أصول الفقه - ج ٧

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٧

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-72-0
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٩٢

أرجح استصحاباً لحال الحياة » : المقطوع بها في الجملة ولو قبل ابتلاع السمكة لها إلى حين الأخذ ، فيكون الخبران مؤكّدين للقاعدة ... لكن لا يخفى عليك ما فيه من كون الأصل المزبور من الأُصول المثبتة المعارضة باستصحاب الحرمة ، وبأصالة عدم حصول التذكية المتوقّفة على شرط لا ينقّحه الأصل ، والفرض عدم حجّية الخبرين ، والله العالم (١).

وقال أيضاً في مسألة السمكة في جوف السمكة في آخر المسألة السابعة من اللواحق قبيل قول الماتن : المسألة الثامنة ذكاة الجراد ، قال : ولعلّه لاستصحاب حياتها إلى حين إخراج التي في بطنها ، فيكون ذلك تذكية لهما ، إلاّ أنّك قد عرفت ما في هذا الأصل (٢).

قلت : ولعلّ الوجه في كون الأصل المذكور مثبتاً هو ما اشتمل عليه خبر علي بن جعفر عليه‌السلام عن أخيه عليه‌السلام الذي ذكره في المسألة السابعة في ذكاة السمك (٣) ، قال : « سألته عن سمكة وثبت في نهر فوقعت على الجُد من النهر فماتت ، هل يصلح أكلها؟ فقال عليه‌السلام : إن أخذتها قبل أن تموت ثمّ ماتت فكلها ، وإن ماتت قبل أن تأخذها فلا تأكلها » (٤) من جهة دلالته على اعتبار القبلية ، فيكون ذلك من قبيل ما ذكره في مسألة توارث الغرقى للإجماع والأخبار ، فإنّه قدس‌سره قال هناك : وبذلك يخرج عمّا يقتضي عدمه من قاعدة كون الشكّ في الشرط شكّاً في المشروط ، ضرورة اشتراط إرث كلّ واحد منهما من الآخر بحياته بعد موت الآخر ، وهي غير

__________________

(١) جواهر الكلام ٣٦ : ٢٥٥ ـ ٢٥٦.

(٢) جواهر الكلام ٣٦ : ١٧٤.

(٣) جواهر الكلام ٣٦ : ١٦٤.

(٤) وسائل الشيعة ٢٤ : ٨١ / أبواب الذبائح ب ٣٤ ح ١.

٢٢١

معلومة ، الخ (١).

قلت : أمّا مسألة الإرث فقد تعرّضنا لها في محلّه في خاتمة الاستصحاب (٢) فراجع. وأمّا مسألتنا هذه فلو كان المنشأ في دعوى المثبتية هو القبلية المذكورة في الخبر ، لكان استصحاب بقائها في الماء إلى أن ماتت مثبتاً أيضاً ، لأنّ الخبر المذكور يدلّ أيضاً على اعتبار الموت قبل الأخذ ، وبعد سقوط الأصلين لا يكون المرجع هو أصالة عدم التذكية بمعنى السبب ، لكونه حاصلاً ، وأصالة عدم المجموع المركّب من الأخذ المقيّد بكونه قبل الموت كما بنى عليه في الكفاية (٣) ، لا محصّل لها كما حقّق في محلّه (٤).

وحينئذ فالذي ينبغي على القول بكون التذكية اسماً للسبب هو الرجوع إلى قاعدة الحل ، إلاّ إذا قلنا إنّ التذكية اسم للمسبّب ، فإنّ المرجع حينئذ هو أصالة عدمه ، فيحكم بكونها ميتة يحرم أكلها على تأمّل في ذلك ، فإنّ ذلك المسبّب بمنزلة الحكم المترتّب على أحد الأصلين المتعارضين ، وضدّه مترتّب على الأصل الآخر ، فلو لم نقل بسقوط الأصل فيه وفي ضدّه بسقوط الأصل الأوّل ، لكان الأصل في كلّ منهما متعارضاً ، فإنّ أصالة عدم التذكية بمعنى المسبّب أعني الحلّية يعارضها أصالة العدم في ضدّها ، إذ الأصل عدم المسبّب الآخر أعني

__________________

(١) جواهر الكلام ٣٩ : ٣٠٦.

(٢) راجع المجلّد الحادي عشر من هذا الكتاب الصفحة : ٥٥٦ وما بعدها.

(٣) كفاية الأُصول : ٤١٩ / التنبيه الحادي عشر.

(٤) راجع التنبيه التاسع من تنبيهات الاستصحاب في فوائد الأُصول ٤ : ٥٠٣ وما بعدها ، وحواشي المصنّف قدس‌سره عليه تأتي في المجلّد العاشر من هذا الكتاب في الصفحة : ١٥٨ وما بعدها.

٢٢٢

الحرمة ، فلاحظ.

ومن ذلك تعرف الحال فيما أفاده قدس‌سره في المسألة الثالثة من مسائل الخاتمة فيما لو ذبح الحيوان ولم يعلم موته قبل الذبح أو بعده في شرح قول المصنّف : « فالوجه تغليب الحرمة » للأصل ، إلى أن قال : وربما احتمل الحل استصحاباً لبقاء الحياة ، ولكن لا يخفى ضعفه (١).

