جواهر الكلام - ج ٢

الشيخ محمّد حسن النّجفي

بخصوص الأفراد التي وردت بها النصوص ، والإجماع لا يخفى ما فيه ، وأنت خبير بما فيه.

ثم اعلم ان الذي يقتضيه الأخذ بظاهر عباراتهم من قولهم كل جسم تعميم الحكم لأجزاء الإنسان نفسه وغيرها من يده ورجله ونحو ذلك ، فيجزيه أن يمسح الغائط بأصابعه حتى ينقى ، لكن للنظر فيه مجال ، هذا. وقد عرفت انه مما يمكن أن يؤيد به خلاف المشهور أيضا ، لشهرة الاجتزاء بالتوزيع عندهم ، إذ هو في الحقيقة اكتفاء بالحجر الواحد ، وذلك لأن كل حجر طهر موضعه ولم يفده الحجر الثاني فائدة ، فالمتجه بناء على وجوب التثليث ما ذكره المصنف من أنه يجب إمرار كل حجر على موضع النجاسة فلا يجزي التوزيع أي إمرار كل حجر على موضع من مواضع النجاسة ، لكن المشهور خلافه ، بل لم أعثر على موافق له صريح ، سوى بعض متأخري المتأخرين ، وقد صرح بالاجتزاء في المبسوط والمعتبر والمنتهى والتحرير والتذكرة والقواعد والمدارك والذخيرة وعن الجامع ونهاية الأحكام والذكرى والدروس والبيان وشارح الدروس ، بل قال في الذخيرة : ما حاصله ان نسبة العدم إلى بعض الفقهاء في كلام مثل العلامة المراد به أهل الخلاف ، كما تشهد به الممارسة ، قلت : كأنه لم يلحظ الشرائع ، لكن نقل عن المفاتيح وشرحها للأستاد نسبة ما ذهب إليه المصنف إلى الشهرة ، ولعلهما أخذاه من إطلاق بعض الفتاوى التمسح بثلاثة أحجار ، وإلا فهو مشكل ، لما عرفت.

وكيف كان فمستند المشهور صدق التمسح بثلاثة أحجار ، إذ ليس في الأدلة ما يدل على اشتراط مباشرة كل حجر موضع النجاسة ، كما ان مستند المصنف ومن وافقه انه المتبادر من المسح بثلاثة ، بل غيره من الأفراد النادرة التي لا ينصرف الإطلاق إليها ، مع ان استصحاب النجاسة محكم ، وعن بعضهم انه قال مؤيدا لما ذكره المصنف من ان هذا التوزيع لا يتحقق إلا بالحجرين ، لأن الحجر الثالث لا بد أن يمسح بمجموع المحل حتى يعلم النقاء بلا شك ، وأيضا المحل لا بد أن يتكرر على بعضه الحجران الأولان أيضا ، لاستحالة زوال النجاسة عن أي بعض منه بمسح واحد منها بحيث لم يمسح عليه الآخر‌

٤١

أصلا ومع ذلك يمسح مجموع المحل بهذا التوزيع ، إذ لا شبهة في استحالته عادة ، فلا بد ان يتكرر على ذلك البعض الأحجار الثلاث جميعا ، ويتحقق فيه المسحات الثلاثة كملا ، نعم شي‌ء من المحل يكتفى فيه بمسحين ، مسح للإزالة ، ومسح للاطلاع على الزوال ، فما ذكر من التوزيع ليس إلا مجرد فرض لا مصداق له في الخارج ، فلا معنى لحمل المطلقات عليه ، انتهى. وفيه نظر من وجوه ، يظهر بعضها مما قدمنا سابقا ، وان كان الأقوى بناء على وجوب التثليث عدم التوزيع ، لأنه المتيقن وغيره مشكوك فيه واستصحاب النجاسة محكم ، مع انه الظاهر من قوله عليه‌السلام ان يمسح العجان ، فتأمل. ويكفي معه أي مع الاستنجاء بالحجر إزالة العين دون الأثر وقد تقدم الكلام فيه سابقا.

وإذا لم ينق بالثلاثة فلا بد من الزيادة حتى ينقى إجماعا محصلا ومنقولا ، ويدل عليه مضافا إلى ذلك الروايتان المتقدمتان سابقا ، نعم يستحب القطع على وتر لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) « إذا استنجى أحدكم فليوتر بها وترا » وإطلاق الأخبار والاكتفاء بالثلاثة منزل على الغالب ولو نقي بدونها أكملها وجوبا كما تقدم الكلام فيه ولا يكفي بناء على وجوب التثليث استعمال الحجر الواحد مثلا من ثلاث جهات كما هو ظاهر المقنعة وعن المصباح وصريح المعتبر والروضة والمدارك وكشف اللثام والحدائق والرياض وكشف الغطاء ، بل ربما كان ظاهر من اقتصر على التعبير بثلاثة أحجار كالخلاف واللمعة وعن المراسم والكافي والسرائر وغيرها ، والموجود في المبسوط « والحجر إذا كانت له ثلاثة قرون فإنه يجزي عن ثلاثة أحجار عند بعض أصحابنا ، والأحوط اعتبار العدد ، لظاهر الأخبار » انتهى. وعن شرح المفاتيح للمولى الأعظم نسبته إلى الشهرة ، وذهب العلامة في جملة من كتبه وجماعة من المتأخرين إلى الاجتزاء ، وهو المنقول عن الإشارة والجامع والمهذب ، بل عن الروض نسبته إلى الشهرة.

( حجة الأول ) الأصل ، وظاهر قولهم ثلاثة أحجار ، ( وحجة الثاني )

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ٤.

٤٢

ان المراد من ثلاثة أحجار ثلاثة مسحات ، نحو قوله اضربه عشرة أسواط ، ولأنها إن انفصلت أجزأت قطعا وكذا مع الاتصال ، وبالنبوي (١) « إذا جلس أحدكم لحاجته فليمسح ثلاث مسحات » وبأنه يجوز الاستنجاء به لثلاثة ويعد بالنسبة إلى كل واحد منهم حجرا ، فكذلك الواحد ، وبان المقصود إزالة النجاسة وقد حصلت ، وربما أيد بالمطلقتين السابقتين ، وبأنه إذا غسل أجزأ وان تمسح بالجهة التي استنجى بها ، فكذا قبل الغسل إذا تمسح بالباقيتين ، (٢).

