جواهر الكلام - ج ٢

الشيخ محمّد حسن النّجفي

بالظهر ، فيجزئ غسل شي‌ء منه ابتداء ، مع احتمال أن يراد الابتداء بغسل تمام الظهر كما يقضي به لفظ الظهر ، إلا إن الأول أقوى ، للصدق العرفي ، مع استبعاد حصول الغسل لتمام الظهر من دون غسل شي‌ء من الباطن ، اللهم إلا أن لا يقصد بالغسل المقارن له أنه المراد منه شرعا ، لكن عمل العلماء في سائر الأعصار والأمصار على خلافه.

ومن السنن أن يكون الوضوء بمد بلا خلاف أجده فيه ، بل حكى عليه جماعة الإجماع ، فلا إشكال في عدم وجوبه كما ينقل عن بعض العامة ، كما أنه لا إشكال في رجحانه لما عرفت ، وللأخبار المستفيضة المشتمل جملة منها على أنه كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتوضأ بمد ويغتسل بصاع ، و‌في المرسل (١) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الوضوء مد ، والغسل صاع ، وسيأتي أقوام بعدي يستقلون ذلك ، فأولئك على خلاف سنتي ، والثابت على سنتي معي في حظيرة القدس » وفي‌ خبر سليمان بن حفص المروزي (٢) قال : « قال أبو الحسن موسى بن جعفر عليهما‌السلام : الغسل بصاع من ماء ، والوضوء بمد من ماء » والمراد بالمد مائتان واثنان وتسعون درهما ونصف على الظاهر ، ونسبه في الذكرى إلى الأصحاب ، لأن المد رطل ونصف بالمدني ، فيكون رطلين وربعا بالعراقي ، والرطل العراقي مائة وثلاثون درهما على المشهور كما قيل ، وما في بعض الاخبار (٣) أن المد مائتان وثمانون درهما ، وقد أفتى به بعض القدماء كما عن الصدوق رحمه‌الله ضعيف ، كاشتمالها على كون الصاع خمسة أمداد مع أن الظاهر أنه أربعة أمداد ، ويأتي تحقيقه إن شاء الله في زكاة الفطرة ، وقال الشهيد في الذكرى : هذا المد لا يكاد يبلغه الوضوء ، فيمكن أن يدخل فيه ماء الاستنجاء ، لما تضمنته‌ رواية ابن كثير عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (٤) حيث قال : أتوضأ للصلاة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥٠ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥٠ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥٠ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٣.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١.

٣٤١

ثم ذكر الاستنجاء ، ولما في‌ خبر الحذاء (١) أنه « ووضأت الباقر عليه‌السلام بجمع ، فناولته ماءا فاستنجى ، ثم صببت على يده فغسل وجهه » إلى آخره. بل ربما يؤيده ما دل على المبالغة في قلة ماء الوضوء (٢) وإن « لله ملكا يكتب سرف الوضوء كما يكتب نقصانه » (٣) وما‌ ورد (٤) أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « ما كان وضوؤه إلا مرة مرة » وما قيل ان العامة اعترضت علينا أن الوضوء بمد ينافي ما هو عندكم من الوضوء ، إذ ليس معه غسل الرجلين وأجيب عنه بدخول ماء الاستنجاء ، إلا أن ذلك إن سلم إمكانه في الروايات فهو ممنوع بالنسبة إلى كلمات الأصحاب وإجماعاتهم. فلعل الظاهر أن المراد بهذا المد للوضوء انما هو مع سائر مستحباته حتى الإسباغ من غسل الكفين والمضمضة والاستنشاق مع تثليث كل منهما بثلاث أكف وتثنية الغسلات ، فإنه يكون حينئذ تقريبا من أربعة عشر كفا ، والمد لا يزيد على ذلك بحسب الظاهر ، إذ هو ـ كما عرفت أنه مائتان واثنان وتسعون درهما ونصف ـ عبارة عن ربع المن التبريزي كما قيل ، على أنه لا ظهور في الروايتين المتقدمتين لدخول الاستنجاء تحت اسم الوضوء ، إذ قد يكون طلب الماء للوضوء ، ثم بدا له الاستنجاء ، على أنه من كلام الراوي ، فلا يكون حجة ، بل قد يقال : ان التحديد يراعى فيه أقصى الافراد.

ثم ان الظاهر من كلام الأصحاب كون المستحب مقدار المد ، فمتى زاد أو نقص فلا أجر ، واحتمال القول بتبعيض السنة حيث يأتي بزائد على الواجب مع النقصان عن المد ضعيف ، كاحتمال الإتيان بالسنة مع الزيادة على المد ، وإن خالف في الزيادة ، ولو لا ظهور اتفاق الأصحاب على الاستحباب لأمكن القول ان المستفاد من الروايات‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٨.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥٢ ـ من أبواب الوضوء.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥٢ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٢ مع اختلاف في اللفظ.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١٠.

٣٤٢

مجرد رخصة في صرف هذا المقدار من الماء للوضوء في التعريض للرد على العامة الذي يحتاجون في وضوئهم إلى أزيد من ذلك ، للنهي عن السرف في ماء الوضوء ، والظاهر أن له صرف المد في الواجب من الوضوء حيث لا سرف عرفا ، كما إذا احتاج ذلك لشدة حر ونحوه.

ولما فرغ المصنف من ذكر المسنونات في الطهارة شرع في ذكر المكروهات ، فقال ، ويكره أن يستعين في طهارته كما في المبسوط والمعتبر والنافع والمنتهى والإرشاد والقواعد والدروس وغيرها ، بل لا أجد فيه خلافا من أحد سوى ما يظهر من صاحب المدارك من التوقف في هذا الحكم ، لمكان ضعف دليله ، وهو ضعيف مبني على أصله من عدم التسامح في أدلة السنن ، وعدم الانجبار بالشهرة ، بل في المدارك أنه المعروف بين الأصحاب ، لخبر الوشاء (١) قال : « دخلت على الرضا عليه‌السلام وبين يديه إبريق يريد أن يتهيأ للصلاة ، فدنوت منه لأصب عليه ، فأبى ذلك ، فقال : مه يا حسن ، فقلت لم تنهاني؟ أتكره أن أوجر؟ قال : تؤجر أنت وأوزر أنا ، فقلت : وكيف ذلك؟ فقال : أما سمعت الله يقول ( فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) وها أنا ذا أتوضأ للصلاة ، وهي العبادة ، فأكره أن يشركني فيها أحد » وللمرسل في الفقيه (٢) قال : « كان أمير المؤمنين عليه‌السلام إذا توضأ لم يدع أحدا يصب عليه ، فقيل يا أمير المؤمنين عليه‌السلام لم لم تدعهم يصبون عليك الماء؟ فقال : لا أحب ان أشرك في صلاتي أحدا » وقرأ الآية. والمروي‌ عن الخصال عن السكوني عن الصادق عن آبائه عليهم‌السلام (٣) قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : خصلتان لا أحب أن يشاركني فيهما أحد ، وضوئي فإنه من صلاتي ، وصدقتي فإنها من يدي إلى يد السائل ، فإنها تقع في يد الرحمن » وعن‌ إرشاد‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٧ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٧ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤٧ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٣.

