جواهر الكلام - ج ٢

الشيخ محمّد حسن النّجفي

بحيث لو سئل لقال أريد الفعل لذلك ، وبهذا تظهر الثمرة بينه وبين القول بالإخطار ، فتأمل جيدا. ولعل الأولى أن يجعل المدار بناء على الداعي على مالا يعد في العرف انه فعل ساه خال عن القصد ليكتفى بذلك ، ويأتي إن شاء الله تعالى في الاستدامة للبحث تتمة.

وكيفيتها أن ينوي الوجوب في الواجب أو الندب في المندوب كما هو خيرة المنتهى والإرشاد والتحرير والشهيد في اللمعة والألفية ، وهو المنقول عن الغنية والمهذب والكافي ، وربما نقل عن الراوندي وابن حمزة ونسب إلى الأكثر في بعض حواشي الألفية ، وفي آخر انه المفتي به ، وعن كتب أهل الكلام من مذهب العدلية انه يشترط في استحقاق الثواب على واجب ان يوقعه لوجوبه أو وجه وجوبه على رأي » كما هو ظاهر اختيار السرائر والتذكرة وجامع المقاصد ، وفسر الوجه بأنه اللطف عند أكثر العدلية ، وأنه ترك المفسدة اللازمة من الترك عند بعض المعتزلة ، والشكر عند الكعبي ، ومجرد الأمر عند الأشعرية ، وعن الروضة دعوى الشهرة على وجوب نية الوجوب في الصلاة ، بل في ظاهر التذكرة الإجماع عليه هناك ، ولعله يفرق بين الصلاة وبين ما نحن فيه كما ستسمعه إن شاء الله تعالى ، ومن هنا نقل عن بعضهم أنه أنكر الوجوب هنا وقال به في الصلاة.

وكيف كان فقد اختار المصنف في المعتبر في المقام عدم الوجوب ، واليه ذهب كثير من متأخري المتأخرين وجملة مشايخنا المعاصرين ، وهو المنقول عن المفيد في المقنعة والشيخ في النهاية ، بل نقله الشهيد في نكت الإرشاد عن المرتضى وظاهر الشيخ في الاقتصاد وعن المصنف في الطبرية ، بل ربما كان ظاهر سلار والجعفي ، لإطلاقهم النية على ما قيل كظاهر النافع ، بل قد يكون ظاهر الشيخ في المبسوط أيضا ، لأنه ذكر وجوب نية رفع الحدث أو استباحة مشروط بالطهارة ولم يتعرض للوجوب والندب ، بل قد يكون ظاهر المتقدمين ، لتركهم التعرض للنية أصلا ، ولعله الأقوى في النظر ،

٨١

لكن ليعلم ان من تعرض لوجوب نية الوجوب ( منهم ) من أطلق نية وجوبه ، و ( منهم ) من يظهر منه وجوب ملاحظته علة وغاية ، فلا يكتفي به لو لا حظه قيدا ، ولعله لظاهر المنقول عن كتب المتكلمين ، وعن الوسيلة « وجوب ملاحظته وصفا لا غاية ».

وعلى كل حال فأقصى ما يمكن أن يستدل به لهم أن الامتثال بالمأمور به لا يتحقق إلا بالإتيان به على وجهه المطلوب ، وهذا لا يحصل إلا بالإتيان بالواجب واجبا والندب ندبا ، وبان الوضوء يقع تارة على وجه الوجوب وأخرى على الندب ، ولما كان الفعل قابلا لأن يقع لكل منهما كان تخصيصه بأحدهما محتاجا إلى نية ، لأن قصد جنس الفعل لا يستلزم وجوهه ، فكل فعل كان قابلا لأن يقع على وجوه متعددة افتقر اختصاصه بأحدها إلى النية ، وإلا فبدون ذلك لا يعد ممتثلا لأحدها ، فمن أوقع مثلا ركعتين ولم ينو أنهما صبح أو نافلة لم يمتثل أحد الأمرين ، إذ قصد التعيين لا إشكال في شرطيته وانه لا يتحقق الامتثال بدونه ، إذ ليس في الروايات ولا في غيرها ما يدل على حصول البراءة بدونه ، بل قد يشعر‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « وانما لكل امرئ ما نوى » بوجوبه ، على أنه‌ قد استفاض عنهم عليهم‌السلام « أنه لا عمل إلا بنية » ولم يعلم كيفيتها وهي وإن كانت شرطا للعبادة ولكن الشك في الشرط يقتضي الشك في المشروط ، وأيضا فالشك واقع في جزء النية فيجري عليها ما يجري عند الشك في جزء العبادة ، لكونها لمعنى جديد إما حقيقة أو مجازا وهو غير معلوم.