واعترض علي سائر هذه الأدلة بعض المتأخرين بما ليس خفيا على المستدل بها ، بل المقصود منها حصول الظن ببقاء هذا الفرد على مقتضى إطلاق المعتبرتين المتضمنتين للاكتفاء بالنقاء وحصول الإذهاب ، وذلك بان يقال : ان مقتضاهما الاجتزاء بكل ما يحصل به النقاء والإذهاب ، إلا انه لمكان بعض الأخبار المنجبرة بفهم المشهور ، وهي قوله عليه‌السلام جرت السنة ونحوها خالفنا بعض مقتضاها ، فيبقى غيره داخلا ، إذ قوله : عليه‌السلام « يجزيك من الاستنجاء بثلاثة أحجار » يقتضي بظاهره أمورا ، منها تعدد المسح ، ومنها تعدد الممسوح به ، ومنها كونه بالحجر لا بغيره ، ومنها كون الممسوح به منفصلا بعضه عن بعض ، ( أما الأول ) فيمكن القول به وان حصل النقاء بدونه ، لمكان انجبار الرواية بما سمعت سابقا من الشهرة ، ومثله الثاني دون الثالث لما سمعت من دعوى الشهرة بل الإجماع على الاجتزاء بكل جسم ، ( وأما الرابع ) فكذلك لمكان الشهرة المنقولة عن الروض ، واستبعاد الفرق بين الاتصال والانفصال ، بل‌

__________________

(١) ما وجدناه في كتب الأخبار.

(٢) والظاهر أن العمدة في الاستدلال على الاجتزاء بذي الشعب انما هو القطع العادي بعدم الفرق بين الاتصال والانفصال بالنسبة إلى الطهارة ، وما يقال : ان الفارق النص ، وان الغالب في العبادات خصوصا الطهارة رعاية جانب التعبد فيه ان الغالب خلافه ، كما لا يخفى على من لاحظ باب التراوح وغيره. ( منه رحمه‌الله ).

٤٣

في المختلف أى عاقل يفرق بين كونه متصلا ومنفصلا ، وللاجتزاء به بالنسبة إلى الأشخاص ، وكذا بعد غسله على الأقوى ، ولظهور الحكمة من القصد في الاستنجاء الإزالة ، وللاجتزاء بالخرقة المستطيلة جدا ، كما قطع به بعض من لا يجتزي بذي الشعب وخبر المسحات ونحو ذلك من الأشياء المفيدة للظن ببقائه على مقتضى الإطلاق ، لا أقل من حصول الشك للفقيه بالاحتراز عن مثل هذا الفرد بقوله ثلاثة أحجار ، على انا نرى ان السيد إذا قال لعبده امسح هذا بثلاثة أحجار فمسحه بحجر واحد من ثلاث جهات يعدونه ممتثلا ، لا لأن اللفظ شامل له حقيقة ، بل للقطع بأن مقصود السيد من المسح بثلاثة أحجار انما هو المسح بثلاثة مما يمسح به من الحجر ، فتأمل جيدا.

على ان الذي يستفاد منه عدم الاجتزاء بذي الشعب من قوله ثلاثة أحجار انما هو لفظ الأحجار لا الثلاثة ، فإنه لو قال بثلاثة أشياء أو أجسام أو نحو ذلك لشمله ، وقد عرفت انهما من باب المثال ، للإجماع المنقول على الاجتزاء بكل جسم مزيل للعين ، وما عساه يقال : ان مثاليتها انما هو بالنسبة للحجرية دون ما يفهم منها من كونه قطعا متمايزة فيه ان الظاهر بعد فرض كونها مثالا لسائر الأجسام لا ظهور فيها بإرادة كونها قطعا متعددة كما لا يخفى ، وإن شئت فافرض صدور هذا الاستعمال منك بعد إرادتك بالأحجار مثالا لمطلق الأجسام ، أترى أنه يخطر لك ببال خروج ذي الشعب عنه ، كلا ان دعوى ذلك مكابرة ، وأيضا قد يقال : ان ما ادعوه سابقا من الإجماع على الاجتزاء بكل جسم يشمل ما نحن فيه ، بل قد عرفت ما في أخبار التثليث من الضعف في الدلالة المحتاج إلى الجابر وهو بهذا المعنى مفقود ، وما ادعاه بعض متأخري المتأخرين من دعوى الشهرة على عدم الاجتزاء بذي الشعب لا يخلو من مناقشة ، ولعله أخذه من التعبير للبعض بالثلاثة أحجار ، وهو مع تسليمه لا يبلغ حد الشهرة ، وكيف كان فلا يخلو القول بالاجتزاء بذي الشعب بناء على القول بالتثليث من قوة ، كما أنه لا يخفى عليك ما يظهر من ملاحظة كلامهم هنا ، وفي مسألة التوزيع وفي مسألة الاجتزاء بكل جسم من التأييد لما قد تقدم‌

٤٤

سابقا من الاجتزاء بالحجر الواحد إذا حصل به النقاء ، إذ يعلم منه عدم الجمود على ظاهر تلك الروايات ، فتأمل جيدا.

وينبغي التنبيه لأمور‌ ( منها ) انه بناء على الاجتزاء بذي الشعب فهل المدار على المسحات من دون فرق بين اتحاد الممسوح به وتعدده ، كما لو مسح بحجر ثم غسله ثم مسح به ثم غسله ثم مسح به ، بناء على عدم اشتراط البكارة ، أو لا بد من تعدد محل ما يمسح به؟ يظهر من بعضهم الأول ، لتأويلهم الأحجار بالمسحات ، ويحتمل قويا الثاني ، ولا ريب في عدم الاكتفاء به بناء على القول بعدم الاجتزاء بذي الشعب ، لعدم صدق الاستنجاء بثلاثة أحجار ، وإن ساغ له استعماله بالنسبة إلى استنجاء آخر ، وبالنسبة إلى شخص آخر بناء على عدم اشتراط البكارة ، فهو قابل للتطهير غير قابل له. ( ومنها ) ان المتجه بناء على عدم الاجتزاء بذي الشعب عدم الاكتفاء بالخرقة المتجاوزة في الطول ولا بالخرقة المطبقة طبقات إلا بعد تقطيعها قطعا ، وكذلك الخرقة الثخينة التي لا تنفذ النجاسة من جهتها الأخرى ، فإنه لا يجوز استعمال تلك الجهة في ذلك الاستنجاء ، وقد التزم المحقق في المعتبر بعدم الاجتزاء بالطويلة إلا بعد تقطيعها ، وفيه من الجمود مالا يخفى ، ومن جهة ما فيه من الاستبشاع قال في المدارك بعد ان اختار عدم الاجتزاء بذي الشعب : « وينبغي القطع بإجزاء الخرقة الطويلة إذا استعملت من جهاتها الثلاث ، تمسكا بالعموم » انتهى. والظاهر أن مراده بالعموم انما هو الإطلاق المتقدم في حسنة ابن المغيرة ونحوه ، وحينئذ فإن كان مراده انه ينبغي الاقتصار على ذلك التثليث بالنسبة للأحجار ، لأنه الوارد في الأخبار ، ففيه مع عدم ظهور قائل بالفصل انه لا ينبغي التقييد بكونها طويلة ، وان كان يريد بقاءها داخلة تحت الإطلاق لطولها ففيه أنه لا فرق بين الأحجار والخرق ، فينبغي أن يلتزم بجواز الاستنجاء بذي الشعب إذا كان طويلا ، ولعله يلتزم بذلك. ( ومنها ) ان من قال بالاقتصار على العدد وعدم الاجتزاء بذي الشعب يريد بذلك بالنسبة إلى الثلاثة خاصة على الظاهر ، أما إذا لم ينق بها فيجتزى بالزائد عليها وإن كان‌