٣٤٣

المفيد (١) قال : « دخل الرضا عليه‌السلام يوما والمأمون يتوضأ للصلاة والغلام يصب على يده الماء فقال : لا تشرك يا أمير المؤمنين بعبادة ربك أحدا ، فصرف المأمون الغلام وتولى تمام الوضوء بنفسه » وبهذا الخبر مع سابقيه وما في بعض الاخبار من الصب على يد الامام يظهر أن ذلك مكروه ، لعدم الأمر بالإعادة في الأخير ، وقوله عليه‌السلام : ( لا أحب ) في السابقين ، وعليه ينزل ما عساه يظهر من الحرمة في رواية الوشاء ، ولمكان اشتراكها مع غيرها في الاستدلال بالآية الظاهر مما عداها انها في رواية الوشاء ، ولمكان اشتراكها مع غيرها في الاستدلال بالآية الظاهر مما عداها انها في مقدمات الوضوء فهم الأصحاب منها أن المراد الاستعانة لا التولية المحرمة وإن استظهره منها في الحدائق وجعلها دليلا عليه كما تقدم ، وكان مراد المصنف وغيره بالاستعانة مطلق المعاونة في الوضوء سواء كان طالبا لذلك أو لا ، فلا ينافي ما ظهر من رواية الوشاء وغيره من كراهة ذلك وإن لم يكن الاستعانة من الامام عليه‌السلام ، فما يقال من الجمع بين ما دل على كراهة الاستعانة وبين ما دل على وقوعه من الامام كما في رواية الحذاء المشتملة على توضأة الباقر (ع) بحمل الاولى على طلب الإعانة ، والثانية على قبولها من دون طلب فيه ما لا يخفى ، لمنافاته لظاهر ما سمعته من الأدلة هنا ، بل الاولى حملها على إرادة بيان الجواز ونحوه.

ثم ان المدار في الكراهة على صدق اسم المعاونة عرفا ، لمكان تعليق الحكم عليها في كلام الأصحاب ، وهو كاف في تحقق الكراهة وان قلنا أنها أعم من الشركة المذكورة في الروايات ، وكيف كان فالظاهر عدم تحققهما معا بالنسبة للمقدمات البعيدة التي هي من قبيل المعدات ، فلا كراهة في إباحة أو دلالة أو تخلية أو حمل آلة أو وضع في آنية أو حملها قبل التشاغل ونحو ذلك ، نعم هي متحققة في مثل الصب في اليد ، والصب على العضو مع تولي المكلف الاجراء ورفع الثياب مثلا عن أعضاء الوضوء ورفع اليد الغاسلة أو الماسحة ونحو ذلك ، وأما مثل استدعاء الماء للوضوء ففيه وجهان ، ولعل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٧ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٤.

٣٤٤

كثرة وقوعه في الروايات يشعر بعدم الكراهة فيه ، كما لعل مثله في عدمها أيضا تسخين الماء ونحوه عند الاحتياج إليه ، والظاهر اختصاص الكراهة بالمعادن دون المعين كما ينبئ عنه‌ قوله عليه‌السلام : ( تؤجر أنت وأوزر أنا ).

ويكره أن يمسح بلل الوضوء عن أعضائه بما يصدق عليه اسم التمندل ، فيرتفع الخلاف بينه وبين التعبير به في المعتبر والمنتهى والتذكرة والقواعد والإرشاد والدروس وغيرها ، بل في الأخير وغيره نقل الشهرة عليه ، وإن لم أقف له على مستند سوى وجوه اعتبارية ، وقول الصادق عليه‌السلام في خبر محمد بن حمران المروي عن ثواب الاعمال ، وعن سلم بن الخطاب على ما في الكافي ، وعن إبراهيم ابن محمد الثقفي على ما عن محاسن البرقي ، ومرسلا كما‌ عن الفقيه (١) : « من توضأ وتمندل كتبت له حسنة ، ومن توضأ ولم يتمندل حتى يجف وضوؤه كتبت له ثلاثون حسنة » لا يدل على الكراهة ، بل أقصاه كون الترك أفضل ، ولذا عبر بذلك الشيخ في الخلاف ، بل عن سائر كتبه كما عن الوسيلة والإصباح ، ودعوى أن ترك المستحب مكروه أو أن مكروه العبادة الأقل ثوابا فيه ما لا يخفى من منع الأول كالثاني إن أريد مطلق أقلية الثواب ، على أن جعل ذلك من مكروه العبادة فيه منع ، إذ لا مانع هنا من إرادة الكراهة بمعناها الأصلي من المرجوحية ، وكونه في ماء الوضوء الذي هو عبادة لا يمنع من ذلك كما هو واضح ، ولو لا الشهرة بين الأصحاب على الكراهة لأمكن القول بعدم ذلك كما عن المرتضى في شرح الرسالة ، بل باستحباب مسح الوجه ، لما في‌ خبر إسماعيل بن الفضل (٢) قال : « رأيت أبا عبد الله عليه‌السلام توضأ للصلاة ثم مسح وجهه بأسفل قميصه ، ثم قال : يا إسماعيل افعل هكذا فاني هكذا أفعل » وما في‌ خبر منصور بن حازم (٣) قال : « رأيت أبا عبد الله عليه‌السلام وقد توضأ وهو‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٤.

