة إليه توجب سلب سلطنته عن بيع أحد الأمرين المذكورين ، وتلك الجهة هي علمه بأنّه مسلوب السلطنة عن بيع المرهون منهما الناشئة عن حرمة تصرّفه بالبيع فيما هو متعلّق لحقّ الغير.

ثمّ إنّه في خصوص النحو الأوّل ، أعني العلم الاجمالي بالخمرية أو النجاسة ، الموجب للشكّ في المالية من جهة الشكّ في جواز الانتفاع به ، وقع البحث في أنّ المدار فيه على المنع الشرعي الواقعي المعلوم في البين ، كي يكون الحكم بفساد البيع حكماً ظاهرياً محتاجاً إلى أصالة عدم ترتّب الأثر ، بحيث إنّه لو وقع البيع عليه ثمّ انكشف أنّه غير الخمر أو أنّه ليس هو النجس المعلوم في البين ، ينكشف خطأ ذلك الحكم ، أو أنّ المدار فيه على المنع من الانتفاع الذي يحكم به العقل من جهة العلم الاجمالي ، كي يكون الحكم بفساد البيع حينئذ حكماً واقعياً على وجه لو انكشف بعد بيع الطرف أنّه لم يكن هو الخمر أو أنّه لم يكن هو النجس ، يكون ذلك من قبيل تبدّل الموضوع ، نظير الخمر ينقلب خلاً بعد البيع.

وهذا البحث عام لصورة العلم الاجمالي ولغيره من مجاري الأُصول المانعة من الانتفاع ، مثل أصالة عدم التذكية في الجلد أو اللحم ، بل يشمل حتّى مثل القطع المتعلّق بنجاسة ما هو طاهر واقعاً إذا انكشف الخلاف بعد البيع. وحاصل البحث يرجع إلى أنّ المدار في سلب المنافع على النهي الشرعي الواقعي ، أو على مجرّد المانع من الانتفاع ، سواء كان هو العلم الاجمالي أو الأصل المانع أو القطع بالنجاسة ، ولازم ذلك اختلاف الأشخاص في كون الشيء الواحد مالاً بالنسبة إلى

٥

من كان عالماً بحاله ، وغير مال واقعاً بالنسبة إلى الشاكّ ، وربما كان أحدهما هو البائع والآخر هو المشتري ، ولا يخفى غرابته.

ولا يخفى أنّ هذا البحث إنّما يتأتّى فيما يكون الإشكال في تحقّق المالية من جهة المنع من الانتفاع ، وأمّا ما يكون من قبيل ما ليس له منفعة واقعية مثل الخنافس والديدان ، فلا شبهة في عدم تأتّي البحث المزبور فيه ، إذ لا ريب في أنّ القطع بكون هذا المبيع مالاً أو أنّه بالذات ليس بمال ، أو قيام الأصل أو الأمارة مثل البيّنة على أنّه مال ذاتاً أو ليس بمال ذاتاً ، لا يكون مغيّراً للواقع وموجباً لقلبه من المالية إلى عدمها ، أو من عدم المالية إلى المالية ، فلا يكون الصحّة والفساد في مثل تلك الموارد إلاّظاهراً ، وعند تبيّن الخلاف ينكشف الخلاف أيضاً في الصحّة والفساد ، وقد شرحنا ذلك بما لا يمكننا فعلاً الزيادة عليه في شرحنا لعبارته قدس‌سره في الوسيلة ، فراجعه (١).

قوله : فأصالة الصحّة في بيع كل من الاناءين من أوّل الأمر ولو قبل صدور البيع تجري وتسقط بالمعارضة ... الخ (٢).

قد اتّضح ممّا قدّمناه أنّه لا مجرى في مثل ذلك لأصالة الصحّة ، بل المرجع في جميع ذلك إلى أصالة عدم ترتّب الأثر المعبّر عنها بأصالة الفساد ، حتّى في مثل العلم الاجمالي بأنّ أحد الطرفين مغصوب وليس بمملوك للبائع ، لعدم إحراز الشرط الذي هو الملكية ، ولأصالة الحرمة في الأموال ، بل لو قلنا بأصالة الحلّية لكان المانع هو عدم إحراز الشرط ، ولو قلنا بتقدّم أصالة الحلّية على قاعدة عدم إحراز الشرط وأصالة الفساد ، لم يكن المرجع حينئذ هو أصالة الصحّة ، بل كان

__________________

(١) مخطوط لم يطبع بعد.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٦٩ ـ ٧٠.

٦

المرجع هو أصالة الحل في التصرّف الذي هو البيع. وهذا الأصل وإن كان موافقاً في النتيجة لأصالة الصحّة ، إلاّ أنه لكونه حاكماً عليها يكون هو المرجع لا أصالة الصحّة.