٤٥

بالشعب ، لكنه لا يخلو من اشكال. ( ومنها ) ان الظاهر الاكتفاء بذي الشعب إذا استنجى بالشعبة ثم كسرها واستنجى بالثانية وهكذا ، وفيه إشكال ، للشك في صدق الأحجار ، على أنه من الأفراد النادرة مضافا الى ما فيه من إشكال صدق البكارة ، كما تسمع إن شاء الله تعالى ، وأنت إذا أحطت خبرا بأطراف المسألة تكاد تقطع بالاجتزاء بذي الشعب ، وان ما ذكروه هنا من الجمود الغير المستحسن.

ولا يستعمل في الاستنجاء سواء كان للإزالة أو التعبد بناء على وجوبه الحجر ونحوه المستعمل في الاستنجاء النقائي أو التعبدي ، كما هو ظاهر القواعد والنافع وعن الوسيلة والنهاية والمهذب ، ونقله في كشف اللثام عن ظاهر الجامع والإصباح ، واختاره شيخنا في كشف الغطاء ، ومقتضى ذلك عدم جواز الاستنجاء بالمستعمل وإن لم يحصل له من الاستعمال نجاسة ، كما إذا كان مستعملا بعد حصول النقاء ، ولا ينفعه الغسل ، لأن أقصى ما ثبت من الشرع أن الغسل بالماء يزيل النجاسة ، لا أنه يزيل صفة الاستعمال ، فإنه على كل حال يصدق عليه أنه مستعمل ولو غسل مرات متعددة ، ولا فرق عندهم في عدم جواز الاستنجاء به بين الإزالة والتطهير ، بل لا يبعد أنه لا فرق في المستعمل بين كونه مستعملا في الاستنجاء أو في التطهير للقدم والنعل ونحو ذلك وإن لم يتنجس ، كما إذا كان مستعملا في إزالة النجاسة الحكمية ، لصدق اسم المستعمل عليه ، وقضاء ما تسمعه من الدليل به ، نعم الظاهر انهم يقصرون الحكم على المستعمل في النجاسة الخبثية ، دون المستعمل في الطهارة الحدثية كالمتيمم به ، بل ودون المستعمل استحبابا في النجاسة الخبثية ، كالأحجار المستعملة في الاستنجاء استحبابا بعد زوال العين على القول به ، أو الوتر التي يستحب القطع عليها ، وإن كان ظاهر لفظ المستعمل الشمول ، سيما للأول.

وكيف كان فأقصى ما يستدل به على ذلك الأصل ، والمرسل عن الصادق ( عليه‌

٤٦

السلام ) « جرت السنة في الاستنجاء بثلاثة أحجار أبكار ويتبع بالماء » (١) المؤيد بأن المستعمل من الأفراد الخفية ، فلا تشمله الإطلاقات ، وفي الجميع نظر واضح ، ومن هنا صرح بعض المتأخرين كالمحقق الثاني وغيره بجواز استعمال المستعمل إذا لم يكن عليه نجاسة ، كما إذا كان مستعملا بعد زوال العين ، أو كانت وغسلت ، بل هو قضية كلام المصنف في المعتبر ، بل هو المنقول عن ابن إدريس أيضا ، بل قد يقال : انه ظاهر المعظم ، لاقتصارهم على اشتراط الطهارة ، بل في الغنية ما نصه يجزي الأحجار مع وجود الماء ، أو ما يقوم مقامها من الجامد الطاهر المزيل للعين ، سوى المطعوم والعظم والروث ، إلى أن قال : ويدل على جميع ذلك الإجماع المشار اليه ، بل قد صرح جملة من الأصحاب بجواز الاستنجاء بالمتنجس بالاستنجاء بعد غسله وتطهيره ، بل في المصابيح ولو طهر المتنجس بالاستنجاء أو غيره جاز استعماله إجماعا ، بل قد يستدل عليه بالعموم الواقع لهم في غير المقام من جواز الاستنجاء بكل جسم طاهر ، بل ربما نقل الإجماع عليه ، كما أنه نسب إلى أكثر أهل العلم ، وكونه مساقا للرد على مشترط الأحجار لا يقتضي اختصاصا ، بل قال في المنتهى : يجوز استعمال كل جامد طاهر إلا ما نستثنيه ، وهو قول أكثر أهل العلم ، ولم يستثن المستعمل فيما استثني ، نعم استثني النجس ، بل قد يقال : انه لا خلاف فيه على أن يراد بالمستعمل في كلام من لم يعطف النجس عليه المتنجس ، كما هو الغالب المعتاد ، بل في كلام من عطفه عليه أيضا ، كالمصنف والعلامة المتنجس بالاستنجاء وبالنجس المتنجس بغيره ، بل قد يقال في عبارة المصنف وإن كان بعيدا : ان المراد بالمستعمل فيها المتنجس بالعارض ، وبالأعيان النجسة ما كانت نجاستها ذاتية ، فتكون المسألة خالية عن المخالف.

ويؤيده ما يظهر من المصنف في المعتبر ، فإنه قال : وأما الحجر المستعمل فمرادنا بالمنع الاستنجاء به بموضع النجاسة ، وأما لو كسر واستعمل المحل الطاهر منه جاز ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ٤.