٣٤٥

محرم ، ثم أخذ منديلا فمسح به وجهه » وما في‌ مرسل عبد الله بن سنان (١) قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن التمندل بعد الوضوء ، فقال : كان لعلي عليه‌السلام خرقة في المسجد ليس إلا للوجه يتمندل بها » وفي آخر (٢) « كانت لعلي عليه‌السلام خرقة يعلقها في مسجد بيته لوجهه إذا توضأ تمندل بها » وما في‌ خبر ابن سنان عن الصادق عليه‌السلام (٣) أيضا قال : « كانت لأمير المؤمنين عليه‌السلام خرقة يمسح بها وجهه إذا توضأ للصلاة ، ثم يعلقها على وتد ، ولا يمسها غيره » مع ما في بعض الاخبار من نفي البأس (٤) عن مسح الوجه بالمنديل ، وفي آخر (٥) « لا بأس بمسح الرجل وجهه بالثوب إذا توضأ إذا كان الثوب نظيفا » وفي آخر (٦) « عن التمسح بالمنديل قبل أن يجف ، قال : لا بأس به » اللهم إلا أن تحمل هذه الاخبار على موافقة التقية كما يشهد له مداومة العامة عليه ، مع حمل نفي البأس على إرادة نفي الحرمة كما ادعاه بعض العامة وحمل ما دل على المسح بالثوب والقميص ونحو ذلك في مقابلة الرد على مذهب أبي حنيفة من نجاسة ماء الوضوء ، أو أنه ليس من التمندل ، إذ المراد به المسح بالمنديل ، فلا يشمل الثوب ونحوه ، أو تحمل على مسح خصوص الوجه لعارض من العوارض كالريح المثيرة للتراب ، سيما إذا كان في مكان مظنة النجاسة ، وربما يشير إليه اقتصارها على ذكر الوجه ، بخلاف اليدين لمكان كونها تحت الأكمام لأنهم كانوا يوسعونها ، أو يراد بكراهة التمندل مع مسح الجميع لا البعض ، مع احتمال بعضها غير الوضوء ، ونحو ذلك.

ثم انه بناء على كراهة التمندل فهل يقتصر عليه ، أو يتسرى إلى مطلق مسح بلل الوضوء عن الأعضاء كما هو ظاهر عبارة المصنف؟ وجهان ، أقواهما الأول للأصل وعدم المنقح من إجماع وغيره ، وعلى تقدير الشمول فهل يقتصر على المسح ، أو مطلق التجفيف حتى في الشمس والنار؟ وجهان أيضا ، أقواهما الأول أيضا لما سمعته ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٨.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٩.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٦.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٤٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٢.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٤٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١.

٣٤٦

نعم قد يستفاد من بعض الاخبار (١) كما قيل انه يكتب للإنسان الثواب ما دام الوضوء باقيا استحباب عدم إزالة آثار الوضوء ، فتأمل جيدا.

( الرابع في أحكام الوضوء )

من تيقن وقوع الحدث بسببه من خروج البول ونحوه ، أو الحالة المترتبة عليه في زمان سابق وشك في حصول الطهارة بعد ذلك الزمان تطهر إجماعا محصلا ومنقولا في المعتبر والمنتهى وكشف اللثام وغيرها ، وهو الحجة ، مضافا إلى ما دل (٢) على شرطية الصلاة بالطهارة ، لتوقف العلم ببراءة الذمة من المشروط على العلم بحصول الشرط ، إذ الشك فيه شك في المشروط به ، ويشعر به ما رواه‌ عبد الله بن بكير عن الصادق عليه‌السلام (٣) « إذ استيقنت أنك توضأت فإياك أن تحدث وضوءا أبدا حتى تستيقن أنك أحدثت » لاقتضاء مفهوم الشرط المتقدم أخذ اليقين في الوضوء ، مع ما دل على وجوب الوضوء عند إرادة الصلاة من الآية (٤) وغيرها الشامل (٥) لنحو المقام ، وقاعدة عدم نقض اليقين إلا بيقين مثله ، ومنهما يستفاد مساواة الظن الذي لم يقم دليل شرعي على اعتباره ولو على جهة العموم ، للشك في عدم النقض كما صرح به المصنف وغيره ، ونسبه بعضهم إلى الأصحاب مشعرا بدعوى الإجماع عليه ، بل قد يظهر من شارح الدروس دعوى الإجماع عليه صريحا ، ويشهد له التأمل في كلماتهم ، إذ لم يعرف فيه مخالف من المتقدمين والمتأخرين سوى ما عساه يفهم من البهائي في الحبل المتين ، على أن التدبر في كلامه يقضي بأنه ليس مخالفا فيما نحن فيه ، لأن حاصل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب التعقيب من كتاب الصلاة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الوضوء.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١ لكن رواه عن بكير.

(٤) سورة المائدة ـ الآية ٨.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الوضوء.

٣٤٧

كلامه أن الاستصحاب حجة مع الظن بالمستصحب ، أما مع العكس فليس حجة ، وهو على تقدير تسليمه لا دلالة فيه على المخالفة هنا ، إذ ارتفاع الاستصحاب بناء على مختاره لا يلزم منه ارتفاع الوجوب ، لما عرفت من عدم انحصار الدليل عليه فيه ، بل الآية ويقين الشغل كافيان في إيجابه ، وما في شرح الدروس من أن الأصل براءة الذمة مما لا ينبغي أن يصغى إليه ، لانقطاعها بيقين الشغل ، والشك في حصول الشرط شك في المشروط ، على أن كلام البهائي في مرتبة من الضعف تسقطه عن درجة الاعتبار ، إذ هو في الحقيقة اجتهاد في مقابلة النص ، لصراحة الروايات (١) بعدم نقض اليقين إلا باليقين ، وما في شرح الدروس أنه يستفاد من مفهوم‌ قوله عليه‌السلام (٢) « لا تنقض اليقين بالشك » جواز نقضه بغيره ضعيف جدا ، إذ هو بعد تسلم أنه من المفاهيم المعتبرة غير صالح لمعارضة غيره من الأدلة ، وكيف مع‌ قوله عليه‌السلام بعده : ( ولكن تنقضه بيقين آخر ) هذا كله مع تسليم أن الشك يراد به ما هو المعنى المتعارف في ألسنة المصنفين من التردد مع مساواة الطرفين ، وإلا فلا إشكال بناء على ما قيل انه في اللغة للأعم من الشك والظن كما عن القاموس والصحاح لتفسيرهما إياه بأنه خلاف اليقين ، بل قد يؤيده إطلاقه عليه في بعض الروايات (٣) كما أن الظاهر أنه في العرف العام كذلك ، فتأمل جيدا.