وبالجملة : أنّه لم يظهر الوجه في كون المرجع في كلّ واحد من الطرفين هو أصالة الصحّة ، وأنّها إنّما تسقط بالمعارضة على جميع التقادير وفي جميع فروض العلم الاجمالي بانتفاء شرط من شروط البيع ، وإن شئت [ قلت : ] إنّ مورد أصالة الصحّة إنّما هو بعد وقوع الفعل المشكوك لا قبل الإقدام عليه.

قوله : وعلى هذا يتفرّع وجوب الاجتناب عمّا للأطراف من المنافع والتوابع المتّصلة والمنفصلة ، كما لو علم بمغصوبية إحدى الشجرتين ، فإنّه كما يجب ... الخ (١).

الأولى أن يقال : إنّ ما هو التابع لأحد الأطراف أعني ما يكون له نحو تعلّق به على وجه يكون لذلك التابع حكم ، لو كان المعلوم بالاجمال منطبقاً على متبوعه يكون على أنحاء :

أحدها : ما يكون من قبيل اتّساع وجود ذلك الطرف المتبوع له كما في نموّها بل وثمرتها ، فإنّ الشجرة المغصوبة وإن كان التحريم عند الغصب وارداً على نفسها ، لكنّها لو كبرت أو أثمرت كانت تلك الزيادة فيها محرّمة بعين تلك الحرمة الواردة على الشجرة ، لا حرمة جديدة على موضوع جديد ، وهكذا الحال في ثمرتها وحمل الحيوان المغصوب ونحو ذلك ، فإنّه يلزم الاجتناب عنه عند وجوده وإن لم يكن موجوداً حين العلم الاجمالي ، لما عرفت من كون الاجتناب عنه عين الاجتناب عن أصله ، لأنّه من قبيل اتّساع ذلك المعلوم بالاجمال.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٣.

٧

وبذلك يتّضح لك الخدشة فيما أُفيد في التقريرات المطبوعة في صيدا في توجيه وجوب الاجتناب عن مثل الثمرة المذكورة بمسألة تمامية الملاك ، وذلك قوله : ومجرّد تأخّر وجود الشيء عن ظرف وجود العلم بعد تمامية ملاك حكمه لا يكون مانعاً عن تنجيزه الخ (١) إذ لو كان تمامية الملاك كافياً في التنجيز لكان العلم الاجمالي المردّد بين المقدور وغير المقدور منجّزاً ، اللهمّ إلاّ أن يريد بالملاك هو غصبية الأصل الذي يتّسع بالاثمار ، كما ربما يستفاد ذلك من قوله : فكذلك يوجب ( العلم الاجمالي ) تنجّز الأحكام المترتّبة على ما يعد من شؤونها التابعة لها خطاباً وملاكاً الخ.

النحو الثاني : ما يكون من قبيل السراية ، بحيث إنّ التابع يكون موضوعاً جديداً لا أنّه من قبيل اتّساع الموضوع السابق ، ولكن الحكم الذي هو الحرمة يسري إليه من أصله الذي هو المتبوع ، ولك أن تسمّي هذا القسم بأنّه من قبيل الاتّساع في الحكم ، وإن كان ذلك ملازماً للاتّساع في الموضوع ، وذلك مثل الحرمة الطارئة على أُمّ الشخص الرضاعية ، فإنّها بالرضاع تطرأ عليها ، ولكنّها تسري منها إلى فروعها وأُصولها وحواشيها ، وإن كنّ متأخّرات عن طروّ الحرمة عليها أو متقدّمات عليها. ولك أن تجعل هذا المثال من قبيل النحو الأوّل أعني اتّساع الموضوع ، نظراً إلى أنّ حدوث الرضاع يكون موجباً لحرمة سلسلة هذا النسب وحواشيه ، غايته أنّ تلك المجموعة النسبية تتّسع وتتضيّق بواسطة كثرة أفرادها وقلّتهم. وهكذا الحال في سراية الرقّ من المملوك إلى أولاده المتأخّرين عن ملكيته ، فإنّه أيضاً يمكن أن يكون من قبيل الاتّساع ، فيكون أولاد الرقّ رقّاً كأولاد الحيوان وثمرة الشجرة.

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٤٤١.

٨

وبالجملة : لا أتخطّر فعلاً مثالاً يتعيّن كون الحكم فيه من قبيل السراية من أحد الموضوعين إلى الآخر ، بحيث يكون أشبه شيء بالعدوى ، بل إنّ شيخنا الأُستاذ قدس‌سره (١) جعل السراية في ملاقي النجس من قبيل اتّساع دائرة النجس الملاقى ، بل إنّ السراية الحقيقية التي هي من قبيل العدوى لا تكون إلاّمن قبيل الموضوع الجديد.

