جواهر الكلام - ج ٢

الشيخ محمّد حسن النّجفي

أنه نقل عن المجلسي في وجيزته وأبي الحسن في بلغته أنه ممدوح ، وفي السند من أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه ، فلا يقدح ضعف من بعدهم على وجه ، على انا في غنية عن ذلك ، لانجبار السند بما سمعت كانجبار الدلالة ، إذ الأصحاب لم يقتصروا على الثلج ، بل أطلقوا الضرورة ، وكأنهم فهموا منه أنه مثال ، وبذلك كله يقيد ما دل على النهي (١) عن المسح على الخف ، وأنه لا رخصة في المسح عليه ، فما في المدارك ـ من أن أبا الورد مجهول ، والانتقال إلى التيمم والحال هذه محتمل ، لتعذر الوضوء المتحقق بتعذر جزئه ، والمسألة محل تردد ـ لا يخفى عليك ما فيه ، على أنك قد عرفت من تتبع كثير من أدلة هذا الباب أنه لا يسقط الوضوء بتعذر شي‌ء من الأجزاء كما عرفته في الأقطع وغيره ، بل ربما يظهر أن ذلك قاعدة في كل ما يستفاد وجوبه من الأمر ونحوه ، لتقييده بالقدرة قطعا حينئذ ، فتخص بذلك قاعدة سقوط الكل بتعذر الجزء ، على أن شمول أدلة التيمم لمثل المقام ممنوع ، لا أقل من الشك ، ولا ريب أن الترجيح لما نحن فيه من الإجماع وغيره ، فتأمل جيدا. نعم قد يقال بإيجاب الجمع بينهما مع الغض عن الترجيح بما ذكرنا من الأدلة.

ثم قد عرفت أن كلمة الأصحاب مطلقة في الضرورة ، بل هي معقد ما سمعت من الإجماع الذي لا ينافيه قول البعض عقيب لفظ ( لضرورة ) كالبرد وشبهه ، لظهور إرادته من ذلك التمثيل لا لاقتصار على هذا المصنف من الضرورة ، فحينئذ ينبغي القول بالاكتفاء بالمسح على الخف مخافة عدو دنيوي أو ضيق وقت أو نحو ذلك ، بل لعل قوله عليه‌السلام في الرواية : ( إلا من عدو ) يشمل الدين والدنيا ، فيكون الأول من قسم التقية ، والثاني من الضرورة ، وإن كان العمدة في تعميم مسمى الضرورة إطلاق معقد الإجماع المنقول ، وإلا فاستفادة ذلك من النص في غاية الاشكال ، ولذا كان الاحتياط بالتيمم مع الوضوء في غير الضرورة التي اشتمل عليها النص متجها.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٨ ـ من أبواب الوضوء.

٢٤١

وإذا زال السبب المسوغ للمسح على الخف بعد أن وجد قطعا أعاد الطهارة على قول اختاره في المعتبر والمنتهى وعن المبسوط والتذكرة والإيضاح وبعض متأخري المتأخرين ، وهو ظاهر كشف اللثام. وقيل : لا تجب إلا لحدث واختاره في المختلف والذكرى والدروس وجامع المقاصد والمدارك والمنظومة كما عن الجامع والروض ، بل ربما قيل انه المشهور ، وفي التحرير في الإعادة نظر ، وفي القواعد إشكال ، وكيف كان فالأقوى في النظر الثاني ، لكونه مأمورا بذلك ، والأمر يقتضي الاجزاء ، ولاستصحاب الصحة ، ولما دل (١) على أن‌ « الوضوء لا ينقضه إلا حدث » وارتفاع الضرورة ليس منه ، ولأنه حيث ينوي بوضوئه رفع الحدث يجب حصوله لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) : ( لكل امرئ ما نوى ).

وما يقال : إن الضرورة تقدر بقدرها فيه أنه إن أريد عدم جواز الطهارة كذلك بعد زوال الضرورة فحق ، وإن أريد به عدم إباحتها فلا ، لأن المقدر هي لا إباحتها ، وهو محل النزاع ، وكذا ما يقال : إنا نمنع حصول رفع الحدث بالوضوءات الاضطرارية ، وانما هي مجرد إباحة ، كوضوء المسلوس والمبطون ونحوهما ، فيقتصر في الإباحة على التيقن ، وهو ما دامت الضرورة موجودة. إذ فيه ( أولا ) أن الظاهر مخالفته الإجماع ، وإلا لوجب اقتصار المضطر بالنسبة إلى كل ما يشترط فيه الوضوء من مس كتابة القرآن وغيره على ما يرتفع به الضرورة ، فلا يجوز لذي الجبيرة أن يمس مثلا كتابة القرآن مع الاختيار ونحو ذلك. فان قيل : ان البدلية سوغت ذلك ، قلنا : مقتضاها أيضا أن لا ينقض إلا بحدث وهو المطلوب ، لا يقال : إنه ليس بأولى من بدلية التراب عن الماء ، بل هي أقوى مما هنا بمراتب ، ومع ذلك متى وجد الماء وجب الوضوء. لأنا نقول انه قياس لا نقول به ، فان الفارق بينهما الدليل ، ومن وجوده هناك علم أن التيمم مبيح لا رافع ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب مقدمة العبادات ـ حديث ١٠.

٢٤٢

واحتمال القول هناك أنه رافع إلى أن يوجد الماء ضعيف لا يلتفت اليه. و ( ثانيا ) أن المقتضي لرفع الوضوء الحدث مع مسح البشرة من قوله : « لا ينقض الوضوء إلا حدث » ونحوه موجود هنا ، لمكان وجود الأمر في كل من المقامين ، ومجرد كون الثاني في مقام خاص هو الضرورة لا يصلح للفرق ، لأنه بمنزلة أن يقول : امسح في وضوئك مثلا على البشرة إلا في هذا المقام فامسح على الخف ، فهو في الحقيقة تكليف أولى واقعي بالنسبة إلى هذا الموضوع مع ملاحظة وصف الضرورة مشخصا له. لا يقال : انا لا نسلم دخول مثل ذلك تحت مسمى الوضوء حتى يكون مشمولا للأدلة. لأنا نقول : انه لا إشكال في كونه مشمولا للفظ الوضوء ، إذ هو من قبيل المتواطى بالنسبة إلى سائر أفراده ، بل وضوء المسلوس والمبطون وضوء حقيقة ، إذ لم يؤخذ في ماهية الوضوء شرعا مباشرة البشرة مطلقا قطعا ، وإلا لجرى ذلك في جميع مسميات أسماء العبادات ، وهو معلوم الفساد. وما يقال ـ : ان اقتضاء الأمر الاجزاء معناه الخروج به عن عهدة الأمر المتعلق به ، وهو هنا اقتضاه ، انما الكلام في وجوب وضوء آخر ليس هو بإعادة للأول حتى يكون منافيا للاجزاء ـ فيه ـ مع أن ذلك هدم لتلك القاعدة ـ أنه كيف يتصور وجوب وضوء على المتوضي مع تصريح الأدلة بعدم وجوبه عليه.

