أصول الفقه - ج ٧

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٧

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-72-0
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٩٢

عدم إمكان الجمع بين الأخذ بكلا الأصلين ، فلاحظ وتأمّل.

وينبغي أن يتأمّل في أنّ القائلين بحصر الموجب للتعارض وللتساقط بخصوص ما لو كانت الأُصول مستلزمة للمخالفة القطعية ، هل يقولون بعدم سقوط استصحاب كلّ من الطهارة والنجاسة في تعاقب الحالتين مع الشكّ في المتقدّم والمتأخّر ، فإنّه ليس المقام من قبيل العلم الاجمالي بثبوت تكليف في البين ، كي يقال إنّ الموجب لسقوط كلّ من استصحاب الطهارة والنجاسة هو المخالفة القطعية ، بل إنّ الموجب للسقوط هو مجرّد كون الجمع بينهما مخالفاً للعلم الوجداني ، فهو مثل استصحاب نجاسة كلّ من الاناءين المسبوقين بالنجاسة مع العلم بتطهير أحدهما.

كما أنّه بناءً على ما أفاده الأُستاذ قدس‌سره من تعارض الأُصول الاحرازية وإن لم توجب المخالفة القطعية ، هل يجري فيما لو علم الجنب مثلاً بأنّه قد صدر منه أحد الأمرين إمّا غسل الجنابة أو تطهير ثوبه من الخبث ، فهل بعد تعارض استصحاب الجنابة واستصحاب نجاسة الثوب نرجع إلى قاعدة لزوم إحراز الشرط في طرف الغسل وإلى قاعدة الطهارة في طرف غسل الثوب ، لأنّ قاعدة الطهارة من قبيل الأُصول النافية الجارية في مقام الفراغ ، أو أنّه لا يمكن ذلك لأنّها من الأُصول النافية نظير البراءة ، وقد أشرنا إلى ذلك في حواشي ص ١٢ (١) فراجع.

نعم ، يمكن الجواب عمّا ذكرنا من النقض على الجماعة بمسألة توارد الحالتين ، بأنّ ما أفادوه من حصر المانع من جريان الأُصول ولو كانت إحرازية باستلزام المخالفة القطعية ، وحاصل الجواب عن النقض المذكور هو تقييد ذلك

__________________

(١) للمصنّف قدس‌سره حاشيتان على ص ١٢ من فوائد الأُصول ( الطبعة القديمة ) إحداهما تقدّمت في الصفحة : ٣٦٣ والثانية تأتي في الصفحة : ٤٢٥.

٤٠١

الاطلاق بما إذا كانا في موردين ، أمّا إذا كانا في مورد واحد ففيه مانع آخر وهو لزوم التناقض ، إذ لا يصحّ الحكم على الشيء الواحد بكلّ من الطهارة والنجاسة وإن لم يكن في البين مخالفة قطعية.

ومنه يعلم أنّ ما أفاده قدس‌سره من إجراء الأُصول غير الاحرازية إذا لم تكن موجبة للمخالفة القطعية مقيّد أيضاً بما إذا كانا في موردين ، أمّا إذا كانا في مورد واحد فلا يمكن إجراؤهما معاً وإن لم يكن في البين مخالفة عملية ، كما حرّرناه في حواشي التنبيه التاسع من تنبيهات الاستصحاب (١) فراجع ، وينبغي مراجعة ما حرّرناه في تعارض الأُصول من خاتمة الاستصحاب (٢).

قوله : والحاصل : أنّ مجرّد عدم صحّة الجمع في إجراء الأصلين المتعارضين لا يوجب الحكم بالتخيير ... الخ (٣).

قال قدس‌سره في جملة ما حرّرته عنه قدس‌سره في هذا المقام : فما نحن فيه نظير باب الأجزاء والشرائط ، فإنّه على تقدير تعذّر الجزء أو الشرط إذا كانت القدرة شرطاً في جزئية الجزء وشرطية الشرط ، فبتعذّره تسقط شرطيته وجزئيته ، وبعد سقوطها لابدّ من الاتيان بالباقي. وإذا لم تكن الجزئية أو الشرطية مشروطة بالقدرة فلا تسقط بالتعذّر ، ومقتضى عدم سقوطها سقوط الأمر بالكل لتعذّره حينئذ. فعلى الصورة الثانية تكون الشرطية والجزئية من قبيل ما نحن فيه ، فإنّه لمّا لم تكن الشرطية مقيّدة بالقدرة وتعذّر إيجاد الشرط ، لم يكن ذلك موجباً لسقوط إطلاق دليل الشرطية ، كما أنّ الحلّية فيما نحن فيه لمّا لم تكن مقيّدة بالقدرة لم يكن تعذّر

__________________

(١) راجع المجلّد العاشر من هذا الكتاب الصفحة : ٢٤٠.

(٢) راجع الحاشية الآتية في المجلّد الحادي عشر الصفحة : ٥٤٣ وما بعدها.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٣٢.

٤٠٢

الحكم بها في الطرفين موجباً لرفع اليد عن إطلاقها ، وإنّما المرتفع حينئذ هو نفس الحلّية ، إمّا في كلّ منهما أو في أحدهما ، ولمّا كان رفعها في كلّ منهما بلا وجه تعيّن رفعها عن أحدهما.

والحاصل : أنّه بعد فرض كون الخطاب تعيينياً ثبوتاً وإثباتاً ، لا وجه للتصرّف فيه وجعله تخييرياً ، إذ ليس لأحد ذلك ـ أعني التصرّف في مقام الثبوت ـ إلاّ أن يكون نبيّاً ينزل عليه جبرئيل عليه‌السلام. وأمّا فيما لو ورد مقيّد وكان هناك مطلق أقوى منه ، فعلى تقدير القول بأنّ مثل هذا المطلق يقدّم على المقيّد ، وأنّ المقيّد يحمل على أحد أفراد الواجب التخييري ، فليس ذلك تصرّفاً في مقام الثبوت ، وإنّما هو تصرّف في مقام الاثبات والاستكشاف. وكذا لو ورد ما ظاهره تعيّن الشرط مثل إذا خفي الأذان فقصّر ، وورد دليل آخر يدلّ على كون هذا الحكم بعينه مشروطاً بشرط آخر مثل إذا خفيت الجدران فقصّر ، فعلى تقدير القول بأنّ الشرط غير معيّن ، وأنّه أحد الأمرين من خفاء الجدران أو خفاء الأذان ، فإنّه تصرّف في مقام الاثبات لا في مقام الثبوت.

