أصول الفقه - ج ٧

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٧

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-72-0
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٩٢

قوله : وأمّا ما أفاده بقوله : ورابعاً سلّمنا عدم وجود القدر المتيقّن ـ إلى قوله ـ ففيه : أنّ الاحتياط في الطرق ـ مع أنّه لا يمكن لمعارضة بعضها مع بعض ، وغير المعارض منها قليل لا يفي بالأحكام ـ يرجع إلى الاحتياط في الأحكام ـ إلى قوله ـ والمفروض عدم وجوبه أو عدم جوازه ، وهذا بخلاف الظنّ بطريقية الطريق ، فإنّه لا يلازم الظنّ بالحكم حتّى يتوهّم أنّ اعتبار الظنّ بالطريق يرجع إلى اعتبار الظنّ بالحكم ... الخ (١).

ومحصّله الايراد على ما أفاده الشيخ قدس‌سره من جهتين ، الأُولى : أنّ الاحتياط في الطرق لا يمكن لتعارضها. والثانية : أنّ الاحتياط فيها راجع إلى الاحتياط في الأحكام التي تضمّنتها تلك الطرق ، والمفروض عدم وجوبه أو عدم جوازه.

وقد اقتصر في الدورة الأخيرة على الجهة الثانية ، فقد قال السيّد سلّمه الله فيما حرّره عنه : ففيه أنّ الاحتياط في الطرق إنّما هو بالعمل بمؤدّى كلّ طريق ، فيؤول الأمر إلى الاحتياط في الأحكام الواقعية ، وقد فرضنا استلزامه للعسر المنفي في الشريعة (٢).

وقد حرّرت عنه أيضاً ما هذا لفظه : ففيه : أنّ الاحتياط في الطرق إن كان بمعنى لزوم العمل بما هو محتمل الحجّية من حيث إنّه محتمل الحجّية ، ففيه أنّ ذلك ممّا لا وجه له ، لأنّ ذلك أشبه شيء بالعمل به بقصد كونه محتمل الحجّية ، ومن الواضح أنّه لا أثر لمجرّد الحجّية في وجوب العمل ، وإنّما الأثر للواقع الذي تكشف عنه ، ولأجل ذلك لا يجب العمل بما هو نافٍ منها ، ويختصّ وجوب العمل بما هو مثبت. وإن كان بمعنى لزوم العمل به من حيث احتمال التكليف

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢٨٥.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٢٤٧.

٦١

الواقعي فيه ، فقد رجع إلى الجري على طبق الاحتمال ، الذي قد عرفت قيام الإجماع على عدم ابتناء الشريعة عليه ، انتهى.

ولا يخفى أنّ هذه المباحث قد تقدّمت (١) في الوجه الأوّل من الوجوه العقلية التي أُقيمت على حجّية خبر الواحد ، وذلك هو الوجه الذي قال فيه الشيخ قدس‌سره : أوّلها ما اعتمدته سابقاً ، وهو أنّه لا شكّ للمتتبّع في أحوال الرواة المذكورة في تراجمهم في أنّ أكثر الأخبار بل جلّها إلاّما شذّ وندر صادرة عن الأئمّة عليهم‌السلام الخ (٢).

وقد أورد عليه الشيخ قدس‌سره بايرادات ثلاثة ، كما أنّ شيخنا قدس‌سره قد قرّره بوجهين وأورد على كلّ من الوجهين بما تقدّم شرحه. ومن جملة تلك الايرادات الايراد بعدم إمكان الاحتياط ، على اختلاف في التحارير في تعليل عدم إمكانه ، وأنّه من جهة التعارض بين تلك الأخبار ، أو من جهة العسر والحرج ، أو من جهة الإجماع على عدم وجوب الاحتياط ، أو على عدم جوازه ، كما قد اختلفت التحارير هنا. وقد شرحنا الوجه في مانعية التعارض لتوقّف إعمال قواعده على إعمال أصالة الظهور ، وأنّه لا وجه لمانعية العسر والحرج ، إذ لا يلزم ذلك في العمل بمقتضى تلك الطرق. وأمّا الإجماع على عدم وجوبه فلو سلّم فإنّما هو في الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي الكبير ، دون هذا العلم الاجمالي الصغير المتعلّق بالأحكام الواقعية الموجودة في ضمن الطرق ، أو المتعلّق بالأحكام الظاهرية التي هي متحصّلة من تلك الطرق.

نعم ، يتّجه الإشكال في دعوى الإجماع على عدم جواز الاحتياط ، فإنّه لو

__________________

(١) في فوائد الأُصول ٣ : ١٩٦ وما بعدها ، وقد تقدّمت حواشي المصنّف قدس‌سره على ذلك البحث في المجلّد السادس من هذا الكتاب ص ٤٦٨ وما بعدها.

(٢) فرائد الأُصول ١ : ٣٥١.

٦٢

سلّم يكون موجباً لعدم جواز الاحتياط مطلقاً ، سواء كان في أطراف العلم الاجمالي الكبير أو كان في أطراف [ العلم ] الاجمالي الصغير. ولكن هذا كلّه مبني على أنّ دعوى صاحب الفصول هي مجرّد انحلال الكبير إلى الصغير مع كون الاحتياط في نفس الحكم الواقعي المحتمل ، أمّا إذا كانت دعواه راجعة إلى تبدّل الواقعيات إلى مؤدّيات الطرق كما عرفت فيما تقدّم (١) ، فلا يتّجه عليه شيء من هذه الإشكالات من ناحية الاحتياط ، كما أنّه قد تقدّم (٢) الكلام في تحويل الاحتياط في الطرق إلى الاحتياط في نفس الأحكام الواقعية الموجودة في تلك الطرق ، فراجع تفاصيل تلك المباحث ، ومن جملة تلك المباحث ما تعرّض له الشيخ قدس‌سره (٣) من الايراد الخامس الذي شرحه شيخنا قدس‌سره (٤) بتوقّف الحجّية على العلم التفصيلي بها حكماً وموضوعاً ، وقد شرحناه في تلك المباحث ، فراجع (٥).