وأمّا قوله في المسألة الثالثة من اللواحق في اعتبار استقرار الحياة في الردّ على الوجه الثاني ممّا استدلّ به على ذلك من أنّ استناد موته إلى الذبح ليس بأولى من استناده إلى السبب الموجب لعدم استقرارها ، بل ( كان ) السابق أولى ، فيكون هلاكه به ويكون ميتة ، فإنّه قال بعد ردّ الأوّل بأنّه لا شاهد عليه ، قال : بل الثاني كذلك ، ضرورة اقتضاء الأدلّة كون ذبح الحي سبباً في الحل وإن حصل سبب آخر بعد الذبح ، الخ (٢) فلا يكون منافياً لما بنى عليه من عدم جريان استصحاب الحياة إلى حين الذبح ، لأنّ كون الذبح في هذه المسألة واقعاً على الحي معلوم ، وإنّما الشكّ في استناد موته إلى الذبح ، بخلاف المسألة السابقة التي منع فيها من جريان الأصل ، فإنّ وقوع الذبح فيها على الحي غير معلوم ، فتأمّل جيّداً ، فإنّ الوجه في تضعيفه قدس‌سره الأصل في هذه المسألة (٣) إن كان لأجل القبلية والبعدية كما في مسألة الإرث وكما في مسألة السمك ، ففيه : أنّه لا دليل على اعتبار القبلية في مسألة الذبح. وإن كان الوجه فيه هو اعتبار استناد زهوق الروح إلى الذبح نظير مسألة القتل العمدي ، ففيه ما عرفت من عدم الدليل على اعتبار ذلك في باب التذكية

__________________

(١) جواهر الكلام ٣٦ : ١٩١.

(٢) جواهر الكلام ٣٦ : ١٥٠.

(٣) [ الظاهر أنّ مقصوده قدس‌سره بذلك هو المسألة السابقة ].

٢٢٣

بالذبح ، مضافاً إلى تصريحه قدس‌سره بعدم اعتبار ذلك فيما أفاده قدس‌سره في المسألة الثالثة فيما لو ذبحه وتردّى ، فتأمّل. ولعلّ المراد هو استضعاف الحكم بالحل بعد تعارض الاستصحابين ، فيكون ذلك مبنياً على كون التذكية اسماً للمسبّب.

والذي تحصّل عندنا عند معاودة النظر في هذه المسألة في البحث التعطيلي في شهر رمضان سنة ١٣٧٣ هو أنّ في السمك فروعاً بعضها مسلّم وبعضها محلّ الخلاف :

الأوّل : هو أنّ موته في الماء قبل أخذه يكون موجباً لحرمته. وهذا لا شبهة فيه ، ولا أقل من روايات حرمة الطافي.

الثاني : أنّه لو قتل وهو في الماء ، بأن طعن برمح ونحوه ، فالظاهر أنّ حكمه حكم الأوّل وهو الحرمة.

الثالث : لو قطع منه قطعة وهو حي في الماء ، فهذه القطعة محرّمة كما صرّح به في الجواهر (١) فيما لو قطع منه قطعة بعد أخذه ثمّ عاد إلى الماء.

الرابع : أنّه لو أُخذ حياً ثمّ عاد إلى الماء ومات فيه ، فهذا أيضاً حرام.

الخامس : أنّه لو خرج من تلقاء نفسه أو أخرجه الماء وألقاه في الساحل ومات على الساحل من دون أن يأخذه أحد في حال حياته ، فهذا أيضاً حرام ، وإن نقل الخلاف فيه عن الشيخ قدس‌سره في النهاية (٢) لأخبار هناك ، لكن المعروف حرمته ، لأخبار أُخر هي أقوى دلالة وسنداً ، فراجع الجواهر (٣).

السادس : لو أُخذ ثمّ ربط بحبل ونحوه وأُعيد إلى الماء ، أو حصر في

__________________

(١) جواهر الكلام ٣٦ : ١٧١.

(٢) راجع النهاية : ٥٧٦.

(٣) جواهر الكلام ٣٦ : ١٦٤ ـ ١٦٧.

٢٢٤

الحظيرة فمات ونحو ذلك ، فالمعروف أيضاً هو الحرمة ، وقد نقل الخلاف فيه عن العماني (١) لأخبار الحظيرة (٢) ، لكن المعروف بل المشهور بل الإجماع المنقول على الحرمة ، تقديماً للأخبار القائلة بأنّه مات فيما فيه حياته ، فراجع الجواهر أيضاً في هذه المسألة (٣).

وبعد الفراغ من هذه الفروع يكون المتحصّل هو أنّه لابدّ من أخذه حياً ، وأن لا يموت في الماء ، والاكتفاء بهذا المقدار هو الذي استقرّ عليه رأي صاحب الجواهر قدس‌سره على وجه سوّغ ابتلاعه حيّاً وأخذ قطعة منه وإن عاد الباقي إلى الماء ومات فيه. وظاهره عدم كون ذلك من قبيل الحكمين في ظرفين ، بحيث إنّه في ظرف أخذه حياً يكون حلالاً لكن لو أُعيد أو عاد إلى الماء فمات فيه ينقلب حكمه إلى الحرمة ، بل عبارته صريحة في أنّ ذلك من قبيل الشرط ، بجعل الثاني ـ وهو عدم موته في الماء ـ شرطاً في الأوّل بنحو الشرط المتأخّر أو بنحو التعقّب على وجه تكون حلّيته مراعاة بعدم موته في الماء ، ولازمه أنّه لو أُخذ منه قطعة وعاد الباقي إلى الماء ومات فيه ، ينبغي الحكم بحرمة تلك القطعة المأخوذة كما صرّح به قدس‌سره بقوله (٤) : فهي حلال وإن عاد الباقي إلى الماء ، سواء مات فيه أو لا (٥) إلاّ أن يقال : إنّها لا يصدق عليها الموت في الماء وإن مات الباقي في الماء.

وعلى كلّ حال ، فإنّ هذا الحكم ـ أعني أكل الحي بابتلاعه أو أخذ قطعة

__________________

(١) حكاه عنه العلاّمة في مختلف الشيعة ٨ : ٢٨٥ مسألة ٦.

(٢) وسائل الشيعة ٢٤ : ٨٤ / أبواب الذبائح ب ٣٥ ح ٣ وغيره.

(٣) جواهر الكلام ٣٦ : ١٦٨ ـ ١٧٠.

(٤) [ هكذا في الأصل ، فلاحظ ].

(٥) جواهر الكلام ٣٦ : ١٧١.

٢٢٥

منه ـ لا يخلو عن مخالفة الذوق ، فالأولى أن يضاف إلى هذين القيدين قيد ثالث وهو موته ، ليكون الحاصل هو أنّه يعتبر في حلّية الأكل أخذه حياً وموته وعدم موته في الماء ، وحينئذ لا يحلّ ابتلاعه حياً ، ولا أخذ قطعة منه وهو حي ، سواء عاد الباقي إلى الماء ومات فيه أو بقي إلى أن مات خارج الماء.