وأمّا مسألة التزاحم فهي وإن كان التصرّف فيها في مقام الثبوت ، إلاّ أنّه لملاك غير موجود فيما نحن فيه ، وهو كون كلّ تكليف مشروطاً عقلاً بالقدرة ، أو أنّ القدرة مأخوذة في موضوعه ، ففي مورد المزاحمة مع عدم أهميّة أحدهما يكون التكليف بكلّ منهما شاغلاً شرعياً عن الاتيان بمتعلّق الآخر وتعجيزاً مولوياً عنه ، فيكون التكليف بكلّ منهما مشروطاً بعدم الآخر ، وهذا الملاك مفقود فيما نحن فيه ، انتهى.

يعني أنّه عند امتثال أحدهما يكون الآخر غير مقدور ، فلا يكون مأموراً به ، وهو محصّل كون الأمر به مشروطاً بعدم امتثال الآخر ، فهذا التقييد يكون باقتضاء

٤٠٣

نفس التكليف الواقعي بعد فرض كونه مشروطاً بالقدرة (١)

__________________

(١) وقد يتوهّم التفرقة بين التزاحم مثل الغريقين وبين ما نحن فيه ، فإنّه في التزاحم يكون مأموراً بكلّ منهما إلاّ أنّه لما [ لم ] يكن قادراً على الجمع بينهما ، فالعقل يلزمه بأحدهما ، بخلاف ما نحن فيه فإنّه إذا كان الجمع بين الأصلين غير جائز عقلاً لكونه موجباً للمخالفة القطعية ، فلا موجب لاجراء الأصل في أحدهما دون الآخر.

والجواب عنه : أنّا لا نحتاج في التخيير إلى الالزام ، بل يكفي فيه عدم إمكان الجمع بينهما ، وذلك ـ أعني عدم إمكان الجمع بينهما ـ كافٍ في التخيير بينهما ، فيجوز له إجراء الأصل في أحدهما المعيّن دون الآخر. ولا يرد عليه سوى كونه ترجيحاً بلا مرجّح ، لأنّ هذا ـ أعني لزوم الترجيح بلا مرجّح ـ لازم حتّى في صورة التزاحم وإلزام العقل بأحدهما ، بل هو جار حتّى في صورة التخيير الشرعي بينهما ، لأنّه بعد أن كان ملزماً بأحدهما أو كان مخيّراً بينهما شرعاً ، يكون اختياره لهذا دون ذاك ترجيحاً بلا مرجّح ، فما هو الجواب عنه هناك هو الجواب عنه هنا ، بل هو جار حتّى في الاناءين المعلوم طهارة كلّ منهما ، حتّى لو لم يكن مضطراً إلى شرب أحدهما ليكون من قبيل رغيفي الجائع وطريقي الهارب من الأسد ، بل هو جار فيما لو كان شربه لأحدهما تشهّياً منه لا لعطش ونحوه من أسباب الاضطرار ، بل لم يكن في البين إلاّمجرّد أنّه يريد الإقدام على أحد المتساويين ، أترى أنّ باب الإقدام على أحد المتساويين ينسدّ إلاّ إذا كان مضطرّاً إلى ارتكاب أحدهما ، أو إلاّ إذا كان أحدهما أرجح من الآخر.

وبالجملة : أنّ النقض على ما يدّعى من قبح الترجيح بلا مرجّح لا ينحصر بموارد الاضطرار كرغيفي الجائع وطريقي الهارب ، بل [ كما ] يتحقّق النقض بذلك ، فكذلك يتحقّق النقض بالإقدام على أحد المتساويين تشهّياً منه بلا اضطرار يوجب عليه ذلك ، فلاحظ وتدبّر.

وبالجملة : أنّ الترجيح بلا مرجّح وإن قلنا بعدم صدوره من الحكيم ، كما في إيجاده الشيء الممكن الذي يكون وجوده وعدمه غير ضروري أو إبقائه على العدم ، فإنّ

٤٠٤

__________________

الحكيم المقدّس لا يصدر منه أحد هذين الطرفين يعني إيجاده أو إبقاءه على العدم إلاّبمرجّح ، ويبقى الإشكال في صورة التساوي ، فهل يكون عدم رجحان الوجود كافياً في اختيار الإبقاء على العدم ، يحتاج ذلك إلى تأمّل ونظر. وعلى كلّ ، أنّه تعالى لا يقاس على أفعاله أفعال العقلاء ، فيقال إنّ أفعالهم لا تشتمل على الترجيح بلا مرجّح ، هذا.

ولكن في خصوص المقام يمكن التخلّص عن إشكال لزوم التخيير بطريقة أُخرى تقدّمت [ في الصفحة : ٣٢٣ ] الاشارة إليها في مسألة الشبهات الموضوعية الوجوبية المردّدة بين الأقل والأكثر ، كما في تردّد الفوائت بين الأقل والأكثر ، وحاصل ذلك الطريق الذي تقدّمت الاشارة إليه : هو أنّ العلم الاجمالي بوجود التكليف المنجّز المردّد بين الطرفين ، كمن علم بوجود المحرّم كالخمر بينهما ، يوجب العلم بأنّه ممنوع عن ارتكاب ذلك المحرّم الموجود في البين وأنّه يعاقب على ارتكابه ، سواء انطبق على هذا الطرف أو انطبق على ذلك الطرف ، فهو عند ارتكابه لهذا الطرف يعلم باستحقاقه العقاب لو صادف أنّه هو ذلك الحرام ، وهكذا في ارتكابه للطرف الآخر ، وحينئذ ينسدّ باب البراءة العقلية وباب الأُصول الشرعية النافية للتكليف حتّى الاستصحاب ، مثل استصحاب الطهارة في مورد العلم بطروّ النجاسة على أحدهما ، فإنّ مفاد هذه الترخيصات هو الترخيص في ذلك الفعل وعدم العقاب على فعله حتّى لو كان في الواقع حراماً ، وهذا المعنى لا يتأتّى فيما هو طرف للعلم الاجمالي ، لما عرفت من العلم بفعلية التكليف واستحقاق العقاب على مخالفته لو كان منطبقاً على هذا الطرف ، وسيأتي [ في الحاشية اللاحقة ] إن شاء الله أنّ ذلك لا يمكن إلاّبنحو تنازل من الشارع عن التكليف الواقعي لو كان منطبقاً على هذا الطرف الخاصّ.