وينبغي أن يعلم أنّ الإشكال الخامس في كلام الشيخ قدس‌سره إنّما هو راجع إلى عدم التفاوت بين الظنّ بالواقع والظنّ بالطريق في كون كلّ منهما موجباً للظنّ ببراءة الذمّة ، وهذا المقدار من الإشكال إنّما يتوجّه على الفصول لو كان مبناه هو مجرّد الانحلال ، أمّا لو كان مبناه هو التقييد وتحوّل الأحكام الواقعية إلى مؤدّيات الطرق ، فلا يتوجّه عليه الإشكال المزبور.

__________________

(١) راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٥٢.

(٢) راجع فوائد الأُصول ٣ : ٢٠٣ ـ ٢٠٤ وللمصنّف قدس‌سره حاشية على ذلك تقدّمت في المجلّد السادس من هذا الكتاب ص ٤٩١ وما بعدها.

(٣) فرائد الأُصول ١ : ٤٤٦.

(٤) فوائد الأُصول ٣ : ٢٨٥.

(٥) راجع المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : ٤٩٩ وما بعدها.

٦٣

وقد أشار الشيخ قدس‌سره إلى ذلك في آخر ما أفاده في تقرير الإشكال الخامس فقال ـ بعد أن ساوى بين الظنّ بالطريق والظنّ بالواقع بالنسبة إلى الطريق المنصوب في عرض العلم في حال الانفتاح ، وبعد أن ساوى أيضاً بينهما بالنسبة إلى الطريق المنصوب في حال الانسداد بعد فرض عروض الاشتباه على ذلك الطريق ـ ما هذا لفظه : وكأنّ المستدلّ توهّم أنّ مجرّد نصب الطريق ولو مع عروض الاشتباه فيه موجب لصرف التكليف عن الواقع إلى العمل بمؤدّى الطريق ، كما ينبئ عنه قوله : وحاصل القطعين إلى أمر واحد ، وهو التكليف الفعلي بالعمل بمؤدّيات الطرق ، وسيأتي مزيد توضيح لاندفاع هذا التوهّم إن شاء الله تعالى (١).

وعلى كلّ حال ، فإنّ هذا الذي أفاده شيخنا قدس‌سره في أوّل تقريب الإشكال الخامس كأنّه إشكال آخر لا دخل له بإشكال الشيخ قدس‌سره ، نعم ما أفاده شيخنا قدس‌سره في آخر هذا التقريب بقوله : لعدم التفاوت بين العمل بالظنّ بالحكم الفرعي وبين العمل بمؤدّى الطريق المظنون الخ (٢) ، راجع إلى إشكال الشيخ قدس‌سره ، وكأنّ ما قدّمه عليه برهان توضيحي لما أفاده الشيخ قدس‌سره واستنتجه شيخنا قدس‌سره من التسوية بين الظنّين ، ولكن سيأتي (٣) إن شاء الله تعالى أنّ هذا البرهان لو تمّ لكان مقتضاه هو اختصاص الظنّ بالظنّ بالواقع ، دون الظنّ بالطريق.

وأمّا ما أفاده قدس‌سره بعد ذلك فيما حكاه عنه في هذا التحرير بقوله : مضافاً إلى

__________________

(١) فرائد الأُصول ١ : ٤٤٧.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٢٨٦.

(٣) في الصفحة : ٧١.

٦٤

أنّ ما ذكره من الدليل ـ إلى قوله ـ وذلك يقتضي كفاية الظنّ بأنّ الحكم الكذائي مؤدّى طريق معتبر الخ (١) ، فهو موافق لما في الكفاية بقوله : مع أنّ الالتزام بذلك غير مفيد ، فإنّ الظنّ بالواقع فيما ابتلي به من التكاليف لا يكاد ينفكّ عن الظنّ بأنّه مؤدّى طريق معتبر الخ (٢).

قلت : بل يمكن القول بأنّ الظنّ بالحكم الواقعي مطلقاً يلازم الظنّ بأنّه مؤدّى طريق معتبر ، بناءً على ما ذكره صاحب الفصول من أنّ جعل الأحكام ملازم لجعل طرق وافية بها ، خصوصاً إذا كان بناؤه على الصرف والتقييد ، فتأمّل.

واعلم أنّ صاحب الكفاية قدس‌سره بعد أن نقل كلام الفصول قال : وفيه أوّلاً : بعد تسليم العلم بنصب طرق خاصّة باقية فيما بأيدينا من الطرق الغير العلمية ، وعدم وجود ( القدر ) المتيقّن بينها أصلاً ، أنّ قضية ذلك هو الاحتياط في أطراف هذه الطرق المعلومة بالاجمال لا تعيينها بالظن (٣).

وقوله : بعد تسليم العلم بنصب طرق خاصّة ، إشارة إلى الايراد الأوّل من إيرادات الشيخ قدس‌سره على صاحب الفصول. وقوله : باقية فيما بأيدينا من الطرق الغير العلمية ، إشارة إلى إيراده الثاني عليه. وقوله : وعدم وجود ( القدر ) المتيقّن بينها أصلاً ، إشارة إلى إيراده الثالث. وقوله : إنّ قضية ذلك هو الاحتياط في أطراف هذه الطرق ، إشارة إلى إيراده الرابع. وقوله فيما بعد ذلك : وثانياً لو سلّم أنّ قضيته لزوم التنزّل إلى الظنّ فتوهّم الخ ، إشارة إلى إيراده الخامس.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢٨٦ ـ ٢٨٧.

