أصول الفقه - ج ٧

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٧

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-72-0
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٩٢

والبواقي سلّط عليه الرفع باعتبار حكمها. ولكنّه أيضاً غير سياقي ، بل هو واقع في مجموع التسعة في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « رفع عن أُمّتي تسعة أشياء » فإنّ بعض تلك التسعة وهو « ما لا يعلمون » يكون مرفوعاً بنفسه والبواقي يكون المرفوع هو أثرها.

وعلى كلّ حال ، لابدّ لنا من الجواب عن الجهتين. أمّا الجهة الأُولى : فبما سيأتي (١) إن شاء الله تعالى من كون المرفوع في الحكم الواقعي الذي لا يعلمونه هو أثره وهو وجوب الاحتياط. ومنه يظهر الجواب عن الجهة الثانية ، فإنّ المرفوع في « ما لا يعلمون » إذا كان هو الاحتياط يكون رفعه رفعاً واقعياً لا ظاهرياً. على أنّه لو التزمنا بأنّ رفع الاحتياط يكون ظاهرياً فليس ذلك بموجب للاختلاف في معنى الرفع ، بل إنّ معنى الرفع واحد في الجميع ، وكونه فيه ظاهرياً لأجل قرينة دليل الاشتراك ونحوه لا يوجب تغييراً في المعنى الذي استعمل فيه الرفع في الجميع فتأمّل.

قوله : فيكون المراد من رفع التسعة دفع المقتضي عن تأثيره في جعل الحكم وتشريعه في الموارد التسعة ... الخ (٢).

لا يخفى أنّ الرفع لو كان هنا بمعنى الدفع لكان المسلّط عليه هو المقتضي للأحكام في كلّ واحد من هذه التسعة ، فلا وجه لتسليطه على كلّ واحد من هذه التسعة ، إذ ليس المدفوع هو نفس كلّ واحد من التسعة ، وإنّما المدفوع هو مقتضي الحكم في الفعل الصادر في حال كلّ واحد منها ، ولا يصحّ نسبة الدفع إلى الفعل المضطرّ إليه إذا كان المدفوع هو مقتضي الحكم اللاحق لنفس الفعل مع قطع النظر عن كونه مضطرّاً إليه.

__________________

(١) في الحاشية المفصّلة الآتية.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٣٣٧.

١٢١

قوله : ويظهر من الشيخ قدس‌سره أنّ الدفع من أوّل الأمر ورد على إيجاب الاحتياط ـ إلى قوله ـ وورود الرفع على الأحكام الواقعية على وجه ينتج عدم إيجاب الاحتياط لا يمكن إلاّبأن يراد دفع الأحكام الواقعية عن تأثير مقتضياتها في إيجاب الاحتياط ، وتكون النتيجة الترخيص الظاهري في ارتكاب الشبهة والاقتحام فيها ... الخ (١).

ظاهر ما أفاده الشيخ قدس‌سره (٢) من كون الرفع متوجّهاً ابتداءً إلى نفس إيجاب الاحتياط ربما كان لا يساعد عليه ظاهر الفقرة الشريفة ، بناءً على كون المراد من الموصول فيها هو نفس الحكم الواقعي. أمّا ما أفاده شيخنا قدس‌سره من أنّ الرفع متوجّه إلى اقتضاء الحكم الواقعي إيجاب الاحتياط فيمكن التأمّل فيه ، بأنّه إن أراد به نفس المقتضى ـ بالفتح ـ كان ذلك عبارة أُخرى عمّا أفاده الشيخ قدس‌سره ، وإن كان المراد به هو نفس الاقتضاء توجّه عليه أنّه غير قابل للرفع الشرعي ، سواء قلنا إنّ المقتضي للاحتياط هو عين مقتضي الحكم الواقعي ، أو قلنا إنّ المقتضي له هو نفس الحكم الواقعي ، فإنّ صفة الاقتضاء للشيء ليست شرعية لتكون قابلة لورود الرفع عليها ، سواء جعلناه رفعاً حقيقياً ، أو جعلناه من مقولة الدفع الراجع إلى مجرّد عدم الجعل مع فرض ثبوت المقتضي له. وكيف كان ، فلا يكون رفع الاحتياط أو رفع اقتضاء الاحتياط إلاّرفعاً واقعياً ، ولا يكون الترخيص الملازم له إلاّ ترخيصاً واقعياً ، هذا.

ولكن يمكن أن يوجّه ما أفاداه قدس‌سرهما بما هو خلاف ما يتراءى من ظاهر كلامهما قدس‌سرهما ، وذلك بأن يقال : إنّ الشيء المفروض الوجود واقعاً لو تسلّط عليه

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٣٣٨ ـ ٣٣٩.

(٢) فرائد الأُصول ٢ : ٣٤.

١٢٢

الرفع الشرعي ، لابدّ أن يكون محصّل رفعه مع فرض وجوده وجداناً هو الرفع التشريعي ، وذلك لا يكون إلاّبرفع الأثر الشرعي المترتّب عليه ، وذلك واضح في باقي الأُمور التسعة ما عدا « ما لا يعلمون » ، أمّا نفس « ما لا يعلمون » بعد فرض حمل الموصول فيه على نفس الحكم الواقعي ، فتوجّه الرفع إليه بعد فرض قيام الأدلّة القطعية على وجوده وتحقّقه واقعاً في حقّ غير العالم به كالعالم ، يكون قيام ذلك الدليل موجباً لاندراجه فيما توجّه الرفع الشرعي إليه مع فرض تحقّقه واقعاً ، فيلزم صرف الرفع المتوجّه إليه إلى رفع الأثر الشرعي المترتّب عليه ، وهو منحصر بالاحتياط ، فإنّه يعدّ من آثار الحكم الواقعي ولو بواسطة كون موضوعه هو الشكّ في الحكم الواقعي.