وما يقال ـ : إن دليل الإعادة الآية (١) لاقتضائها وجوب الوضوء عند كل صلاة خرج ما خرج وبقي الباقي ـ فيه ( أولا ) أنه منقوض بما إذا توضى‌ء لصلاة خاصة وضوء المضطر ثم قبل فعلها زالت الضرورة. و ( ثانيا ) قد عرفت سابقا نقل الإجماع على أن المراد بقوله عز وجل ( إِذا قُمْتُمْ ) أي وأنتم محدثون ، أو من النوم لا مطلقا ، على أن عمومها ليس عموما وضعيا يصلح لشمول المقام ، بل هو منصرف إلى الأفراد المتعارفة ، وما يقال ـ : ان العمل بقاعدة الاجزاء على الوجه الذي ذكرت ينافي قاعدة واقعية الشرائط وغيرها من القواعد فينبغي الحكم بصحة صلاة من زعم الطهارة أو الوقت أو نحو ذلك ـ فيه أنه‌

__________________

(١) سورة المائدة ـ الآية ٨.

٢٤٣

فرق ظاهر بين الأمر الحقيقي واقعا لكنه في مقام خاص كما نحن فيه وبين تخيل وجود الأمر ، كجهل الموضوع وجهل الحكم حيث يكون معذورا وان اشتبه فيه بعض الأعلام وحكم بالصحة مع الجهل حيث يكون معذورا ولو جاء بصورة مضادة لصورة الصلاة ، وهو عجيب. وما يقال ـ : إنه في المقام قد تعارض أصالة الصحة مع أصالة بقاء يقين اشتغال الذمة بالمشروط بالطهارة ، لعدم ثبوت أزيد من الاستباحة من الخبر المجوز له للضرورة ، وهي تتقدر بقدرها ـ فيه أنك قد عرفت أن الصحة فيما نحن فيه مستفادة من ظاهر الأدلة ، فلا يعارضها أصالة بقاء الشغل ، وبعد التسليم فاستصحاب الصحة قاطع لأصالة الشغل ، لأنه في الحقيقة استصحاب لمقطوعيته ، فتأمل جيدا.

ومن العجيب ما عن الفخر رحمه‌الله في توجيه الاستئناف ، قال بعد أن ذكر احتمالي رفع الحدث بهذا الوضوء وعدمه : « والأقوى عندي وجوب الاستئناف على كل حال ، لأن صورة الفعل مقصودة ، لان القصد ليس رفع الحدث وحكمه خاصة ، بل نفس الفعل أيضا ، والضرورة أسقطته » انتهى. وهو عجيب لم يسبقه إليه أحد ولا لحقه ، وفساده واضح ، كما أنه في المقام كلام لبعض المتأخرين في المناقشة بجريان الاستصحاب وغيره خال عن التحصيل ، ومما ذكرنا تعرف وجه الاستدلال للأول بل تعرف تسرية الكلام في غير المقام ، ومما يؤيد ما اخترناه اتفاقهم على ما قيل ان من غسل رجليه عوض المسح للتقية ثم ارتفعت لم يجب إعادة الوضوء ، وهما من واد واحد ، قال في جامع المقاصد في شرح قول العلامة في القواعد : ( ولا يجزي الغسل عنه إلا للتقية ) ما لفظه : « ولا يجب الإعادة بزوالها قولا واحدا فيما أظنه » انتهى. واحتمال الفرق بين المقام وبين الغسل للتقية ـ مع أنه من بعض ما نحن فيه المسح على الخف للتقية ـ بعيد ، لكن قد يظهر من العلامة في المنتهى الفرق بينهما ، حيث حكم بوجوب الاستئناف في المقام مع زوال الضرورة بخلافه مع الغسل للتقية ، ولعله لأنه فهم من الأدلة كون التقية تكليفا واقعيا ، بخلاف غيره فإنه عذري ، وكأنه إنما فرق بين التقية أي تقية المسح‌

٢٤٤

على الخف وتقيته لأن الأولى جوازها لكونها من أفراد الضرورة بخلاف الثانية ، والذي يظهر من غيره بل منه أيضا في التذكرة عدم فرقه بين الغسل للتقية والمسح على الخف في وجوب الإعادة مع الزوال ، بل يظهر من غيره عدم الفرق بين المقام وغيره من ذوي الأعذار ، وهو كذلك ، ومما يؤيد المختار أيضا ما تقدم منا سابقا من عدم اشتراط تعذر المندوحة في التقية.

ثم اعلم أنه لا فرق بناء على ما ذكرنا بين زوال الضرورة بعد تمام المسح على الخفين بمدة بحيث حصل الجفاف وتعذرت الموالاة لو مسح على البشرة وبين زوالها قبل فواتها وبين زوالها بعد مسح إحدى الرجلين أو غير ذلك ، كله قضاء لما سمعت من الأدلة ، نعم يتجه التفصيل في ذلك على المذهب الآخر من أنه إن زالت الضرورة وأمكن المسح على البشرة مع بقاء الموالاة اكتفى بالمسح ، وإلا أعاد الوضوء ، هذا. وقد نص جماعة كالمصنف والعلامة والشهيد وغيره على إلحاق مسح الرأس بالرجلين ، فيجزي على الحائل مع الضرورة ، بل عن شارح الدروس نسبته إلى الأصحاب ، كما في الحدائق أن ظاهر الأصحاب الاتفاق على جواز المسح على الحائل في الرأس والرجلين للضرورة كالتقية والبرد الشديد ، بل قد سمعت سابقا أن جماعة حملوا‌ صحيح محمد بن مسلم عن الصادق عليه‌السلام (١) « في الرجل يحلق رأسه ثم يطليه بالحناء ويتوضأ للصلاة فقال : لا بأس بأن يمسح رأسه والحناء عليه » وصحيح عمر بن يزيد (٢) قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يخضب رأسه بالحناء ثم يبدو له في الوضوء ، قال : يمسح فوق الحناء » على الضرورة كالتداوي ونحوه ، ومقتضاه كون ذلك مسلما ، بل الظاهر أنه كذلك وإن احتمل بعض المتأخرين الانتقال الى التيمم ، مع أنه لا وجه له حيث تكون الضرورة تقية لعموم أدلتها ، بل تقدم لك من الأدلة ما يظهر لك الحكم في غيرها ، بل قد يفهم من فحوى أدلة وضوء الجبائر تعميم الحكم لما نحن فيه كما ستسمعها إن شاء الله ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٧ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٧ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٣.