(٢) كفاية الأُصول : ٣١٨.

(٣) كفاية الأُصول : ٣١٧.

٦٥

قوله : لا يقال : الفرض هو عدم وجوب الاحتياط بل عدم جوازه (١).

دليل الأوّل ـ أعني عدم وجوب الاحتياط ـ هو العسر والحرج. ودليل الثاني ـ أعني عدم جوازه ـ هو اختلال النظام ، وليس المراد من عدم جواز الاحتياط هو ما اشتملت عليه كلمات الشيخ وشيخنا قدس‌سرهما من دعوى الإجماع على بطلان الاحتياط وعدم جوازه ، وإلاّ لكان ذلك مسقطاً للاحتياط حتّى في الموارد التي قامت عليها الطرق المذكورة بلا معارضة.

وقوله : لأنّ الفرض إنّما هو عدم وجوب الاحتياط التامّ (٢).

حاصله أنّ العسر والحرج أو اختلال النظام إنّما يكون في الاحتياط في جميع أطراف العلم الاجمالي الكبير ، أمّا هذا الاحتياط الذي ندّعيه فإنّه منحصر في أطراف الطرق بعد انحلال ذلك العلم الاجمالي إلى مؤدّيات الطرق ، ولا ريب في قلّة أطرافه بالنسبة إلى أطراف العلم الاجمالي الكبير ، على وجه لا يلزم منه العسر والحرج ، فضلاً عن اختلال النظام.

ثمّ أخذ في بيان هذه الأقلّية فقال : فإنّ قضية هذا الاحتياط هو جواز رفع اليد عنه في غير مواردها ، والرجوع إلى الأصل فيها ولو كان نافياً للتكليف (٣). وهو واضح.

ثمّ أخذ في بيان هذه القلّة من جهة أُخرى فقال : وكذا ( يعني يسقط الاحتياط ) فيما إذا نهض الكل على نفيه.

ولا يخفى أنّه تصوّر بعيد ، بل يمكن القطع بعدم وقوعه ، فإنّ الظاهر من

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٣١٧.

(٢) نفس المصدر.

(٣) نفس المصدر.

٦٦

هذه العبارة هو أن يكون كلّ واحد من أصناف هذه الطرق ناهضاً على نفي التكليف في مورد من الموارد ، ولا ينبغي الريب في عدم وقوع ذلك فيما بأيدينا من الطرق ، إلاّ أن يكون مراده هو نهوض البعض وسكوت البواقي ، لكنّه خلاف الظاهر من هذه العبارة. وعبارته في حاشيته على الرسائل هي أظهر فيما ذكرناه من هذه العبارة ، فإنّه قال فيها في مقام تعداد موارد سقوط الاحتياط : ومنها ما نهض جميع أطرافه على نفي التكليف ، للعلم بقيام طريق معتبر حينئذ على النفي وهو واضح (١). ولا يخفى أنّ هذه العبارة صريحة في أنّ مراده هو اتّفاق جميع الأطراف في النهوض على نفي التكليف ، الذي عرفت القطع بعدم وقوعه ، فتأمّل.

قوله : وكذا فيما إذا تعارض فردان من بعض الأطراف فيه ... الخ (٢).

قد عرفت أنّ اللازم على مسلك الفصول في هذه الصورة هو العمل على طبق المثبت فيما لو كانا من سنخين ، لاحتمال كون المثبت منهما من الطرق المجعولة ، والنافي منهما وإن كان يحتمل فيه ذلك ، إلاّ أنّ الاحتياط في الطرق لا يكون جارياً في النافي ، هذا إذا كانا من سنخين ، كخبر يقوم على وجوب الفعل مثلاً وشهرة تقوم على عدم وجوبه.

أمّا لو كانا من سنخ واحد كما هو مراد المصنّف بقرينة قوله : فردان من بعض الأطراف ، فلا يكون الاحتياط فيه لازماً ، كخبرين قام أحدهما على وجوب الفعل والآخر على عدم وجوبه ، لأنّ المكلّف يقول : إنّما يجب عليّ الاحتياط لاحتمال الحجّية ، فإن كان كلّي ذلك السنخ حجّة تعارض الفردان المذكوران ،

__________________

(١) حاشية كتاب فرائد الأُصول : ٨٧.

(٢) كفاية الأُصول : ٣١٧.

٦٧

فيقدّم الأرجح منهما ، فيكون المقدّم هو النافي لو كان أرجح من المثبت ، بل مع عدم رجحان المثبت. هذا إذا كانا خبرين. ولو كانا شهرتين لم يقدّم الأرجح ولو كان هو المثبت ، بناءً على اختصاص الترجيح بالأخبار. وإن لم يكن ذلك السنخ حجّة كنّا في راحة منهما.

وكذلك يسقط الاحتياط فيما لو تعارض اثنان منها في الايجاب والتحريم ، سواء كانا من سنخين كما هو ظاهر عبارته ، أو كانا من سنخ واحد كخبرين أو شهرتين. نعم لو كانا خبرين كان التقدّم بالرجحان ، وعند التساوي يحكم بالتخيير العقلي لكونه من قبيل الدوران بين المحذورين ، كما لو لم يكونا خبرين بل كانا شهرتين.

ومن ذلك يظهر لك أنّ تعارض هذه الطرق لا يقف عثرة في سبيل الاحتياط بتلك ، كما هو ظاهر ما حكي عن شيخنا قدس‌سره في هذا التحرير بقوله : ففيه أنّ الاحتياط في الطرق مع أنّه لا يمكن ، لمعارضة بعضها مع بعض الخ (١).

قوله : وكذا كلّ مورد لم يجر فيه الأصل المثبت ، للعلم بانتقاض الحالة السابقة فيه إجمالاً بسبب العلم به ، أو بقيام أمارة معتبرة عليه في بعض أطرافه بناءً على عدم جريانه بذلك (٢).