وبعبارة أوضح : أنّ أدلّة الترخيص لا تجري فيما لو كان في البين ملازمة بين وجود الحكم في الواقع وبين فعليته واستحقاق العقاب على مخالفته ، فإنّ أقلّ محاذيره هو

٤٠٥

__________________

احتمال تحقّق المتناقضين ، أعني الترخيص في الفعل والالزام الفعلي بتركه على وجه لا ترخيص فيه ، فيؤول ذلك إلى احتمال اجتماع الترخيص وعدمه ، وهذا هو الحجر الأساسي في وجوب الموافقة القطعية وأنّها تساوي حرمة المخالفة القطعية بالنسبة إلى أطراف العلم الاجمالي ، وذلك موجب لسقوط الأُصول المرخّصة بجميع أنواعها في أطراف العلم الاجمالي.

أمّا الأُصول الملزمة مثل استصحاب النجاسة ، كما في استصحاب النجاسة في كلّ من الاناءين المسبوقين بالعلم بالنجاسة مع حصول اليقين بطروّ الطهارة على أحدهما ، فبناءً على مسلك شيخنا قدس‌سره [ راجع فوائد الأُصول ٤ : ١٤ ] من عدم إمكان الجمع بينهما ، لعدم إمكان الجمع بين الاحرازين مع العلم بكون أحدهما خلاف الواقع ، لا يمكننا إجراء ما عرفت من توجيه إسقاط الأصلين بدون توسّط التعارض من فعلية الحكم واستحقاق العقاب على مخالفته ، لكن يكفينا العلم بتحقّق الطهارة الفعلية لو كانت منطبقة على هذا الطرف ، وحينئذ يكون الحكم بنجاسته إستناداً إلى الاستصحاب مؤدّياً إلى احتمال اجتماع النقيضين ، وهما النجاسة والطهارة الفعلية ، فيكون البرهان على سقوط الأصل في الموارد المذكورة بناءً على مسلكه قدس‌سره من عدم إمكان الجمع ، هو عين البرهان على سقوطه في مورد كون الجمع بين الأصلين موجباً للمخالفة القطعية ، فلاحظ وتدبّر.

لا يقال : إنّ احتمال اجتماع النقيضين فيما نحن فيه من أطراف العلم الاجمالي ليس إلاّكاحتماله في الشبهات البدوية.

لأنّا نقول : نعم ولكن في أطراف العلم الاجمالي يكون الحكم على تقديره فعلياً ، على وجه لو كان وجوبياً أو تحريمياً لكانت مخالفته موجبة لاستحقاق العقاب لو كان موجوداً ، والسرّ فيه ما سيأتي شرحه [ في الحاشية اللاحقة ] فيما يتعلّق بما ننقله عن الأُستاذ العراقي قدس‌سره من كون العلم الاجمالي علّة في تنجّزه ، والعلم وإن لم يسر إلى ما

٤٠٦

قلت : قد عرفت أنّه يمكن القول فيما نحن فيه بكون التخيير ثبوتياً ، نظراً إلى أنّ الترخيص لمّا كان مشروطاً بأن لا يكون ترخيصاً في المعصية ، وكان الترخيص في أحد الطرفين عند الترخيص بارتكاب الآخر ترخيصاً في المعصية ،

__________________

في الخارج ، إلاّ أنّ المعلوم المنجّز يسري إلى الخارج ، ومعه لا يكون قابلاً للترخيص فيه أو الحكم الفعلي بخلافه إلاّبدليل خاصّ يكون كاشفاً عن جعل البدل في الطرف الآخر ، ولا يكفي فيه مجرّد عمومات الأُصول الترخيصية كما سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.

وإن شئت فافرض آنية صغرى تحتمل أنّها خمر بالشبهة البدوية وآنية كبرى معلومة الخمرية تفصيلاً ، وهناك آنيتان يعلم إجمالاً بخمرية إحداهما ، فهل ترى من وجدانك أنّ حال الخمر في الأخيرتين حال [ الخمر ] في الأُولى ، أو أنّه حال الخمر في الثانية ، فإن كان الأوّل كان محصّله أنّ العلم الاجمالي لا يكون مؤثّراً أصلاً ، وإن كان الثاني كان محصّله أنّ الخمر الموجود بين الاثنين حاله في المنع وعدم الترخيص واستحقاق العقاب حال الخمر المعلوم تفصيلاً ، ولازمه أنّ ترك ذلك الخمر الموجود لازم فعلاً ، وأنّه غير مرخّص في شربه أصلاً ، فيكون شربه موجباً للعقاب بأيّ طرف كان ، وذلك عبارة أُخرى عن لزوم الموافقة القطعية ، فالعقل إن حرّم المخالفة فقد أوجب الموافقة ، ولا يمكنه التفكيك بينهما.

وأمّا قولهم إنّه يحرّم المخالفة القطعية ولا يوجب الموافقة القطعية ، فالظاهر أنّه لا محصّل له إلاّ أنّه يحرّم القطع بالمخالفة ولا يوجب القطع بالموافقة ، ومن الواضح أنّ نفس القطع في المقام لا يوجبه العقل ولا يحرّمه. نعم ربما ألزمنا العقل بتحصيل اليقين بالفراغ عند الشكّ في الامتثال بعد فرض العلم بالاشتغال ، ولكن ذلك عبارة أُخرى عن التحذير عن المخالفة التي حرّمها والحثّ على الموافقة التي أوجبها. نعم يمكن أن يقال : إنّ مرادهم هو أنّه لا ريب في حرمة المخالفة ، وإنّما الإشكال في كون المقام من قبيل لزوم الفراغ اليقيني أو أنّه يكفي الفراغ الاحتمالي ، والمختار الأوّل كما عرفت برهانه [ منه قدس‌سره ].