فإذا قال الشارع : إنّ الحكم الواقعي مرفوع في حقّ غير العالم به ، مع فرض قيام الدليل القطعي العقلي والنقلي على عدم ارتفاعه حقيقة ، لابدّ من حمل الرفع المذكور على الرفع التشريعي التنزيلي ، ويكون محصّله هو رفع ذلك الأثر الشرعي المترتّب عليه الذي هو إيجاب الاحتياط ، فيكون ذلك عبارة أُخرى عن عدم وجوب التحرّز عن مخالفة الحكم الواقعي في مورد الشكّ فيه وعدم العلم به.

وبناءً على هذا التوجيه لا يكون الرفع في جميع الفقرات حتّى في « ما لا يعلمون » إلاّ الرفع الواقعي ، ويكون معناه في الجميع واحداً وهو الرفع ـ أعني رفع ما هو موجود ـ دون الدفع ، غايته أنّه لا يكون الرفع في الجميع إلاّرفعاً تنزيلياً ، أعني رفع الآثار الشرعية المترتّبة على ذلك العنوان الذي تسلّط الرفع عليه ، وإن كانت تلك الآثار غير موجودة قبل الرفع إلاّ اقتضاء ، فإنّ الرفع لم يتوجّه إليها ابتداءً كي يكون عدم وجودها إلاّ اقتضاء موجباً لحمل رفعها على الدفع ، بل

١٢٣

كان الرفع متوجّهاً ابتداءً إلى ذي الأثر وهو موجود ، فيصحّ نسبة الرفع إليه ، غايته أنّه لم يكن رفعاً تكوينياً ، بل كان رفعاً تشريعياً الذي هو عبارة عن إخلاء صفحة التشريع عنه ، فكان ذلك عبارة أُخرى عن سلب الآثار الشرعية القابلة لأن تكون لاحقة له ، وكان رفع ذي الأثر كناية عن رفع الأثر ، ورفع الأثر وإن لم يكن موجوداً إنّما صحّ بعناية وجود المقتضي له ، فصحّ جعل رفع تلك الآثار الموجودة تنزيلاً مصحّحاً لرفع ذي الأثر.

ومن ذلك يظهر لك : أنّه ليس الأثر المرفوع المصحّح لرفع ذي الأثر هو نفس المؤاخذة والعقوبة ، إذ ليس ذلك من الآثار الشرعية المصحّحة للرفع الشرعي ، نعم يلزم من رفع ذلك الأثر الشرعي ارتفاع العقوبة ، لا أنّ المرفوع ابتداءً هو العقوبة.

وحاصل التقريب : أنّه لمّا كان من الممكن أن يجعل الشارع وجوب الاحتياط في مقام الشكّ في وجود التكليف الواقعي محافظة على ملاكه ، وتحرّزاً من الوقوع في مخالفته ، صحّ لنا أن نقول : إنّ إيجاب الاحتياط من الآثار الشرعية اللاحقة للتكليف الواقعي ، فإذا توجّه الرفع الشرعي إلى التكليف الواقعي في مقام الشكّ فيه ، مع فرض قيام الدليل القطعي على عدم ارتفاع التكاليف الواقعية عن الجاهلين بها ، كان المصحّح لذلك الرفع التشريعي المتوجّه إلى التكليف الواقعي الذي تعلّق به الشكّ هو رفع أثره الشرعي ، الذي هو إيجاب الاحتياط.

لا يقال : إذا رجع مفاد حديث الرفع إلى مجرّد عدم جعل الاحتياط ، لم يكن ذلك مسوّغاً للارتكاب ما لم ينضمّ إليه قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فلا يكون حديث الرفع دليلاً مستقلاً في قبال قبح العقاب بلا بيان ، فلا يكون نافعاً في المورد الذي لا تجري فيه قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، كما في موارد الشكّ بين

١٢٤

الأقل والأكثر الارتباطيين بناءً على عدم جريان البراءة العقلية فيها.

لأنّا نقول : يمكن القول بكفاية رفع الاحتياط في إثبات الترخيص الشرعي الذي هو جواز الاقتحام ، لأنّ محصّل رفع الاحتياط والحكم الشرعي بعدم وجوبه هو عدم وجوب التحرّز عن مخالفة ذلك الحكم الواقعي المحتمل ، وذلك عبارة أُخرى عن جواز الاقتحام فيه ، إذ ليس الحديث الشريف مسوقاً لتبرئة الشارع من جريمة جعل الاحتياط ، ليقال إنّه لا دلالة فيه على أزيد من رفع الاحتياط أو عدم جعله ، بل هو مسوق لبيان امتنان الشارع على هذه الأُمّة ، وهو أنّه لم يضيّق عليهم ، ولم يجعل عليهم كلفة الاحتياط والتحرّز عن مخالفة الأحكام الواقعية في مقام الشكّ فيها وعدم العلم بها ، وهذا المعنى يعطي أنّه رخّصهم في مخالفة تلك الأحكام لو كانت موجودة في الواقع.

ولا يخفى أنّ هذا ـ أعني الاحتياج إلى الترخيص وجواز الاقتحام شرعاً ـ مبني على ما قرّره شيخنا قدس‌سره (١) في كيفية التوفيق بين هذا الحكم الظاهري ـ أعني الترخيص المذكور ـ وبين الحكم الواقعي ، مع الاعتراف بكون الترخيص المذكور ترخيصاً شرعياً ، أمّا بناءً على ما حرّرناه في ذلك المبحث (٢) من أنّ المجعول ليس هو الترخيص ، وأنّ المجعول إنّما هو الحكم الوضعي ، أعني حجّية احتمال عدم التكليف في خصوص الأثر الرابع من آثار القطع الوجداني ، وهو خصوص المعذورية فيما لو أخطأ ، فنحن لا نحتاج إلى الترخيص الشرعي ، لأنّ جعل هذا المقدار من الحجّية كافٍ في الاستغناء عن البراءة العقلية.

ولا يتوجّه علينا : أنّه بناءً على ما ذكرتموه من جعل هذا المقدار من الحجّية

__________________

(١ و ٢) راجع الحاشية المفصّلة المتقدّمة في المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : ٣١٢ وما بعدها.