٤٧

وكذا لو أزيلت النجاسة بغسل أو غيره ، كالتذكرة ، ويشترط في الحجر أن لا يكون مستعملا لنجاسة المستعمل الى آخره ، ومع ذلك كله يدل عليه إطلاق أخبار الأحجار وغيرها ، من قوله يذهب الغائط ، ولا حد للاستنجاء حتى ينقى ما ثمة ، فينقطع الأصل ، وخبر الابكار مع كونه مقطوعا ، ولا شهرة تجبره ، ولا دلالة فيه على الوجوب محتمل لأن يراد بالأبكار الطاهرة ، فما سمعته من شيخنا في كشف الغطاء من اختياره الأول قد يقوى في النظر خلافه ، بل قد صرح ( سلمه الله تعالى ) بعدم جواز المستعمل وإن غسل ، وقد عرفت نقل الإجماع ونفي الخلاف فيه ، والله أعلم.

ولا الأعيان النجسة أي المتنجسة ولو بغير الاستعمال إجماعا ، كما في المنتهى والتحرير والغنية ، مضافا الى الأصل ، ورواية الأبكار المنجبرة بما سمعت ، فلا ينبغي الإشكال فيه ، نعم لو استجمر به فهل يتعين حينئذ الماء اقتصارا على المتيقن مع كون ذلك من الأفراد الخفية ، أو يبقى على الحال الأول لأن المحل النجس لا يتأثر بالنجاسة ، أو يفرق بين ما كان متنجسا بالغائط أو بغيره ، فان كان الأول يبقى على الحال الأول ، وإلا يتعين الماء؟ وجوه ، أقواها الأول.

ولا الروث وإن كان طاهرا ولا العظم كذلك بلا خلاف أجده ، بل عليه في المعتبر وعن ظاهر الغنية وصريح المصابيح دعوى الإجماع ، ونسبه في المنتهى إلى علمائنا ، وعدم التعرض لهما في الوسيلة والمراسم على ما قيل وللأول في المبسوط مع عد الثاني مما لا يزيل عين النجاسة ليس خلافا ، كما أن احتمال الكراهة في التذكرة والحكم بها في الوسائل غير قادح في الإجماع ، فلا ضير في الاستناد إليه مع الاستصحاب ، وخبر ليث المرادي عن الصادق عليه‌السلام (١) « سألته عن استنجاء الرجل بالعظم أو البعر أو العود؟ فقال : أما العظم والروث فطعام الجن وذلك مما اشترطوا على‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ١.

٤٨

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال لا يصلح بشي‌ء من ذلك » وعن الفقيه (١) انه قال : « لا يجوز الاستنجاء بالروث والعظم لأن وفد الجان جاؤوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : يا رسول الله متعنا. فأعطاهم الروث والعظم. فلذلك لا ينبغي ان يستنجى بهما » وعن كتاب‌ دعائم الإسلام (٢) قالوا : « نهوا عليهم‌السلام عن الاستنجاء بالعظام والبعر وكل طعام » وعن‌ مجالس الصدوق (٣) « ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى أن يستنجى بالروث والرمة أي العظم البالي » بل يؤيده ما رواه‌ العامة (٤) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : « لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام ، فإنه زاد إخوانكم من الجن » وعن‌ الدار قطني (٥) « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى أن يستنجى بروث أو عظم ، وقال : انهما لا يطهران » وعن‌ أبي داود (٦) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال لرويفعة بنت ثابت : « أخبري الناس أنه من استنجى برجيع أو عظم فهو بري‌ء من محمد » بل في الخلاف‌ روى سلمان (٧) قال : « أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن نستنجي بثلاثة أحجار وليس فيها رجيع ولا عظم » والضعف في سند أخبارنا ، أو في دلالتها لمكان لفظ لا ينبغي ونحوه منجبر بعمل الأصحاب في المقام ، بل يظهر منهم عند الاستدلال على حرمة الاستنجاء بالمطعوم أنه من المسلمات ، حيث يأخذونه دليلا عليه ، لكن ظاهر النص والفتوى تخصيص الحكم بما سمي روثا ، وهو رجيع ذات الحافر من الخيل والبغال والحمير ونحوها. فرجيع ذات الظلف والخف خارج ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ٤.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ٥.

(٤) كنز العمال ـ المجلد ٥ ص ٨٥ الرقم ١٧٨٨.

(٥) المنتقى لابن تيمية على هامش نيل الأوطار للشوكانى المجلد ١ ص ٨٤.

(٦) سنن البيهقي المجلد ١ ص ١١٠ ـ مع اختلاف في اللفظ.

(٧) سنن ابن ماجه المجلد ـ ١ ـ باب الاستنجاء بالحجارة والنهي عن الروث والرمة.

٤٩

فيجوز الاستنجاء به حينئذ ، لما تقدم من جوازه بكل جسم ، بل قد يشعر بذلك ما في خبر ليث ، حيث سأله عن البعر ، فعدل عنه في الجواب وعبر بالروث ، ولفظ البعر في المنقول عن دعائم الإسلام محمول على الروث ، لعدم الجابر له على إطلاقه ، كلفظ الرجيع في رواية الخلاف المصرح بأنه الروث في القاموس والصحاح ، على انها عامية ، والتعليل بكونه طعام الجن يحتمل أن يكون لخوف الظلم والأذية لهم ، أو يكون من جهة الشرفية الحاصلة له ، فيحرم الاستنجاء به ، وإن لم يتنجس على الثاني ، بخلاف الأول لعدم تنجسه ، لكن لا مانع من جعل وجه التعليل الأمرين معا ، ولا فرق في العظم بين عظم مأكول اللحم أو غير مأكول اللحم ، ودعوى أن الجن حكمهم متفق مع الانس ، فكما أن غير مأكول اللحم محرم على الانس ، فكذلك الجن يدفعها عدم معلومية الاتفاق أولا ، وعدم معلومية كيفية تغذيهم به هل هو على طريق الشم أو غيره ثانيا ، ثم انه يفهم من التعليل جريان الحكم بالنسبة إلى مطلق التنجيس والتقدير والإلقاء في الخلوات ونحو ذلك ، لكن لما لم يجبره عمل الأصحاب بقي على أصل الإباحة ، إذ الظاهر منهم قصر الحكم على الاستنجائية.