كان الأنسب جعل هذه الجملة إلى جنب قوله : والرجوع إلى الأصل فيها ولو كان نافياً للتكليف. فيقال حينئذ أمّا لو كان الأصل مثبتاً فإنّه وإن لزم العمل على طبقه ، فيكون حاله حال الاحتياط في كونه جرياً على طبق التكليف وإن لم يكن المورد من مؤدّيات الطرق ، لكنّه ربما سقط ذلك الأصل المثبت كما في كلّ

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢٨٥.

(٢) كفاية الأُصول : ٣١٧ ـ ٣١٨.

٦٨

ما علم إجمالاً بانتقاض الحالة السابقة فيه الخ.

قوله قدس‌سره : وثانياً لو سلّم أنّ قضيته الخ (١).

قد عرفت أنّ هذا إشارة إلى الإيراد الخامس الذي أورده الشيخ قدس‌سره على الفصول ، لكن فيه زيادة على ما أفاده الشيخ قدس‌سره ، فإنّ الشيخ قدس‌سره قد اقتصر في الايراد الخامس على مجرّد التسوية بين الظنّ بالواقع والظنّ بالطريق في تحصيل براءة الذمّة. أمّا الزيادة فهي صورة احتمال وجوب الدعاء عند رؤية الهلال مثلاً ، مع فرض الظنّ بأنّه مؤدّى طريق معتبر ، مع عدم حصول الظنّ بأنّ الدعاء واجب ، ولا الظنّ بحجّية طريق أصلاً.

وزيادة أُخرى وهي أنّ الظنّ بالواقع وإن سلّمنا لصاحب الفصول أنّه لا عبرة به من ناحية كونه ظنّاً بالواقع ، إلاّ أنّ الظنّ بالواقع في خصوص ما يعمّ الابتلاء به ملازم لما هو المطلوب لصاحب الفصول من الظنّ بالطريق ، فإنّ الظنّ بما تعمّ به البلوى ملازم للظنّ بقيام طريق معتبر عليه ، وذلك هو ما أفاده بقوله قدس‌سره : مع أنّ الالتزام بذلك غير مفيد ، فإنّ الظنّ بالواقع فيما ابتلي به من التكاليف الخ (٢). بل قد عرفت (٣) أنّ الظنّ بالتكليف الواقعي ملازم مطلقاً للظنّ بالطريق ، بناءً على مسلك الفصول من أنّ الشارع بعد جعله الأحكام قد جعل لها طرقاً ، وحينئذ لا فرق بين كون ذلك ممّا يندر الابتلاء به ، أو كونه ممّا يكثر الابتلاء به ، للملازمة بين جعل الحكم وجعل الطريق المؤدّي إليه.

وهناك زيادة ثالثة ، وهي أنّه لو ظنّ بحجّية الشهرة مثلاً القائمة على وجوب

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٣١٨.

(٢) نفس المصدر.

(٣) في الصفحة : ٦٤ ـ ٦٥.

٦٩

الدعاء عند رؤية الهلال ، لكن لم يحصل الظنّ بالواقع من هذه الشهرة ، لكان اللازم على الفصول عدم الاعتناء بتلك الشهرة بناءً على طريقته من التقييد ، فإنّ القيد وإن كان مظنوناً وهو الطريق ، لكن المقيّد وهو الواقع لم يكن مظنوناً ، فلم يحصل حينئذ لنا ظنّ بالواقع المقيّد ، وهذا ما أشار إليه بقوله : والظنّ بالطريق ما لم يظن باصابته الواقع غير مجدٍ بناءً على التقييد الخ (١).

قلت : نعم ، إنّه يجدي بناءً على الصرف المجرّد الذي هو عبارة عن انقلاب الأحكام الواقعية وتبدّلها إلى مؤدّيات الطرق. ولا يخفى أنّه بناءً على التقييد لا يرد النقض الأوّل على صاحب الفصول وهو الزيادة الأُولى ، أعني ما لو احتمل وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، مع فرض الظنّ بأنّه مؤدّى طريق معتبر ، مع عدم حصول الظنّ بالوجوب ولا الظنّ بحجّية طريق ، ولو حمل على خصوص حصول الظنّ بالوجوب كان داخلاً في قوله : ومن الظنّ بالواقع ، بناءً على كونه ملازماً للظنّ بالطريق ، فتأمّل.

ثمّ إنّ الظاهر ممّا أفاده شيخنا قدس‌سره في هذا التحرير (٢) هو التعرّض للزيادة الأُولى والثانية ، لكنّه تعرّض في صدر الايراد الخامس إلى أنّ العلم الاجمالي بجعل الطرق لا يوجب انحلال العلم الاجمالي الكبير إلى مؤدّيات الطرق ، لأنّ مجرّد جعل الطريق ما لم يكن واصلاً تفصيلاً إلى المكلّف لا يترتّب عليه أثر الحجّية من التنجيز والمعذورية ، ولا يمكن إجراء الأُصول المرادية فيه من أصالة الظهور وجهة الصدور وغير ذلك ممّا يرجع إلى الأُصول المرادية ، وهذا الإشكال قد أشكله قدس‌سره على التقريب الثاني للاستدلال الأوّل من الأدلّة العقلية التي أقاموها

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٣١٨.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٢٨٦ ـ ٢٨٧.

٧٠

على حجّية خبر الواحد ، أعني العلم بصدور جملة ممّا بأيدينا من الأخبار.