ثمّ إنّ تنزيل حرمة الأُصول والحواشي والفروع بالنسبة إلى حرمة الأُمّ على السراية والاتّساع سيأتي (٢) إن شاء الله تعالى أنّه في غاية البعد ، وأنّه ينبغي الجزم بعدمه ، فإنّ ضابط الاتّساع والسراية هو أن يكون حرمة التابع فيها مستفاداً من دليل الحرمة في أصله ، ومن الواضح أنّ حرمة الأُصول والحواشي والفروع لا تكون مستفادة من دليل حرمة الأُمّ ، بحيث إنّا لو خلّينا نحن وقوله تعالى ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ )(٣) لكانت هذه الجملة الشريفة وحدها دليلاً على حرمة الجدّة للأُمّ والخالة والأُخت ، كما يستفاد حرمة ثمرة الشجرة المغصوبة من حرمة نفس الشجرة وغصبها.

وعلى أيّ حال فإنّ هذين النحوين لو وقع المتبوع فيهما طرفاً للعلم الاجمالي يكون مؤثّراً في ناحية التابع ، ويوجب الاجتناب عنه.

والأولى أن يقال : إنّ الأوّل من قبيل اتّساع الفرد ، والثاني من قبيل اتّساع الأفراد تحت عنوان واحد ، والثالث من قبيل الاتّساع في العناوين المتعدّدة ، أعني عناوين النسب مثلاً.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٧.

(٢) في الصفحة : ١٩ وما بعدها.

(٣) النساء ٤ : ٢٣.

٩

النحو الثالث : أن لا يكون من قبيل اتّساع الموضوع ولا من قبيل السراية ، بل يكون موضوعاً جديداً محكوماً بحكم جديد ، غايته أنّه قد يكون الحكم فيه من سنخ الحكم في المتبوع ، وربما كان مخالفاً له ، كما في وجوب الغسل على من مسّ الميّت المفروض أنّ حكمه النجاسة لكونه ميتة ، ووجوب الحدّ على من شرب الخمر ، لكن في جميع ما كان من هذا القبيل لا يكون المتبوع أجنبياً عن حكم التابع ، بل يكون له المدخلية فيه على نحو يكون جزء الموضوع ، غايته تارةً يكون تحقّق ذلك المتبوع والتابع كافيين في تحقّق الحكم في التابع ، كما في وجوب الغسل على من مسّ الميّت ، وأُخرى يكون متوقّفاً على جهة أُخرى مثل العلم كما في وجوب الحدّ ، فإنّه لا يكفي فيه مجرّد تحقّق الخمرية وشربها ، بل لابدّ فيه أن يكون الشرب عن علم وعمد.

أمّا علم الحاكم فالظاهر أنّه أيضاً له المدخلية في الموضوع ، وإلاّ لكان علمه الاجمالي بأنّ أحد الشخصين قد ارتكب ما يوجب الحدّ موجباً لزوم الاحتياط ، فتأمّل.

ثمّ إنّ ما للعلم مدخلية فيه يكون دائراً مداره ، فلو كان حين الشرب مجهولاً أو مشكوك الخمرية ، لكن علم به بعد ذلك ، لم يكن له أثر في وجوب الحدّ ، بخلاف القسم الأوّل الذي يكفي فيه مجرّد تحقّق المتبوع والتابع ، فإنّه لو مسّ الميّت جاهلاً بكونه ميتاً ثمّ علم بعد ذلك وجب عليه الغسل بلا إشكال على الظاهر. وعلى أيّ حال فإنّ المتبوع في هذا النحو لو وقع طرفاً للعلم الاجمالي لم يكن ذلك مؤثّراً في تنجيز حكم التابع ، لما عرفت من كونه حكماً جديداً على موضوع جديد ، هذا في القسم الأوّل.

أمّا الثاني فلا ريب فيه في عدم تحقّق موضوع الحكم في التابع ، لما عرفت

١٠

من توقّفه على العلم والعمد ، فلا أثر فيه للعلم الاجمالي حتّى فيما يكون ذلك الأثر لاحقاً لنفس المتبوع ، فضلاً عمّا إذا كان لاحقاً لتابعه.