٢٤٥

بل الظاهر أن الحائل في المغسول والممسوح إذا كان اختياريا وعسر قلعه كالقير ونحوه ينتقل إلى غسله والمسح عليه ، ولا ينتقل إلى التيمم ، بل قد عرفت أنه يمكن جعل ذلك قاعدة في كل ما استفيد وجوبه من أمر لتقييده بالقدرة ، كما أنه قد سمعت في وضوء الأقطع ما يفيدك في المقام ، وكذا خبر المرارة ، بل ونحو‌ قوله (ع) : « لا يسقط الميسور بالمعسور » على إشكال فيه ، ولا يخفى عليك جريان كثير مما ذكرنا في الأغسال ونحوها ، والاحتياط بالجمع بين الوضوء والتيمم في الجميع حسن ، ولذا قال المصنف في المقام : والأحوط الأول أي إعادة الوضوء عند زوال الضرورة ، وأحوط منه نقضه بحدث ثم الوضوء ، خروجا من شبهة احتمال الجزم برفع الوضوء الحدث ، فتأمل.

( مسائل ثمان‌ )

( الأولى ) الترتيب واجب في الوضوء إجماعا محصلا ومنقولا مستفيضا كاد يكون متواترا كالسنة ، بل قيل يدل عليه في الجملة أيضا الكتاب قضاء للفاء في قوله تعالى (١) : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ) ويتم بضم عدم القول بالفصل ، لكن لا يخلو من نظر ، والمراد به غسل تمام الوجه بما يسمى غسلا عرفا قبل غسل جزء من اليد اليمنى وغسل اليد اليسرى بعدهما أي بعد تمام غسل الوجه واليمنى ومسح الرأس ثالثا على حسب ما ذكر ، لعدم عده غسل اليمنى مستقلا ومسح الرجلين أخيرا ولا ترتيب فيهما على الأقوى كما عرفت.

فلو خالف بأن قدم المؤخر أو أخر المقدم أو غسلهما معا دفعة أو غير ذلك أعاد الوضوء من رأس عمدا كان أو نسيانا لكون الترتيب ركنا في الوضوء على ما يستفاد من أدلة إيجابه إن كان قد جف ما على الأعضاء من ماء الوضوء وأما إن كان البلل باقيا أعاد على ما يحصل معه الترتيب بإعادة غسل اليمنى فقط فيما إذا‌

__________________

(١) سورة المائدة ـ الآية ٨.

٢٤٦

غسلها مع الوجه دفعة ، أو غسلهما مقدما لليمنى عليه ، أو بإعادة غسل اليسرى فقط فيما إذا ابتدأ بغسل الوجه ثم غسل اليدين دفعة أو مقدما لليسرى ، فإنه يحصل بإعادتها فحسب ، وهكذا ، ولو غسل الوجه واليدين دفعة حصل له الوجه فقط ، فلو أعاد هذا الدفعي ثانيا حصلت له اليمنى ، ولو أعاده ثالثة حصلت له اليسرى : وكذا المسح ، ولو نكس الوضوء من آخره إلى أوله لم يحصل له إلا غسل الوجه ، ولو فعل ذلك مرة ثانية حصلت اليد اليمنى ، وثالثة يحصل اليسرى ، ورابعة يحصل مسح الرأس ، وخامسة مسح الرجلين ، وحيث نوجب الترتيب فيهما يتم بالسادسة ، نعم يحصل الاشكال من جهة المسح بماء جديد ، فلو كرر النكس بالمسح فقط من بعد حصول اليسرى صح وضوؤه ، ولا يشكل صحة الوضوء في صورة النكس وغيره بعدم حصول النية عند غسل الوجه ، أما أو لا فلابتنائه على كون النية الاخطار ، وثانيا فلأنه يكفي في تصوير الصحة حيث تحصل النية عند غسل الوجه أو غسل اليدين بناء على جواز تقديمها ، ولا يقدح وجود الفاصل بأجنبي لتحقق الامتثال ، فيخرج عن العهدة ، ولو ارتمس ناويا صح الوجه ، فإن أخرج اليدين مرتبا صحتا ، ولو أخرجهما معا فاليمنى إذا قصد بالإخراج الغسل ، ولو كان في جار وتعاقبت الجريات ناويا صحت الثلاثة ، بل في الذكرى الأقرب أن هذه النية كافية في الواقف أيضا ، لحصول مسمى الغسل مع الترتيب الحكمي ، ويمسح بماء الأولى ، وهو متجه فيما تتعاقب فيه أزمنة النية مع حصول التحريك الذي يحصل به مسمى الغسل ، وإلا فمجرد الترتيب في النية لا يكفي ، لعدم صدق الامتثال ، وحمله على الغسل على تقدير القول به هناك قياس لا نقول به ، وأيضا فآنات المكث ليست غسلا ، فلو فرض اتحاد وضعهما في الماء مع نية الغسل لليمنى لم يصلح بعد نية غسل اليسرى ، إذ ليس هو إلا مكثا لا غسلا غير الغسل الأول ، وما يقال : ان السيد إذا قال لعبده : اغسل يدك وكانت يده في الماء لم يحتج إلى إخراجها في صدق الامتثال ممنوع ، مع أن العرف أكمل شاهد على عدم صدق غسل اليمنى قبل اليسرى في الفرض ، ثم‌

٢٤٧

ان قوله يمسح بماء الأولى ظاهر في أنه يكتفى باليد الواحدة للرأس والرجلين ، وانه لا يشترط في صدق المسح بنداوة الوضوء بالنسبة لليد اليمنى ، وكلاهما محل للإشكال فتأمل.