١٢٥

لا يكون الرفع في « ما لا يعلمون » رفعاً شرعياً ، فيتسجّل اختلاف السياق.

لأنّا نجيب عنه : بأنّه إذا فرضنا أنّ الشارع جعل احتمال عدم التكليف حجّة في خصوص المعذورية ، كان ذلك عبارة أُخرى عن أنّ الشارع رفع ذلك التكليف الواقعي بمقدار المعذورية في مخالفته ، وإن شئت فقل : بمقدار كون احتمال عدمه حجّة في المعذورية ، فلا يخرج الرفع بذلك عن كونه رفعاً في عالم التشريع إلى كونه رفعاً عقلياً ، ليختلف مع الرفع في باقي التسع ، بل لا يكون الرفع إلاّ رفعاً تشريعياً ، غايته أنّ ذلك الرفع التشريعي للحكم الواقعي الذي لم يعلمه المكلّف لم يكن رفعاً ابتدائياً ، بل كان بواسطة جعل احتمال عدمه حجّة في خصوص المعذورية ، فإنّ هذا المقدار من جعل الحجّية عبارة أُخرى عن رفع ذلك الحكم الواقعي في عالم التشريع ، الذي لا يترتّب عليه إلاّ المعذورية في مخالفته ، من دون أن يكون في البين ترخيص شرعي كي يكون منافياً للحكم الواقعي. نعم بعد فرض جعل ذلك المقدار من الحجّية التي هي عبارة عن رفع التكليف بذلك المقدار ، أعني بمقدار المعذورية في مخالفته ، يكون الترخيص عقلياً لا شرعياً.

وإن شئت فقل : إنّ الرفع لا يكون إلاّكناية عن جعل ذلك المقدار من الحجّية ، ويكون هذا الرفع الشرعي بالنسبة إلى جعل ذلك المقدار من الحجّية أشبه شيء بالحكم التكليفي المنتزع عن الحكم الوضعي ، فإنّ رفع ذلك المقدار من التكليف الواقعي ـ أعني مقدار المعذورية ـ يكون منتزعاً من ذلك الحكم الوضعي ، أعني حجّية احتمال العدم من حيث المعذورية ، فتأمّل لئلاّ تتوهّم عود المحذور في جعل الترخيص وإن كان بتبع جعل الحجّية ، بل إنّ جعل الحجّية يكون علّة للترخيص العقلي ، ويكفي في صحّة كون الترخيص أو رفع الحكم

١٢٦

الواقعي باعتبار رفع أثره الذي هو وجوب الاحتياط منسوباً إلى الشارع ، كون أساسه منسوباً إليه وهو جعل الحجّية.

ثمّ لا يخفى أنّه بناءً على ما شرحناه في مسلك شيخنا قدس‌سره من كون الحكم الواقعي غير مرفوع بنفسه ، بل يكون المرفوع هو أثره الذي هو إيجاب الاحتياط ، لا يكون لحديث الرفع في « ما لا يعلمون » حكومة على الأدلّة المتكفّلة للأحكام الواقعية ، لا حكومة واقعية ولا ظاهرية ، بل إنّما تكون حكومته متوجّهة إلى دليل الاحتياط لو فرضنا اتّفاق أنّ المسألة ممّا يجب فيها الاحتياط واقعاً ، وتكون تلك الحكومة حكومة واقعية ، نظير حكومة رفع الاكراه والاضطرار على الأدلّة المتكفّلة للأحكام الأوّلية ، وحينئذ لا يتمّ ما أفاده قدس‌سره من كون الحكومة في « ما لا يعلمون » على أدلّة الأحكام الواقعية حكومة ظاهرية ، بل إنّ الالتزام بالحكومة الواقعية في « ما لا يعلمون » على أدلّة الاحتياط لو اتّفق في الواقع وجوبه مشكل ، ولأجل ذلك نقول إنّ دليل الرفع في « ما لا يعلمون » معارض لأخبار الاحتياط لا حاكم عليها ، إذ لو كان حاكماً على تلك الأخبار لكانت بلا مورد ، وليس شأن الحكومة إلغاء الدليل المحكوم بالمرّة على وجه لا يبقى له مورد أصلاً.

والحاصل : أنّه بناءً على هذا التقريب من كون الرفع متوجّهاً إلى الحكم الذي لا يعلمونه باعتبار أثره الذي هو وجوب الاحتياط ، لا يكون حديث الرفع في « ما لا يعلمون » حاكماً على الأدلّة الواقعية ، لا حكومة واقعية ولا حكومة ظاهرية ، وأمّا بالنسبة إلى دليل وجوب الاحتياط لو اتّفق وجوبه في الواقع ، فقد عرفت أنّ الحديث معارض له لا حاكم عليه.

وقد يقال بكونه حاكماً عليه حكومة واقعية ، بتقريب : أنّ حديث الرفع لمّا كان رافعاً لوجوب الاحتياط بلسان رفع منشئه الذي هو الحكم الواقعي ، يكون

١٢٧

حاكماً على دليل وجوب الاحتياط ، لكونهما من قبيل ما لو كان لسان أحد الدليلين رافعاً لموضوع الدليل الآخر ، فإنّ المرفوع الحقيقي وإن كان هو نفس الاحتياط ، إلاّ أنّه لمّا كان رفعه بلسان رفع موضوعه الذي هو الحكم الواقعي ، كان حاكماً على ما يدلّ على وجوب الاحتياط عند الشكّ في الحكم الواقعي ، فهما في ذلك نظير « لا شكّ لكثير الشكّ » (١) بالنسبة إلى ما يدلّ على وجوب البناء على الأكثر عند الشكّ في عدد الركعات.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّه لو كان دليل الرفع حاكماً على دليل الاحتياط لو اتّفق وجوده واقعاً ، لبقي ذلك الدليل ـ أعني دليل الاحتياط ـ بلا مورد ، وليس من شأن الحكومة إلغاء الدليل المحكوم بالمرّة على وجه لا يبقى مورد للدليل المحكوم ، بل الذي ينبغي أن يقال : إنّ دليل الاحتياط لو كان مفاده لزوم الاحتياط في كلّ مورد لم يعلم التكليف الواقعي فيه ، يكون معارضاً لحديث الرفع ، ولو كان دليل الاحتياط أخصّ من دليل الرفع ، بأن كان دليل الاحتياط متكفّلاً لجعله في مورد خاصّ مثل الدماء والفروج ، كان هذا الدليل مقدّماً على دليل البراءة لكونه أخصّ منه.