ثمّ إنّ الحكم في القسم الأوّل ـ أعني مثل وجوب الاجتناب عن ملاقي أحد أطراف الشبهة المحصورة بناءً على أنّه منه ـ وإن كان حكماً جديداً على موضوع جديد ، لكن حيث كان المتبوع جزءاً من الموضوع في الحكم التابع ، كان الأصل الجاري فيه حاكماً على الأصل الجاري في التابع ، فلو كان الشيء مشكوك النجاسة ولاقاه شيء آخر برطوبة ، كانت قاعدة الطهارة في المشكوك حاكمة على قاعدة الطهارة في ملاقيه ، وإن كانا متوافقين. ولو كان المشكوك ممّا تجري فيه الأُصول المثبتة ، مثل الجلد المشكوك الذي هو في حدّ نفسه مجرى لأصالة عدم التذكية الموجبة للحكم بكونه نجساً لكونه ميتة ، أو كان مستصحب النجاسة ، كان الأصل فيه حاكماً على قاعدة الطهارة في ملاقيه ، وكان الملاقي له محكوماً بالنجاسة. وفي مثل القطعة التي لا يعلم أنّها من إنسان أو غيره ممّا لا يكون نجساً ، لمّا لم يكن لنا أصل ينقّح به حالها ، يكون ملاقيها مجرى لاستصحاب الطهارة من الخبث أو لقاعدتها ، كما أنّه لو كان الملاقي لها إنساناً يكون مجرى لاستصحاب الطهارة من الحدث أيضاً ، أو لأصالة البراءة من وجوب الغسل.

ولو وقع الملاقى في المثال الأوّل طرفاً للعلم الاجمالي بالنجاسة ، سقطت قاعدة الطهارة فيه وجرت قاعدة الطهارة في ملاقيه. وكذا في المثال الثاني لو وقع طرفاً للعلم الاجمالي المردّد بينه وبين ما هو من سنخه ممّا يكون في نفسه مجرى للأصل المثبت ، بناءً على سقوط الأُصول الاحرازية في مورد العلم الاجمالي. ولو كانت مثبتة للتكليف ، فإنّه أيضاً يكون المرجع في ملاقيه هو قاعدة الطهارة.

وأمّا بناءً على عدم سقوط الأُصول المذكورة في أطراف العلم الاجمالي ،

١١

فإنّه يكون الحكم في ملاقيه هو الحكم فيما لو لم يكن الملاقى طرفاً للعلم الاجمالي في سقوط قاعدة الطهارة فيه ، لكونها محكومة لاستصحاب النجاسة أو أصالة عدم التذكية.

ومنه يعلم الحال فيما لو كان المورد المذكور طرفاً في العلم الاجمالي لما هو في نفسه مجرى لقاعدة الطهارة أو استصحابها ، فإنّه ينحلّ العلم الاجمالي ، ويبقى المورد على ما كان عليه قبل العلم الاجمالي من كونه مجرى لاستصحاب النجاسة أو أصالة عدم التذكية الموجبة للحكم بنجاسة ملاقيه.

ومن ذلك يعلم الحال في المثال الثالث ، فإنّه لو وقع مورداً للعلم الاجمالي ، فبالنسبة إلى وجوب الغسل بمسّه يكون حاله حال ملاقي الشبهة في عدم وجوب الغسل على من مسّه.

لكن قال في العروة : مسألة ٤ : إذا كان هناك قطعتان يعلم إجمالاً أنّ أحدهما من ميّت الإنسان ، فإنّ مسّهما معاً وجب عليه الغسل ، وإن مسّ أحدهما ففي وجوبه إشكال ، والأحوط الغسل (١). وكتب شيخنا قدس‌سره على قوله « إشكال » : أقواه عدم وجوبه.

ولا ريب في أنّ المنشأ في استشكاله ليس راجعاً إلى الشكّ في طهارة الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة ، فإنّه حكم هناك بأنّه لا يحكم بنجاسته (٢)

__________________

(١) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٢ : ٧.

(٢) لا يخفى أنّ نصّ عبارته في الملاقي هو قوله في م ٦ : ملاقي الشبهة المحصورة لا يحكم عليه بالنجاسة ، لكن الأحوط الاجتناب [ العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة

١٢

كما أنّه لا يمكن أن يكون المنشأ في إشكاله هو احتمال كون وجوب غسل المسّ من قبيل السراية أو الاتّساع ، لأنّ ذلك ممّا لا يمكن نسبة احتماله إلى مثله ، إذ لا ريب في أنّ وجوب الغسل على من مسّ الميّت من قبيل الحكم الجديد على موضوع جديد.

كما أنّه لا يمكن أن يكون المنشأ في إشكاله هو احتمال كون الحكم الجديد الطارئ حكماً على نفس الملاقى ، بأن يكون حكم الميّت هو وجوب الغسل على من مسّه ، فإنّا لو فتحنا هذا الاحتمال بحيث كان وجوب الاجتناب عن الملاقي لاحقاً لنفس الملاقى ، لم يكن لنا في البين حدّ خاصم ، فإنّ كلّ حكم يكون قابلاً للجهتين حتّى الحكم في ملاقي النجس ، فكما أنّه يصحّ أن يقال : إنّ النجس يجب الاجتناب عن ملاقيه ، فكذلك يصحّ أن يقال : إنّه يجب الاجتناب عن ملاقي النجس.