لكن ربما يستدل على الاجتزاء بالترتيب الحكمي بخبر علي بن جعفر (١) عن أخيه موسى عليهما‌السلام قال : « سألته عن الرجل لا يكون على وضوء فيصيبه المطر حتى يبتل رأسه ولحيته وجسده ويداه ورجلاه هل يجزؤه ذلك من الوضوء؟ قال : إن غسله فان ذلك يجزئه » ‌وفيه أن ظاهره مخالف لوجوب الترتيب في الوضوء ، وصرفه إلى الترتيب الحكمي ليس بأولى من صرفه إلى إرادة الترتيب الحقيقي ، ويكون قوله عليه‌السلام : ( إن غسله ) على مقتضى ترتيب الوضوء ، بل يحتمل أن يجعل الفاعل الشخص ، أي فان دلكه بعد انصباب المطر أجزأه ، وأيضا هو مناف لما دل على تجفيف الممسوح ، لعدم الأمر به فيه ، على أن الترتيب الحكمي بالنسبة إلى المكث انما هو باعتبار تعدد آنات المكث ، وهو غير متجه هنا ، لأنه بحسب النية صرفا ، وكأنه لا يقول به رحمه‌الله.

ثم ان ما ذكرناه من حصول الترتيب بإعادة غسل ما حقه التأخير من غير حاجة الى إعادة غسل السابق هو الذي صرح به المصنف والعلامة والشهيد وغيرهم من المتأخرين ، بل لا أجد فيه خلافا ، لصدق امتثال ما دل على الترتيب والبدأة ونحوهما بذلك ، ولما رواه‌ ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلا من كتاب النوادر لأحمد بن محمد بن أبي نصر في الموثق بعبد الكريم عن ابن أبي يعفور (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا بدأت بيسارك قبل يمينك ومسحت رأسك ورجليك ثم استيقنت بعد أنك بدأت بها غسلت يسارك ثم مسحت رأسك ورجليك » وما في‌ خبر منصور بن حازم عن أبي‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١٤.

٢٤٨

عبد الله عليه‌السلام (١) في حديث تقديم السعي على الطواف قال : « ألا ترى انك إذا غسلت شمالك قبل يمينك كان عليك أن تعيد على شمالك » لكن‌ في الفقيه ( روي ) (٢) « في من بدأ بغسل يساره قبل يمينه أنه يعيد على يمينه ثم بعيد على يساره » وقد‌ روي (٣) « أنه يعيد على يساره » ) انتهى. ولعل المراد أنه إن ذكر قبل غسل يمينه غسل يمينه ثم غسل يساره ، وإن ذكر بعد غسل يمينه لم يكن عليه سوى غسل يساره ، وهو أولى من الجمع بالتخيير وإن كان ربما ظهر من عدم ترجيح الفقيه ، وعليه حينئذ ينزل ما في‌ صحيح زرارة (٤) قال : « سئل أحدهما عليهما‌السلام عن رجل بدأ بيده قبل وجهه ، وبرجليه قبل يديه ، قال : يبدأ بما بدأ الله به ، وليعد ما كان » وصحيح منصور ابن حازم عن الصادق عليه‌السلام (٥) « في الرجل يتوضأ فيبدأ بالشمال قبل اليمين ، قال : يغسل اليمين ويعيد اليسار » وخبر أبي بصير عنه عليه‌السلام (٦) أيضا قال : « إن نسيت فغسلت ذراعيك قبل وجهك فأعد غسل وجهك ثم اغسل ذراعيك بعد الوجه ، فإن بدأت بذراعك الأيسر قبل الأيمن فأعد غسل الأيمن ثم اغسل اليسار » والمروي عن قرب الاسناد عن‌ علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما‌السلام (٧) قال : « سألته عن رجل توضأ فغسل يساره قبل يمينه كيف يصنع؟ قال عليه‌السلام : يعيد الوضوء من حيث أخطأ يغسل يمينه ثم يساره ثم يمسح رأسه ورجليه » فيراد فيها جميعا أنه ذكر قبل غسل اليمين مثلا ، وإن كان لو لا ظهور عدم المخالف في هذا الحكم لأمكنت المناقشة فيه أخذا بإطلاق ما سمعت من الأخبار ، سيما مع اشتمالها على لفظ الإعادة التي كادت تكون كالصريح في حصول الغسل لهما معا ، وإلا لم يصدق لفظ الإعادة ، وظهور الخبر الأخير في وقوع الذكر بعد التمام ، وسيما مع عدم صراحة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١٠.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٢.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٨.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١٥.

٢٤٩

المروي في السرائر ، بل وصلاحيته أيضا بنفسه للحكم عليها كمرسل الفقيه. مع معارضته بمثله ، على أنه قد يمنع صدق اسم البدأة في نحو المقام ، وكون غسل اليسار فاسدا مثلا لا يمنع من أن يفسد غيره أيضا لكونه سببا حينئذ في عدم صدق البدأة حينئذ باليمين ، خصوصا فيما سمعت من صور النكس أول المبحث ، وأيضا كما هو ينهى عن تقديم ما حقه التأخير كذلك ينهى عن تأخير ما حقه التقديم ، على أن ما ذكروه من صور النكس انما هي صور تخريجية لا تصلح الأدلة لشمولها ، وقد يجي‌ء نحو ما ذكروه بالنسبة إلى العضو نفسه حيث نوجب فيه الابتداء بالأعلى ، فمن غسل وجهه منكوسا ثم أعاده كذلك صح وضوؤه ، لحصول غسل الأعلى بالأعلى وما بعده بالثاني ، إلا إذا قصد التشريع ، فإنه يفسد ، وكذا فيما تقدم من الترتيب في الأعضاء ، لكن التأمل يقضي ببعده وعدم صدق الامتثال معه.

ثم ان ما ذكره المصنف من التفصيل بين الجفاف وعدمه من غير فرق بين العمد والنسيان هو الظاهر من المعتبر والمنتهى والقواعد وغيرها من كتب المتأخرين ، ووجهه واضح ، لبقاء الموالاة في الأول دونه في الثاني ، لكن الذي يظهر من العلامة في التحرير أن التفصيل في صورة النسيان ، وإلا ففي العمد يجب إعادة الوضوء من رأس جف أو لم يجف ، وكان وجهه ما تعرف من مذهبه في الموالاة انها المتابعة مع الاختيار ، ومراعاة الجفاف مع الاضطرار ، نعم ما حكي عنه في التذكرة من عكس ذلك لا أعرف وجهه ، ولا ينافي المختار ما في بعض الأخبار (١) من إطلاق الإعادة عند مخالفة الترتيب ، إذ هو محمول على صورة الجفاف أو على عدم حصول جزء صحيح أو غير ذلك جمعا بين الأدلة ، والمراد ببقاء البلل المذكور في العبارة بلل غسل جزء صحيح ، وإلا فلا يثمر بقاء البلل على الجزء الذي حقه التأخير ، كما هو واضح.

ولا فرق في ظاهر كلمات الأصحاب في مخالفة الترتيب بين تقديم ما حقه التأخير‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب الوضوء.