ولا يخفى عليك ما في الجميع ( أما الأول ) فلأنه إن أريد بوجوب إيقاع الفعل على وجهه إيقاعه على الوجه المأمور به شرعا فمسلم ، لكن كون النية المذكورة مما تعتبر شرعا أول البحث ، وإن أريد به إيقاعه مع قصد وجهه الذي هو الوجوب أو الندب فهو ممنوع ، وهل هو إلا مصادرة ، وإن أريد به الإشارة إلى وجوب الاحتياط في العبادة فهو راجع إلى التأييد الأخير وستسمع ما فيه. ( وأما الثاني ) ـ فمع كونه خروجا‌

٨٢

عن النزاع أولا ، لكون الكلام في وجوب نية الوجه لنفسه لا لكونه مقدمة للتعيين ، فان التعيين قد يحصل بغير ذلك من القصد إلى ذات وضوء مخصوص ونحوه ، وعدم اقتضائه الوجوب الغائي ثانيا ـ فيه ما قاله الشهيد في الروضة : « انه لا اشتراك في الوضوء حتى في الوجوب والندب ، لأنه في وقت العبادة الواجبة المشروطة به لا يكون إلا واجبا ، وبدونه ينتفي » لكن قد يقال عليه : ان التعدد قد يكون بزعم المكلف لجهل أو غيره ، بل إن أراد بقوله لأنه في وقت الى آخره انه لا يصح أن يقع وضوء مستحب لغاية مستحبة فهو ممنوع وإن كان فيه خلاف ، إلا أن الأقوى صحته ، ولا منافاة بين وجوبه لغاية واستحبابه لأخرى في وقت واحد ، وإن أراد ان وضوء تلك العبادة لا يكون حينئذ إلا واجبا فهو مسلم ، لكن الأول كاف في حصول الإبهام المحتاج إلى التعيين ، فالذي ينبغي ان يقال في المقام : انه لا إشكال في وجوب التعيين حيث يكون المكلف به متعددا نحو صلاة الصبح والنافلة ، فإن الامتثال يتوقف عليه ، ولأن صرف الفعل إلى واحد دون آخر ترجيح بدون مرجح ، والجنس لا يقوم بدون الفصل ، إذ الفرض ان الأمر وقع بخاص ، لكن هذا إذا كان المكلف به متعددا كل منهما غير الآخر إلا أنهما متفقان بالصورة ، أما في مثل المقام فلا تعدد في المكلف به ، إذ هو رفع حدث واحد ، وكونه مطلوبا على جهة الاستحباب لغاية وعلى جهة الوجوب لأخرى لا يقتضي تعدده ، وإلا لاقتضى وجوب ملاحظة خصوصيات الغايات مع انه لا قائل به ، واستحباب التجديدي انما هو ترتيبي فلا اجتماع حينئذ ، فلا يجب التعيين.

وأما ما يقال : ان التعدد قد يكون بزعم المكلف ففيه ما قد عرفت من أنه اشتراك لا يضر ، فلو زعم المكلف جهلا منه مثلا ان وضوء الفريضة يكون على جهة الوجوب ويكون على جهة الندب وأوقعه بقصد الثاني أو لم يعينه مع قصده القربة فإن الظاهر أن وضوءه صحيح ، لا يقال : ان‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لكل امرئ ما نوى » ينافي ذلك ، لأنا نقول : الظاهر أن المراد منه معنى آخر من الإخلاص وكون الفعل لله أو‌

٨٣

لغيره ، أو إذا كان المكلف به متعددا فتأمل ولاحظ.