ولا المطعوم كما ذكره جماعة من أصحابنا ، بل نسبه في المنتهى إلى علمائنا ، كما عن ظاهر الغنية والروض الإجماع عليه ، بل ربما ظهر من غيرهما ذلك ، وهو الحجة ، مضافا إلى ما تقدم في خبر الدعائم ، وفحوى النهي عن الروث والعظم لكونه من طعام الجن ، مع ما دل من الأخبار على احترامه ، كخبر الثرثار (١) فإنه روي « أنهم جعلوا من طعامهم شبه السبائك ينجون صبيانهم ، فغضب الله عليهم حتى أحوجهم إلى تلك السبائك ، فقسموها بينهم بالوزن » وعن‌ تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى (٢)

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٠ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ١.

(٢) سورة النحل الآية ـ ١١٣.

٥٠

( ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها ) الى آخره « أنها نزلت في قوم كان لهم الثرثار ، وكانت بلادهم خصبة ، فبطروا حتى كانوا يستنجون بالعجين ، ويقولون هو ألين لنا فكفروا بأنعم الله فحبس الله عليهم الثرثار ، فجدبوا حتى أحوجهم إلى ما كانوا يستنجون به حتى كانوا يتقاسمونه » (١) ويظهر من بعض الأصحاب تخصيص الحكم بالمحترم وهو قاض بان منه محترما وغير محترم ، بل عن بعضهم تخصيص الحكم بالخبز ، لكن الذي يظهر من الأصحاب وهذه الآية والتعليل بكونه طعام الجن ثبوت الاحترام لكل نعم الله من المطعومات ، وفي‌ خبر هشام بن سالم (٢) سأله « عن صاحب له فلاح يكون على سطحه الحنطة والشعير ، فيطؤونه ويصلون عليه ، فغضب عليه‌السلام وقال : لو لا أني أرى أنه من أصحابنا للعنته » وقوله (ع) في خبر عمرو بن جميع (٣) : « دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرأى كسرة كاد أن يطأها ، فأخذها وأكلها ، ثم قال : يا حميرا أكرمي جوار نعم الله عز وجل عليك ، فإنها لم تنفر عن قوم فكادت تعود إليهم » نعم لا يبعد عدم ثبوت الاحترام بالنسبة إلى بعض المطعومات الغير المعتادة كبعض البقول ، بل الإنصاف ان بعضا من المعتاد كاللحم ونحوه ليس مبنيا على الاحترام ، والحاصل كل ما ثبت فيه جهة احترام من الشرع جرى عليه الحكم وان لم يكن مطعوما بالفعل ، بل قد عرفت دعوى الإجماع على المطعوم من غير استثناء ، ولا فرق في عدم جواز الاستنجاء به بين الإزالة للنجاسة أو التطهير الشرعي. ثم أنه يفهم من كثير من الأصحاب بل لم أعثر فيه على مخالف جريان الحكم في كل محترم ، كالتربة الحسينية وغيرها وما كتب اسم الله والأنبياء والأئمة أو شي‌ء من كتاب الله عليه ، بل قد يلحق به كتب الفقه والحديث‌

__________________

(١) تفسير الصافي ـ سورة النحل ـ الآية ١١٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٧٨ ـ من أبواب آداب المائدة ـ حديث ٣ من كتاب الأطعمة.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٧٦ ـ من أبواب آداب المائدة ـ حديث ٤ من كتاب الأطعمة.

٥١

ونحوها ، بل قد يتمشى الحكم في المأخوذ من قبور الأئمة من تراب أو صدوق أو غيره ، بل قد يلحق بذلك المأخوذ من قبور الشهداء والعلماء بقصد التبرك والاستشفاء دون مالا يقصد ، إذ الأشياء منها ما ثبت وجوب احترامها من غير دخل للقصد فيه ، ومنها ما لا يثبت له جهة الاحترام إلا بقصد أخذه متبركا به أو مستشفيا به ، ومنها ما يؤخذ من الإناء من طين كربلاء وغيرها ، فإنه لا يجري عليه الحكم إلا إذا أخذ بقصد الاستشفاء والتعظيم والتبرك ، لكن هل استمرار القصد شرط في ذلك أو يكفي تحقق القصد أولا؟ إشكال ، هذا.

ولا يخفى عليك أنه لا يليق بالفقيه الممارس لطريقة الشرع العارف للسانه ان يتطلب الدليل على كل شي‌ء شي‌ء بخصوصه من رواية خاصة ونحوها ، بل يكتفي بالاستدلال على جميع ذلك بما دل (١) على تعظيم شعائر الله ، وبظاهر طريقة الشرع المعلومة لدى كل أحد ، أترى أنه يليق به أن يتطلب رواية على عدم جواز الاستنجاء بشي‌ء من كتاب الله.

ثم ليعلم ان ما ذكرنا من حرمة الاستنجاء بالمحترم انما هو حيث لا يكون مع قصد الإهانة ، وإلا فقد يصل فاعله بالنسبة الى بعض الأشياء إلى حد الكفر والعياذ بالله ، والضابط أن كل مستحل مما علم تحريمه من الدين ضرورة ، أو فعله بقصد التكبر والعناد أو الفسق وإن لم يكن مستحلا تحقق به الكفر ، فيكون بخسا ذاتيا ، فلا يفيده الاستنجاء طهارة ، فإن عاد إلى الإسلام وجب إعادة الاستنجاء ، لا يقال : الإسلام من جملة المطهرات ، فلا حاجة الى إعادة الاستنجاء ، لأنا نقول : ان أقصى ما ثبت أن الإسلام مطهر من النجاسة الكفرية دون غيرها ، نعم قد يقال : بحصول الطهارة لما تنجس من بدنه ونحوه إذا كان قد أزالها على نحو إزالة المسلم ، أو لم يعلم كيف أزالها ، أما لو علم بالإزالة الفاسدة فلا يجزي الحكم ، والقول بحصول الطهارة له حيث يستنجي‌

__________________

(١) سورة الحج ـ الآية ٣٣.