٢٥٠

وبين ترك غسل العضو من رأس في أنه يجري عليه التفصيل المتقدم ، فان كانت رطوبة باقية أعاد المنسي وما بعده ، وإلا استأنف الوضوء ، وبه نطقت الأخبار ، ففي‌ حسنة الحلبي عن الصادق عليه‌السلام (١) « إذا نسي الرجل أن يغسل يمينه فغسل شماله ومسح رأسه ورجليه وذكر بعد ذلك غسل يمينه وشماله ومسح رأسه ورجليه ، » وإن كان ظاهره النسيان خاصة ولم يفصل بين الجفاف وعدمه إلا أنه يجب تنزيله على ذلك ، لمكان غيره من الأدلة وما تسمعه من أدلة الموالاة ، وكذا لا فرق في جميع ما تقدم بالنسبة إلى مخالفة الترتيب بين تمام العضو وبعضه فمن ترك شيئا من الوجه مثلا وجب عليه إعادته وما بعده إن لم يجف الوضوء ، وإلا استأنف ، وما عن ابن الجنيد انه إذا كان المنسي لمعة دون سعة الدرهم كفى بلها من غير إعادة على ما بعد ذلك العضو لم نقف له على دليل يعتد به ، بل قد يظهر عن بعضهم دعوى الإجماع على خلافه ، وما نقله هو من أنه روى توقيت الدرهم ابن سعيد عن زرارة عن أبي جعفر (ع) وابن منصور عن زيد بن علي ومنه حديث أبي أمامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم نتحققه ، فلا يجوز هدم تلك القواعد وتخصيص تلك الأدلة بنحو هذه المراسيل ، كما لا يجوز ذلك لما رواه‌ الصدوق (٢) عن الكاظم عليه‌السلام ، ونحوه عن كتاب عيون الأخبار مسندا إلى الرضا عليه‌السلام (٣) « انه سئل عن الرجل يبقى من وجهه إذا توضأ موضع لم يصبه الماء ، فقال : يجزؤه أن يبله من جسده » لعدم وضوح دلالته على ما قاله ابن الجنيد ، ومناف بظاهره لما عليه الأصحاب ، فتنزيله على إرادة أنه يبله من جسده ثم يعيد على ما بعده إذا ذكر ذلك قبل غسل اليدين وإن بعد أولى من هدم تلك القواعد وتخصيص الأخبار الكثيرة ، واحتمال كون الصدوق عاملا به لعدم رده ولا تأويله لا يصيره صالحا لذلك ، والله أعلم.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٩.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١.

٢٥١

المسألة ( الثانية ) الموالاة واجبة في الجملة وجوبا شرطيا إجماعا محصلا ومنقولا وان اختلف في المراد منها ، فقيل انها هي أن يغسل كل عضو قبل أن يجف ما تقدمه ولا يجب غير ذلك لا شرطا ولا شرعا ، كما هو خيرة الجمل والعقود والمراسم وموضع من السرائر وإشارة السبق والنافع واللمعة والدروس والذكرى والألفية وجامع المقاصد والروضة والمدارك وغيرها من كتب متأخري المتأخرين وعن ابن الجنيد والمرتضى في شرح الرسالة وظاهر ابن البراج في المهذب والكامل وابن حمزة في الوسيلة وأبي الصلاح وابن زهرة والكيدري ، وهو الأشهر كما في الروضة ، والمشهور كما في غيرها ، بل قد يظهر من الذكرى انحصار الخلاف في المفيد ، لموافقة الشيخ للأصحاب في الجمل ، قال : « ولو حمل قول المفيد : ( ولا يجوز ) على الكراهة انعقد الإجماع ».

وقيل : بل هي المتابعة بين الأعضاء مع الاختيار بأن يغسل كل عضو بعد سابقه من غير فاصلة يعتد بها عرفا ومراعاة الجفاف مع الاضطرار كنفاد الماء ونحوه ، كما هو خيرة المقنعة والخلاف وعن النهاية والمبسوط وعن موضع آخر من السرائر ، قال : « والموالاة ان يوالي بين الأعضاء من غير تراخ ، فيصل غسل اليدين بغسل الوجه ومسح الرجلين بمسح الرأس ، وليتعمد أن يكون فراغه من مسح رجليه وعلى أعضائه المغسولة والممسوحة نداوة الماء ، ومن فرق وضوءه لعذر أو باختياره وجب عليه الاستئناف للوضوء من أوله أو من حيث جف ، وإن كان التفريق لم يجف معه ما تقدم وصل من حيث قطع » ولعل مراده بقوله : ( من غير تراخ ) حصول الجفاف ، فلا يكون منافاة بينه وبين ما في الموضع الأول منها ، وظاهر الكتب الثلاثة الأول كصريح المبسوط البطلان مع الإخلال بها في الاختيار ، وتحتمل أيضا الوجوب الشرعي مع الشرطي ، لقوله في المقنعة : ( ولا يجوز التفريق بين الوضوء ) وفي الخلاف « عندنا أن الموالاة واجبة وهي أن تتابع بين أعضاء الطهارة ولا يفرق بينها إلا لعذر » الى آخره وعن النهاية ما نصه « والموالاة واجبة أيضا في الطهارة ، ولا يجوز تبعضها إلا لعذر » كما في المبسوط « والموالاة‌

٢٥٢

واجبة في الوضوء ، وهي أن يتابع بين الأعضاء مع الاختيار ، فان خالف لم يجزه » الى آخره. لكنه بعيد ، لظهور إرادة الوجوب الشرطي في مثل هذه المقامات كما في غيرها من الشرائط والأجزاء ، والذي اختاره المصنف في المعتبر والعلامة في المنتهى والتحرير والمختلف بل عنه في سائر كتبه إيجاب المتابعة شرعا لا شرطا ، فمن أخل بها مع الاختيار أثم ، ووضوؤه صحيح ما لم يحصل الجفاف ، وقد يحتمله بعض عبارات القدماء ، وبذلك تكون الأقوال ثلاثة ، لكن يظهر من المحقق الثاني إنكار ذلك زاعما أنه لم يقل أحد بالبطلان للمتابعة ، فلم يبق معنى لوجوبها سوى التعبد الشرعي ، ويؤيده ما في التنقيح من أنه « اتفق الكل على أنه لو أخر ولم يجف ما تقدم لم يبطل وضوؤه ، بل فائدة الخلاف تظهر بالإثم وعدمه » انتهى. إلا أنك قد عرفت من صريح المبسوط كظاهر غيره البطلان ، ويؤيده أن من نقل هذا القول كالمصنف وابن إدريس وغيرهما فهم منه إرادة ذلك ، نعم انما ذلك أي الوجوب الشرعي فقط اختيار في المسألة ، بل أول من صرح به المصنف في المعتبر ، وتبعه عليه العلامة ، مع أن أدلتهما عليه تقضي بالوجوب الشرطي كما ستعرف إن شاء الله ، فدعوى اتفاق الجميع على ذلك في غاية الغرابة ، والظاهر أن مرادهم بالوجوب الشرعي أنه لو جاء بوضوء غير متابع فيه يأثم ، لا أنه يأثم وإن ترك الوضوء من رأس أو أفسده بحدث ونحوه ، فظهر من ذلك كله أن الأقوال في المسألة ثلاثة.