وقد ذكرنا هناك (١) أنّ هذا الإشكال لو تمّ لتوجّه على التقريب الأوّل ، الراجع إلى انحلال العلم الاجمالي الكبير بالتكاليف الواقعية إلى العلم بالتكاليف الواقعية الموجودة فيما بأيدينا من الأخبار ، فإنّ تلك الأخبار بعد أن كانت الأُصول العقلائية منسدّة فيها ، كيف يمكننا أن نقول إنّ في جملة منها من التكاليف ما هو بمقدار المعلوم بالإجمال ، ليلزمنا العمل بها جميعاً ، وذلك لأنّ انسداد باب الأُصول المرادية فيها يوجب عدم التمكّن من العمل بها ، بل تكون حينئذ كلّها من المجملات.

ثمّ لا يخفى أنّه بناءً على هذا الإشكال يكون الأمر منحصراً بالظنّ بالواقع ، ولا يكون للظنّ بالطريق المجرّد عن الظنّ بالواقع أثر ، وحينئذ تبطل التسوية بين الظنّ بالواقع والظنّ بالطريق ، إلاّ إذا كان ذلك الطريق المظنون الحجّية موجباً للظنّ بالواقع ، فتأمّل جيّداً فإنّ مقتضى قوله : فإنّ هذه الآثار إنّما ترتّب على الطريق الواصل إلى المكلّف تفصيلاً لتجري فيه الأُصول اللفظية والجهتية ، بداهة أنّ الطريق ما لم يكن محرزاً لدى المكلّف وواصلاً إليه موضوعاً وحكماً ، لا يجري فيه الأصل اللفظي من أصالة إرادة الظهور ، والأصل الجهتي من أصالة كون صدوره لبيان حكم الله الواقعي لا لتقيّة الخ (٢) هو أنّ حجّية الخبر مثلاً منوطة بالعلم التفصيلي بها ، على وجه لا يمكننا الأخذ بأصالة الظهور فيه ونحوها ، وإن كان هو من أطراف علم إجمالاً بحجّية بعضها ، وحينئذ فلو ظننا بحجّية الخبر مثلاً ، ولكن لم يكن ذلك الخبر مفيداً للظنّ بالواقع ، فهل يمكننا العمل به ما لم نجر فيه

__________________

(١) في المجلّد السادس من هذا الكتاب ص ٥٠٣.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٢٨٥ ـ ٢٨٦.

٧١

الأُصول المرادية الموقوفة حسب الفرض على العلم التفصيلي بحجّيته ، وكيف يمكننا العمل بذلك الخبر المظنون الحجّية الذي لم تجر فيه الأُصول المرادية ، التي يكون عدم جريانها فيه موجباً لاجماله وإهماله ، بل عدم فهم شيء منه ولو مهملاً مجملاً.

إلاّ أن يقال : إنّ الظنّ بأنّه حجّة يوجب الحكم بحجّيته ولو بواسطة دليل الانسداد ، وحينئذ تكون حجّيته بمنزلة المعلومة تفصيلاً ، فينفتح فيه باب الأُصول المرادية ، لكن هذا إنّما يمكن إتمامه على الكشف ، أمّا على الحكومة فلا يتمّ ، إذ لا يكون في البين إلاّما يقتضيه العقل من لزوم تفريغ الذمّة علماً مع إمكانه ، أو ظنّاً مع عدم إمكان العلم ، أو لزوم التبعيض في الاحتياط والاقتصار فيه على التكاليف المظنونة ، وهذا المعنى لا يتأتّى فيما هو مظنون الطريقية مع عدم الظنّ بالواقع وإنّما يتأتّى في الظنّ بالواقع دون مجرّد الظنّ بالطريقية.

نعم ، إنّ الظنّ بالطريق يوجب الظنّ بالحكم الظاهري ، لكن بعد فرض أنّ الأُصول المرادية غير متوقّفة على العلم التفصيلي ، أمّا بعد فرض كون الأُصول المرادية متوقّفة على العلم التفصيلي بالحجّية ، لا يكون الظنّ بالحجّية موجباً للظنّ بالحكم الظاهري ، لتوقّف الحكم الظاهري على جريان الأُصول المرادية ، والمفروض عدم جريانها فيما هو مظنون الحجّية ، فتأمّل جيّداً.

ومنه يظهر لك التأمّل فيما أفاده من التسوية بقوله : نعم ، العمل بمؤدّى ما يظنّ كونه طريقاً يجزئ أيضاً ، لعدم التفاوت بين العمل بالظنّ بالحكم الفرعي وبين العمل بمؤدّى الطريق المظنون فيما هو المهمّ في نظر العقل من حصول الظنّ بالمؤمّن عن تبعة التكاليف والخروج عن عهدتها عند انسداد باب العلم

٧٢

بها الخ (١).

وكون المؤمّن في حال الانفتاح هو أحد الأمرين ، أعني العلم بالواقع والعلم بحجّية الطريق ، لا يوجب أن يكون المؤمّن في حال الإنسداد هو الظنّ بأحد الأمرين ، لأنّ العلم بحجّية الطريق موجب لجريان الأُصول المرادية فيه ، بخلاف الظنّ بالطريق فإنّه لا يوجب جريان الأُصول المرادية حسب الفرض ، فلا يكون العمل بمظنون الحجّية في حال الانسداد مؤمّناً ، بل لا يكون العمل به ممكناً مع فرض عدم جريان الأُصول المرادية فيه ، فتأمّل جيّداً ، وسيأتي (٢) له مزيد توضيح إن شاء الله تعالى في البحث مع شريف العلماء القائل باختصاص نتيجة دليل الانسداد بحجّية الظنّ بالواقع ، دون الظنّ بالطريق.