٥٢

بما تقدم من تلك النجاسة وإن ثبت له النجاسة العينية بعيد ، وكيف ومن شرط التطهر بالاستنجاء بالأحجار ان لا يتنجس الحجر بغير النجاسة الحاصلة من الاستجمار ، والفرض انه تنجس بمماسته لبدن الكافر ، وما عساه يقال : ـ ان سائر الذوات النجسة عينا لو أصابتها نجاسة خارجية فهي لا تتصف بالتنجيس ، نعم يدور الحكم مدار وجود عينها ، فالكلب لا يتنجس بالدم مثلا ، حتى إذا زال الدم عنه يبقى حكمه ، فالمدار على زوال عين النجاسة الخارجة عنها ـ فيه أنه على تقدير تسليمه لا يتمشى فيما نحن فيه من الكافر ، لتكليفه بالفروع ، فإذا أصابته نجاسة فهو مكلف بإزالتها على الوجه الشرعي ، وخبر الجب لم يعلم إرادة ما يشمل ذلك فيه مع أنه غير جامع لشرائط الحجية ، فلا ريب أن القاعدة تقتضي إعادة الاستنجاء ، ولا دليل يخرج عنها ، ولا يمكن دعوى السيرة الصالحة للاستدلال بها في المقام ، لكن ومع ذا والمسألة لا تخلو من تأمل ، بل للبحث فيها مقامات ، تركناه خوف الإطالة والملل.

ولا صيقل يزلق عن النجاسة لملاسته فلا يزيلها ، وحينئذ فاشتراطه واضح ، أما لو اتفق القلع به فلم أعثر على ما يقتضي عدمه ، وما ذكروه من التعليل انما هو خاص بالأول ، ولذا صرح بعضهم بالاجتزاء به ، نعم عن العلامة في النهاية عدم الاجتزاء ، وكأنه لكونه من الأفراد النادرة التي لا تشملها الإطلاقات ، وفيه منع واضح ، وعلى تقدير تسليمه في الإطلاقات فما ذكروه من الإجماع المنقول على الاجتزاء بكل جسم طاهر مزيل للنجاسة كاف ، وما عساه يقال : ان ظاهر المشترطين لذلك يقضي بعدم جواز الاستنجاء به وإن قلع ، وإلا لم يكن وجه صحيح للتعرض له ، لأنه مع عدم الإزالة لا إشكال في عدم الاجتزاء به ، فلا يناسب عده في تلك الأشياء ، ففيه أنه لا يخفى على الملاحظ لما ذكروه من الاستدلال عليه من عدم الإزالة ونحوها أنه ذكر لهذا القصد ، وإلا كانوا مطالبين بدليله ، فالأقوى حينئذ الاجتزاء به لو اتفق القلع به ولو نادرا ، فحينئذ لا ينبغي الإشكال في الاجتزاء بامراره لو نقي المحل بدونه ، وما يقال :

٥٣

انه يشترط فيها وإن لم يكن نجاسة أن تكون قابلة للقلع لو كانت في غاية الضعف ، إذ لا دليل يقتضيه ، بل هو يقتضي عدمه.

ولو استعمل شيئا من ذلك لم يطهر قطعا في غير العظم والروث والمطعوم والمحترم ، وأما المستعمل بالمعنى السابق فهو مبني على القول باشتراطه ، وقد صرح بعدم حصول الطهارة في المبسوط والمعتبر كما عن ابن إدريس ، بل ربما نقل عن المرتضى ، قال في الأول : « كل ما قلنا لا يجوز استعماله لحرمته أو لكونه نجسا ان استعمل في ذلك ونقي به الموضع لا يجزي ، لأنه منهي عنه ، والنهي يقتضي الفساد » انتهى. خلافا للعلامة وجمع من المتأخرين ، فصرحوا بالاجتزاء ، وأقصى ما يمكن الاستدلال به للأول الأصل ، وعدم شمول ما دل على الاستنجاء لما نهى الشارع عنه ، ولا أقل من إفادته الأذن التي لا تشمل المنهي عنه ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) في العظم والروث : ( لا يصلح ) الظاهر في عدم حصول الطهارة المؤيد بالرواية العامية أنهما لا يطهران ، بل ربما يقال : بشموله للمحترم أيضا ، لكون الظاهر من التعليل الاحترام ، مضافا إلى ما نقل عن الغنية من الإجماع على عدم الاجتزاء بالروث والعظم والمطعوم ، بل قيل أنه إن ثبت هذا الإجماع يثبت في سائر المحترم بطريق أولى.

وأقصى ما يمكن أن يستدل به للثاني تناول الإطلاقات والعمومات ، والنهي لا يقتضي الفساد في مثل ، المقام ، لكونه من قبيل المعاملات ، ودعوى عدم تناولها له لاستفادة الإذن منها ، فلا تشمل المنهي عنه يدفعها أن الحكم الوضعي المستفاد منها شامل للجميع ، على أن الاستفادة ليس من المدلول في شي‌ء ، وعلى تقديره فلا دلالة فيها على شرطية الاذن بالنسبة للطهارة ، ولعل الأقوى التفصيل بين ما نهي عن الاستنجاء به كالعظم والروث ، فانا وإن لم نقل باقتضاء الفساد في مثله عقلا ، لكن نقول باستفادته‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ١.

٥٤

عرفا كما لا يخفى ، إذ هو كالنهي عن نفس المعاملة ونحوه مما يستفاد منه عدم ترتب الأثر عليه ، بل قوله ( لا يصلح ) ظاهر في عدم ترتب الأثر الشرعي عليه ، وبين ما لم ينه عن الاستنجاء به ، بل جائت حرمة الاستنجاء به لأمر خارج مثل المحرمات ، فإنه لا نهي عن الاستنجاء بها ، لكنه يحصل الحرمة من جهة منافاته للاحترام المأمور به ، فحالها كحال الحجر المغصوب ونحوه ، وما يقال : من استفادة ذلك من التعليل في العظم والروث فيه أنه لم يعلم أن العلة في عدم الطهارة الاحترام حتى تتسرى ، مضافا الى أنه ضعيف السند ، ولا جابر له في مثل المقام ، بخلافه في مثل العظم والروث ، فإنه مجبور بإجماع الغنية وغيره ، نعم قد يلحق به المطعوم أيضا لذلك ، وأما المحترمات الأخر فمن استنجى بها جاهلا أو ناسيا أو نحو ذلك طهر ، ولا حرمة ، بل العامد كذلك لكن مع الحرمة ، فتأمل هذا. واعتبر في محكي المنتهى والتذكرة وصفا آخر ، وهو الجفاف ، لأن الرطب ينجس بالغائط ، ثم يعود الى المحل فينجسه ، ولأنه مزيد التلوث والانتشار ، وكذا عن نهاية الأحكام ، مع احتماله فيه العدم ، لاحتمال أنه لا ينجس البلل إلا بعد الانفصال ، وعن الذكرى لذلك ولكون نجاسته من نجاسة المحل ، وهذا كله في رطب لا يوجب التعدي الموجب للاستنجاء. الثالث

( في سنن الخلوة وهي )

مندوبات ومكروهات ، فمن المندوبات تغطية الرأس كما في الهداية والمقنعة والمبسوط والمعتبر والقواعد والإرشاد والذكرى والروض والمدارك وكشف اللثام وغيرها ، بل في المعتبر والذكرى الاتفاق عليه ، وعن الفقيه تعليله بالإقرار بأنه غير مبرء نفسه من العيوب ، وفي المقنعة (١) أنه سنة من سنن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليأمن بذلك من عبث الشيطان ، ومن وصول الرائحة الخبيثة إلى دماغه ، وفيه إظهار الحياء من الله‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ١.