بل قد يظهر من بعض المتأخرين وجود قول رابع ، وهو ما يظهر من الصدوقين من أن الواجب في الوضوء أحد أمرين ، مراعاة الجفاف أو المتابعة ، قال في الفقيه : « قال أبي في رسالته إلى : ان فرغت من بعض وضوئك وانقطع بك الماء من قبل أن تتمه فأتيت بالماء فتمم وضوءك إذا كان ما غسلته رطبا ، وإن كان جف فأعد وضوءك ، وان جف بعض وضوئك قبل أن تتم الوضوء من غير أن ينقطع عنك الماء فاغسل ما بقي جف وضوؤك أو لم يجف » انتهى. بل اختاره بعض متأخري المتأخرين ، وقواه آخر ،

٢٥٣

وفيه أنه لا صراحة في العبارة بذلك ، سيما بعد قوله رحمه‌الله : ( وان جف بعض وضوئك ) إذ قد يكون مراده أن جفاف البعض لا يقدح في الصحة ، نعم قد يظهر منه اختصاص البطلان بالجفاف للتفريق من جهة نفاد الماء خاصة ، بل قد يقال : ان ما استظهروه منه من أن الواجب أحد أمرين إما المتابعة أو مراعاة الجفاف ليس مخالفا لأصحاب القول بأن الموالاة مراعاة الجفاف ، لظهور أن مرادهم بالجفاف المبطل انما هو الحاصل بالتفريق حتى يجف.

قال في الجمل والعقود : « الموالاة إن تو الى بين غسل الأعضاء ، ولا تؤخر بعضها عن بعض بمقدار ما يجف ما تقدم » وقال في موضع من السرائر : « حد الموالاة المعتبر عندنا على الصحيح من أقوال أصحابنا المحصلين هو أن لا يجف غسل العضو المتقدم في الهواء المعتدل ، ولا يجوز التفريق بين الوضوء بمقدار ما يجف غسل العضو الذي انتهى اليه وقطع الموالاة منه في الهواء المعتدل » وقال في إشارة السبق بعد أن ذكر الفساد بمخالفة الترتيب : « وكذلك ان لم يتابع بعضه ببعض بحيث يجف غسل عضو قبل موالاته بغسل العضو الآخر » وقال في الوسيلة : « هي ان يوالي بين غسل الأعضاء ، ولا يؤخر بعضها عن بعض بمقدار ما يجف ما تقدم » وقال الكيدري على ما في الذكرى في سياق الواجب : « وأن لا يؤخر غسل عضو الى أن يجف ما تقدم مع اعتدال الهواء » وقال أبو الصلاح في الكافي : « هي أن يصل توضأة الأعضاء بعضها ببعض ، فان جعل بينها مهلة حتى جف الأول بطل الوضوء » وعن ابن زهرة « انها هي أن لا يؤخر بعض الأعضاء عن بعض بمقدار ما يجف ما تقدم في الهواء المعتدل » وقال في الكامل على ما في الذكرى : « وهي متابعة بعض الأعضاء ببعض ، فلا يؤخر المؤخر عما يتقدم بمقدار ما يجف المتقدم في الزمان المعتدل » إلى غير ذلك من عباراتهم الظاهرة في أن المراد بالموالاة مقدار للزمان لا خصوص بقاء البلل ، فيكون الجميع حينئذ قائلين بالصحة في الصورة التي تخيل انفراد الصدوقين بها ، وهي ما إذا تابع في وضوئه واتفق حصول جفاف ولو اختياري‌

٢٥٤

لكنه لم يمض زمان بحيث لو بقي لجف. وما في بعض العبارات كالمراسم ونحوها من ظهور أن المراد بالموالاة بقاء بلل حسي لا تقدير للزمان منزلة على ما عرفت من تلك العبارات ، بل يظهر للمتأمل في كلماتهم دعوى الإجماع عليه ، وما في بعض عبارات بعض متأخري المتأخرين من الإجماع على البطلان مع الجفاف مما ينافي بإطلاق ما سمعت يراد به الجفاف المذكور في كلام الأصحاب ، وقد عرفت أنه عبارة عن مقدار الجفاف ، وإلا كان هذا الإجماع مما تبين خطأه ، فلا يكون معتبرا.

لا يقال : إنه لا معنى حينئذ لاستثناء ضرورة الحر أو الحرارة كما وقع في كلام جملة من أصحابنا ، إذ بناء على أن المراد بالموالاة تقدير زماني لا بلل حسي لا يتفاوت الحال بين الحر وغيره. لأنا نقول : إن الواقع في كلام القدماء من أصحابنا التقيد بالزمان المعتدل والهواء المعتدل ونحو ذلك ، وهو لا منافاة فيه ، بل يؤكد ارادة تقدير الزمان ، ولا استثناء في كلامهم حتى يسقط اعتبار شرطية الموالاة في شدة الحر ونحوها ، وإلا لو كان المراد سقوط شرطية الموالاة في شدة الحر والحرارة لقضي بجواز التفريق مدة مديدة ما لم يتخلل حدث بالأثناء ، إذ لا مراعاة للجفاف حينئذ ، وهو معلوم البطلان.

لا يقال : إنه لو كان المراد التقدير الزماني لما اكتفى الشهيد في الذكرى ومن تأخر عنه ببقاء البلل في الهواء الرطب جدا أو المكان كذلك ولو مدة مديدة ، فإنه إذا كان المدار على التقدير الزماني بالنسبة للزمان المعتدل كما ينبئ عنه تقييدهم بالزمان المعتدل ونحوه لم يكن لذلك وجه. لأنا نقول : إنه قد يكون فهم من تقييد الأصحاب بالاعتدال بالنسبة للجفاف بشدة الحر لا لبقاء الرطوبة ، وهو أمر آخر غير ما نحن فيه ، على أنه لا يخلو من نظر كما ستسمع إن شاء الله.