قول صاحب الكفاية قدس‌سره : هذا مع عدم مساعدة نصب الطريق على الصرف ولا على التقييد ، غايته أنّ العلم الاجمالي بنصب طرق وافية يوجب انحلال العلم بالتكاليف الواقعية إلى العلم بما هو مضامين الطرق المنصوبة من التكاليف الفعلية ، والانحلال وإن كان ( في حدّ نفسه ) يوجب عدم تنجّز ما لم يؤدّ إليه الطريق من التكاليف الواقعية ، إلاّ أنّه ( أعني الانحلال المذكور إنّما يتحقّق ) إذا كان رعاية العلم بالنصب لازماً ، والفرض ( على ما يدّعيه صاحب الفصول هو ) عدم اللزوم ( من جهة لزوم العسر والحرج ) بل عدم الجواز (٣) من جهة لزوم اختلال النظام ، ولأجل ذلك انتقل إلى الظنّ بالطريق ، ولم يلتزم بالاحتياط في جميع أطراف هذا العلم الاجمالي بالنصب من الطرق المحتملة النصب ، فإسقاطه

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢٨٦.

(٢) في الحاشية الآتية في الصفحة : ٩٩ وما بعدها. راجع الصفحة : ١٠٤ ـ ١٠٥.

(٣) كفاية الأُصول : ٣١٨.

٧٣

الاحتياط في الطرق بتمامها ، وانتقاله إلى العمل بما هو مظنون الطريقية فقط دون مشكوكها وموهومها ، يدلّ على أنّه يرى أنّ الاحتياط في تمام تلك الطرق موجب للعسر والحرج أو موجب لاختلال النظام ، وإلاّ كان اللازم هو الاحتياط التامّ في تمام تلك الطرق.

ولا يخفى أنّه يمكن الجواب من ناحية صاحب الفصول ، بأن يقال : يكفي في الانحلال تأثير العلم الاجمالي الثاني في تبعيض الاحتياط في أطرافه ، وهذا المقدار من الأثر للعلم الاجمالي الثاني كافٍ في كونه موجباً لانحلال العلم الاجمالي الأوّل ، وتحويل تبعيض الاحتياط عن أطراف العلم الاجمالي الأوّل إلى أطراف العلم الاجمالي الثاني. لكن صاحب الكفاية قدس‌سره لا يرى كون العلم الاجمالي الموجب للعسر والحرج مؤثّراً في تبعيض الاحتياط ، بل يقول إنّ العسر والحرج موجب لسقوط العلم الاجمالي عن التأثير بالمرّة ، لأنّ دليل العسر والحرج يكون رافعاً للتكليف الواقعي المعلوم في البين ، ومعه لا يبقى موجب لتبعيض الاحتياط.

ولأجل ذلك قال هنا : وعليه يكون التكاليف الواقعية كما إذا لم يكن هناك علم بالنصب في كفاية الظنّ بها حال انسداد باب العلم كما لا يخفى ، ولابدّ حينئذ من عناية أُخرى في لزوم رعاية الواقعيات بنحو من الاطاعة وعدم إهمالها رأساً كما أشرنا إليها الخ (١). وإنّما احتاج إلى العناية الأُخرى لأجل ما عرفت من أنّه بعد سقوط الاحتياط في أطراف كلّ من العلم الاجمالي الصغير والعلم الاجمالي الكبير لأجل العسر والحرج الموجب لسقوط التكاليف الواقعية ، لابدّ لنا من عناية أُخرى توجب علينا تبعيض الاحتياط ، وتلك العناية هي ما أشار إليها في شرحه

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٣١٨ ـ ٣١٩.

٧٤

لمقدّمات الانسداد (١) وصرّح بها فيما كتبه هنا على الهامش بقوله : وهي إيجاب الاحتياط في الجملة المستكشف بنحو اللمّ من عدم الإهمال في حال الانسداد قطعاً إجماعاً بل ضرورة ، إلى آخر ما أفاده في الحاشية (٢).

وقوله في الحاشية المشار إليها : وهو يقتضي التنزّل إلى الظنّ بالواقع حقيقة أو تعبّداً إذا كان استكشافه في التكاليف المعلومة الخ (٣).

هذا إشارة إلى ما عليه المشهور من كون المكلّف به في حال الانفتاح هو الواقع الحقيقي ، أو الواقع التعبّدي الحاصل من مؤدّيات الطرق المعتبرة ، وحينئذ يكون التنزّل في حال الانسداد إلى الظنّ بأحدهما.

وقوله : وإلى الظنّ بخصوص الواقعيات التي تكون مؤدّيات الطرق المعتبرة أو بمطلق المؤدّيات لو كان استكشافه في خصوصها أو في مطلقها الخ (٤).

هذا إشارة إلى ما يظهر من مسلك صاحب الفصول من التزامه بأنّ المكلّف به في حال الانفتاح ليس مطلق الواقعيات ، بل إنّ المكلّف به في حال الانفتاح هو خصوص الواقعيات التي تكون مؤدّيات الطرق المعتبرة بناءً على التقييد ، أو مطلق المؤدّيات وإن لم تكن واقعية بناءً على الصرف ، وحينئذ يكون التنزّل في حال الانسداد إلى الظنّ بخصوص الواقعيات التي وقعت في مؤدّيات الطرق المعتبرة بناءً على التقييد ، أو إلى الظنّ بمطلق المؤدّيات وإن لم تكن واقعية بناءً على الصرف. وعلى كلّ حال ، فلا أثر للظنّ بالطريق لمجرّد كونه ظنّاً بالطريق ،

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٣١٢.

(٢) كفاية الأُصول : ٣١٩ ( الهامش ).

(٣) نفس المصدر.

(٤) نفس المصدر.