٤٠٧

كان الترخيص في كلّ منهما مشروطاً بعدم ارتكاب الآخر. كما أنّه يمكن القول بكون الترخيص إثباتياً ناشئاً من الجمع بين الأدلّة ، لأنّه بعد فرض أنّه لا يمكن انطباق عموم الترخيص على كلّ من الطرفين ، لكونه موجباً للترخيص بالمعصية المعبّر عنه بالمخالفة القطعية ، كان اللازم هو التصرّف في ذلك العام ، إمّا بصرفه عن أحدهما وهو المنتهي إلى التعارض والتساقط ، أو تقييد إطلاقه في كلّ منهما بعدم ارتكاب الآخر وهو المنتهي إلى التخيير في الترخيص. وقد قيل بأولوية الثاني لأنّه أقل تخصيصاً ، أو لأنّ التخصيص الأحوالي أولى من التخصيص الأفرادي ، أو لأنّ التقييد مقدّم على التخصيص ، والنتيجة واحدة وهي قلّة التخصيص ، وقد عرفت فيما حرّرناه أنّ في البين وجهاً آخر للتقدّم ، وهو الوجه الذي أفاده قدس‌سره في التقييد في المتزاحمين ، وحاصله أنّ الممنوع عنه إنّما جاء من إطلاق أحدهما لما إذا ارتكب الآخر ، فيكون ذلك الاطلاق هو المرتفع ، فلاحظ وتأمّل.

ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمّل فيما أُفيد عن شيخنا قدس‌سره في التقريرات المطبوعة في صيدا بقوله : فإنّ إمكان التقييد يستلزم إمكان الاطلاق ، لأنّ التقابل بينهما من قبيل الاعدام والملكات الخ (١) لما هو مقرّر في محلّه من أنّ امتناع الاطلاق لجهة تخصّه ، وهي كونه موجباً للتكليف بغير المقدور ، أو كونه من قبيل الترخيص في المعصية ، لا يوجب عدم إمكان التقييد المفروض كونه رافعاً للمحذور المذكور المترتّب على الاطلاق ، وإلاّ فكيف ساغ لشيخنا قدس‌سره أن يدفع محذور الاطلاق في الأمرين المتزاحمين بتقييد كلّ منهما بعدم امتثال الآخر.

كما أنّه يظهر ممّا تقدّم التأمّل فيما أُفيد عنه قدس‌سره بقوله : وتوهّم ـ إلى قوله ـ

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٤٢١.

٤٠٨

مدفوع بأنّ حكم العقل في المقام في مرتبة سابقة على الجعل وفي مقام الثبوت ، ومعه لا يبقى مجال للاطلاق والتقييد في مقام الاثبات الخ ، فإنّ الامتناع في مقام الثبوت إنّما هو من جهة الترخيص في المعصية لا من جهة نفس العلم الاجمالي ، ومع فرض انحصار المحذور المانع من الاطلاق ثبوتاً في استلزام الترخيص في المعصية ، يكون اللازم دفع ذلك المحذور ، وحيث إنّه إنّما نشأ من الاطلاق ثبوتاً ، يكون ذلك الاطلاق ثبوتاً هو الساقط ، وتكون النتيجة هي التقييد ثبوتاً أيضاً ، كما أنّها كانت كذلك إثباتاً على الطريقة الأُخرى المتقدّمة ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : والخروج عن عهدته إمّا بالوجدان وإمّا بالتعبّد ، إلى آخر المبحث (١).

مع مراجعة قوله : إنّ الأُصول العملية إنّما تجري في الأطراف وكلّ واحد من الأطراف مجهول الحكم (٢) ، وهكذا بقية ما أفاده في هذه المباحث.

وبازائه ما أفاد الأُستاذ العراقي قدس‌سره في المقالة ، قال في المقالة : ثمّ إنّ الأغرب من التقريبين في وجه التفكيك بين الموافقة القطعية ومخالفته دعوى أُخرى ، وهي أنّ من البديهي أنّ العلم الاجمالي بالجامع لا يكاد يسري إلى الطرفين ، بل هو قائم بنفس الجامع ـ إلى قوله ـ ولازم ذلك عدم قصور لدى العقل في جواز ترك كلّ واحد ، لعدم تمامية البيان بالنسبة إليه. نعم لا يرخّص في تركهما ، لانتهائه إلى ترك الجامع الذي تمّ فيه البيان حسب الفرض ، ومرجع هذا التقريب إلى تجويز ترك الموافقة القطعية ولو لم يكن في البين ترخيص من قبل الشارع ،

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٣٣.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٢١.

٤٠٩

ولازمه عدم احتياجه في جواز ارتكاب أحد الطرفين إلى فرض عدم المعارضة بين الأصلين الخ (١).

وفيه تأمّل ، فإنّ كلّ واحد من الطرفين بعد فرض كونه لا تصل إليه صفة العلم يبقى في حدّ نفسه مشكوكاً ، فلا يمكن ارتكابه إلاّبمسوّغ من حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان أو حكم الشرع بالبراءة ، وليس هو مقطوع الحلّية ، إذ ليس الشبهة فيه بأولى من الشبهة البدوية التي لا يمكن الارتكاب فيها إلاّبمسوّغ عقلي أو شرعي.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ البراءة العقلية لا مسرح لها في أطراف العلم الاجمالي ، لإمكان الاكتفاء بالعلم الاجمالي في البيانية ولو بملاحظة أنّ شغل الذمّة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني. لكن هذا المقدار من الاقتضاء لا ينافي إمكان الترخيص الشرعي في بعض الأطراف دون البعض الآخر ، وحينئذ يكون الحاصل هو تعليق التنجيز على عدم الترخيص الشرعي.