وكيف كان فالأقوى في النظر هو القول الأول في الموالاة ، وهو يشتمل على دعويين ، الأولى حصول البطلان بالجفاف على حسب ما تقدم ، والثانية عدم البطلان والإثم بغيره.

٢٥٥

أما ( الأولى ) فيدل عليها ـ مضافا الى استصحاب حكم الحدث واستدعاء الشغل اليقيني البراءة كذلك ـ الإجماع محصلا ومنقولا على لسان جملة من الأساطين من المتقدمين والمتأخرين ، وخصوص‌ صحيحة معاوية بن عمار (١) قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ربما توضأت فنفد الماء فدعوت الجارية فأبطأت علي بالماء فيجف وضوئي قال : أعد » وموثقة أبي بصير عن الصادق عليه‌السلام (٢) أيضا قال : « إذا توضأت بعض وضوئك فعرضت لك حاجة حتى يبس وضوؤك فأعد وضوءك ، فان الوضوء لا يبعض » وإذا ثبت ذلك مع الضرورة فبدونها بطريق أولى ، بل ربما استدل عليه بما دل على إعادة الوضوء عند نسيان مسح الرأس والرجلين إذا لم يبق شي‌ء من نداوة الوضوء ، إلا أنه لا يخلو من نظر ، إذ لعله لعدم جواز المسح بماء جديد ، ولكن فيما تقدم كفاية ، ولا ينافيه ما رواه‌ الشيخ عن حريز (٣) بل عن مدينة العلم إسناده الى أبي عبد الله عليه‌السلام في الوضوء ، قال : « قلت : فان جف الأول قبل أن أغسل الذي يليه قال : جف أو لم يجف اغسل ما بقي ، قلت : وكذلك غسل الجنابة ، قال : هو بتلك المنزلة ، وابدأ بالرأس ثم أفض على سائر جسدك ، قلت : وان كان بعض يوم ، قال : نعم » إذ قد يكون المراد منه مع المحافظة على زمان الموالاة في الأول ، أو تحمل على التقية ، أو يراد مع بقاء بلل على العضو السابق ، أو غير ذلك ، فتأمل جيدا.

وأما الدعوى ( الثانية ) فهي موقوفة على ذكر أدلة المخالف وإفسادها ، ومنه يتضح الحال ، فنقول : أقصى ما يستدل به على شرطية المتابعة مع الاختيار ـ مضافا الى قاعدة الشك والوضوء البياني ـ حسنة زرارة بإبراهيم بن هاشم (٤) قال : « قال‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٤.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣٤ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١.

٢٥٦

أبو جعفر عليه‌السلام : تابع بين الوضوء كما قال الله عز وجل ابدأ بالوجه ثم باليدين » الى آخره. والحسن الآخر كذلك‌ عن الصادق عليه‌السلام (١) في حديث قال : « اتبع وضوءك بعضه بعضا » والتعليل المتقدم في‌ موثقة أبي بصير (٢) بان « الوضوء لا يبعض » وكون الأمر بالغسل والمسح للفور ، واقتضاء الفاء في قوله تعالى (٣) ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) التعقيب بلا مهلة ، والأمر بإعادة غسل الوجه عند مخالفة الترتيب في خبري زرارة وأبي بصير (٤) المتقدمين في بحث الترتيب ، إذ لو لا وجوب المتابعة لما حكم بوجوب إعادة غسل الوجه ، وإجماع الخلاف.

وفي ( الأول ) بعد تسليم أن ما شك في شرطيته شرط انه لا شك في خصوص المقام لا طلاق الكتاب والسنة ، مع قلة القائل صريحا بالشرطية ، بل قد عرفت أن المحقق الثاني أنكره ، والمقداد ادعى الاتفاق على عدم البطلان ، كما أن ( الثاني ) بعد تسليم حجيته لا دلالة فيه على إيجاب المتابعة ، إذ لعل الاتصال الواقع في فعله كان لأجل إرادة بيان تمام الوضوء في تلك الساعة للمخاطب ، ولذا لم يحك عنه الراوي أنه والى في وضوئه وإلا لوجب أن يضبط مقدار الزمان الذي وقع فيه ، بل و ( الثالث ) لظهور أن المراد بالمتابعة فيه الترتيب ، كما يشعر به قوله (ع) : ( كما ) الى آخره ، بل ربما قيل انه صريح فيه ، مع أنه يكفي فيه الاحتمال ، بل قد يقال بقرينة الأخبار الأخر المنجبرة بفتوى المشهور يراد المتابعة فيه الفعل قبل حصول الجفاف ، كما يظهر من تفسيرها بذلك في بعض كلمات الأصحاب ، وبما ذكرنا تعرف المناقشة في ( الرابع ) على أن ظهور مثل هذا الأمر في الشرطية ما لم ينجبر بفتوى الأصحاب محل نظر ، وكيف والأصحاب على خلافه ، لما عرفت من قلة القائل بها صريحا ، وكذا ( الخامس ) إذ الظاهر أن المراد بالتبعيض الجفاف ، وإلا لو أريد به مطلق التفريق لما قيد ( حتى يبس وضوؤك ) الظاهر في أنه إن لم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٢.

(٣) سورة المائدة ـ الآية ٨.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١ و ٨.