ولقد وقع للمصنف في المعتبر من الاستدلال على ما نحن فيه من يقين الحدث بما يحتاج إلى انطباقه عليه إلى تكلف شديد بل حمله على السهو أولى منه ، وقد ظهر لك مما تقدم في شرح عبارة المتن أنه لا امتناع في اجتماع اليقين والشك في زمن واحد بعد اختلاف متعلقهما ، فما أطنب فيه بعض المتأخرين من علاج هذا الاشكال بما هو غير سديد ، وآخر غير مفيد ، وثالث مآله إلى ما يريد كأنه في غير محله ، إذ هو‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب نواقض الوضوء.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ١.

(٣) المستدرك ـ الباب ـ ٣٨ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١.

٣٤٨

من المعاني المنساقة لكل سامع لمثل هذه العبارة كما هو واضح.

نعم هنا أمران ينبغي التنبيه عليهما ( الأول ) ما ذكرناه من مساواة الظن للشك في المقام انما هو في غير المعتبر منه شرعا ، أما ما كان كذلك كخبر العدل فالأقوى حصول النقض به ، لما يظهر من ملاحظة الأدلة أنه حجة شرعية في نظر الشارع كالشهادة ، وربما تشعر به بعض الاخبار كما في رواية أبي بصير (١) وغيره عن الصادق عليه‌السلام « انه اغتسل أبي من الجنابة ، فقيل له : قد أبقيت لمعة في ظهرك لم يصبها الماء ، فقال عليه‌السلام : ما كان عليك لو سكت ثم مسح تلك اللمعة بيده » مع احتمال عدم حصول النقض به أخذا بظاهر القاعدة هنا ، وربما كان هو مقتضى كلام العلامة في المنتهى ، لاختياره عدم حصول نجاسة الماء باخباره ، وفرق في ذلك بينه وبين الشهادة ، وهو لا يخلو من قوة ، ولتحقيق المسألة محل آخر.( الثاني ) ذكر بعض مشايخنا أنه يجب التطهر على من تيقن الحدث وشك في الطهارة حيث يقع ذلك مع عدم الدخول في عمل مشروط صحته بالطهارة كالصلاة ونحوها أما إذا وقع له اليقين والشك مثلا وهو في أثناء صلاة أو بعد الفراغ فلا يجب عليه التطهر لتلك الصلاة ، نعم يحتمل أن يجب عليه التطهير للصلاة بعدها ، مع احتمال العدم أيضا ، بل قد يظهر منه اختياره ، وكأن مستنده في ذلك شمول قوله عليه‌السلام (٢) : « إذا شككت في شي‌ء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكك بشي‌ء » مع أصالة الصحة وهو متجه لو وقع له هذا اليقين والشك بعد الفراغ من الصلاة مع عدم العلم بقدم سبب الشك ، لكونه في الحقيقة شك في الصحة بعد الفراغ ، فلا يلتفت إليه ، بل قد يدل عليه صحيح محمد بن مسلم (٣) قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : « رجل شك في الوضوء بعد ما فرغ من الصلاة؟ قال : يمضي على صلاته ولا يعيد » نعم يجب عليه الوضوء لغيرها من الصلاة ، إذ عدم الالتفات‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٥.

٣٤٩

المذكور لا ينقح وجود الشرط ، بل هو حكم شرعي تسدي في خصوص المفروغ منه ، فلا يجري إلى غيره ، فتشمله القاعدة مع احتمال القول ان ما دل على حكم الشك بعد الفراغ يشعر بالحكم بوقوع المشكوك فيه ، كما يشعر به قوله عليه‌السلام : « أنت في تلك الحال أذكر » ونحوه ، لكنه بعيد ، فتأمل. وأما إذا كان ذلك في الأثناء فيشكل الحكم بالصحة ، لظهور قاعدة الشك في الشي‌ء مع عدم الدخول في الغير في الشك في أجزاء المركب كما لا يخفى على المتأمل ، لا أقل من الشك في الشمول ، وأصالة الصحة لا تشخص وجود الشرط بالنسبة إلى باقي أفعال الصلاة ، فكان للتوقف في ذلك مجال ، ويؤيده إطلاق الكلمة هنا بوجوب التطهر ، وكذا إذا وقع بعد الفراغ مع العلم بقدم مأخذ الشك ، للشك في شمول ما دل على عدم الالتفات اليه بعد الفراغ لمثله ، وقد يشعر ببعض ما ذكرناه خبر علي بن جعفر عن أخيه عليهما‌السلام (١) المروي عن قرب الاسناد قال : « سألته عن رجل يكون على وضوء ويشك على وضوء هو أم لا قال : إذا ذكر وهو في صلاته انصرف فتوضأ وأعادها ، وإن ذكره وقد فرغ من صلاته أجزأه ذلك » ولعل مراده بقوله : يكون على وضوء انه اعتقد انه على وضوء ثم شك بعد ذلك أي زال اليقين الأول ورجع إلى الشك كان الحكم للأخير وإن كان لا يجب عليه إعادة العمل الذي أوقعه باليقين الأول على فرض حصول الشك بعد تمامه.

وكيف كان فقد عرفت أنه يجب التطهر في المقام كما إذا تيقنهما وشك مثلا في المتأخر منهما فإنه يحب عليه الطهارة أيضا كما في المقنعة والتهذيب والمبسوط والمراسم والوسيلة والإشارة والمهذب والسرائر والنافع والمنتهى والإرشاد والذكرى واللمعة وغيرها ، ونسبه في المعتبر إلى الثلاثة وأتباعهم ، وفي المنتهى إلى المشهور ، بل في الذكرى نسبته إلى الأصحاب مشعرا بدعوى الإجماع عليه ، وكان الوجه فيه ما تقدم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٢.