٧٥

وإن كان هو ـ أعني الظنّ بالطريق ـ كافياً ، لكونه ملازماً للظنّ بأنّ مؤدّى ذلك الطريق المظنون مؤدّى طريق ، فهو من هذه الجهة يكون محصّلاً للظنّ بمؤدّى الطريق المعتبر ، وقد أشار إلى ذلك بقوله : فلا يكاد أن تصل النوبة إلى الظنّ بالطريق بما هو كذلك ، وإن كان يكفي ، لكونه مستلزماً للظنّ بكون مؤدّاه مؤدّى طريق معتبر (١). لكن إنّ الاكتفاء بذلك إنّما هو على تقدير الصرف ، أمّا على التقييد فلا ، إلاّ إذا انضمّ إلى الظنّ بأنّه مؤدّى طريق معتبر الظنّ بالواقع ، لما أفاده في المتن من أنّ الظنّ بمؤدّى الطريق لا يكفي ما لم ينضمّ إليه الظنّ بالواقع ، كما عرفت شرحه.

وقوله : كما يكفي الظنّ بكونه كذلك ( يعني مؤدّى طريق معتبر ، بأن يظنّ بأنّ الحكم الفلاني قد وقع مؤدّى لإحدى الطرق المعتبرة ) ولو لم يكن ( قد حصل للمكلّف ) ظنّ باعتبار طريق أصلاً كما لا يخفى (٢).

لكن قد عرفت أنّه لابدّ في ذلك من انضمام الظنّ بذلك الحكم الواقعي إلى الظنّ بأنّه مؤدّى طريق معتبر ، وإلاّ لم يكن كافياً بناءً على التقييد. نعم هو وحده ـ أعني الظنّ بأنّ الحكم الفلاني قد وقع مؤدّى طريق معتبر ـ كافٍ بناءً على الصرف ، فتأمّل.

قوله : وأنت خبير بأنّه لا وجه لاحتمال ذلك ( يعني الشقّ الثاني الذي هو مسلك صاحب الفصول ، أعني التقييد أو الصرف ) وإنّما المتيقّن هو ( ما عليه المشهور وهو ) لزوم رعاية الواقعيات ( الحقيقية أو التعبّدية ) في كلّ حال ( من الانفتاح أو الانسداد ، ففي حال الانسداد يكون كلّ من الظنّ بالواقع الحقيقي

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) نفس المصدر.

٧٦

والظنّ بالواقعي التعبّدي كافياً. فإن قلت : إنّ مسلك صاحب الفصول وهو عدم الاعتناء بالظنّ بالواقع ، لا يتوقّف على الالتزام بالتقييد أو الصرف ، بل يكفيه العلم الاجمالي بجعل طرق بمقدار التكاليف الواقعية ، فإنّ هذا العلم الاجمالي يوجب انحلال العلم الاجمالي الكبير إلى مؤدّيات الطرق ، وحينئذ يكون التبعيض في خصوص مؤدّيات الطرق ، ولا يبقى أثر لاحتمال التكليف الواقعي ، فلا يلزم العمل بالظنّ بالتكليف الواقعي ما لم ينضمّ إليه الظنّ بكونه مؤدّى الطريق. قلت : هذا إنّما يتمّ لو قلنا بالانحلال ، وأنت ) بعد ( ما عرفت من توقّف الانحلال على لزوم رعاية العلم الاجمالي الثاني ، تعرف أنّه لا أثر للعلم الاجمالي الثاني المتعلّق بجعل الطرق ، بعد ما عرفت من ) عدم لزوم رعاية الطرق المعلومة بالإجمال بين أطراف كثيرة ، فافهم (١) لئلاّ يختلط عليك جهة البحث بإصلاح ما رامه صاحب الفصول بذلك.

قوله : الوجه الثاني : ما أفاده المحقّق صاحب الحاشية مضافاً إلى الوجه الأوّل ... الخ (٢).

قال في الحاشية : لا ريب في كوننا مكلّفين بأحكام الشريعة وأنّه لم يسقط عنّا التكاليف والأحكام الشرعية في الجملة ، وأنّ الواجب علينا أوّلاً هو تحصيل العلم بتفريغ الذمّة في حكم المكلّف ، بأن يقطع معه بحكمه بتفريغ ذمّتنا عمّا كلّفنا به ، وسقوط التكليف عنّا ، سواء حصل منه العلم بأداء الواقع أو لا ، حسبما مرّ تفصيل القول فيه.

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٣١٩ الهامش [ ولا يخفى أنّ ما بين القوسين هو شرح المصنّف قدس‌سره لكلام صاحب الكفاية قدس‌سره ].

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٢٨٧.

٧٧

وحينئذ نقول : إن صحّ لنا تحصيل العلم بتفريغ الذمّة في حكم الشارع فلا إشكال في وجوبه وحصول البراءة به ، وإن انسدّ علينا سبيل العلم به كان الواجب علينا تحصيل الظنّ بالبراءة في حكمه ، إذ هو الأقرب إلى العلم به ، فيتعيّن الأخذ به عند التنزّل من العلم في حكم العقل بعد انسداد سبيل العلم والقطع ببقاء التكليف ، دون ما يحصل معه الظنّ بأداء الواقع كما يدّعيه القائل بأصالة حجّية الظنّ ، وبينهما بون بعيد ، إذ المعتبر في الوجه الأوّل هو الأخذ بما يظنّ كونه حجّة لقيام دليل ظنّي على حجّيته ، سواء حصل منه الظنّ بالواقع أو لا ، وفي الوجه الثاني لا يلزم حصول الظنّ بالبراءة في حكم المكلّف ، إذ لا يستلزم مجرّد الظنّ بالواقع ظنّاً باكتفاء المكلّف بذلك الظنّ في العمل ، سيّما بعد ما ورد من النهي عن العمل بالظنّ والأخذ به ، فإذا تعيّن تحصيل ذلك بمقتضى حكم العقل حسبما عرفت ، لزم اعتبار أمر آخر يظنّ معه برضا المكلّف بالعمل به ، وليس ذلك إلاّ الدليل الظنّي الدالّ على حجّيته ، فكلّ طريق قام دليل ظنّي على حجّيته واعتباره في نظر الشرع يكون حجّة ، دون ما لم يقم عليه (١) ، انتهى كلامه قدس‌سره.