نعم ، لو شكّ في أنّ هذا المورد الخاصّ الذي هو مورد اللحوم مثلاً هل حكم الشارع فيه بخصوصه بالاحتياط ، أو أنّ الشكّ في هذا المورد حكمه البراءة ، كان المرجع فيه هو أصالة البراءة تمسّكاً بعموم دليلها ، لأنّ الشكّ حينئذ في تخصيص عموم « ما لا يعلمون » وإخراج اللحوم منه ، فتأمّل.

وكيف كان ، فلا ينبغي الريب في أنّ هذا التقريب لا تتمّ معه الحكومة

__________________

(١) لم نعثر عليه بلفظه ، وإنّما ورد ما يدلّ على الحكم في وسائل الشيعة ٨ : ٢٢٧ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ١٦.

١٢٨

الظاهرية ، سواء أُريد بها الحكومة على الأدلّة الواقعية ، أو أُريد بها الحكومة على وجوب الاحتياط. أمّا الأوّل ، فلما عرفت من أنّ حديث الرفع لا يرفع الأحكام الواقعية لكي يكون حاكماً على الأدلّة الأوّلية ، ليتكلّم على تلك الحكومة أنّها واقعية أو ظاهرية. وأمّا الثاني ، فلما عرفت من عدم حكومته على أدلّة الاحتياط ، بل إنّه معارض لها. ولو سلّمنا الحكومة في ذلك فهي لا تكون إلاّواقعية لا ظاهرية.

وأمّا ما يقال في تقريب الحكومة الظاهرية لحديث الرفع ، بأنّ موضوعه لمّا كان هو عدم العلم بالحكم الواقعي ، كان الرفع المذكور حكماً ظاهرياً ، فتكون الحكومة حكومة ظاهرية.

ففيه أوّلاً : أنّ مجرّد أخذ عدم العلم في موضوع الرفع لا يوجب كونه حكماً ظاهرياً ، لإمكان كون الحكم الوارد على الشكّ وعدم العلم حكماً واقعياً.

وثانياً : أنّ عدم العلم بالحكم الواقعي لو أُخذ موضوعاً لرفع ذلك الحكم الواقعي لكان الرفع ظاهرياً ، لكنّه إنّما أُخذ لرفع أثر ذلك الحكم الواقعي الذي هو إيجاب الاحتياط ، فكان من قبيل ما أُخذ فيه عدم العلم بحكم موضوعاً لرفع حكم آخر ، وفي مثله لا يكون الرفع إلاّرفعاً واقعياً.

وثالثاً : أنّه لو سلّمنا كون الرفع المذكور رفعاً ظاهرياً ، فلا يلزم منه إلاّ أن يكون وجوب الاحتياط مرفوعاً رفعاً ظاهرياً ، فلا يصحّ ما أُفيد من كون حديث الرفع في « ما لا يعلمون » حاكماً على الأدلّة الواقعية حكومة ظاهرية ، بل أقصى ما فيه هو الحكومة على دليل الاحتياط.

ورابعاً : أنّا لو سلّمنا كون الرفع رفعاً ظاهرياً ، وكونه حاكماً على الأدلّة الأوّلية حكومة ظاهرية ، لكان ذلك موجباً لاختلاف السياق مع باقي التسعة ، الذي

١٢٩

عرفت أنّ مرجعه إلى الالتزام باستعمال الرفع في قوله عليه‌السلام : « رفع عن أُمّتي تسعة أشياء » (١) في الرفع الحقيقي الواقعي والرفع الصوري الظاهري.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أُفيد من توجيه كون الرفع ظاهرياً بأنّه واقع في درجة إيجاب الاحتياط ، ووجه التأمّل واضح ، فإنّه بناءً على هذا التقريب ، أعني كون الرفع رفعاً لوجوب الاحتياط بلسان رفع أصل الحكم الواقعي ، لا يكون الرفع المذكور واقعاً في درجة إيجاب الاحتياط ، بل لا يكون إلاّرفعاً لإيجاب الاحتياط.

ولا يخفى أنّ إيجاب الاحتياط وإن كان ظاهرياً ، إلاّ أنّ كونه حكماً ظاهرياً لا يوجب كون رفعه ظاهرياً ، لوضوح أنّ رفع الحكم الظاهري لا يلزمه أن يكون رفعاً ظاهرياً ، بل يمكن أن يكون رفعاً واقعياً كما يمكن أن يكون رفعاً ظاهرياً ، والظاهر فيما نحن فيه هو الأوّل ، إذ لم يؤخذ عدم العلم بوجوب الاحتياط موضوعاً لرفعه كي يكون الرفع فيه ظاهرياً.

نعم ، لو قلنا إنّ الرفع كناية عن الترخيص لكان هو ووجوب الاحتياط واقعاً في درجة واحدة ، وهي درجة عدم العلم بالحكم الواقعي ، ويكون كلّ منهما حكماً ظاهرياً حينئذ.

ومن ذلك يظهر أنّه يمكن الجمع بين ما أفاده قدس‌سره من أنّ المرفوع هو إيجاب الاحتياط ، وأنّ هذا الرفع يكون رفعاً ظاهرياً بالنسبة إلى الأدلّة الواقعية ، لكون ذلك الرفع عبارة أُخرى عن الترخيص ، فإن توجّه الرفع إلى الحكم الواقعي برفع أثره الذي هو إيجاب الاحتياط ولزوم التحرّز عن مخالفة الواقع ، عبارة أُخرى عن الترخيص الشرعي في مخالفة الحكم الواقعي لو كان موجوداً ، لما عرفت من عدم

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٥ : ٣٦٩ / أبواب جهاد النفس ب ٥٦ ح ١.