٣٥٠

لك سابقا مما دل على وجوب فعله لها ، خرج ما خرج وبقي الباقي ، وما دل على وجوب تحصيل اليقين ، لأنه مقتضى الشرطية. لا يقال : إنه كما لم يتيقن بالوضوء كذلك لم يتيقن بالحدث لأنا نقول : ان عدم اليقين بالحدث لا يكفي في براءة الذمة من المشروط بالطهارة ، نعم قد يتم ذلك فيما كان الحدث مانعا منه لا فيما كانت الطهارة شرطا فيه ، ويؤيده أيضا مضافا إلى ما ذكرنا ما عن الفقه الرضوي (١) « وإن كنت على يقين من الوضوء والحدث ولا تدري أيهما أسبق فتوضأ » سيما على القول بحجية ما ينقل عن هذا الكتاب ، مع انجباره في خصوص المقام بالشهرة محصلة ومنقولة ، بل لعله لا خلاف فيه سوى ما يظهر من المصنف في المعتبر ، حيث قال بعد ذكر الإعادة ونسبتها إلى الثلاثة ومن تبعهم وعندي فيه تردد ، إذ يمكن أن ينظر إلى حاله قبل تصادم الاحتمالين ، فيبني على ضدها لمكان تيقن انتقاله عنها مع الشك في عودها ، واختاره في جامع المقاصد ، لكن في الذكرى أنه إن تم ليس خلافا في المسألة ، لرجوعه حينئذ إما إلى يقين الحدث م الشك في الطهارة أو بالعكس ، والبحث في غيره ، وفيه أن ظاهر إطلاق الأصحاب يقضي بأنه لا تتخرج صورة من صور اليقينين بحيث ترجع إلى غيرها ، وكفى بذلك خلافا.

وكيف كان فقد يرد على ما ذكره المحقق أن يقين الانتقال عنها مع الشك في عودها معارض بيقين وجود مماثلها مع الشك في الانتقال عنه إلى ضده ، وحصول اليقين بالانتقال عن المماثل أولا غير مجد ، والتمسك باستصحاب مطلق المرفوع من غير تشخيص للأول والأخير استصحاب للجنس في إثبات الشخص ، وهو غير جائز كما بين في محله ، على أنه معارض بمثله. لا يقال : إنه ـ بعد البناء على أن الحدث بعد الحدث ليس حدثا كما أن الطهارة بعد الطهارة ليست طهارة ـ يتم كلامه ، لأنه بعد فرض حصول اليقين بارتفاع الحدث الأول يكون ممن تيقن الطهارة وشك في الحدث ، لأن ما تيقن‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٣٨ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١.

٣٥١

بخروجه من البول الذي يعارض به اليقين الأول يقع على وجهين ناقض وغيره ، لأنه إن كان قبله حدث فالأول ، وإلا فالثاني ، والفرض أنه في المقام غير معلوم ، لاحتمال تقدمه على الطهارة فلا يكون ، حينئذ ناقضا واحتمال تأخره فيكون ناقضا فهو ممن تيقن الطهارة وشك في الحدث في الحقيقة ، ويكون المراد بقولنا إنه تيقن الحدث سببه لا حكمه ، فتأمل. لأنا نقول : إنا وإن قلنا الحدث بعد الحدث ليس حدثا ، لكنه من المستحيل أن ينفك الحدث عن وجوده ، لأنه إما أن يكون حاصلا به أو حاصلا قبله ، فبخروج البول في أي وقت كان لا بد وأن يعلم وجود الحدث ، وبه يعارض يقين الطهارة ، إلا أن هذا وإن كان أقصى ما يجاب به عن ذلك ، لكنه لا يخلو من تأمل ، لأنه في الحقيقة من قبيل استصحاب الجنس ، فلا يعارض يقين الطهارة ، ومن هنا كان هذا القول لا يخلو من قوة على بعض الوجوه ، بخلاف ما ذكره العلامة في جملة من كتبه من تقييد ما سمعته من إطلاق الأصحاب بما إذا لم يعلم حالته السابقة ، فيؤخذ بموافقتها ، أن طهارة فطهارة ، وإن حدثا فحدث ، وقد يظهر منه في بعضها ان وجه ذلك بسقوط حكم اليقينين لتساويهما ، فيستصحب الأول ، وفيه ما لا يخفى من انقطاع الأول قطعا ، فلا معنى لاستصحابه.

وقال في المختلف بعد ذكر الإطلاق المتقدم : ونحن قد فصلنا ذلك في أكثر كتبنا ، وقلنا إن كان في الزمان السابق على اليقين محدثا فهو الآن محدث ، وكذا الطهارة ، ومثاله أنه إذا تيقن عند الزوال أنه نقض طهارة وتوضأ عن حدث وشك في السابق فإنه يستصحب حال السابق على الزوال ، فان كان طهارة فهو على طهارته ، لأنه تيقن أنه نقض تلك الطهارة ثم توضأ ولا يمكن أن يتوضأ عن حدث مع بقاء تلك الطهارة ، ونقض الطهارة الثانية مشكوك فيه ، فلا يزول عن اليقين بالشك ، وإن كان حدثا فهو الآن محدث ، لأنه تيقن انه انتقل عنه إلى طهارة ثم نقضها ، والطهارة بعد نقضها مشكوك‌

٣٥٢

فيها ، وعن البيضاوي أنه اعترض عليه بأنه لا معنى لاستصحاب الأول بعد العلم بانقطاعه فأجاب عنه بأن المراد لازم لاستصحاب ، أي البناء على مثل الحال الأول ، وربما أورد عليه بعضهم أيضا بأنه يجوز تعاقب الطهارتين كما أنه يجوز تعاقب الحدثين ، وفيه أن ما سمعته من عبارته كالصريحة في إرادة كون الطهارة رافعة والحدث ناقضا ، واحتمال التعاقب المذكور ينافي ذلك ، نعم قد يرد عليه أنه حينئذ لا معنى لتسمية نحو ذلك استصحابا ، لأن من اليقين حينئذ وقوع الطهارة مثلا بعد الحدث حتى يتم ما ذكره من كونها رافعة ، اللهم إلا أن يريد بالحدث المتيقن جنسه لا عدده ، فيحتمل وقوع حدث بعد الطهارة الرافعة وان تيقن حصول حدث قبلها ، فينفى ذلك بالاستصحاب الذي ذكره.