والدليل على هذا القيد هو ما تقدّم من خبر الاحتجاج (١) ورواية ابن أبي يعفور المتضمّنة لقوله عليه‌السلام : « وجعل ذكاتها موتها » (٢). لكن في الجواهر أجاب عنهما بقوله : لكن مع أنّ الأوّل منهما مرسل وفي غير الكتب الأربع ، ولم يذكره الفقهاء في الكتب الاستدلالية ، لم أجد أحداً عمل بمضمونهما ، بل يمكن القطع بعدم اعتبار الموت حتف الأنف في تذكيته ، وحينئذ فالمذهب الجواز (٣).

قلت : أمّا ما أفاده من قوله : لم أجد أحداً عمل بمضمونهما الخ ، فهو بالنسبة إلى اعتبار الموت حتف الأنف في قبال قتله مثلاً ، كما هو ظاهر خبر الاحتجاج بقوله : « حتّى يموت من ذات نفسه » فمسلّم ، لكن خبر ابن [ أبي ] يعفور خال من هذا القيد أعني « حتّى يموت من ذاته » ، بل يمكن أن يكون قوله في خبر الاحتجاج : « حتّى يموت من ذات نفسه » في قبال احتمال اعتبار موته بالذبح ، كما في غيره من الحيوانات ، ولعلّ قوله عليه‌السلام : « وذلك أنّه ليس له دم » قرينة على ذلك ، فيكون القيد هو مجرّد الموت ، وأنّه لا يحتاج إلى ذبح ، لأنّه ليس له دم ، وحينئذ يتّحد مع مفاد خبر ابن [ أبي ] يعفور. وهذا المقدار ـ أعني

__________________

(١) تقدّم ذكره متناً ومصدراً في الصفحة : ٢١٠.

(٢) وسائل الشيعة ٤ : ٣٥٩ / أبواب لباس المصلّي ب ٨ ح ٤.

(٣) جواهر الكلام ٣٦ : ١٧١.

٢٢٦

اعتبار الموت وعدم جواز أكله حياً ـ قد عمل به الشيخ قدس‌سره (١) وغيره.

نعم ، خبر ابن [ أبي ] يعفور يحتاج إلى التقييد بكون الموت بعد أخذه حياً ، وبأن لا يكون الموت في الماء ، وهذا المقدار من التقييد قد دلّت عليه الأدلّة ، فلا مانع من تقييد خبر ابن [ أبي ] يعفور بمقتضى تلك الأدلّة ، بل إنّ خبر الاحتجاج متكفّل لهذا التقييد ، فإنّ قوله عليه‌السلام : « ذكاته إخراجه من الماء حتّى يموت من ذات نفسه » دالّ على اعتبار إخراجه حياً ، وظاهر قوله : « حتّى يموت » هو اعتبار عدم موته باعادته ثانياً إلى الماء ، بل ظاهره اعتبار موته خارج الماء ، فضلاً عن مجرّد اعتبار عدم موته في الماء. وبالجملة : أنّ أخبار « مات بما فيه حياته » (٢) اعتبرت أن لا يكون موته في الماء.

ولا يخفى أنّ ذلك ـ أعني اعتبار الموت وعدم الموت في الماء ـ لا يكون عبارة عن اعتبار موته خارج الماء ، وإن كان ذلك ـ أعني موته خارج الماء ـ ملازماً لاعتبار القيدين المذكورين ، إلاّ أنّ خبر الاحتجاج ظاهر في اعتبار موته خارج الماء ، والظاهر أنّه لا يترتّب على ذلك أثر عملي بعد اعتبار الاخراج حياً واعتبار الموت واعتبار عدم كون الموت في الماء.

نعم ، لعلّه يظهر أثر ذلك في جريان الأُصول عند العلم بموته والشكّ في كونه قبل أخذه أو بعد أخذه ، فبناءً على أنّ التذكية اسم للسبب يتعارض الأصلان ، أعني استصحاب حياته إلى حين الأخذ القاضي بحلّيته ، بناءً على الاكتفاء بأخذه حياً وعدم موته في الماء ، مع استصحاب بقائه في الماء إلى موته ، القاضي بكون موته في الماء الموجب لحرمته ، وبعد التساقط يكون المرجع هو

__________________

(١) راجع المبسوط ٦ : ٢٧٧.

(٢) وسائل الشيعة ٢٤ : ٧٩ / أبواب الذبائح ب ٣٣ ح ٢ وغيره.

٢٢٧

قاعدة الحل ، بخلاف ما لو قلنا بأنّه يعتبر الموت خارج الماء ، فإنّ استصحاب حياته إلى حين الأخذ لا ينقّح حلّيته المنوطة بموته خارج الماء إلاّبالأصل المثبت.

ولكن لا يخفى أنّا لو اعتبرنا موته خارج الماء ، لكان يمكننا إحراز ذلك باستصحاب بقائه خارج الماء حياً إلى أن مات.

وبالجملة : يكون الجاري هو استصحاب حياته إلى أن أُخرج وصار تحت اليد ، واستصحاب بقائه حياً في الخارج تحت اليد إلى أن مات تحتها قاضياً بحلّيته ، ويعارضه حينئذ استصحاب بقائه في الماء أو في الخارج من دون وضع يد عليه إلى أن مات ، لكونه قاضياً بحرمته ، وبعد التساقط يكون المرجع قاعدة الحل. نعم ، إنّ الأصل القاضي بحلّيته ينحلّ إلى أصلين ، والأوّل منهما هو استصحاب حياته إلى أن خرج ووضعت عليه اليد ، والثاني هو استصحاب بقائه حياً تحت اليد إلى أن مات تحتها ، ولا يترتّب الأثر على الأوّل فقط ، بل لابدّ من ضمّ الثاني إليه ، وحينئذ يشكل الاستصحاب الأوّل لعدم الأثر. ولو كانا عرضيين لأمكن التخلّص ، لكن المفروض أنّهما طوليان ، ولعلّ ذلك هو المانع لصاحب الجواهر قدس‌سره من إجراء استصحاب الحياة في ذلك.