٢٥٧

ييبس صح ولا تبعيض فيه ، على أنه يجري ذلك في صورة الاضطرار مع الاتفاق على أن الموالاة فيها مراعاة الجفاف ، وأما ( السادس ) فالتحقيق عدم اقتضاء الأمر للفور ، وعلى تقديره هنا فهو لا يفيد الشرطية ، ومن العجيب دعوى بعضهم الإجماع على إرادة الفورية في خصوص المقام ، مع ما عرفت من أن المشهور بين الأصحاب مراعاة الجفاف ، وان أريد بالفورية ما يشمل مثل ذلك فهو مسلم ، إذ لا قائل بجواز التراخي الى آخره ، بل أقصاه مراعاة الجفاف ، فمع فرض أنه لا ينافيها عرفا لا وجه للاستدلال به حينئذ ، على أن إرادة الفورية بمعنى الإيجاب الشرعي ممنوعة ، لأنه وإن سلمنا أن مراعاة الجفاف لا ينافيها لكن ذلك انما هو على سبيل الشرطية صحة في الوضوء لا الوجوب الشرعي ، نعم يتحقق الوجوب عند ضيق الوقت من جهة تضيق الأمر بالوضوء ، فتأمل. وفي ( السابع ) أن الفاء هنا هي الرابطة التي لا قضاء للتعقيب فيها ، بل ذلك في العاطفة ، وإلا لاقتضى وجوب الفورية بمجرد إرادة القيام والتهيؤ للصلاة ، ولم يقل به أحد ، بل قد يرشد إلى عدم إرادة الفورية فيها بمعنى المتابعة عطف قوله تعالى ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً ) عليه ، إذ لا شك في عدم اعتبار الموالاة فيه ، وأما ( الثامن ) فهو ـ مع احتمال الأمر فيه بالإعادة لمكان الجفاف ، أو لعدم غسل الوجه ، وإطلاق لفظ الإعادة حينئذ من جهة الجزء الآخر ، ومع أنه وارد في صورة النسيان ، وعندهم أنه من الضرورة ـ معارض بغيره مما دل (١) على إعادة غسل اليد اليسرى فقط ان كان قد غسلهما ، وب‌ قول الصادق عليه‌السلام (٢) في صحيح منصور بن حازم المتقدم سابقا في من توضأ وبدأ بالشمال قبل اليمين : « يغسل اليمين ويعيد اليسار » لشموله العامد والناسي ، مع ما فيه من ترك المتابعة ، وأما ( التاسع ) فالظاهر أن إجماعه ليس على ما نحن فيه ، قال في الخلاف : « عندنا أن الموالاة واجبة ، وهي أن تتابع بين أعضاء الطهارة ، ولا يفرق إلا لعذر ، ثم يعتبر الجفاف ، ثم نقل قول الشافعي ، ـ الى أن قال ـ : دليلنا أنه لا خلاف في الصحة إذا والى ، وان لم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٢.

٢٥٨

يوال فيه خلاف ، وأيضا فقد ثبت أنه مأمور بإيقاع الوضوء في كل عضو عضو ، والأمر يقتضي الفور ، وترك الموالاة ينافيه ، وعليه إجماع الفرقة » انتهى. وهو غير صريح في إرادة الإجماع على شرطية المتابعة ، على انه ان أراد ذلك كان من المتبين خطاؤه ، لما عرفت أنه كاد يكون الإجماع على خلاف ذلك.

وبما سمعت من الأدلة يستدل على القول بالوجوب التعبدي كما وقع للمصنف والعلامة ، لكن قد عرفت ما فيها ، ومن العجيب استدلالهم بها على ذلك مع قضاء بعضها الشرطية.

كما أنه من العجيب الاستدلال بها على الشرطية مع قضاء بعضها الوجوب الشرعي ، وبذلك كله يتضح لك الدعوى الثانية من المختار أنه لا إثم في ترك المتابعة ولا بطلان ، بل صحيح معاوية بن عمار (١) وموثق أبي بصير (٢) ظاهران في عدم الإثم ، وإلا لو كانت المتابعة واجبة شرعا لوجب عليه المسارعة ، لا استدعاء الجارية ولا انتظارها حتى جف وضوؤه ، وأيضا إطلاق الحاجة في موثق أبي بصير مع انه قد تكون ضرورية وقد تكون غيرها مما كاد أن يكون كالصريح في أن المدار في صحة الوضوء على مراعاة الجفاف ، وأنه لا إثم بالتأخير ولا بطلان ، وكأن سبب الوهم هنا حتى قيل بالوجوب الشرعي إطلاق لفظ الوجوب الشرعي كما في غيره من الأجزاء والشرائط ، ومن هنا يظهر لك أنه لا إثم عليه لو أخر حتى جف وان بطل وضوؤه ، كما عن الروض حكايته عنهم لما عرفت ، مع أصالة البراءة السالمة عن المعارض سوى ما يقال من النهي عن إبطال العمل ، والأخذ بإطلاقه في الأعمال المستحبة والواجبة يقضي الى مخالفة المقطوع به من الشريعة ، بل الظاهر أن ذلك مخصوص في الصلاة خاصة ، بل قد يدعى ان المراد منه النهي عن إبطال العمل بالكفر ونحوه ، وحرمة القطع في الصلاة من دليل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٢.

٢٥٩

خارجي ، ومن العجيب ما في الدروس بعد اختياره أن الموالاة مراعاة الجفاف ، قال : « ولو فرق ولم يجف فلا إثم ولا إبطال إلا أن يفحش التراخي ، فيأثم مع الاختيار » ومثله عن البيان ، ولم أعثر لغيره على ذلك ، كما أنه لا دليل عليه ، فالأقوى حينئذ ان مراعاة الجفاف شرط الصحة ، ولا إثم إلا عند ضيق الوقت وفوات الواجب بذلك كما في غيره من الشرائط والأجزاء ، ولا أعرف وجها لذكرهم ذلك هنا ولم يذكروه في غيره من الشرائط والأجزاء من الترتيب وغيره ، فان كان ظواهر الأوامر فهي في الجميع ، وان كان غير ذلك فلم نجده.

ثم انه بناء على المختار قد عرفت ان جملة من الأصحاب قيدوا ذلك بالهواء المعتدل والزمان المعتدل ونحو ذلك ، بل نسب هذا القيد في الذكرى الى الأصحاب ، وقال : « ان المقصود به إخراج طرف الإفراط بالحرارة. لا طرف الإفراط في البرودة ، فلو كان الهواء مثلا رطبا جدا أو المكان كذلك وأخر إلى وقت بحيث لو كان معتدلا لجف لم يقدح ذلك في الصحة ، لمكان وجود البلل حسا ، وكذا لو أسبغ الماء بحيث لو اعتدل لجف » ومقتضاه جواز ذلك وان طالت المدة جدا ، واستجوده جماعة ممن تأخر عنه ، وكأنه لمكان تعليق البطلان على الجفاف ، وهو لا يشمل التقديري ، ولكنه قد يشكل ذلك بأن شرط الصحة عدم الجفاف ، وهو لا يشمل التقديري ، والتمسك بالضرورة ونفي الحرج يندفع بالرجوع الى التيمم أو الاستئناف.

قلت : ينبغي ان يعلم ( أولا ) ان مراد الأصحاب بقيد الاعتدال انما هو بالنسبة الى ما مضى من الأزمنة ، وليس المراد منه الفصل المعتدل من فصول السنة ، فيدخل ما كان في شدة مربعانية الصيف تحت الاعتدال إلا ان يتفق فيها شدة حر خارج عن غالب الأزمنة ، لعدم الدليل على إرادة الاعتدال بالمعنى الثاني ، بل ترك الاستفصال في صحيحة ابن عمار وإطلاق اليبس في موثقة أبي بصير ينافيه ، إذ قد يكون ذلك في شدة الصيف ، أو في مكان غير محجوب عن هواء السموم ونحو ذلك ، ويعلم ( ثانيا )

٢٦٠