نعم لا يتم ما ذكرناه من التوجيه في نحو عبارة القواعد بقوله فيها : « ولو تيقنهما متحدين مثلا متعاقبين وشك في المتأخر فما لم يعلم حاله قبل زمانهما تطهر ، وإلا استصحبه » لتقييده بالاتحاد ، ومراده بالتعاقب كون الحدث بعد الطهارة والطهارة بعد الحدث ، وعلى كل حال فلا ريب في خروج ما ذكره من موضوع ما نحن فيه ، إذ مآله إلى معرفة السابق من اللاحق ، فلا معنى لجعله قولا في المسألة ، وكأنه انما ذكره لكونه في بادى الرأي قبل التفات الذهن منها وإن كان بعد التفاته يخرج عنها ، والأمر سهل ، وربما يظهر من ملاحظة كلامه في المنتهى أنه لم يقصد من ذلك خلافا ، بل ذكره مخافة أن يتوهم أنه منها ، هذا.

وقد ذكر بعض متأخري المتأخرين أنه لا بد من تقييد إطلاق الأصحاب المتقدم بما إذا لم يعلم تأريخ أحدهما ، أما إذا علم وجهل فإنه يحكم بتأخر المجهول طهارة كان أو حدثا ، واختاره سيد الكل في منظومته ، وكان وجهه أصالة تأخر الحادث ، فيحكم حينئذ بتأخر المجهول إلى زمان القطع بعدم الوجود فيه ، لكنه لا يخلو من نظر ، لأن أصالة التأخر انما تقضي بالتأخر في حد ذاته ، وهو لا يجدي حتى يثبت كونه متأخرا عن الحدث ومسبوقيته به ، وإثبات نحو ذلك بالأصل ممنوع ، إذ الأصل حجة في النفي‌

٣٥٣

دون الإثبات ، لمعارضة الأصل بمثله فيه ، ومما يرشد إلى ذلك إطلاق العلماء في المقام وفي الجمعتين وفي عقدي الوكيلين ونحو ذلك ، من غير تقييد بعدم معلومية زمان أحدهما ومجهولية الآخر ، فتأمل جيدا.

وكذا لو تيقن ترك غسل عضو أو مسحه أتى به إجماعا محصلا ومنقولا وسنة بالخصوص ، مضافا إلى أدلة الوضوء وكذا أتى بما بعده محافظة على الترتيب بلا خلاف أجده ، لما تقدم لك من الاخبار (١) في بحث الترتيب ، ونحو العضو بعضه في الحكمين معا ، وما عن ابن الجنيد من الفرق بين ما كان دون سعة الدرهم وغيره فيجتزي ببل الأول فحسب دون الثاني ، فيجب الإتيان به وبما بعده ضعيف ، بل لعل الظاهر انعقاد الإجماع على خلافه ، وقد تقدم الكلام فيه سابقا في بحث الترتيب وإن جف البلل بتمامه على الأصح استأنف الوضوء لفوات الموالاة ، بل قد يأتي وجوب الإعادة وإن لم يجف ، بناء على تفسيرها بالمتابعة.

وإن شك في فعل شي‌ء من أفعال الطهارة أي الوضوء وهو على حاله أتى بما شك فيه للأصل والإجماع كما في شرح الدروس للخوانساري وشرح المفاتيح للأستاذ ، بل فيه أنه نقله جماعة ، وفي كشف اللثام أنه إجماع على الظاهر المؤيد بنفي الخلاف في المدارك والذخيرة وغيرهما ، والتتبع لكلمات الأصحاب من المقنعة والمبسوط والمهذب والغنية والمراسم والوسيلة والكافي والسرائر والجامع والمعتبر والنافع والمنتهى والقواعد والإرشاد والذكرى واللمعة والدروس والروضة وغيرها ، وصحيح زرارة (٢) عن أبي جعفر عليه‌السلام المروي في التهذيب والكافي قال : « إذا كنت قاعدا على وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا فأعد عليهما وعلى جميع ما شككت فيه انك لم تغسله أو تمسحه مما سمى الله ما دمت في حال الوضوء ، فإذا قمت عن الوضوء وفرغت منه وقد‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب الوضوء.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١.

٣٥٤

صرت في حال أخرى في الصلاة أو غيرها فشككت في بعض ما سمى الله مما أوجب الله عليك فيه وضوءه لا شي‌ء عليك فيه » وربما يؤيده أيضا ما في موثقة ابن أبي يعفور (١) عن الصادق عليه‌السلام قال : « إذا شككت في شي‌ء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكك بشي‌ء ، إنما الشك في شي‌ء لم تجزه » لرجوع الضمير في غيره إلى الوضوء لكونه أقرب ، فيكون مفهومها موافقا للصحيحة الأولى غير مخالف للمجمع عليه هنا بحسب الظاهر ، وبما سمعت من الأدلة يخص عموم ما دل على عدم الالتفات إلى الشي‌ء المشكوك فيه مع الدخول في الغير ، كقول الصادق عليه‌السلام لزرارة (٢) في الصحيح : « يا زرارة إذا خرجت من شي‌ء ثم دخلت في غيره فشككت فشكك ليس بشي‌ء » ومثله غيره ، وهي مذكورة في باب الصلاة ، لكن ربما احتمل اختصاص مورد هذه الاخبار في الصلاة ، لاقتضاء سياقها ذلك ، وهو ضعيف جدا ، بل هي قاعدة محكمة في الصلاة وغيرها من الحج والعمرة وغيرهما ، نعم هي مخصوصة بالوضوء خاصة ، لما سمعته من أدلته ، فمن هنا وجب الاقتصار عليه ، ولا يتعدى منه في هذا الحكم للغسل مثلا ، بل هو باق على القاعدة من عدم الالتفات إلى الشك في شي‌ء من أجزائه مع الدخول في غيره من الاجزاء ، نعم لا يبعد إلحاق التيمم به.

ومن العجيب ما وقع للفاضل في الرياض من جريان حكم الوضوء في الغسل ، فيلتفت إلى كل جزء وقع الشك فيه مع بقائه على حال الغسل ، ولم أعثر على مثل ذلك لغيره ، وكان منشأ الوهم ما في بعض عبارات الأصحاب كالمصنف وغيره من ذكر لفظ الطهارة الشاملة للوضوء وغيره ، وهو ـ مع أن الظاهر إرادة الوضوء منه لذكرهم ذلك في بابه ـ لا يصلح لأن يكون ذلك بمجرده حجة مخصصا للقاعدة المتقدمة الشاملة للصلاة وغيرها ، واحتمال أن يراد بالشي‌ء فيها ما يشمل الغسل مثلا بتمامه فلا يصدق الدخول‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ـ حديث ١.