١٣٠

كون سوق الحديث الشريف لتبرئة الشارع عن إيجاب الاحتياط ، بل هو مسوق لبيان امتنان الشارع على هذه الأُمّة بعدم جعل كلفة الاحتياط عليهم ، وأنّه لم يكلّفهم بالتحرّز عن مخالفة الحكم الواقعي عند الشكّ فيه وعدم العلم به ، وهذا المعنى ـ أعني امتنانه عليهم برفع كلفة التحرّز عنهم ـ يعطي أنّه قد رخّصهم في مخالفة تلك الأحكام الواقعية لو كانت موجودة ، ولا ريب أنّ هذا الترخيص في مخالفة الواقع وجواز الاقتحام في مقام الشكّ فيه لا يكون إلاّحكماً ظاهرياً ، ويكون هذا الحكم حاكماً على أدلّة الأحكام حكومة ظاهرية ، وهذا الترخيص هو الواقع في درجة إيجاب الاحتياط ، وبواسطة هذا الترخيص يكون حديث الرفع غير محتاج في جواز الاقتحام إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وإن شئت فقل : إنّ المجعول حقيقة في « ما لا يعلمون » هو هذا الترخيص الظاهري ، ولكن لأجل اعتبارات لسانية راجعة إلى فنّ البلاغة عبّر عنه بالرفع ، ونسب الرفع إلى الحكم الواقعي الذي لا يعلمونه باعتبار أثره ، وهو إيجاب الاحتياط ، والمراد الجدّي الحقيقي هو جعل الترخيص المذكور ، وتلك الجهات اللسانية كافية في توحيد السياق وتصحيح استعمال الرفع منسوباً إلى جميع التسعة ، فتأمّل لئلاّ تتوهّم عود محذور اختلاف السياق.

نعم ، يبقى إشكال الجمع بين هذا الترخيص الذي هو حسب الفرض حكم شرعي فعلي مع الحكم الواقعي على خلافه ، ولأجل ذلك حاولنا إصلاح ذلك بجعل رفع الاحتياط والترخيص كناية عن جعل حجّية احتمال عدم التكليف بمقدار المعذورية ، فراجع ما حرّرناه في التعليق على ما أفاده قدس‌سره في مبحث الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية (١) ، وتأمّل.

__________________

(١) راجع الحاشية المفصّلة المتقدّمة في المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : ٣١٢ وما بعدها.

١٣١

والخلاصة : أنّك قد عرفت في قاعدة لا ضرر أنّ صاحب الكفاية قدس‌سره (١) حمل هذا النفي على كونه نفياً للحكم بلسان نفي الموضوع ، ويكون الضرر عنواناً للفعل الضرري ، وشيخنا قدس‌سره (٢) أفاد أنّه لا حاجة إلى تبعيد المسافة ، بل يمكن أخذ الضرر عنواناً للحكم الضرري ، ويكون نفي الضرر عبارة عن نفي الحكم الضرري.

أمّا الرفع في « ما لا يعلمون » بعد كون المراد رفع الحكم الواقعي الذي لا يعلمونه ، فظاهره الأوّلي مطابق لما أفاده شيخنا قدس‌سره في لا ضرر ، فيكون المرفوع هو نفس الحكم الواقعي بعنوان كونه ممّا لا يعلمونه. لكن هذا لا يمكن الالتزام به في حديث الرفع ، لكونه موجباً لاختصاص التكاليف الواقعية بالعالمين بها ، فلابدّ من فرض نفس الحكم الواقعي بمنزلة الموضوع الموجود وجداناً ، وكون تسليط الرفع عليه باعتبار أثره الشرعي ، وحينئذ يكون من قبيل « لا ضرر » بناءً على ما أفاده في معناها صاحب الكفاية ، ويكون وزانه وزان « لا شكّ لكثير الشكّ » (٣) ويكون حاله من هذه الجهة حال رفع الخطأ والنسيان في كونه مسوقاً لرفع الحكم بلسان رفع الموضوع ، ويكون الحاصل هو أنّ الحكم الواقعي بعنوان كونه غير معلوم مرفوع الأثر الشرعي ، ولا ريب أنّ الأثر الشرعي اللاحق للحكم الواقعي بعنوان كونه غير معلوم إنّما هو الاحتياط ، لأنّ موضوعه هو الحكم الواقعي المشكوك ، فلا يكون المرفوع إلاّوجوب الاحتياط ، لكنّه بلسان رفع الموضوع الذي هو نفس الحكم الواقعي مع فرض تحقّق ذلك الموضوع واقعاً

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٣٨١.

(٢) قاعدة لا ضرر ( المطبوع في نهاية الجزء الثالث من منية الطالب ) : ٣٧٩ ـ ٣٨٠.

(٣) تقدّم استخراجه في الصفحة : ١٢٨.

١٣٢

ووجداناً.

ولكن يلزم على ذلك أن لا يكون حديث الرفع متعرّضاً لرفع نفس الحكم الواقعي لا ظاهراً ولا واقعاً ، وأن لا يكون له حكومة على دليل الحكم الواقعي أصلاً لا ظاهراً ولا واقعاً ، بل يكون محقّقاً للحكم الواقعي ، لأنّ محصّله حينئذ هو أنّ نفس الحكم الواقعي يكون في مقام عدم العلم به مرفوع الأثر ، الذي هو وجوب الاحتياط ، هذا أوّلاً.