قوله قدس‌سره : وأنّ الواجب علينا أوّلاً هو تحصيل العلم بتفريغ الذمّة في حكم المكلّف الخ.

المكلّف بالكسر ، والمراد ـ كما فسّره به ـ هو أنّه يجب علينا أوّلاً أي في حال الانفتاح تحصيل العلم بحكم الشارع بفراغ ذمّتنا من التكاليف الواقعية ، أي يجب علينا أن نعمل عملاً نقطع بأنّ الشارع حكم عليه بأنّه مفرغ للذمّة.

قوله : بأن يقطع معه الخ.

لا وقع لهذا الظرف ، والصواب إسقاطه ، إذ لا مرجع في العبارة لضميره.

__________________

(١) هداية المسترشدين ٣ : ٣٥١ ـ ٣٥٢.

٧٨

قوله : سواء حصل منه.

الضمير راجع إلى القطع من قوله : بأن يقطع.

قوله قدس‌سره : كان الواجب علينا تحصيل الظنّ بالبراءة في حكمه.

أي كان الواجب علينا تحصيل الظنّ بحكم الشارع بفراغ ذمّتنا والبراءة من التكليف.

قوله قدس‌سره : دون ما يحصل معه الظنّ بأداء الواقع.

الأولى إسقاط قوله : ما يحصل معه ، وإن أمكن توجيهه بجعل لفظة « ما » عبارة عن العمل ، أي دون العمل الذي يظنّ معه بأداء الواقع ، إلاّ أنّه لا حاجة إلى ذلك ، بل يكفي أن يقول : دون الظنّ بأداء الواقع.

قوله قدس‌سره : وبينهما بون بعيد ، إذ المعتبر في الوجه الأوّل الخ.

هذا هو عمدة مطلب هذا المحقّق قدس‌سره ، وبدونه لا يتمّ مطلبه ، بل يكون دعوى بلا دليل ، وحاصل ما يريده قدس‌سره : هو أنّه بعد أن ثبت الانتقال من وجوب تحصيل العلم بحكم الشارع بفراغ الذمّة إلى الظنّ بذلك ، نقول : إنّ الظنّ بالواقع لا يستلزم الظنّ بحكم الشارع بفراغ الذمّة الذي هو المطلوب ، بخلاف الظنّ بالطريق فإنّه يستلزمه ، وشرح ذلك : هو أنّ جعل الطريق يستلزم الحكم باجزاء العمل على طبقه وكونه مفرغاً للذمّة ، وحينئذ فالعمل إذا كان على طبق طريق معلوم الاعتبار استلزم حصول ما هو المطلوب في حال الانفتاح ، أعني العلم بحكم الشارع بفراغ الذمّة ، وإذا كان العمل على طبق مظنون الاعتبار حصل ما هو المطلوب في حال الانسداد ، أعني الظنّ بحكم الشارع بفراغ الذمّة ، أمّا إذا عملنا على طبق الطريق المشكوك الاعتبار بأن ظننا أنّ الواقع كذا ، فعملنا على طبق ظنّنا من دون أن يكون ذلك الظنّ مظنون الاعتبار ، فلا يحصل لنا ما هو المطلوب من

٧٩

الظنّ بحكم الشارع بفراغ ذمّتنا ، إذ لا يحصل لنا في ذلك إلاّ الشكّ بالحكم المذكور ، حيث إنّ ملزومه أعني حجّية ذلك الطريق الذي هو الظنّ بالواقع مشكوكة.

وبالجملة : أنّ الحكم المذكور لازم لجعل الطريق وحجّيته ، فإنّ جعل الطريق يلزمه الحكم باجزاء العمل على طبقه ، وأنّ ذلك العمل مفرغ للذمّة ، فإن كانت حجّية الطريق الذي وقع العمل على طبقه معلومة ، كان تحقّق الحكم المذكور معلوماً ، وإن كانت مظنونة كان الحكم المذكور مظنوناً ، وإن كانت مشكوكة كان الحكم المذكور مشكوكاً ، وإذا لزم بحكم العقل التنزّل من وجوب تحصيل العلم بالحكم المذكور إلى وجوب تحصيل الظنّ به ، تعيّن العمل على طبق الطريق المظنون الحجّية ، ليكون الحكم المذكور حينئذ مظنوناً ، دون العمل على طبق الظنّ بالواقع وإن لم يكن مظنون الحجّية ، إذ لا يحصل حينئذ ما هو المطلوب من تحصيل الظنّ بالحكم المذكور ، بل ربما يحصل الظنّ أو القطع بعدم الحكم المذكور ، أعني حكم الشارع بفراغ الذمّة.

بل قد يقال : إنّه يحصل القطع أو الظنّ بحكم الشارع بعدم فراغ الذمّة ، نظراً إلى النهي عن اتّباع الظنّ ، حيث إنّ النهي عن اتّباعه يستلزم الحكم بعدم إجزاء العمل على طبقه ، كما أنّ الأمر باتّباعه يستلزم الحكم بإجزاء العمل على طبقه. والغرض من قوله قدس‌سره : وبينهما بون بعيد الخ أنّ النسبة بين ما هو المطلوب في حال الانسداد ، أعني حكم الشارع ببراءة الذمّة ، وبين الظنّ بالواقع ، عموم من وجه ، فإنّ الأوّل لا يتحقّق إلاّمع الأخذ بما يظنّ كونه طريقاً معتبراً ، سواء حصل معه الظنّ بأداء الواقع أو لم يحصل ، والثاني ـ أعني مجرّد الظنّ بالواقع ـ يجتمع مع الظنّ بحكم الشارع بفراغ الذمّة كما إذا كان ذلك الظنّ مظنون الاعتبار ، ومع عدم

٨٠