ثمّ إنّه أجاب عن هذا التقريب : بأنّ العلم بالجامع وإن لم يسر إلى الأفراد ولكن التنجّز الذي هو نتيجته قائم بالجامع وتابع له في قابلية السراية إلى ما انطبق عليه الجامع بلا وقوفه بنفس الجامع ، غاية الأمر القطع به سبب قيام التنجّز على موضوعه ، ومجرّد عدم قابلية السبب للسراية لا يوجب عدم سراية مسبّبه تبعاً لموضوعه ، إلى آخر كلامه (٢). وبنحو ذلك صرّح في مباحث العلم الاجمالي من أصالة الاشتغال (٣)

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٣٢ ـ ٣٣.

(٢) مقالات الأُصول ٢ : ٣٣.

(٣) مقالات الأُصول ٢ : ٢٣٦ ـ ٢٣٧.

٤١٠

وكان في الدرس ـ كما حرّرته عنه ـ قد بنى هذه المسألة على أنّ العلم المتعلّق بالقدر الجامع بالنسبة إلى تنجّز ذلك القدر الجامع هل هو من قبيل الجهة التعليلية ، أو أنّه من قبيل الجهة التقييدية. وعلى الأوّل يسري التنجّز إلى الأطراف وإن لم يكن العلم سارياً إليها ، وعلى الثاني لا يكون التنجّز سارياً إلى الأطراف. والذي اختاره هناك وهنا هو الأوّل ، وهذا هو أساس نظريته في كون العلم علّة تامّة في لزوم الموافقة القطعية ، وأنّه بنفسه مانع من جريان الأصل في أحد الأطراف وإن لم يكن في البين تعارض.

ولا يخفى أنّ المحكّم في عالم التنجيز هو الوجدان ، فهل يحكم الوجدان بأنّ القدر الجامع بعد أن تنجّز بالعلم يكون تنجّزه سارياً إلى أفراده التي لا يكون انطباق ذلك الكلّي عليها معلوماً ، فراجع وجدانك في علمك بوجوب إكرام العالم ، وهل ترى أنّ ذلك التكليف الكلّي المنجّز بالعلم يكون منجّزاً في إكرام من شكّ في كونه عالماً ، لاحتمال انطباق ذلك الكلّي عليه. وإن قلت : إنّ هذا المثال من قبيل الانحلال ، والمقدار المعلوم عالميته هو المنجّز دون من شكّ في عالميته. فافرض المثال من قبيل الكلّي الطبيعي ، وعلّق الوجوب أو التحريم به بنحو الطبيعة السارية. على أنّ الانحلال لا يدفع الإشكال بعد فرض أنّ المكلّف قد علم بوجوب إكرام كلّ فرد من أفراد هذه الطبيعة ، وأنّ التنجّز سارٍ من الكلّي إلى أفراده ، فتأمّل جيّداً ودع عنك دعوى كون المعلوم الاجمالي كلّياً وقدراً جامعاً بين الطرفين ، بل قل إنّه شخص خارجي. وانظر إلى الوجوب في مسألة الدوران بين الظهر والجمعة ، فلا ترى إلاّ أنّك قد علمت وانكشف لديك ذات الوجوب بما أنّه ذات الوجوب معرّى عن كونه وجوب ظهر أو وجوب جمعة ، وترى أنّ كون ذلك الوجوب المنكشف لديك هو وجوب جمعة أو وجوب ظهر مجهول

٤١١

لديك ، ولذلك تراهم يقولون إنّ العلم الاجمالي مقرون بالجهل ، فتلك الذات المعلومة قد تنجّزت ، لأنّ العلم وإن كان طريقاً إلى الواقع لكنّه بالنسبة إلى التنجّز جزء موضوع ، بحيث يكون حكم العقل بالتنجّز منوطاً بالواقع المعلوم ، ومعنى التنجّز هو عبارة عن كون الوجوب مورداً لحكم العقل بالمنع من المعصية والالتزام بالطاعة ، على وجه يحكم العقل باستحقاق العقاب على معصيته والمثوبة على إطاعته ، ولا ريب أنّ ذلك كلّه إنّما هو بالنسبة إلى ذات ذلك الوجوب التي انكشفت لديك ، دون ما قارنها من المجهول وهو كونها وجوب ظهر أو وجوب جمعة ، فإنّ هذه الجهة اللاحقة لذات ذلك الوجوب مجهولة لديك ، فهي خارجة عن مورد حكم العقل بالتنجّز. نعم عند ارتكابك لترك كلّ واحد من الطرفين تكون قد تركت تلك الذات بما أنّها معلومة لديك ومنكشفة عندك ، فتكون قد خالفت التكليف المعلوم لديك عالماً بتحقّق المخالفة فتكون عاصياً.

وهذا المقدار لا ينافي إمكان الترخيص الشرعي في تلك الجهة المجهولة بأن يرخّصك في ترك إحدى الجهتين من ذلك الوجوب ، والعقل وإن ألزم بوجوب الاتيان بكلّ من الجهتين مقدّمة لما حكم به من لزوم إطاعة الوجوب بجهته المعلومة ، أعني مقدّمة للحصول على تلك الذات التي انكشفت لديك تمام الانكشاف ، إلاّ أنّ ذلك الالزام المقدّمي من العقل معلّق على عدم الترخيص الشرعي ، فإذا حصل الترخيص الشرعي في أحد الطرفين سوّغ لك العقل ترك ذلك الطرف الذي سوّغه الشارع ، فلا يرد أنّ الجهة المعلومة واجبة الاطاعة لدى العقل فتكون مقدّمتها وهي الاتيان بالطرفين واجبة عند العقل.

لا يقال : إنّ العقل قد حكم بلزوم إطاعة تلك الذات من الوجوب التي هي

٤١٢

منكشفة لديك ، وذلك الحكم منه منجّز عنده ، وحينئذ يكون إلزامه بمقدّمته منجّزاً ، ويستحيل التفكيك بين إلزامه بذي المقدّمة وإلزامه بالمقدّمة.