وثانياً : أنّ رفع الاحتياط لا يكفي ولا يغني عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وثالثاً : يكون الحديث حاكماً على دليل الاحتياط لو كان موجوداً لا معارضاً له ، وحينئذ لابدّ لنا من الجواب عن هذه الجهات فنقول :

أمّا الثالث ، أنّ مقتضاه وإن كان هو الحكومة على ما يدلّ على وجوب الاحتياط ، لكونه لرفع الاحتياط بلسان رفع موضوعه ، فهو في ذلك [ نظير ] « لا شكّ لكثير الشكّ » بالنسبة إلى ما يدلّ على أنّ حكم الشكّ هو البناء على الأكثر ، إلاّ أنّ الحكومة في هذا المقام لا يمكن الالتزام بها ، لأنّها موجبة لبقاء الدليل المحكوم ـ وهو ما دلّ على وجوب الاحتياط ـ بلا مورد ، ولأجل ذلك لابدّ من إعمال قاعدة التعارض بينهما ، وبرهان ذلك هو ما عرفت من أنّه لو كان دليل الاحتياط أخصّ من دليل الرفع كان هو المقدّم ، كما في الدليل الدالّ على الاحتياط في الدماء والفروج.

وأمّا الثاني ، فلما عرفت من أنّ الحديث ليس مسوقاً لتبرئة الشارع من جعل الاحتياط ، بل هو مسوق للامتنان ، وأنّ رفع الاحتياط كان منّة على العباد بأنّه لم يضيّق عليهم ، وذلك عبارة أُخرى عن أنّه رخّصهم في مخالفة التكاليف الواقعية ، فيكون ذلك كناية عن جعل الترخيص.

١٣٣

وبذلك يندفع الإشكال الأوّل ، لأنّه بواسطة جعل الترخيص في مورد عدم العلم بالتكليف الواقعي يكون متكفّلاً للترخيص الظاهري في قبال التكليف الواقعي ، فيكون حاكماً على الأدلّة الواقعية حكومة ظاهرية ، وبذلك يتنافى مع الحكم الواقعي ، وطريق الجمع هو ما حاولنا من جعل هذه التصرّفات الظاهرية كناية عن جعل حجّية احتمال عدم التكليف الواقعي بمقدار المعذورية ، فراجع وتأمّل.

ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمّل في كثير من العبائر التي اشتمل عليها الأمر الأوّل من هذا التحرير (١) ، وأنّه لابدّ من تأويلها وإرجاعها إلى هذا الشرح الذي فصّلناه ، كما أنّه يظهر لك التأمّل فيما أُفيد في الأمر الثاني بقوله : والتحقيق أنّه لا حاجة إلى التقدير ، فإنّ التقدير إنّما يحتاج إليه إذا توقّف تصحيح الكلام عليه ـ إلى قوله ـ وأمّا إذا كان الرفع رفعاً تشريعياً ـ إلى قوله ـ كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا ضرر ولا ضرار » (٢) وكقوله عليه‌السلام : « لا شكّ لكثير الشكّ » إلى آخر المبحث (٣) فإنّك قد عرفت أنّ مثل « لا ضرر » ممّا يكون المنفي هو عنوان الحكم ، يكون النفي فيه مسلّطاً على الحكم ، من دون حاجة إلى تقدير شيء ، بخلاف مثل « لا شكّ لكثير الشكّ » ممّا يكون المنفي فيه عنواناً للفعل الخارجي. وأنّ الرفع في « ما لا يعلمون » وإن كان في بادئ النظر هو من قبيل ما يكون النفي فيه مسلّطاً على نفس الحكم ، إلاّ أنّه بعد أن كان الحكم الواقعي ثابتاً قطعاً ، كان من قبيل ما يحتاج إلى نحو من التسامح ، وهل هو من قبيل المجاز في الكلمة ، أو من قبيل مجاز الحذف ، أو هو من قبيل

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٣٣٦.

(٢) وسائل الشيعة ٢٥ : ٤٢٧ / كتاب إحياء الموات ب ١٢.

(٣) فوائد الأُصول ٣ : ٣٤٢ ـ ٣٤٣.

١٣٤

الاستعارة ، هذه أُمور راجعة إلى فنّ البلاغة.

والأوّل بأن يكون التجوّز في نفس الرفع ، أو يكون التجوّز في نفس المرفوع ، بأن يراد من الشيء آثاره. والثاني بأن يقدّر الأثر ويقال رفع أثر ما لا يعلمون. والثالث بتنزيل الشيء الذي لا أثر له منزلة المرفوع والمعدوم. وإن كان الأخير هو الأرجح والأولى ، بل هو المتعيّن ، إلاّ أنّه على أيّ حال لا يخرج عن التسامح والتساهل ، بخلاف ما لو كان المرفوع حقيقة هو نفس ما ورد عليه الرفع ، مثل لا ضرر بناءً على جعله كناية عن الحكم الضرري ، بل إنّ هذا أيضاً محتاج إلى التسامح في إطلاق الضرر وإرادة سببه الذي هو الحكم الإلزامي.

نعم ، لو كان المرفوع في « ما لا يعلمون » هو نفس الحكم الواقعي ، لم يكن محتاجاً إلى شيء من التسامح ، لكنّه باطل لا يمكن الالتزام به كما عرفت تفصيله ، فتأمّل.

قوله : الأمر الثالث : قيل إنّ وحدة السياق تقتضي أن يكون المراد من الموصول في « ما لا يعلمون » ... الخ (١).

بعد أن عرفت أنّ « ما » في « ما لا يعلمون » عبارة عن الحكم الواقعي ، وأنّ المرفوع هو أثره الذي هو إيجاب الاحتياط ، تعرف أنّ الحديث شامل للشبهات الموضوعية والحكمية معاً ، بواسطة تعميم الحكم غير المعلوم إلى الحكم الكلّي والحكم الجزئي ، وليس في ذلك ـ أعني كون المراد من الموصول هو الحكم ـ مخالفة للسياق في « ما اضطرّوا إليه » و « ما أُكرهوا عليه » و « ما لا يطيقون » ، لأنّ الموصول عبارة عن الشيء المبهم ، وإنّما يتعرّف بواسطة صلته ، وهذا التنويع إنّما جاء من الصلة ، وإلاّ فالمراد بالموصول شيء واحد وهو عبارة عن الشيء ، فلا

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٣٤٤.