وهكذا الحال في غسل المسّ ، فإنّه كما يصحّ أن نقول : إنّ الميّت يجب الغسل بمسّه ، كذلك نقول : إنّ الحي يجب عليه الغسل بمسّ الميّت ، وهذه ليست إلاّمن باب محض التعبير التي لا تكاد تؤثّر في الواقع ، ولا يمكن أن تجعل هي المنشأ في الإشكال المزبور. ولا يمكن أن ننسب إلى هذين العلمين قدس‌سرهما أنّ

__________________

من الفقهاء ) ١ : ١١٤ ـ ١١٥ ]. ولا ريب أنّ عدم الحكم بالنجاسة ملازم في المقام للحكم بالطهارة ، ركوناً إلى قاعدة الطهارة ، فهو كقوله في مسألة ٣ من فصل النجاسات : إذا لم يعلم كون حيوان معيّن أنّه مأكول اللحم أو لا ، لا يحكم بنجاسة بوله وروثه ـ إلى أن قال : ـ ففي جميع هذه الصور يبني على طهارته [ المصدر المتقدّم : ١٢٣ ـ ١٢٥ ]. فما قيل من : أنّ ظاهر عبارة المتن التوقّف في المسألة ، لأنّ الاحتياط الذي ذكره لم يكن مسبوقاً بالفتوى بالجواز ، إلى آخر ما في المستمسك [ ١ : ٢٦١ ] لا يخلو عن تأمّل [ منه قدس‌سره ].

١٣

منشأ الخلاف بينهما هي هذه الجهة.

ويمكن أن يقال : إنّ منشأ الإشكال والخلاف بينهما مطلب آخر ، وذلك هو أنّ الحكم اللاحق للتابع تارةً يكون حكماً مجرّداً ناشئاً عن ملابسته للمتبوع ، وأُخرى تكون الملابسة موجبة لتحقّق صفة في التابع ويكون الحكم فيه لاحقاً لتلك الجهة ، مثلاً غسل المسّ على من مسّ الميّت تارةً نقول إنّه وجوب صرف تعبّدي لاحق لمن مسّ الميّت ، فيكون أشبه شيء بالكفّارة لمن وطئ زوجته الحائض ، وأُخرى نقول إنّ المسّ يوجب تحقّق الحدث للماس ، ويكون حكم ذلك الحدث هو وجوب الغسل ، فمثل ملاقي النجس من هذا القبيل قطعاً ، لكونه موجباً لنجاسة ملاقيه ، وهذه الجهة أعني النجاسة في الملاقي ـ بالكسر ـ يكون حكمها وجوب الاجتناب ، فإذا قلنا إنّ نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ ليست بالسراية بل من باب حدوث نجاسة جديدة ، بناءً على ما تقدّم ويأتي من عدم كون ذلك من قبيل سراية النجاسة واتّساعها ، بل إنّ نجاسة الملاقي تكون نجاسة جديدة حدثت بالملاقاة ، فيكون المرجع فيها هو قاعدة الطهارة في الملاقي وجواز ارتكابه. ومنشأ الإشكال في غسل المسّ هو هذه الجهة ، وهي أنّه هل يكون مسّ الميّت موجباً لتحقّق صفة الحدث للماس حتّى يكون حكمه في مقام العلم الاجمالي حكم ملاقي النجس ، أو أنّه لا يوجب حدثاً بل هو تكليف صرف حدث بالمسّ ، فلا يكون حكمه حكم ملاقي النجس ، بل يكون هذا الحكم من الأحكام المنجّزة بالعلم الاجمالي لكونه في الحقيقة لاحقاً للميّت.

ولكنّي في شكّ من نسبة هذا المطلب ـ أعني عدم كون المسّ موجباً للحدث ـ إلى السيّد قدس‌سره ، وسيأتي (١) إن شاء الله تعالى في الفرع الأخير ما هو الأولى

__________________

(١) في الصفحة : ٢٢ وما بعدها.

١٤

في تنزيل إشكاله قدس‌سره.

وأمّا مسألة الوطء في حال الحيض ، فهو وإن كان من حيث إيجاب الكفّارة على الواطئ من هذا القبيل ، ومقتضى ذلك هو لزوم الكفّارة على من وطئ إحدى زوجتيه مع العلم بأنّ إحداهما حائض ، إلاّ أنهم قيّدوا وجوب الكفّارة بالعلم التفصيلي ، فلذلك أسقطوا عنه الكفّارة وإن كان ممنوعاً من الوطء للعلم الاجمالي كما صرّح به في النجاة (١).