لأنّا نقول : إنّ إلزامه بذي المقدّمة يكون معلّقاً على عدم الترخيص الشرعي في ترك إحدى مقدّمتيه ، بمعنى أنّ العقل عند الترخيص المذكور لا يلزمك باطاعة تلك الذات من هذه الناحية التي رخّص الشارع في مخالفته على تقدير كونها متّحدة مع ذلك الذي رخّصك الشارع فيه.

وإن شئت قلت : إنّ حكم العقل بلزوم تلك المقدّمة ليس إلاّعبارة عن حكمه بلزوم تحصيل العلم باطاعة تلك الذات ، فإنّ تلك المقدّمة ليست مقدّمة وجودية لحصول تلك الذات ، بل هي على تقدير انطباق تلك الذات عليها عين الذات لا أنّها مقدّمة وجودية لتلك الذات ، فلا يكون الاقدام على تلك المقدّمة إلاّ تحصيلاً للعلم بحصول تلك الذات ، والعقل وإن ألزم بتحصيل العلم بحصول تلك الذات ، وهو محصّل أنّ شغل الذمّة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، وهذا المقدار من الحكم العقلي ـ أعني لزوم تحصيل الفراغ اليقيني ـ معلّق على عدم ترخيص الشارع في ترك تلك المقدّمة العلمية.

وبعبارة أُخرى : أنّ هذه المقدّمة ليست مقدّمة لقول العقل : أطع تلك الذات ، بل هي مقدّمة لقوله : حصّل العلم بحصول تلك الذات ، وحكمه المذكور ـ أعني حصّل العلم بحصول تلك الذات ـ معلّق على عدم الترخيص الشرعي في ترك تلك المقدّمة ، الذي هو عبارة أُخرى عن عدم لزوم تحصيل العلم بحصول تلك الذات.

وبالجملة : أنّك بتركك لتلك المقدّمة لو صادفت هي الواقع لا تكون مخالفاً لما هو المعلوم عالماً بالمخالفة لتكون عاصياً بذلك ، بل لا تكون إلاّمحتملاً

٤١٣

لمخالفة التكليف الواقعي ، والبراءة العقلية وإن لم تجر نظراً إلى العلم الاجمالي ، إلاّ أنّه لا مانع من البراءة الشرعية في ذلك.

ثمّ إنّه أفاد في تأييد القول بالاقتضاء بما لو كان الأصل النافي في أحد الطرفين منتجاً لثبوت التكليف في الطرف [ الآخر ] والتزم في مقام الجواب عنه بأنّ الغرض من الأصل هو الاثبات لا الترخيص ، فراجع ما في ص ١٣ وما في ص ٧٢ (١). فكأنّ اختيار الغرض من الأصل في مورده بيدنا ، فنجعله لمحض الترخيص تارةً ولمحض إثبات الطرف الآخر أُخرى. وتفرض هذه المسألة في العلم الاجمالي المردّد بين تكليفين ، أحدهما مشروط بالقدرة الشرعية والآخر مشروط بالقدرة العقلية ، وكان الثاني سالباً للقدرة الشرعية على الأوّل ، كما لو كان عنده مال يكفيه للحجّ ولكنّه شكّ في اشتغال ذمّته بدين يذهب استطاعته. وينبغي مراجعة المستمسك ج ٥ ص ٣٩٩ (٢).

وأمّا ما أورده على شيخنا قدس‌سره بقوله : ثمّ إنّ من أظرف الخ (٣) ، من أنّ الأصل الجاري في أحد الأطراف لا يوجب كون الآخر بدلاً فهو حقّ ، وكنّا نورد بذلك على شيخنا قدس‌سره كما حرّرناه في هذه الأوراق (٤) ، إلاّ أنّ ذلك كأنّه من شيخنا قدس‌سره تقيّد بكلام الشيخ (٥) من جعل البدل ، وإلاّ فإنّه بعد فرض إمكان الترخيص في بعض أطراف العلم الاجمالي لا حاجة إلى الالتزام ببدلية الآخر ، بل للقائل أن يقول إنّي

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٣٤ ـ ٣٥ و ١٩٦ ـ ١٩٨.

(٢) مستمسك العروة الوثقى ٧ : ٦٢٢ ـ ٦٢٣.

(٣) مقالات الأُصول ٢ : ٣٤.

(٤) راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٣٦٣ وما بعدها.

(٥) لاحظ فرائد الأُصول ٢ : ٢٠٤.

٤١٤

مرخّص في ارتكاب هذا الطرف ، أمّا الطرف [ الآخر ] فلمّا لم أُرخّص فيه شرعاً فلا أُقدم على ارتكابه ، وشغل الذمّة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني فيما لم يرخّصني الشارع في عدم لزوم الفراغ عن ذلك المعلوم لو كان موجوداً في هذا الطرف ، فإنّ محصّل الترخيص فيه هو أنّه يسوغ لك ارتكابه حتّى لو كان المعلوم منطبقاً عليه في الواقع.

بل نقول : إنّ ذلك كافٍ ولا نحتاج إلى الالتزام بجعل البدل حتّى في موارد قاعدة الفراغ والتجاوز ممّا يجري في وادي الفراغ ، إذ ليس مرجع ذلك إلاّ الترخيص الظاهري في مخالفة المعلوم وإن كان بلسان أنّك قد فرغت ، فإنّ هذا لسان في مقام الاثبات ، وواقع الأمر ليس إلاّ الترخيص في المخالفة ترخيصاً ظاهرياً ، فتأمّل.

وإن شئت قلت : إنّ حكم الشارع بأنّك أتيت بالجزء المشكوك أو أنّك فرغت من العمل الواجب ، يلزمه الإذن والترخيص الظاهري في ترك ذلك الجزء ، وهذا اللازم لو كان في نفسه محالاً لكونه من الترخيص في المعصية أو محتمل المعصية ، لكان مانعاً من جريان الأصل المذكور كما منع من الجمع بين الأصلين في أطراف العلم الاجمالي ، ولا جواب لذلك إلاّ أنّ ذلك اللازم ـ أعني مخالفة التكليف ـ لو كان معلوماً يكون من قبيل الترخيص في المعصية وهو ممنوع عقلاً ، أمّا لو كانت المخالفة محتملة فلا يكون من قبيل الترخيص في المعصية ولا من الترخيص في محتمل المعصية ، فلا مانع منه ، فإنّ المعصية تدور مدار العلم بمخالفة التكليف ، والمفروض أنّ الترخيص في الواحد لا يوجب العلم بالمخالفة ، بخلاف الترخيص في الطرفين ، فتأمّل.