ويمكن الجواب : بأنّ الميتة ما مات قبل وضع اليد عليه ، فتجري حينئذ أصالة عدم وضع اليد عليه حتّى مات ، وهو قاضٍ بحرمته وبكونه ميتة ، وتعارضها أصالة عدم موته قبل وضع اليد ، وهو وإن لم يثبت الحلّية ، إلاّ أنّ كونه طارداً لموضوع الحرمة ـ أعني الميتة ـ كافٍ في التعارض الموجب للتساقط.

ولكن هذا كلّه مبني على كون التذكية اسماً للسبب ، أمّا لو قلنا بأنّها اسم للمسبّب كما هو المختار ، فلا محيص عن الحكم بحرمته حتّى في الصورة الأُولى

٢٢٨

أعني فرض التعارض بين الأصلين المذكورين ، إذ بعد تعارضهما لا يكون المرجع هو قاعدة الحل ، بل يكون المرجع هو ما عرفت من أصالة عدم التذكية بمعنى المسبّب ، وحينئذ يشكل الأمر فيما ورد من حلّية السمكة التي تخرج في جوف سمكة أُخرى مع فرض كونها حين الخروج ميتة ، اللهمّ إلاّ أن نلتزم بأنّه على خلاف القاعدة فيقتصر على مورده ، وهو السمكة في جوف أُخرى ، دون مطلق ما شكّ في تأخره وتقدّمه من الموت والإخراج ، فتأمّل.

نعم ، لو اكتفينا في الحلّية بأصالة بقائه حياً إلى أن أُخرج ... الخ ، لم يعارضه أصالة عدم إخراجه إلى أن مات ، القاضي بموته في الماء ، لأنّ إخراج السمكة الكبيرة التي فيها السمكة الصغيرة معلوم التاريخ ، فلا يجري فيه استصحاب العدم ، والمجهول التاريخ إنّما هو موت الصغيرة ، وهل كان قبل إخراج الكبيرة أو كان بعد إخراجها ، فيجري في موتها استصحاب العدم إلى ما بعد إخراج الكبيرة ، وعلى تقدير الاكتفاء به يكون حاكماً بالحلّية ، وموجباً لسقوط أصالة عدم التذكية ويمكن حمل الخبرين على ذلك ، فلاحظ وتأمّل.

ولعلّ هذا هو الوجه فيما عن الشيخ في النهاية (١) من أنّه لو وجدت سمكة في جوف حية أُكلت إن لم تكن تسلّخت ، ولو تسلّخت لم تحل. والتفصيل بين السلخ وعدمه لرواية أيّوب المستفاد منها التحرّز عن التسمّم.

ثمّ إنّ رواية أيّوب عن الصادق عليه‌السلام ، قال « قلت له : جعلت فداك ، ما تقول في حية ابتلعت سمكة ثمّ طرحتها وهي حية تضطرب ، آكلها؟ قال عليه‌السلام : إن كانت فلوسها قد تسلّخت فلا تأكلها ، وإن لم تكن تسلّخت فكلها » (٢) وبواسطة أنّ طرح

__________________

(١) النهاية : ٥٧٦.

(٢) وسائل الشيعة ٢٤ : ١٤٥ / أبواب الأطعمة المحرّمة ب ١٥ ح ١.

٢٢٩

الحية لها وهي تضطرب لا نحتاج في حلّيتها إلى استصحاب الحياة المذكور ، بل لا نحتاج إلى قذف الحية ، ولا إلى قبضها بعد القذف وإن أفاده في الشرائع (١).

والغرض من هذا كلّه هو أنّ تاريخ الخروج والاخراج عند كونه معلوماً ، لا يكون الجاري إلاّ استصحاب حياة السمكة إلى ما بعد الإخراج القاضي بحلّيتها.

قوله : ولا يجري استصحاب الحرمة الثابتة للحيوان في حال حياته ، فإنّ للحياة دخلاً عرفاً في موضوع الحرمة ، ولا أقل من الشكّ ، فلا مجال للاستصحاب والطهارة ... الخ (٢) ـ (٣).

ربما يناقش في ذلك بدعوى الاتّحاد بنظر العرف. ولكن قد عرفت مراراً أنّ الدعوى على العرف لا خاصم لها ، وما العرف إلاّنفس المدّعي ، وإلاّ فأي شخص قد ادّعى على العرف دعوى بعد السؤال منهم ، ومن هُم المسؤولون ، بل ليس العرف إلاّنفس ذلك المدّعي بما أنّه منهم.

ثمّ إنّه يظهر الأثر فيما لو علمنا بأنّ هذا الحيوان قابل للتذكية وقد تحقّقت تذكيته ، لكن يحصل الشكّ في حلّية أكله من جهة الشبهة الحكمية أو من جهة الشبهة الموضوعية ، فلا إشكال في طهارته عند الذبح ، ولكن هل يحلّ أكله

__________________

(١) شرائع الإسلام ٣ : ١٩٨.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٣٨٧.

(٣) وقال قدس‌سره فيما حرّرته عنه : ولا يمكن أن يوجّه القول بحرمة الأكل والطهارة بدعوى استصحاب حرمة الأكل الثابتة حال الحياة واستصحاب الطهارة أو قاعدتها ، فإنّ الحيوان وإن كان حين الحياة محرّم الأكل إلاّ أنّ هذه الحرمة مقيّدة بحال الحياة من جهة مناسبة الحكم والموضوع ، أو من جهة ما يستفاد من أدلّة التذكية بالذبح من أنّه موجب لخروج ما فيه من الدم المحرّم الذي كان قوام حياته ، وهذا بخلاف الطهارة فإنّ الظاهر أنّها لا ... [ في الأصل سِقط ] لذات الحيوان ، إلى آخر ما أفاده قدس‌سره [ منه قدس‌سره ].