والمثال الواضح لما يكون الحكم على التابع حكماً مجرّداً ناشئاً عن ملابسته للمتبوع ، ولم تكن فيه الملابسة موجبة لجهة وضعية في التابع ، لكي تكون تلك الجهة الوضعية موضوعاً لحكم ذلك التابع ـ نظير موضوعية نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ الحادثة من ملاقاة النجس لوجوب الاجتناب عنه ، ونظير الحدث الحاصل للماس الناشئ عن مسّه للميّت في كونه موضوعاً لوجوب الغسل ـ هو وجوب سجود السهو على من سها في واحدة معيّنة من الصلوات المتعدّدة التي يأتي بها احتياطاً من جهة العلم الاجمالي ، كمن كان وظيفته تكرار الصلاة من جهة القبلة أو من جهة كون ساتره منحصراً في ثوبين يعلم إجمالاً بنجاسة أحدهما ، أو فاتته فريضة واحدة مردّدة بين اثنتين ، أو ثلاث كما لو كان الفائت مردّداً بين المغرب والعشاء والصبح ، فإنّه لو سها في واحدة معيّنة من تلك الصلوات المكرّرة ، يلزمه سجود السهو لها ، مع أنّ سجود السهو إنّما يجب في الفريضة الواقعية دون ما لم يكن مصادفاً للواقع ، ولأجل ذلك ذكروا أنّ من سها

__________________

(١) [ لعلّه قدس‌سره استفاد ذلك من قوله : ويتبع التكفير الحكم بالحيضية شرعاً ... لا تحريم الوطء ، فلو حرم الوطء لاحتمال الحيضية لم يلحقه حكم التكفير. راجع نجاة العباد : ١٦ ].

١٥

في فريضة وتبيّن بطلانها أو أبطلها ، لم يجب عليه سجود السهو ، وإن أوجبه بعضهم ، وبعضهم فصّل بين ما لو كان عروض [ المبطل ] بعد طروّ السهو وما لو كان قبله.

وعلى أي ، فإن هذا المثال مبني على ما عرفت من عدم لزوم سجود السهو إذا لم تكن الفريضة التي وقع فيها السهو فريضة واقعية ، فهو وإن لم يحرز أنّ تلك الفريضة التي سها فيها هي فريضته الواقعية ، إلاّ أن كونها طرفاً للعلم الاجمالي يوجب تنجّز وجوب سجود السهو لها.

لا يقال : هذا إنّما يتمّ لو كان وجوب سجود السهو من أحكام الفريضة الواقعية ، فإنّه حينئذ يتنجّز بتنجّز تلك الفريضة ، أمّا لو كان هو من أحكام السهو أو من أحكام الساهي وإن كان سببه هو السهو في الفريضة الواقعية ، فلا يكون العلم الاجمالي المذكور منجّزاً له.

لأنّا نقول : هذا ما تقدّمت الاشارة [ إليه ] من أنّ مثل هذه الأحكام يصحّ نسبتها إلى كلّ من الطرفين ، ولكن نقول إنّ نسبتها إلى ما هو الطرف في المعلوم بالاجمال أعني به المتبوع ، لمّا كانت موجبة لتنجّزها ، لم يكن أثر لنسبتها إلى التابع ، لأنّ أثره إنّما هو عدم التنجّز ، فيكون ذلك من قبيل المقتضي واللاّ مقتضي ، ومن الواضح أنّ الثاني لا ينافي الأوّل ولا يزاحمه. ومن هذا القبيل قضاء الأجزاء المنسية بناءً على ما هو غير بعيد من عدم كونها أجزاء ، بل إنّ التكليف بقضائها يكون جديداً.

ومن ذلك يظهر لك وجه آخر في تنجيز وجوب الاجتناب عن البنت النسبية أو الرضاعية ، فيما لو كانت أُمّها أحد طرفي الشبهة المحصورة بالأُمومة الرضاعية أو النسبية للشخص ، فإنّه يجب على ذلك الشخص الاجتناب عن تلك

١٦

البنت كما يجب عليه الاجتناب عن أُمّها ، لكن لا من جهة السراية أو اتّساع الموضوع ، بل من جهة أنّ الحرمة المذكورة هي حكم لكلّ من الأُمّ والبنت ، فكما يمكنك أن تقول إنّ حكم أُمّ ذلك الشخص هو حرمة بنتها المذكورة ، يصحّ لك أن تقول إنّ حكم بنت تلك الأُمّ هي الحرمة لكونها أُخته.