ومن ذلك يظهر لك أنّه في المثال الذي يكون أحد الطرفين مجرى لقاعدة

٤١٥

الطهارة والطرف الآخر مجرى لاستصحابها ، لا حاجة إلى تجشّم سقوط قاعدة الطهارة بسقوط الاستصحاب ، بل لا مانع من القول بأنّه بعد التعارض يبقى المورد مجرى لقاعدة الطهارة والآخر بلا أصل مسوّغ فلا يجوز ارتكابه. ومن ذلك يمكن القول بأنّه لو كان في أحد طرفي العلم الاجمالي أصل مثبت ولو أصالة الحرمة في الدماء ، وفي الطرف الآخر أصل نافٍ جرى الأصلان معاً ، من دون حاجة إلى دعوى الانحلال بواسطة الأصل المثبت ولا إلى دعوى جعل البدل بواسطة الأصل النافي ، فراجع ما أفاده شيخنا قدس‌سره فإنّه لا يخلو من إيماء إلى ذلك ، وإن كان ظاهر أغلب كلماته هو الاعتماد على الانحلال أو على جعل البدل ، وإن شئت فراجع ما أفاده في تتمّة البحث بقوله : لأنّ الأصل النافي يوجب التأمين عن الطرف الذي يجري فيه ، ويبقى الطرف الآخر بلا مؤمّن الخ (١) ، فإنّه صريح فيما ذكرناه ، وإن كان قوله فيما تقدّم : وأمّا الإذن في البعض فهو ممّا لا مانع عنه ، فإنّ ذلك يرجع في الحقيقة إلى جعل الشارع الطرف الغير المأذون فيه بدلاً عن الواقع الخ (٢) ، ظاهر بل صريح في كونه من قبيل جعل البدل.

ولم أعثر على هذه الجملة ـ أعني جعل البدل ـ في تحريرات السيّد سلّمه الله ، وهي وإن كانت موجودة فيما حرّرته عنه قدس‌سره ، إلاّ أنّه بعد التعرّض لما أفاده صاحب الكفاية قدس‌سره من الفعلية من جميع الجهات ، قال فيما حرّرته عنه قدس‌سره ما هذا لفظه : ثمّ إنّه لو فرض لنا دليل يدلّ على الترخيص في خصوص أحد الأطراف أصلاً كان أو غيره ، كان ذلك الدليل وحده كافياً في ارتكاب ذلك الطرف بلا حاجة إلى جعل البدل في الطرف الآخر ، انتهى. وبمثله صرّح السيّد بقوله : نعم لو فرض

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٧.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٣٥.

٤١٦

أنّ الأصل الجاري الخ (١). وكأنّ هذه الجملة لبيان ما هو المختار عنده وأنّ الجملة السابقة المسوقة للاعتماد على جعل البدل إنّما هي على مشرب الشيخ قدس‌سره حسبما فهمه قدس‌سره أوّلاً من كلامه قدس‌سره ، لكنّه قدس‌سره قد عدل عن هذا التفسير وفسّره بموارد قاعدة التجاوز والفراغ ، فراجع ما حرّره السيّد عنه بقوله : وهو المراد الخ (٢).

وأمّا مسألة النقض على الجماعة بما لو كان أحد أطراف العلم مجرى للأصل المثبت والآخر مجرى للأصل النافي ، فلم يذكره قدس‌سره لأجل النقض به على الجماعة كي يتوجّه عليه ما أفاده في المقالة بقوله : وحينئذ لا يبقى مجال الاستشهاد الخ (٣). وكذلك بقوله : لكان أمتن من تشبّثه بموارد الانحلال الخ (٤) ، وإنّما ذكره قدس‌سره لبيان الانحلال ، فإنّه حسبما حرّرته عنه بعد أن التزم بالتعارض وأبطل شبهة القول بالتخيير ، قال ما هذا لفظه : ثمّ إنّ هاهنا مطلباً ينبغي الالتفات إليه ، وهو أنّه لا شبهة في أنّه لو كان أحد طرفي العلم الاجمالي بالتكليف مورداً لجريان الأصل المثبت للتكليف دون الأُخر ، بأن كان الآخر في حدّ نفسه مع قطع النظر عن العلم الاجمالي مورداً لجريان الأصل النافي للتكليف ، لم يكن مانع من جريان الأصلين ، لانحلال العلم الاجمالي بواسطة إمكان انطباق التكليف المعلوم بالاجمال على ما هو مورد الأصل المثبت ، انتهى. ثمّ أخذ في بيان تلك الموارد وكيفية الانحلال فيها. وإن شئت فراجع ما حرّره السيّد بقوله : ومن هنا (٥)

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٤٢٤.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٤٢٥.

(٣) مقالات الأُصول ٢ : ٣٢.

(٤) مقالات الأُصول ٢ : ١٩٧.

(٥) أجود التقريرات ٣ : ٤٢٢.

٤١٧

نعم على مسلكه قدس‌سره له أن يقول بالرجوع إلى الأصل النافي في مورده ولو لم يكن الأصل المثبت في الطرف الآخر موجباً للانحلال ، وكأنّه لأجل هذه الجهة علّل الرجوع إلى الأصل النافي في هذا التحرير بالوجهين : الانحلال وكون الأصل النافي جارياً في أحد الطرفين دون الآخر ، فلا يحصل التعارض.

ثمّ إنّه قال في المقالة : لا شبهة في أنّ تنجّز الأحكام إنّما هو من لوازم وجودها خارجاً ، لا من لوازم صورها الذهنية ولو بمراتبها ( بمرآتيتها ) للخارج ، كيف وبدون وجود الحكم خارجاً لا تنجّز في البين ، بل هو اعتقاد التنجّز بتبع اعتقاد نفس الحكم ، بحيث لو انكشف الغطاء لا يكون في البين حكم ولا تنجّز حكم ، وذلك شاهد عدم قيام التنجّز بصورتها المخزونة في الذهن وإن لم يلتفت إلى ذهنيته ، وإلاّ فيستحيل عدمه مع وجود موضوعه ، نعم غاية ما في الباب الخ (١) ، ثمّ أخذ في نظريته المتقدّمة (٢) وهي كون العلم علّة لتنجّز الكلّي في كلّ طرف وإن لم يسر العلم إلى ذلك الطرف.