١٣٥

اختلاف في نفس الموصول ، وإنّما جاء الاختلاف من ناحية الصلة.

ومن ذلك تعرف أنّه لا داعي في التعميم وتوحيد السياق إلى الالتزام بكون المراد من الموصول هو الفعل ، ويكون المراد من عدم العلم به عدم العلم بحكمه الأعمّ من الكلّي والجزئي ، كما احتملناه فيما علّقناه سابقاً على ما حرّرناه عن شيخنا قدس‌سره في هذا المقام ، فراجع (١) وتأمّل.

قوله : فإن كان الحكم من الأحكام التكليفية ، وكان مترتّباً على الفعل بلحاظ مطلق الوجود ، وكان الفاعل هو المخاطب بالحكم ، فلا إشكال في سقوط الحكم إذا صدر الفعل عن إكراه أو اضطرار أو نسيان أو خطأ ، فإنّ نتيجة رفع الفعل الصادر على هذا الوجه في عالم التشريع هو ذلك ، فمن شرب الخمر عن إكراه أو اضطرار لم يكن فعله حراماً شرعاً ، ولا يخرج بذلك عن العدالة لو كان واجداً لها قبل الشرب ، لأنّ الشرب عن إكراه كالعدم ، والحكم تابع لموضوعه ، فرفع الموضوع يقتضي رفع الحكم ، فلا حرمة ، وهو واضح ... الخ (٢).

لا يخفى أنّ العدالة وعدمها بالنسبة إلى الشرب وعدمه من قبيل الأسباب والمسبّبات ، فتخرج عمّا نحن فيه ، أمّا نفس الحرمة ففي ارتفاعها بدليل رفع الاكراه مثلاً أو رفع الخطأ ونحوهما تأمّل وإشكال.

قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه بعد تقسيم الأفعال إلى ما يلحقه الحكم بعد وجوده مثل الأسباب وإلى ما يلحقه الحكم قبل وجوده مثل الأحكام التحريمية ، ما هذا لفظه : وأمّا النحو الثاني فقد يتوهّم أنّ ارتفاعها في عالم التشريع لا يكون موجباً

__________________

(١) مخطوط لم يطبع بعدُ.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٣٥٢.

١٣٦

لارتفاع هذا النحو من الأحكام ، لعدم كون الحكم متأخّراً عن وجود هذا النحو من الأفعال. ولكن لا يخفى ما فيه ، حيث إنّ الحكم بالنسبة إلى هذا النحو من الأفعال وإن لم يكن من قبيل نسبة المعلول إلى علّته ، إلاّ أنّه ـ أعني الحكم ـ لمّا كان بمنزلة العارض على ذلك الفعل ، وكان الفعل بمنزلة المعروض لذلك الحكم ، كان نفي ذلك الفعل ورفعه تشريعاً موجباً لرفع ذلك العارض ، حيث إنّ رفع المعروض رفع لعارضه ، انتهى. وبنحو ذلك صرّح فيما حرّره عنه السيّد سلّمه الله (١).

قلت : لا يقال إنّ الرفع المتوجّه إلى مثل شرب الخمر الصادر عن نسيان أو خطأ أو إكراه ، لا يعقل أن يكون متوجّهاً إلى رفع عارضه الذي هو التحريم ، لأنّ هذا العارض إنّما يعرضه قبل الوجود ، أمّا بعد فرض تحقّق وجوده فلا يعقل أن يعرضه التحريم المذكور ، لأنّ مرتبة وجود شرب الخمر ليست هي مرتبة عروض التحريم عليه ، وإنّما هي مرتبة سقوط ذلك التحريم بالعصيان ، والمفروض أنّ حديث الرفع إنّما ينظر إلى الشيء بعد فرض وجوده فيرفعه ، ويكون رفعه كناية عن رفع أثره.

لأنّا نقول : ليس المراد من رفع تحريمه رفع التحريم بعد فرض وجود شرب الخمر ، بل المراد رفع التحريم في عين الصقع الذي يمكن فيه عروض التحريم عليه ، بمعنى أنّ كلّي شرب الخمر في حدّ نفسه لمّا كان معروضاً للتحريم مع قطع النظر عن كونه صادراً بالإكراه ، كان ذلك الكلّي مرفوعاً عنه التحريم إذا كان قد تعلّق به الاكراه ، ومن الواضح أنّ رفع ذلك الحكم الشرعي مصحّح لرفع الشرب الاكراهي رفعاً تشريعياً ، بمعنى أنّ الشرب المذكور لمّا لم يكن معروضاً للحرمة ، وكان الشارع قد رفع حرمته ، كان ذلك الشرب معدوماً ومرتفعاً في عالم

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٣٠٣.

١٣٧

التشريع ، ألا ترى أنّ قوله تعالى : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً ) الخ (١) قد نفى وجدان ما عدا المذكور ـ أعني الميتة وأخواتها ـ في صفّ المحرّمات الشرعية ، وقد جعل نفي وجدانها في قسم المحرّمات دليلاً على نفي تحريمها ، وما ذلك إلاّلأنّ انتفاء وجود الشيء في المحرّمات عبارة أُخرى عن كونه غير محرّم ، فيكون عدم تحريم الشيء ورفع حرمته مصحّحاً لنفي ذلك الشيء والحكم بعدمه في الشريعة ، فيصحّ أن يقال : إنّ الشرب المكره عليه مرفوع في الشريعة ومنفي فيها باعتبار رفع حرمته وانتفائها فيها ، هذا.

ولكن لا يخفى ما في ذلك من التكلّف ، مضافاً إلى منافاته لتطبيق الرفع على الأسباب ، الذي يكون مقتضاه هو كون الرفع مسوقاً لرفع ما هو موجود ، تنزيلاً له منزلة المرتفع باعتبار ارتفاع أثره ، فإنّ تطبيقه على رفع الحرمة فيما نحن فيه لا يكون بتلك العناية ، وإنّما يكون بعناية أنّ الفعل غير المحرّم منفي في صفّ المحرّمات الشرعية ، فتأمّل.