٥٥

تعالى لكثرة نعمه على العبد ، وقلة الشكر منه ، بل قد يستدل عليه بخبر علي بن أسباط (١) أو رجل عنه عمن رواه عن الصادق عليه‌السلام « أنه كان إذا دخل الكنيف يقنع رأسه ، ويقول سرا في نفسه بسم الله وبالله » الى آخره وبالمروي‌ عن المجالس (٢) بإسناده عن أبي ذر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وصيته له قال : « يا أبا ذر استحي من الله ، فاني والذي نفسي بيده لأظل حين أذهب إلى الغائط متقنعا بثوبي استحياء من الملكين اللذين معي » لكن قد يقال : ان المستفاد منهما استحباب التقنع ، ولعله غير التغطية ، بل هو الظاهر من جماعة ، لذكرهم له مستقلا عنها ، إلا أنه قد يشعر كلام المفيد والصدوق بإرادة التقنع من التغطية ، والأقوى ثبوت الاستحباب لهما معا ، أما التغطية فلما سمعت ، وأما التقنع فلما‌ روي عن الصادق عليه‌السلام « أنه كان يقنع رأسه إذا دخل الخلاء » نعم حيث يحصل التقنع يكتفى به عن التغطية ، بل قد يقال : ان المراد بالرأس في المقام رأس القصاص ، فيكون تغطيته عين التقنع ، فلا خلاف حينئذ ، لكنه لا يخلو من بعد ، وقد يظهر من بعضهم ثبوت الكراهة لمكشوف الرأس ، قلت : لكن ترتفع حينئذ بستر بعضه وإن لم يحصل استحباب التغطية ، لتوقفها عليه جميعه ، فتأمل.

والتسمية اتفاقا كما في المعتبر ، وهو الحجة ، مضافا إلى ما تقدم من خبر علي بن أسباط ، وفي‌ صحيح معاوية بن عمار (٣) سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : « إذا دخلت المخرج فقل بسم الله اللهم إني أعوذ بك من الخبيث المخبث الرجس النجس الشيطان الرجيم ، وإذا خرجت فقل بسم الله وبالله والحمد لله الذي عافاني من الخبيث المخبث ، وأماط عني الأذى » ولا ينافيه ما ورد (٤) في غيره من الأخبار من‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ٢ و ٥ و ٦.

٥٦

الدعاء بذلك عند دخول الخلاء من غير ذكر التسمية ، وللمرسل عن الصادق عليه‌السلام « انه كان إذا دخل الخلاء يقنع رأسه ، ويقول في نفسه بسم الله وبالله ولا إله إلا الله ، رب أخرج مني الأذى سريعا بغير حساب ، واجعلني لك من الشاكرين » إلى آخره. وما عن وجادة‌ الصدوق (١) بخط سعد بن عبد الله مسندا عنه عليه‌السلام أنه قال : « من كثر عليه السهو في الصلاة فليقل إذا دخل الخلاء : بسم الله وبالله أعوذ بالله » الى آخره. بل يستفاد من‌ المنقول (٢) عن أبي جعفر عليه‌السلام استحباب التسمية عند التكشف ، لأنه قال : « إذا انكشف لبول أو لغير ذلك فليقل بسم الله ، فان الشيطان يغض بصره » كما أنه يستفاد من‌ خبر أبي أسامة (٣) عن الصادق عليه‌السلام استحباب مطلق ذكر الله عند دخول الخلاء ، لأنه سئل وهو عنده « ما السنة في دخول الخلاء؟ قال : يذكر الله ، ويتعوذ من الشيطان الرجيم » والظاهر مما ذكرنا استحبابها مطلقا في الأبنية وغيرها كما هو الظاهر من المصنف ، بل يدل عليه إطلاق إجماعه في المعتبر.

وتقديم الرجل اليسرى عند الدخول كما نص عليه جماعة ، بل في المدارك أنه مشهور بين الأصحاب ، بل في الغنية الإجماع عليه ، كاستحباب تقديم اليمنى عند الخروج ، وعلل بالفرق بينه وبين المسجد ، فينبغي حينئذ تقديم اليمنى عند الخروج ، كما صرح به بعضهم ، ولعله للتسامح في أدلة السنن يكتفى في ثبوته بفتوى من تقدم ، مضافا إلى إجماع الغنية ، لكن هل يقتصر في الاستحباب على البناء خاصة ، كما هو المنساق منه إلى الدهن ، أو لما هو أعم منه على إرادة تقديمها بالنسبة إلى الموضع الذي يجلس فيه ، وكذلك تقديم اليمنى عند الانصراف؟ وجهان ، أقربهما الثاني ، كما عن العلامة في نهاية الأحكام ويستحب الاستبراء كما في المراسم والمعتبر والمنتهى والقواعد‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ٨.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ٩.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ١٠.

٥٧

والدروس وغيرها ، وليس بواجب كما هو المشهور ، بل لا خلاف فيه بين المتأخرين ، للأصل ، مع إشعار جملة من الروايات (١) به ، بل ظهورها ، نعم وقع الأمر به بالجملة الخبرية في‌ الحسن كالصحيح (٢) قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : « رجل بال ولم يكن معه ماء ، قال : يعصر أصل ذكره إلى طرفه ثلاث عصرات ، وينتر طرفه ، فان خرج بعد ذلك شي‌ء فليس من البول » وصحيح حفص بن البختري عن الصادق عليه‌السلام (٣) « في الرجل يبول ، قال : ينتره ثلاثا ، فان سال حتى بلغ الساق فلا يبالي » وهو ـ مع كون الأمر فيهما بالجملة الخبرية ، وإعراض المشهور عنهما ، وإشعار ذيلهما بإرادة الأمر فيهما للحكم بعدم المبالاة بما يخرج بعد ذلك ـ لا يبعد حمله على الاستحباب ، بل لو لا فتوى الجماعة بذلك لأمكن التأمل فيه ، لظهورهما في إرادة الإرشاد ، فما يظهر من ابن حمزة من القول بالوجوب ، كما عن ابن زهرة والشيخ في الاستبصار ضعيف جدا ، لمنافاته لما يظهر من كثير من الروايات (٤) من حصول الطهارة بدونه إن أرادوا توقف الطهارة عليه ، وإلا فلا معنى لوجوبه إلا وجوب إعادة الاستنجاء والوضوء ان يظهر بلل مشتبه ، وهو اتفاقي كما قيل ، فيرتفع الخلاف حينئذ ، واحتمال القول بالوجوب التعبدي في غاية الضعف ، كاحتمال القول بوجوب إعادة الاستنجاء حتى فيما علم ان الخارج مذي أو وذي ، فيكون هذا حينئذ ثمرة ، فتأمل جيدا.