وفي الحقيقة أنّ هذا الحكم الشرعي إضافة بينهما يصحّ إضافته لكلّ منهما ، وهذا الحكم يعرضه التنجّز بالاضافة الأُولى ، لأنّها مقتضية لتنجّزه ، لكونه حينئذ من الأحكام اللاحقة لطرف الشبهة المحصورة ، بخلاف الاضافة الثانية ، فإنّها لا تقتضي تنجّزه لكونها مشكوكة بدواً ، حيث إنّ الأُختية بينه وبين تلك البنت لم تكن طرفاً في الشبهة المحصورة ، ولا ريب أنّ تنجّز الحكم المذكور من الجهة الأُولى لا ينافيه عدم تنجّزه من الجهة الثانية.

ولكنّه لا يخلو عن تكلّف ، مضافاً إلى إمكان نقضه بمسألة الملاقي ، فإنّه يصحّ أن يقال : إنّ وجوب الاجتناب يمكن أن يضاف إلى نفس النجس ، فيقال إنّه يجب الاجتناب عن ملاقيه لكونه نجساً أيضاً ، ويمكن أن يضاف إلى الملاقي ـ بالكسر ـ فيقال إنّ ملاقي النجس يجب الاجتناب عنه ، إلى آخر التقريب المزبور.

فلابدّ حينئذ في الجواب عن هذا النقض بأنّ إضافة مثل هذه الأحكام إلى الأصل إضافة صورية لا واقعية ، والاضافة الحقيقية إنّما هي إضافتها لموردها وموضوعها الذي هو الفرع ، وبناءً على ذلك فيكون اللازم هو القول بعدم لزوم سجود السهو فيما مرّ من المثال. نعم في قضاء مثل السجدة المنسية يكون العلم منجّزاً ، لأنّه من آثار الأصل وهو الصلاة الواقعية ، فتأمّل فإنّه يمكن الفرق بين مسألة ملاقي النجس وبين مسألة الأُخت ، فإنّ إضافة وجوب الاجتناب عن

١٧

الملاقي إلى أصله إضافة صورية باعتبار ملابسة الفرع له بالملاقاة ، فيكون من قبيل وصف الشيء بحال متعلّقه ، لما عرفت من أنّ وجوب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ إنّما هو لأجل نجاسته ، وليست هذه النجاسة حكماً من أحكام المعلوم بالاجمال الذي هو نجاسة ما لاقاه ، وإن كانت معلولة له ، بخلاف حرمة البنت فإنّها من الآثار الشرعية اللاحقة لنفس الأُمّ ، فتكون نسبة حرمة الأُخت إلى نفس الأُمّ إضافة حقيقية للحكم الشرعي على تلك الأُمّ بحرمة بنتها ، بمعنى أنّ تحقّق الأُمومة عبارة أُخرى عن حرمتها وحرمة بنتها. وهكذا الحال في سجود السهو ، فإنّ إضافة وجوبه إلى الصلاة الواقعية إضافة حقيقية.

ولكن مع هذا كلّه فللتأمّل في المسألة مجال واسع. والأولى هو ما سيأتي (١) في الفرع الأخير.

فرع : لو اشتبهت ذات البعل المزني بها في محصور ، فلا إشكال في تنجّز وجوب الاجتناب عن جميع أطراف الشبهة ، ولكن لو كان لأحد هذه المحصورات بنت نسبية أو رضاعية ، بناءً على أنّ الزنا بالأُمّ يوجب حرمة بنتها نسبية أو رضاعية ، فهل يجب الاجتناب عنها نظراً إلى أنّ حرمتها من آثار أُمّها المزني بها ، أو أنّه لا يجب الاجتناب عنها نظراً إلى أنّ حرمتها من عوارض البنت بواسطة تولّدها من المزني بها أو رضاعها منها ، فيكون حالها حال ملاقي أحد أطراف الشبهة المحصورة بالنجاسة؟

الظاهر الثاني ، لأنّ الحرمة المنجّزة في أطراف العلم الاجمالي في صورة اشتباه ذات البعل المزني بها إنّما هي حرمة ذات البعل من حيث كونها ذات البعل ، ولأجل ذلك لا يكون للعلم الاجمالي أثر لو كان مجرّداً عن كونها ذات بعل ، ومن

__________________

(١) راجع الصفحة : ٢١ ـ ٢٢.

١٨

الواضح أنّ حرمة ذات البعل لا دخل لها بحرمة البنت ، وإنّما الذي يوجب حرمة البنت هو الزنى بأُمّها وإن لم تكن ذات بعل ، وهذه الحرمة وإن قلنا إنّها لاحقة للأُمّ ، إلاّ أنها لم تكن من آثار المعلوم بالاجمال الذي هو الزنا من حيث إنّه بذات البعل. ولكن المسألة مشكلة فلا يترك الاحتياط بالترك.