ولم أتوفّق لمعرفة الوجه في إعراض شيخنا قدس‌سره في هذه المسألة عن مسلكه قدس‌سره وهو كون نفي الاقتضاء مصحّحاً لنفي الشيء ، ولِمَ لم يقل في هذه المسألة إنّ المصحّح لرفع شرب الخمر الاكراهي هو أنّ الشارع لمّا رفع تأثير ملاك شرب الخمر في تحريمه إذا كان إكراهياً ، صحّ أن يقال إنّ الشارع رفع الشرب الاكراهي ، بمعنى أنّه رفع تأثيره أو تأثير ملاكه في التحريم ، أي أنّه منعه من أن يؤثّر في التحريم ، ويستغني بذلك عن تصحيح الرفع بطريق العارض والمعروض. نعم قد تأمّلنا في ذلك ، باعتبار أنّ نفس الاقتضاء غير قابل للرفع

__________________

(١) الأنعام ٦ : ١٤٥.

١٣٨

الشرعي.

وتوجيه الرفع إلى نفس الحرمة باعتبار كون الشرب الكلّي يقتضيها ، فيكون بالنسبة إليها من قبيل السبب لها ، فتدخل المسألة بذلك في عالم الأسباب ، ممنوع لأنّ المتعلّق الكلّي للحرمة ـ أعني شرب الخمر ـ ليس من قبيل الأسباب التي يكون الحكم وارداً عليها بعد فرض وجودها بنحو القضية الحقيقية ، مثل قولك إذا شربت الخمر فاعتق رقبة مثلاً ، فلا يدخل في قوله : رفع ما أُكرهوا عليه ، فتأمّل.

ويمكن أن يقال : إنّ مثل شرب الخمر ونحوه من المحرّمات لو وقعت معنونة بأحد هذه العناوين ، فإن كان ذلك العنوان هو الخطأ أو النسيان ، فهي غير داخلة في حديث رفع الخطأ والنسيان ، إذ لا أثر عملي يترتّب على ذلك ، وليس في البين إلاّ العقاب ، وهو تابع للعصيان التابع للاختيار ، وهو أعني الاختيار معدوم في الخطأ والنسيان ، فلا حاجة في ارتفاعه إلى التمسّك بحديث رفع الخطأ والنسيان ، بل إنّ العقاب غير مشمول للحديث لكونه غير شرعي.

وإن كان ذلك العنوان هو الاكراه ، بأن أُكره على شرب الخمر ، لم يكن ارتفاع حرمته من جهة دخوله في « ما أُكرهوا عليه » ، إذ ليس الشرب من قبيل سبب الحرمة كي يكون رفعها مصحّحاً لنسبة الرفع إليه ، كما في رفع العقد الاكراهي بالنسبة إلى الملكية ، أو رفع الأكل والشرب الاكراهي في نهار رمضان بالنسبة إلى الكفّارة ، كما أنّ الحرمة ليست موجبة لإلقاء الشرب على عاتق المكلّف ، مثل كون وجوب الصلاة موجباً لالقائها على عاتق المكلّف على وجه يكون رفع الوجوب عنها عند كونها ممّا لا يطيقون مصحّحاً لرفعها عن المكلّف.

نعم ، يمكن إدراج من أُكره على شرب الخمر في « ما لا يطيقون » باعتبار

١٣٩

كونه لا يطيق تركه ، فيكون التكليف بتركه موجباً لالقائه على عاتق المكلّف ، فيكون هذا الترك داخلاً في « ما لا يطيقون » ، فيكون المصحّح لرفعه هو رفع ما يوجب إلقاءه على عاتق المكلّف ، وهو وجوب تركه الذي هو عبارة عن حرمة فعله.

وهكذا الحال فيما لو اضطرّ إلى شرب [ الخمر ] فإنّ حرمته التي هي عبارة عن لزوم تركه مرتفعة ، باعتبار دخوله في « ما لا يطيقون » ، لأنّ الترك عند الاضطرار إلى الفعل يكون ممّا لا يطيقون.

وهكذا الحال فيما لو أُكره على ترك الواجب أو اضطرّ إلى تركه ، فإنّه يدخل في « ما لا يطيقون » باعتبار أنّ نفس الفعل الواجب ممّا لا يطيقون ، فيكون وجوبه مرتفعاً ، ومع ارتفاع الوجوب الموجب لالقائه على عاتق المكلّف ، يكون نفس الفعل مرتفعاً عن عاتق المكلّف. وبناءً على ذلك يكون مورد رفع ما أُكرهوا وما اضطرّوا منحصراً بالأسباب للأحكام الوضعية والتكليفية فيما يكون في رفعه منّة على المكلّف ، ليخرج منه عقد المضطرّ إلى بيع داره مثلاً ، ويكون « ما لا يطيقون » منحصراً في متعلّقات التكاليف الالزامية ، ولا دخل لها بالأسباب للأحكام الوضعية أو التكليفية.

وهذا المعنى هو المصحّح لرفع الحسد وأخويه ، فإنّ الحسد ليس سبباً للحرمة كي يكون رفعها مصحّحاً لنسبة الرفع إليه ، كما أنّها لا توجب إلقاء الحسد على عاتق المكلّف كي يكون رفعها رفعاً له عن عاتق المكلّف. نعم إنّ لزوم ترك الحسد الذي هو عبارة أُخرى عن حرمته يوجب إلقاء الترك على عاتق المكلّف ، فيكون رفع لزوم ترك الحسد مصحّحاً لرفع ترك الحسد عن عاتق المكلّف ، فينبغي أن يسند الرفع إلى ترك الحسد ، لكن صحّ نسبة الرفع إليه باعتبار رفع لزوم

١٤٠