٢٣٠

استناداً إلى قاعدة الحل ، أو أنّه لا يحل أكله استناداً إلى استصحاب الحرمة الثابتة له في حال حياته ، فيبنى الكلام في إجراء الاستصحاب على عدم اختلاف في الموضوع ، ويدّعى الوحدة قياساً على نجاسة الكلب بعد موته ، إذ لا مانع من استصحاب نجاسته في حياته ، فكأنّ شاكّاً يشكّ في بقاء النجاسة الحياتية إذا انضمّ إليها نجاسة الموت ، وقياساً على استصحاب جملة من أحكام الزوجية بعد موت الزوج أو الزوجة (١).

ولا يخفى أنّ هذه الجملة إنّما تثبت بالنصّ ، وإلاّ لكان مقتضاه ثبوت جميع الأحكام إلاّما أخرجه الدليل مثل جواز تزويج زوجة الميت بغيره ، ولا أظنّ الالتزام به. ولا يقاس على مسألة نجاسة الماء المتغيّر ، لأنّ الظاهر أنّ العرف يرون التغيّر علّة ، هذا (٢).

ولكن ما المراد من هذه الحرمة التي كانت في حال الحياة ، فهل المراد حرمة ما يقطع منه ، فلا ريب أنّه ميتة ، أو المراد حرمة ابتلاعه حياً لو كان صغيراً كفرخ العصفور ، فهذه يصعب إقامة الدليل عليها ، حيث إنّ ما لم يذكّ وإن كان حراماً لكنّه من جهة كونه ميتة ، فلا دخل لذلك بما إذا كان عدم التذكية مقروناً بالحياة ، وهو وإن مات بعد وصوله إلى الجوف ، إلاّ أنّه حينئذ لا ينطبق الأكل على بقائه فيه ، وكذلك لو مات بعد إدخاله إلى الفم لكن قبل الابتلاع والازدراد ، فإنّه حينئذ ميتة لا يجوز ابتلاعه ، ونحن وإن ناقشنا في حرمة ابتلاع السمك حياً ، إلاّ أنّ

__________________

(١) وينبغي مراجعة تحرير السيّد سلّمه الله عن شيخنا ص ١٩٦ [ أجود التقريرات ٣ : ٣٤١ ـ ٣٤٢. منه قدس‌سره ].

(٢) وينبغي هنا مراجعة المستمسك ج ١ ص ١٣٤ [ مستمسك العروة الوثقى ١ : ٢٨٨ ـ ٢٨٩. منه قدس‌سره ].

٢٣١

تلك المناقشة إنّما نشأت من الدليل الدالّ على اعتبار الموت خارج الماء في تذكيته ، وهذه المناقشة جارية في تذكية الذبح من جهة اعتبار موته بالذبح على وجه يكون خروج روحه مستنداً إلى الذبح ، وهذه كلّها لا دخل لها بما نحن فعلاً بصدده من عدم الدليل على حرمة ابتلاعه حياً ، إذ الحرمة مختصّة بالميتة ، وهذا الحيوان الحي الذي نريد ابتلاعه ليس بميتة ، فأيّ دليل يدلّ على حرمة ابتلاعه حياً ، هذا كلّه فيما يمكن أكله حياً بابتلاعه كصغير الحيوان.

أمّا الكبير الذي لا يمكن ابتلاعه إلاّبعد تقطيعه وحين التقطيع يكون ميتة ، فهو خارج عن هذه الدعوى ، أعني حرمة أكله حياً ، وإن شئت فقل : إنّه خارج عن قابلية الأكل ، فلا يتّصف أكله بحلّية ولا بحرمة ، لعدم إمكان موضوع كلّ منهما فيه ، فأين حرمة أكله في حال الحياة حتّى يجري استصحابها بعد الذبح ، هذا.

ولكن الذي يظهر منهم أنّ حرمة الحيوان الحي مفروغ عنه ، وأنّه لا يباح أكله إلاّبالموت بالتذكية. قال الشهيد قدس‌سره في الدروس في السمك : ويباح أكله حياً لصدق الذكاة ، وقيل : لا يباح أكله حتّى يموت كباقي ما يذكّى (١).

وقال في اللمعة والروضة : ويجوز أكله حياً لكونه مذكّى باخراجه ، من غير اعتبار موته بعد ذلك ، بخلاف غيره من الحيوان ، فإنّ تذكيته مشروطة بموته بالذبح أو النحر أو ما في حكمهما. وقيل : لا يباح أكله حتّى يموت كباقي ما يذكّى ، ومن ثمّ لو رجع إلى الماء بعد إخراجه فمات فيه لم يحل ، فلو كان مجرّد إخراجه كافياً لما حرم بعده. ويمكن خروج هذا الفرد بالنصّ عليه ، وقد علّل فيه بأنّه « مات فيما فيه حياته » (٢) فيبقى ما دلّ على أنّ ذكاته إخراجه خالياً عن

__________________

(١) الدروس الشرعية ٢ : ٤٠٩.

(٢) وسائل الشيعة ٢٤ : ٧٩ / أبواب الذبائح ب ٣٣ ح ٢ و ٦ ( مع اختلاف يسير ).

٢٣٢

المعارض (١).

قلت : والأولى أن يقال : إنّ اشتراط الموت خارج الماء إنّما هو في قبال موته فيه ، لا في قبال بقائه حياً وابتلاعه حياً فلاحظ ، هذا.

ولكن الذي يظهر من الشيخ قدس‌سره في الرسائل في هذا المقام أنّ الحرمة المستصحبة هي حرمة القطعة المأخوذة من الحي ، لا حرمة نفس الحي ، فإنّه قال ما هذا لفظه : وإن كان الوجه فيه أصالة حرمة لحمه قبل التذكية ، ففيه : أنّ الحرمة قبل التذكية لأجل كونه من الميتة ، فإذا فرض إثبات جواز تذكيته خرج عن الميتة ، فيحتاج حرمته إلى موضوع آخر الخ (٢) ، حيث إنّ ما يكون منه ميتة قبل التذكية إنّما هو القطعة المأخوذة منه لا الحيوان الحي ، ومن الواضح أنّ موضوع هذه الحرمة غير باقٍ بعد التذكية.