ثم أن الظاهر قصر استحبابه على الرجال خاصة ، لعدم الدليل عليه بالنسبة للنساء ، إلا أنه صرح في المنتهى كما عن النهاية بالتعميم ولم يبين كيفيته فيها ، ولعله الخرط عرضا ، ويمكن الحكم به للتسامح والاستظهار في خروج البول ، لكن ينبغي القطع في‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب أحكام الخلوة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ٢.

(٣) الاستبصار ـ الباب ـ ٢٨ ـ حديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب أحكام الخلوة.

٥٨

عدم جريان حكم المشتبه قبله بالنسبة إليها ، كما في الرجال وإن قلنا باستحبابه ، لعدم الدليل ، مع أصالة الطهارة المنافية لحدثيته.

وأما كيفية الاستبراء فسيأتي الكلام عليها في باب الغسل إن شاء الله تعالى والدعاء عند الاستنجاء بالمأثور من‌ قوله : « اللهم حصن فرجي وأعفه ، واستر عورتي ، وحرمني على النار » وعند الفراغ منه ، « الحمد لله الذي عافاني من البلاء ، وأماط عني الأذى » وتقديم اليمنى عند الخروج عكس الدخول ، كما عرفت وجهه مما سبق والدعاء بعده أو عنده ، بقوله : « بسم الله ، الحمد لله الذي رزقني لذته وأبقى قوته في جسدي ، وأخرج عني أذاه ، يا لها نعمة ثلاثا » ومن المكروهات الجلوس للبول أو الغائط في الشوارع جمع شارع وهو الطريق الأعظم كما عن الصحاح ، ولعل المراد بها هنا مطلق الطرق النافذة ، إذ المرفوعة ملك لأربابها ، والمشارع جمع مشرعة ، وهو مورد الماء كشطوط الأنهار ، وفي القاموس أنها مورد الشاربة ، بلا خلاف أجده فيهما ، سوى ما في الهداية والمقنعة لا يجوز مع احتمال ، أو ظهور إرادتهما الكراهة ، لما في الغنية من الإجماع على استحباب اجتنابهما ، وهو ـ مع الأصل والشهرة العظيمة التي كادت تكون إجماعا ، بل هي كذلك ـ قرينة على صرف ما تسمع من الأخبار عن ظاهرها ، مع ما في بعضها من الاشعار بذلك ، ( منها ) قول علي بن الحسين عليه‌السلام (١) في الجواب عن سؤال من سأله أين يتوضأ الغرباء؟ : « تتقي شطوط الأنهار ، والطرق النافذة » الحديث. وفي‌ المرفوعة (٢) قال : « خرج أبو حنيفة من عند أبي عبد الله عليه‌السلام وأبو الحسن عليه‌السلام قائم وهو غلام فقال : يا غلام أين يضع الغريب ببلدكم ، فقال : اجتنب أفنية المساجد وشطوط الأنهار » الحديث. وفي‌ خبر السكوني (٣) عن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام قال : « نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتغوط على شفير بئر ماء يستعذب منها ، أو نهر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ٣.

٥٩

يستعذب ، أو تحت شجرة فيها ثمرتها » وفي‌ وصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام (١) « كره البول على شط نهر جار » وفي‌ حديث المناهي (٢) قال : « نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبول أحد تحت شجرة مثمرة ، أو على قارعة الطريق » وغير ذلك.

وتحت الأشجار المثمرة كما عبر بذلك أكثر الأصحاب تبعا لصحيح عاصم (٣) وإذ كان المشهور عند الإمامية عدم اشتراط بقاء المبدء في صدق المشتق صرح المحقق الثاني وتبعه عليه غيره أن المراد بالمثمرة ما من شأنها الاثمار ، وفيه أنه بعد التسليم ينبغي تعميمه لما أثمرت وزال ثمرها ، لا لمن شأنها أن تثمر وإن لم تثمر ، فان صدق المشتق عليه مجاز من غير إشكال ، على أن خبر السكوني المتقدم شجرة فيها ثمرتها ، ونحوه خبر حصين بن مخارق (٤) كما قيل ، وفي آخر (٥) « وكره أن يحدث الرجل تحت شجرة قد أينعت ، أو نخلة قد أينعت » والتعليل في‌ الفقيه (٦) وعن العلل عن الباقر عليه‌السلام « وانما نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يضرب أحد من المسلمين خلاء تحت شجرة أو نخلة قد أثمرت لمكان الملائكة الموكلين بها ، قال : ولذلك تكون النخلة والشجرة أنسا إذا كان فيه حمله ، لأن الملائكة تحضره » مما يستفاد إرادة الاثمار الفعلي ، وبه أفتى جماعة من المتأخرين ، ويؤيده الأصل لكن لما كان الحكم مكروها أمكن القول بالتعميم لما زال ثمرها ، سيما مع تعبير الأصحاب بالمشتق ، ومعروفية مذهبهم حتى أنهم في أصول الفقه جعلوه مثالا لمحل النزاع ، ونسبوا إلى الشيعة القول بعدم الاشتراط ، بل قد يستفاد من المروي في الفقيه (٧) كون الملائكة موكلين بالأشجار حال عدم الثمرة ، على أنه لا منافاة بين ما دل على الكراهة تحت المثمرة فعلا وبين المشتق المفيد للأعم من ذلك إلا بمفهوم الوصف‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ٩.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ١٠.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ٦.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ١١.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ٨.

(٧) البحار ـ المجلد ـ ١٨ ـ باب آداب الخلاء ص ٤٠.

٦٠