ولعلّ من جملة فروع هذه المسألة ما لو عقد على من هي إحدى طرفي العلم الاجمالي بالعدّة ، فإنّه وإن كان ممنوعاً من العقد عليها للعلم الاجمالي ، لكن لو صادف كونها هي المعتدة هل تحرم عليه مؤبّداً ، الظاهر أنّ حرمتها أبداً من قبيل وجوب الحدّ على من شرب أحد طرفي العلم الاجمالي بالخمرية.

والأولى أن يقال : إنّ العلم بكونها ذات عدّة مأخوذ موضوعاً في الحرمة الأبدية ، فإن شمل ذلك العلم المأخوذ موضوعاً للعلم الاجمالي ترتّبت الحرمة الأبدية ، وإلاّ كان ترتّبها متوقّفاً على دعوى قيام المنجّز للحرمة مقام العلم التفصيلي بالعدّة ، بمعنى أنّ العلم بالعدّة المأخوذ موضوعاً في الحرمة الأبدية يقوم مقامه الطرق والأمارات ، بل والاستصحاب. أمّا قيام منجّزية العلم الاجمالي فهو موقوف على أخذ العلم بالعدّة موضوعاً من حيث المنجّزية ، فيقوم مقامه كلّ ما هو منجّز لحرمة العقد على ذات [ العدّة ] ، وإن كان هو من جهة كونها طرفاً للعلم الاجمالي بالعدّة.

فرع أو تكميل لأغلب ما تقدّم من الفروع : وهو أنّه لو تردّد المعلوم بالاجمال بين ذي التكليفين وذي التكليف الواحد ، وكان أحد تكليفي ذي التكليفين مشروطاً بشرط لم يكن حاصلاً عند حصول العلم الاجمالي ، سواء كان الشرط من قبيل القدرة العقلية ممّا هو أجنبي عن الملاك ، أو كان من الشروط الشرعية الدخيلة في الملاك ، ثمّ إنّ ذلك الشرط حصل بعد العلم الاجمالي وبعد

١٩

حصول نفس المعلوم بالاجمال أيضاً ، مع بقاء كلّ من طرفي العلم الاجمالي بحاله ، كما لو كان هناك إناء صغير وآخر كبير ، وعلم إجمالاً بحرمة الشرب من أحدهما ، إمّا لكون الصغير من الذهب أو لكون ما في الكبير نجساً ، فإن كان الثاني وجب عليه الاجتناب عن الشرب منه فقط ، وإن كان الأوّل وجب عليه الاجتناب عن الشرب فيه ووجب عليه أيضاً كسره لكن بشرط التمكّن من ذلك أو بشرط كون الاناء مملوكاً له ، مع كونه حين طروّ العلم الاجمالي غير متمكّن من كسره أو كونه غير مالك للاناء المذكور ، ولكن بعد ذلك صار متمكّناً من كسره أو أنّه تملّكه بإرث ونحوه مع فرض بقاء كلّ من الاناءين بحاله ، فالظاهر لزوم كسره ، لتحقّق العلم الاجمالي حينئذ المردّد بين وجوب الاجتناب عن الشرب بالصغير مع لزوم كسره أو وجوب الاجتناب عن الشرب من الكبير ، لأنّ التكليف بوجوب الاجتناب عن الشرب بالصغير مع لزوم كسره لا طولية بينهما ولا سببية ومسبّبية توجب حكومة الأصل الجاري في الأوّل على الأصل الجاري في الثاني ، لكي يجاب عن هذا العلم الاجمالي بما سيأتي (١) من الجواب عن العلم الاجمالي في مسألة ملاقي أحد طرفي الشبهة المحصورة. فإن تمّ هذا المطلب في هذا الفرع كما هو الظاهر ، ينحلّ الإشكال في جملة من الفروع السابقة حتّى مسألة الأُصول والفروع والحواشي لأحد طرفي الشبهة المحصورة بالأُمومة النسبية أو الرضاعية ، فإنّ تنزيل تلك المسألة على دعوى السراية أو الاتّساع في غاية البعد ، بل ينبغي الجزم بعدمه ، فإنّ ضابط الاتّساع أو السراية هو أن تكون حرمة الفرع مستفادة من دليل الحرمة في أصله ، ومن الواضح أنّ حرمة الأُصول والحواشي والفرع لا تكون مستفادة من دليل حرمة الأُمّ ، بحيث إنّا لو بقينا نحن وقوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ

__________________

(١) ستأتي الإشارة إليه في الصفحة : ٢٣.

٢٠