إلاّ أن يقال : لو أشرنا إلى قطعة لحم من هذا الحيوان أمكننا أن نقول : إنّ هذه كانت حراماً قبل الذبح فهي بعده حرام أيضاً ، فتعود المسألة إلى النزاع في نظر العرف. وعلى كلّ حال ، لا يكون هذا الاستصحاب مبنياً على كون الحيوان الحي حراماً ، نظير ما يقال في حرمة أكل السمك حياً.

ولعلّ ما أفاده شيخنا قدس‌سره من منع الاستصحاب المذكور لأجل عدم بقاء الموضوع ، وما أُفيد في الجواب عنه بدعوى الاتّحاد عرفاً ، ناظر إلى هذا المستفاد من كلام الشيخ قدس‌سره من كون الحرمة المستصحبة هي حرمة القطعة ، لا حرمة نفس الحيوان كي يتطرّق الجواب عنه بأنّه لا أصل لهذه الحرمة ، فلاحظ وتدبّر.

لكن الذي يظهر من بعض المحشّين أنّهم حملوا كلام الشيخ على أنّ

__________________

(١) الروضة البهية ٧ : ٢٤٥ ـ ٢٤٦.

(٢) فرائد الأُصول ٢ : ١١٠.

٢٣٣

المستصحب هو الحرمة الثابتة للحيوان الحي لأنّه غير مذكّى ، وكلّ ما هو غير مذكّى حرام.

قال المرحوم الميرزا موسى في أثناء كلامه : وثانيها مع تسليم قابليته للتذكية الثابتة بالعمومات ، ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله أيضاً من استصحاب الطهارة والحرمة الثابتتين قبل الذبح ، لوضوح عدم منافاة قابليته للتذكية للحرمة كالسباع ، وقد ذكر هذا الوجه بعض محشّي الروضة.

ويرد عليه أوّلاً : ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله من أنّ الطهارة والحرمة قبل التذكية قائمتان بالميتة ، يعني بغير المذكى ، لأنّها عبارة عن غير المذكّى ، وبعدها بالمذكّى ، فانسحابهما إلى ما بعدها انسحاب لحكم موضوع إلى موضوع آخر.

وبعبارة أُخرى : أنّ موضوع المستصحب في الحالة السابقة هي الميتة ، وفي زمان إثبات الحكم هو المذكّى ، والعلم ببقاء الموضوع شرط في جريان الاستصحاب ، فهو لا يجري مع الشكّ فيه فضلاً عن العلم بتغيّره (١).

وقال المرحوم غلام رضا ، قوله : وإن كان الوجه فيه أصالة حرمة ... ، أقول : وذلك بأن يقال : إنّ الميتة بدليل الاستثناء أعني قوله تعالى : ( إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ )(٢) عبارة عن كلّ ما لم يذكّ شرعاً ولو كان حياً (٣) ، هذا.

وعلى ذلك يمكن أن يقال : إنّ حرمة القطعة المأخوذة في الحي إنّما هي باعتبار كونها جزءاً ممّا لم يذكّ ، لا أنّها بنفسها ميتة. وفيه تأمّل ، إذ لو كان الأمر كذلك لم يكن وجه للحكم بنجاستها ، إذ أنّ مجرّد كونها جزءاً من الحي الذي لم

__________________

(١) أوثق الوسائل : ٢٨٦.

(٢) المائدة ٥ : ٣.

(٣) قلائد الفرائد ١ : ٣٨٥.

٢٣٤

يذكّ ، لا يوجب الحكم بنجاستها ، فحيث قد حكموا مع حرمتها بنجاستها ، دلّ ذلك على أنّها بنفسها ميتة ، لا أنّها جزء ممّا لم يذكّ.

وحينئذ إمّا أن نقول إنّ كلّ ما لم يذكّ هو ميتة ولو كان حياً ، ولا يخفى غرابته ، أو نقول إنّ المستفاد من الأدلّة هو تعليق الحلّية على التذكية ، فكلّ ما لم يذكّ حرام الأكل وإن لم يكن ميتة بل كان حياً ، وهذا يحتاج إلى دليل قوي ، أو نقول إنّ التذكية وعدمها متقابلان عند خروج الروح ، ولازمه هو كون الحي حلال الأكل ، غير أنّه قد خرجت القطعة المأخوذة منه بالدليل الدالّ على أنّها بحكم الميتة ، ولو لانعدام الحياة في نفس تلك القطعة ، ولو تمّ هذا أعني كون انعدام الحياة في نفس القطعة المأخوذة منه بغير التذكية موجب لكونها بنفسها ميتة ، لأمكن القول بأنّ حرمتها ونجاستها لا تحتاج إلى الدليل الخاصّ ، فلاحظ.

قوله : وفي هذا القسم من التكاليف لا يتصوّر تحقّق الشبهة الموضوعية ... الخ (١).

قال السيّد سلّمه الله فيما حرّره عنه قدس‌سره : فكلّما شكّ المكلّف في الخارج في تحقّق متعلّق التكليف فيرجع شكّه إلى الشكّ في الامتثال بعد العلم بالاشتغال ، ومقتضى حكم العقل في مثله هو الاشتغال ليس إلاّ الخ (٢).

ولعلّه يريد بذلك موارد الشكّ في وجود المأمور به ، كأن يؤمر بالسجود مثلاً ويحصل له الشكّ في أنّه أتى به أم لا ، لكنّه لم يذكر في هذا القسم إلاّكون ذلك الفعل محرّماً ، ولم يذكر فيه ما هو مورد الوجوب.

أمّا موارد الشكّ في المحصّل فهي أجنبية عن الشبهات الموضوعية ، وذلك

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٣٩١ ـ ٣٩٢.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٣٤٧.