قلت : لا يخفى أنّ ما هو من لوازم الوجود الخارجي إنّما هو فعلية الحكم ، أمّا تنجّزه فلا يكفي فيه الوجود الخارجي ، بل لابدّ في ذلك من اقترانه بالعلم. وأمّا قوله : لا من لوازم صورها الذهنية ، فإن أراد به الوجود العلمي ، بمعنى كون التكليف معلوماً للمكلّف ، فهذا هو العمدة في التنجّز ، لكن لا على نحو تمام الموضوع كي يتوجّه عليه ما فرضه من المثال ، بل على نحو جزء الموضوع ، بمعنى أنّ موضوع التنجّز إنّما هو التكليف الواقعي عند تعلّق العلم به ، وقد عرفت

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٢٣٦.

(٢) في الصفحة : ٤١١.

٤١٨

فيما تقدّم (١) أنّه من قبيل الجهة التقييدية ، بمعنى أنّ ذلك الحكم الكلّي الذي تعلّق به العلم يكون منجّزاً في أيّ طرف وجد إذا فرض أنّه عند وجوده في هذا الطرف كان معلوماً ، أمّا إذا فرضناه مشكوكاً كما هو محلّ الكلام من كلّ واحد من طرفي العلم الاجمالي ، فلا يلحقه التنجّز فيه ، إذ لم يكن العلم لاحقاً له في تلك المرحلة وهو واضح.

تنبيه وإيضاح : ذكر السيّد ( سلّمه الله تعالى ) فيما حرّره عن شيخنا قدس‌سره فيما لو فرض وجود أصل نافٍ في بعض الأطراف ، وكان الطرف الآخر معرّى عن جميع الأُصول ، كان ذلك الأصل النافي كافياً في جواز ارتكاب ما جرى فيه (٢) ، قال ما هذا لفظه : إلاّ أنّه ـ مع كونه فرضاً غير واقع بل لعلّه مستحيل ـ لا يترتّب عليه أثر في محلّ الكلام. على أنّ جريان الأصل فيه يتوقّف على كون الحكم الثابت به من الأحكام الطبعية الحيثية ، إذ لو كان مفاده حكماً فعلياً لأشكل جريانه ، من جهة أنّ موارد جريان الأُصول النافية تنحصر بما إذا رجع الشكّ فيه إلى أصل توجّه التكليف ، لا إلى انطباق التكليف المعلوم توجّهه في الجملة. وكون الحكم الثابت بالأصل حكماً طبعياً ، مع أنّه غير تامّ في نفسه ، لا يترتّب عليه شيء في مورد العلم الاجمالي ، ضرورة أنّ الترخيص الطبعي الثابت للمشتبه لا ينافي تنجّز التكليف من جهة العلم الاجمالي ، إذ لا تنافي بين المقتضي واللاّ مقتضي كما هو ظاهر الخ (٣)

__________________

(١) في الصفحة : ٤١١ وما بعدها.

(٢) في سياق الجواب عن الاناءين الذي يكون أحدهما مورداً لاستصحاب الطهارة والآخر مورداً لقاعدتها [ منه قدس‌سره ].

(٣) أجود التقريرات ٣ : ٤٢٤.

٤١٩

ولا يخفى أنّ هذه الجملة لو تمّت لكانت هادمة لأساس مسلك شيخنا قدس‌سره من التعارض ، لأنّها توجب استحالة الترخيص في بعض الأطراف ، لأنّ الترخيص إن كان اقتضائياً ، بمعنى كون الطرف في حدّ نفسه مشكوكاً يكون مقتضياً للترخيص مع قطع النظر عن العلم الاجمالي ، فهذا الترخيص لا محصّل له ولا يترتّب عليه أثر عملي. وإن كان الترخيص فعلياً حتّى مع النظر إلى العلم الاجمالي فهو لا دليل عليه ، لأنّ الترخيصات الشرعية منحصرة بما كان المورد قد توجّه الشكّ فيه إلى أصل توجّه التكليف به ، وما نحن فيه لم يكن الشكّ فيه كذلك ، بل كان الشكّ فيه راجعاً إلى انطباق التكليف المعلوم عليه ، وحينئذ لا يكون شيء من أطراف العلم الاجمالي مورداً للأُصول الترخيصية كي يكون جريانه في أحد الأطراف معارضاً بجريانه في الطرف [ الآخر ].

وعمدة الكلام إنّما هو في هذه الجملة ، فنقول بعونه تعالى : أمّا الترخيص الاقتضائي المعبّر عنه بالطبعي فلا أصل له أصلاً ، فإنّ الأدلّة المتكفّلة للترخيص مثل حديث الرفع (١) و « كلّ شيء لك حلال » (٢) ونحوهما ، دالّة على الترخيص الفعلي ، بل لا محصّل للترخيص الاقتضائي. وأمّا الترخيص الفعلي فلا مانع منه ، فإنّ كلّ واحد من الأطراف مشكوك الحكم ولو من ناحية الشكّ في انطباق التكليف المعلوم عليه. على أنّ نفس الشكّ في انطباق المعلوم بنفسه مورد لحديث الرفع ، وكاف في انطباق « ما لا يعلمون » عليه ، بمعنى أنّ ذلك التكليف المعلوم أعني الوجوب المردّد بين كونه صلاة الجمعة أو صلاة الظهر ، يكون مرتفعاً على تقدير انطباقه على وجوب صلاة الجمعة ، لأنّ نفس ذلك التكليف

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٥ : ٣٦٩ / أبواب جهاد النفس ب ٥٦ ح ١.

(٢) وسائل الشيعة ١٧ : ٨٧ و ٨٩ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ١ ، ٤.

٤٢٠