٣٥٥

في الغير مع الشك في بعض الاجزاء قبل الفراغ منه في غاية الضعف ، إذ لفظ الشي‌ء ليس من الألفاظ المجملة التي هي محل شك ، فإنه لا يرتاب أحد في صدقه على من شك في غسل بعض رأسه مع الدخول في الجانب الأيمن أو الأيسر بالنسبة إلى الأيمن أنه شك في شي‌ء وقد دخل في غيره ، وخروج الوضوء عن ذلك لا يقضي بخروج الغسل ، إذ هو قياس لا نقول به ، اللهم إلا أن يكون مستنده ما سمعته من موثقة ابن أبي يعفور المتقدمة بعد حمل الضمير فيها على الوضوء ، لاشتمالها حينئذ على التعليل الجاري في الوضوء والغسل ، وهو شك في شك ، مع اعترافه هو بإجماله ، فتأمل جيدا.

ثم انه لا فرق بحسب الظاهر بين جميع أفعال الوضوء من النية وغيرها كما نص عليه بعضهم ، للأصل ، وإطلاق ما سمعته من الإجماعات المنقولة ، فلا يقدح عدم صراحة الصحيح المتقدم لشموله ، ولعل ذلك هو مراد بعضهم كالشيخ في المبسوط والشهيد في اللمعة بقوله : إن شك في الوضوء في أثنائه أو في شي‌ء منه وجب إعادة الوضوء في الأول وتلافي المشكوك فيه في الثاني إن لم يحصل الجفاف ، إذ لا يتصور الشك في الوضوء في أثنائه بغير ما ذكرنا ، وكذلك الشك في الترتيب وحصول الموالاة وغيرهما ، وإن وافق فعل بعضها الأصل كما في بعض صور الموالاة ، ولعل الظاهر أيضا أنه كالشك في الفعل وعدمه الشك في الصحة والفساد ، لأنه في الحقيقة شك في الفعل وعدمه ، وأما الشك في الشرائط الخارجة عن حقيقة الوضوء كالشك في تطهير أعضاء الوضوء وتطهر مائه ونحوهما فقد يظهر من ملاحظة بعض عبارات الأصحاب انها كالشك في الأفعال ، فيجب تلافيها ، لكن إقامة الدليل على ذلك مشكلة بعد البناء على شمول قاعدة عدم الالتفات للمشكوك مع الدخول في غيره لنحو الشرائط ، فإن دعوى تخصيصها بصحيحة زرارة المتقدمة ضعيفة ، لعدم شمولها لنحوه ، والتنقيح ممنوع ، لعدم المنقح من إجماع أو عقل ، وعدم ظهور الإجماعات المنقولة في تناول مثله ، اللهم إلا أن يقال : ان ذلك‌

٣٥٦

يرجع إلى الشك في الصحة والفساد ، وقد تقدم جريان الحكم ، لكن إقامة الدليل على الشمول للصحة بهذا المعنى أيضا لا يخلو من نظر ، فتأمل جيدا.

ثم من المعلوم أنه حيث يجب تلافي المشكوك يجب الإتيان به ثم بما بعده ، كما صرح به في المبسوط والوسيلة وغيرها من كتب المتأخرين ، وكان المراد به ما يتوقف حصول الترتيب عليه ، وإلا فلو كان الشك في بعض العضو فإنه لا يجب إعادة غسل ما بعده من أجزاء ذلك العضو إلا إذا كان المشكوك فيه غسل الأعلى ، لما عرفته سابقا من عدم وجوب الترتيب في أجزاء العضو بعد الابتداء بالأعلى منه ، نعم يتأتى ذلك على القول به ، لكنه قد عرفت ضعفه.

وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في وجوب إعادة ما يتوقف عليه حصول الترتيب بل نقل الإجماع عليه في شرح الدروس والمفاتيح ، والظاهر أنه كذلك ، ويدل عليه أيضا مضافا إلى ذلك ما يفهم من الأدلة هنا من جعل الشارع المشكوك فيه بمنزلة المتيقن تركه ، ولأن الشك فيه في الحقيقة شك في الترتيب أيضا ، وقد عرفت وجوب تلافيه ، ومما سمعت يعلم أنه يجب الإعادة على المشكوك فيه وعلى ما بعده مع عدم الجفاف ، وإلا فيجب استئناف الوضوء من رأس ، كما صرح به في الوسيلة والجامع والقواعد واللمعة وغيرها ، وكأن إطلاق بعضهم الحكم بذلك منزل عليه ، لأن التصفح لكلمات الأصحاب تقضي بأن المراد ما دام في حال الوضوء يجب عليه أنه يحرز الطهارة اليقينية ، فما يظهر من صاحب الحدائق تبعا للخوانساري في شرح الدروس من المناقشة في هذا الحكم تمسكا بإطلاق صحيحة زرارة المتقدمة في غاية الضعف ، مع اعترافه بأن الأصحاب على خلافه ، وكيف وشرطية الموالاة مما قد عرفت انعقاد الإجماع عليها هناك ، مع عدم العلم باحرازها في الفرض ، بل قد عرفت أن الشك فيه شك فيها أيضا ، فيجب تلافيه ، ولا يحصل إلا بإعادة الوضوء ، وما ذكره من أن دليل الموالاة لا عموم فيه بحيث يشمل المقام لا وجه له ، لما عرفت من عدم الانحصار بالروايتين السابقتين ، على أن‌

٣٥٧

تخصيص المورد فيها لا يخصص الوارد مع الاشتمال على التعليل بأن الوضوء يتبع بعضه بعضا ، وبأنه لا يتبعض ، والحاصل لا يليق إطالة الكلام في رد هذه المناقشة التي هي في غاية السقوط ، فلاحظ وتدبر.