٢٣٥

كما لو أُمر بالوضوء وقلنا إنّه اسم للحاصل من الأفعال ، وهو المعبّر عنه بالطهارة من الحدث ، وحصل الشكّ في مدخلية المضمضة مثلاً في ذلك ، فإنّ المرجع فيه هو الاشتغال.

وأمّا لو كانت الشبهة في ذلك تحريمية كما لو نُهي عن تعظيم الكافر ، وحصل [ الشكّ ] في أنّ التعظيم هل يحصل بالقيام المجرّد أو لابدّ معه من لبس العمامة ، فالمرجع فيه هو أصالة البراءة ، للشكّ في حصول المنهي عنه بالقيام المجرّد ، كما أنّه عند كونه مأموراً به يحصل الشكّ في حصول ذلك المأمور به بالقيام المجرّد. نعم لو كان الترك المطلوب بالنهي متولّداً من فعل اختياري ، لكان المرجع فيه هو الاحتياط ، كما أشار إليه شيخنا قدس‌سره في اللباس المشكوك (١) ، لكن في كون مسألة الشكّ في المحصّل من الشبهات الموضوعية أو كونه من الشبهات الحكمية محل تأمّل أيضاً ، لأنّ ميزان الشبهة الموضوعية هو جهالة الحال في محلّ الابتلاء ، كمثل هذا المائع المشكوك كونه خمراً ، ومحلّ الابتلاء فيما ذكر معلوم الحال غير مستور ، وهو كونه قياماً بلا عمامة ، وإنّما وقع الشكّ في جهة خارجية وهي جهة كونه محصّلاً للتعظيم ، فالذي ينبغي هو عدّ هذه الشبهة قسماً آخر غير الشبهات الحكمية والشبهات المفهومية والشبهات الموضوعية ، وإن كان الذي يظهر من شيخنا قدس‌سره في مسألة [ اللباس ] المشكوك عدّها في الشبهات الموضوعية كما سيأتي في العبارة التي ننقلها عنه.

ويمكن أن يمثّل للشبهة الموضوعية في الشبهات التحريمية ممّا لا يكون له تعلّق بموضوع خارجي ، بمورد الشكّ في مستثنيات حرمة الكذب مثلاً على نحو الشبهة الموضوعية ، كما إذا سألك أحد الظلمة هل عندك زيد ، وأنت تحتمل

__________________

(١) سيأتي البحث عنه في هذه الحاشية.

٢٣٦

أنّه يريد حبسه مثلاً ، كما تحتمل أنّه يريد الإحسان إليه ، فهل هذا من موارد حرمة الكذب أو من موارد جوازه لكونه من قبيل دفع الضرر. اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ احتمال الضرر كافٍ في تجويز الكذب. مضافاً إلى أنّ منشأ الشكّ فيه هو جهة تعلّقه بالشخص السائل.

وقد يمثّل لذلك بما لو قلنا بأنّ المحرّم من الغيبة ما يكون كاشفاً عند السامع ، وأنّ ما يكون السامع عالماً به لا يكون ذكره من قبيل الغيبة ، فلو شككنا في علم السامع بما نريد ذكر زيد فيه عنده ، يكون من قبيل الشبهة الموضوعية ، ولكن هل المرجع فيه هو البراءة أو الاحتياط؟ لكن لو قلنا بالاحتياط أو بالبراءة في مثل ذلك ، كان أيضاً خارجاً عمّا نحن فيه من الشبهات الموضوعية من الأفعال المحرّمة التي ليس لها تعلّق بموضوع خارجي ، لأنّ المفروض أنّ متعلّق الحرمة هو ذكر الشخص بصفة عند من لا يعرف فيه تلك الصفة ، فهو أيضاً متعلّق بموضوع خارجي ، وهو كون الذكر عند سامع غير عارف بتلك الصفة ، مع إمكان القول بأنّه من قبيل المحقّق والمحصّل ، فإنّ المنهي عنه هو كشف العيب ، والذكر يكون محصّلاً لذلك الكشف ومحقّقاً له ، ومع الشكّ في علم السامع يحصل الشكّ في تحقّق ذلك العنوان البسيط ، فإن كان المطلوب هو حفظ عورة المؤمن كان حكمه حكم ما سيأتي من مفاد الموجبة المعدولة المحمول ، وإن [ كان ] المطلوب هو مجرّد ترك الكشف ، كان المرجع فيه هو البراءة.

ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمّل فيما أورده الأُستاذ شيخنا العراقي قدس‌سره في مقالته من أوّل الأُمور التي وجّهها على شيخنا قدس‌سره بقوله : منها ما في جعله التكاليف التحريمية إلخ (١) ، فإنّك قد عرفت أنّ شيخنا قدس‌سره قد صرّح بعدم تصوّر الشبهة

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٢١٩.

٢٣٧

الموضوعية في هذا النحو من التكاليف. وأمّا ما في تحريرات السيّد سلّمه الله فقد عرفت أنّ النظر فيه إلى أصل وجود المأمور به ، كأن يؤمر بالسجود مثلاً ويشكّ في أنّه أتى به أم لا. ومنه يظهر لك التأمّل في إيراده الثاني. أمّا الثالث فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى (١).

والحاصل : أنّ الايراد الأوّل إنّما يتوجّه على ما أُفيد عن شيخنا قدس‌سره لو فرض إمكان تحقّق الشبهة الموضوعية في هذا القسم من التكاليف التي لا يكون لمتعلّقها تعلّق بموضوع ، وفرض أنّ شيخنا قدس‌سره قائل بأنّ المرجع في ذلك إلى الاحتياط ، سواء في ذلك الشبهات التحريمية والايجابية ، وقد عرفت التصريح عن شيخنا قدس‌سره في هذا التحرير أنّها لا يتصوّر فيها الشبهة الموضوعية ، وقد صرّح هو قدس‌سره بذلك وبيّن الوجه فيه في رسالته في اللباس [ المشكوك ] فراجع فإنّه قال : وبعد العلم باجتماعها ( يعني اجتماع الشرائط في المكلّف ) فإن كان العنوان المتعلّق للتكليف من المقدور بلا واسطة والصادر بنفسه ، امتنعت الشبهة المصداقية فيه حال صدوره الارادي بعد تبيّن مفهومه ، إذ يستحيل أن يشكّ من أراد شيئاً عند إرادته له في هوية ما أراده ، وإنّما يعقل الشكّ في العنوان الاختياري حال صدوره إذا كان من المسبّبات التوليدية المقدورة بتوسّط أسبابها واشتبه السبب المحصّل له ، وواضح أنّه متى رجعت الشبهة المصداقية إلى مرحلة المحصّل كان مرجعها إلى الشكّ في الامتثال ، وجودياً كان العنوان المتعلّق أو عدمياً ، حتّى فيما إذا كان المحصّل شرعياً أيضاً وتردّد بين الأقل والأكثر ، ولعلّنا نتعرّض لذلك في المحل المناسب له إن شاء الله تعالى.

نعم ، في القسم الأوّل يمكن أن يتطرّق الشبهة المصداقية بعد الفراغ عنه ،

__________________

(١) في الصفحة : ٢٤٩.

٢٣٨

لكن حيث ( إنّه ) لا أثر لهذه الشبهة في المحرّمات أصلاً ولا في الواجبات أيضاً في غير ما يوجب القضاء والاعادة ، فقاعدة الفراغ حاكمة على أصالة الاشتغال في هذا القسم ( يعني ما يوجب القضاء والاعادة ) ولا يندرج ما عداه لا في مجاري الاشتغال ولا البراءة (١).

والشبهة في المحصّل وإن قلنا بأنّها قسم آخر خارج عن الشبهات الموضوعية والمفهومية كما عرفت ، إلاّ أنّه ليس المراد به ما تقدّم مثاله فيما لو نُهي عن تعظيم الكافر ، وشكّ في أنّ القيام له بلا عمامة محصّل لذلك المنهي عنه أعني التعظيم ، ليتوجّه عليه ما عرفت من كون المرجع في ذلك هو البراءة ، ولو من جهة الشكّ في كون ذلك القيام علّة تامّة لما هو المحرّم أعني التعظيم ، بل المراد هو كون المطلوب المسبّب عن فعل اختياري أمراً وجودياً مثل تعظيم العالم المسبّب عن القيام له ، أو كان أمراً عدمياً مثل إزالة النجاسة عن هذه الأعيان وإعدام قذارتها المتولّد ذلك العدم من غسلها بالماء مثلاً ، فإنّه لو شكّ في أنّ المحصّل لذلك المطلوب العدمي هو الغسل ولو مرّة واحدة ، أو أنّه لا يحصل إلاّبالغسل مرّات متعدّدة ، فهذه الصورة وإن تسامحنا وسمّيناها شبهة مصداقية ، إلاّ أنّه لا ينبغي الريب في كون المرجع فيها هو أصالة الاشتغال ، بخلاف الصورة السابقة ، للفرق الواضح بين كون المتولّد من فعل اختياري مطلوب العدم كما مثّلنا من تعظيم الكافر ، أو كون المطلوب هو نفس الأمر العدمي المتولّد من فعل اختياري ، والأوّل يمكن الرجوع فيه إلى البراءة عند الشكّ في محقّقه ، فتجري البراءة في ذلك القيام بلا عمامة ، بخلاف الثاني فإنّه عند الشكّ في فعل أنّه يترتّب عليه ذلك العدم المطلوب ، فإنّ المرجع فيه هو أصالة الاشتغال ، و[ هذا هو ] مراد شيخنا قدس‌سره

__________________

(١) رسالة الصلاة في المشكوك : ٢٠٢ ـ ٢٠٤.

٢٣٩

كما هو صريح قوله قدس‌سره : وجودياً كان العنوان المتعلّق أو عدمياً الخ. ولعلّ نسبة القول إليه قدس‌سره بالقول بالاحتياط في الشبهة المصداقية التحريمية ، ناش عن أنّ مراده بهذه الجملة هو الأوّل ، وقد عرفت أنّ صريحها هو الثاني.

وأمّا الإشكال الثاني ، فحاصله هو أنّه لا فرق في الرجوع إلى البراءة في الشبهات المصداقية بين ما هو متعلّق بموضوع خارجي مثل لا تشرب الخمر ، أو ما ليس له تعلّق بموضوع خارجي مثل لا تغنِّ ، فإنّ تخصيص الرجوع إلى البراءة في خصوص الأوّل بلا مخصّص ، بل إنّها كما تجري في الشبهة المصداقية في مثل لا تشرب الخمر ، فكذلك تجري في الشبهة المصداقية في مثل لا تغنّ.

ولا يخفى أنّ هذا إنّما يتمّ لو تمّ الإيراد الأوّل من إمكان تحقّق الشبهة المصداقية ، وكون شيخنا قدس‌سره قائلاً بأنّ المرجع في تلك الشبهة هو الاحتياط ، وقد عرفت الخدشة في كلا الأمرين.

وأمّا ما أشار إليه بقوله في هذا الايراد الثاني : فضلاً عمّا أوردنا عليه في بحث مقدّمة الواجب من أنّ باب التكاليف طرّاً خارجة عن مصبّ القضايا الحقيقية (١) ، فإن كان المراد بالتكاليف التكاليف المتعلّقة بموضوع خارجي مثل أكرم العالم ولا تكرم الفاسق ، ففيه أنّ كون ذلك من قبيل القضايا الحقيقية بالنسبة إلى العالم والفاسق غير قابل للانكار ، لأنّها بمنزلة قولك كلّ عالم يجب إكرامه وكلّ فاسق يحرم إكرامه ، ومن الواضح كون هذه القضايا وأمثالها من القضايا الحقيقية. وإن كان المراد بالتكاليف التكاليف التي ليس لها تعلّق بموضوع خارجي مثل قولك لا تغنّ ، فمن الواضح أنّه ليس من قبيل القضايا الحقيقية بالنسبة إلى نفس ذلك الفعل أعني الغناء ، بل هو من قبيل الحكم الوارد على الطبيعة ، إمّا بنحو

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٢١٩.

٢٤٠