ثم ان الظاهر مساواة الظن الذي لم يقم على اعتباره دليل شرعي للشك في هذا الحكم ، كما هو قضية المقنعة والغنية والمراسم والكافي والسرائر والمعتبر والمنتهى وغيرها ، بل لعله مراد من اقتصر على التعبير بالشك في المقام وان بعد بالنسبة إلى عبارات المصنفين لمخالفته للحقيقة الاصطلاحية عندهم ، نعم لا يبعد دعوى شمول الرواية المتقدمة التي هي دليل الحكم له ، لما تقدم لك سابقا أنه في اللغة للأعم منه ومن الظن ، وكيف كان فلا ريب في المساواة في المقام ، لأصالة عدم الفعل ، ووجوب تحصيل اليقين بالطهارة مع عدم دليل على الاكتفاء بالظن هنا ، وحمله على الصلاة بعد تسليمه فيها قياس لا نقول به ، وليعلم أن جمعا من الأصحاب قيدوا اعتبار الشك في المقام بما لم يكن كثيرا ، منهم ابن إدريس في السرائر ، والشهيد في الذكرى ، والمحقق الثاني في شرح القواعد والسيد في المدارك ، والفاضل الهندي في كشف اللثام ، والخوانساري في شرح الدروس ، وغيرهم من متأخري المتأخرين ، بل لا أجد فيه خلافا كما في الصلاة ، ولعله للعسر والحرج ، ويؤيده التعليل الوارد في أخبار الصلاة كما في صحيحة زرارة وأبي بصير (١) في من كثر شكه في الصلاة بعد أن قال عليه‌السلام : يمضي في شكه « لا تعودوا الخبيث من أنفسكم نقض الصلاة فتطمعوه ، فان الشيطان خبيث يعتاد لما عود » وبه يظهر وجه دلالة صحيحة عبد الله بن سنان (٢) قال : « قلت له عليه‌السلام : رجل مبتلى بالوضوء والصلاة ، وقلت : هو رجل عاقل ، فقال الصادق عليه‌السلام : وأي عقل له وهو يطيع الشيطان؟ فقلت له : وكيف يطيع الشيطان؟

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ـ حديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب مقدمة العبادات.

٣٥٨

فقال : سله هذا الذي يأتيه من أي شي‌ء ، فإنه يقول لك من عمل الشيطان » فان الظاهر أن المراد بابتلائه كثرة الشك ، على أن كثرة الشك من الشيطان كما ظهر لك من الرواية السابقة ، وبذلك كله تقيد صحيحة زرارة المتقدمة لو سلم شمول لفظ الشك فيها لنحو ذلك ، لظهور انصرافه في الشك الموافق لأغلب الناس ، على أن المواجه بالخطاب فيها خاص لم يعلم كونه كذلك ، ولا إجماع على التعميم ، بل قد عرفت عدم الخلاف في عدمه.

وقد يشير الاكتفاء ببرد الماء الذي لم يوصل إلى حد القطع في مرسل أبي يحيى الواسطي (١) الى ما نحن فيه ، قال : « قلت للصادق عليه‌السلام : جعلت فداك أغسل وجهي ثم أغسل يدي ويشككني الشيطان اني لم أغسل ذراعي ويدي قال : إذا وجدت برد الماء على ذراعك فلا تعد » وكأن مفهوم الشرط فيه غير مراد ، فتأمل جيدا. وقد أشبعنا الكلام في باب الصلاة ببعض المباحث المتعلقة بكثير الشك ، كالبحث عن مقدار ما به يتحقق وما به يزول ، وأن المراد منه بالنسبة إلى كل جزء أو يكفي تحققه ولو في جزء وغير ذلك ، فلاحظ وتدبر.

ثم الظاهر أن كثير الظن ككثير الشك في المقام ، لما عرفت سابقا ، وأما القطع فان كان في جانب العدم فلا يلتفت أيضا إلا إذا علم سبب القطع وكان مما يفيد صحيح المزاج قطعا ، وان كان في الوجود فالظاهر اعتبار قطعه إلا إذا حفظ سبب القطع وكان مما لا يفيد صحيح المزاج قطعا ، فتأمل جيدا.

ولو تيقن فعل الطهارة وشك في الحدث بعدها لم يعد الوضوء إجماعا محصلا ومنقولا مستفيضا كالسنة ، مع ما في وجوب الإعادة من العسر والحرج وكذا لو شك في شي‌ء من أفعال الوضوء بعد انصرافه لم يعد كما في المبسوط والمهذب والجامع والمعتبر والنافع والمنتهى والإرشاد ، ولعله يرجع اليه ما في المقنعة والسرائر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٤.

٣٥٩

من أنه ان شك بعد فراغه منه وقيامه من مكانه لم يلتفت ، وما في الغنية وكذا الكافي لأبي الصلاح ان نهض متيقنا لتكامله لم يلفت إلى شك وما في الوسيلة والفقيه والمراسم والهداية من أنه لا يلتفت الى الشك في شي‌ء منه بعد ما قام على أن يراد بالانصراف والقيام ونحوهما مجرد الفراغ من الوضوء قام من المجلس أو لم يقم طال جلوسه أو لم يطل ، كما في البيان وجامع المقاصد والروض والروضة والمسالك والمدارك ، بل في الروضة والمدارك الإجماع عليه ، وكأنهما فهما من عبارات الأصحاب المتقدمة ذلك ، وفي المعتبر والمنتهى دعوى الإجماع على عدم الالتفات مع الانصراف عن حاله ، فقد يقال ان الانصراف عن الحال الأول يحصل بالفراغ منه وعدم التشاغل فيه ، ويدل عليه ما في حسنة بكير بن أعين (١) قال : « قلت له : الرجل يشك بعد ما يتوضأ قال هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك » وقول الصادق عليه‌السلام في خبر محمد بن مسلم (٢) « كل ما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكرا فأمضه ولا إعادة عليك » مع تأيده بأصالة صحة فعل المسلم ، وبأنه لو وجب التلافي مع الشك بعد الفراغ لأدى إلى الحرج المنفي ، وأما ما في صحيحة زرارة المتقدمة مما يدل على اشتراط عدم الالتفات بالقيام مع الفراغ وصيرورته في حالة أخرى كالصلاة وغيرها كقوله عليه‌السلام (٣) فيها : « فإذا قمت عن الوضوء وفرغت منه وقد صرت في حال أخرى في الصلاة أو في غيرها فشككت لا شي‌ء عليك » فهي ـ مع أن دلالتها بالمفهوم وعدم القائل بمضمونها من اشتراط الدخول في الصلاة ـ محتملة لأن يراد بالقيام الفراغ كما يقضي به عطفه عليه ، وإلا لناسب تقديمه عليه ، على أنه معارض بالمفهوم في صدرها ، لقوله عليه‌السلام (٤) : « إذا كنت قاعدا على وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا فأعد عليهما وعلى‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٦.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١.

٣٦٠