نعم لو زعم المكلف جهلا منه أن ذمته مشغولة بوضوءين أحدهما وجوبي والآخر استحبابي وأوقعه مع ذلك غير معين لأحدهما أو أوقعه بقصد فعل الاستحبابي يمكن القول بالفساد ، لحصول الإبهام المحتاج الى التعيين ، وهو مفقود في الأولى ، وفاسد في الثانية ، مع أنه لا يخلو أيضا من إشكال وتأمل إلا إذا لم يكن قاصدا للامتثال ، وإلا فحيث يتحقق لا يبعد أن يقال : بالصحة فيهما معا وإن لم يعين في الأولى ، لحصول التعيين في الواقع وان أخطأ في الثانية ، فتأمل جيدا. وأما الكلام في التأييد السابق ففيه أولا ان لفظ الوضوء ليس من المجملات حتى تجري فيه القاعدة المذكورة كما سيظهر لك من الأخبار البيانية (١) وما يقال ـ : انه وان لم يكن لفظ الوضوء منها لكن لفظ النية لاستعماله في معنى جديد غير معلوم لنا ـ يدفعه ظهور ان ليس للفظ النية معنى غير المعنى اللغوي ، على انه ان سلمنا ان لها أو للوضوء معنى جديدا مجملا أمكن دعوى القطع أو الظن المعتبر بعدم دخول نية الوجوب أو الندب فيها أو فيه ، لخلو الكتاب والسنة وكتب المتقدمين عن الإشارة إليها مع عمومية البلوى بها واحتياج الناس إلى ذلك في اليوم الواحد مرات متعددة ، لكثرة العبادات من الواجبات والمستحبات المتكررة في كل يوم بالنسبة إلى أكثر الأشخاص فلو كان قصد الوجوب أو الندب معتبرا لأكثر الشارع من الأمر بالتعليم والتعلم ، ولشاع في الأعصار والأمصار ، واشتهر اشتهار الشمس في رابعة النهار ، ولخطبت بها الخطباء على رؤوس المنابر ونادت بها الوعاظ ، مع انه لم يصل إلينا في ذلك خبر ولا أثر ، بل الأخبار (٢) الواردة في كيفية التعلم خالية عن الإشارة إلى شي‌ء من ذلك ، ومثله الكتاب العزيز مع بيانه حقيقة الوضوء بقوله تعالى (٣) ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ) الى آخره ، وما يقال : ـ ان الآية قد ترك بيان أكثر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء.

(٣) سورة المائدة ـ الآية ٨.

٨٤

شرائط الوضوء من إباحة الماء والمكان ونحوهما ، فلعل النية من ذلك القبيل ، على أن اعتبارها ليس في الوضوء وحده لتذكر فيه ، بل هي في سائر العبادات ـ فيه مع أنه غير تام على القول بأنها شطر لا شرط أنه لا إشكال في دخولها في الكيفية وان قلنا انها شرط ، وليس حالها كحال غصبية الماء والمكان ونحوهما كما لا يخفى ، وكونها جارية في سائر العبادات لا يقتضي تركها عند بيان كيفية العبادة.

ثم انه على تقدير ذلك كان ينبغي ذكرها وبيانها في آية أو رواية مستقلة مع أنه لا شي‌ء من ذلك ، بل قد يظهر من بعض الروايات خلافه ، فإنهم عليهم‌السلام لا زالوا يأمرون بالمستحبات بلفظ ( افعل ) الظاهر في الوجوب ، بل يشركون بين الواجب والمستحب بلفظ واحد ، وفي بالي أن في‌ بعض الأخبار (١) أنه سأل أحد الأئمة عليهم‌السلام « عن شي‌ء فأمره به ، ثم جاءه في السنة الثانية فسأله عنه ثم أمره به ثم جاءه في السنة الثالثة فسأله عنه فأذن له في تركه » فهناك فهم أنه مستحب ، بل مما يؤيد ما ذكرنا انه لا ريب في أن طاعتنا لله تعالى على نحو طاعة العبيد لساداتهم ، ومن المقطوع به ان أهل العرف لا يعدون العبد الآتي بالفعل الخالي عن نية الوجوب أو وجه الوجوب عاصيا ، بل يعدونه مطيعا ممتثلا ممدوحا على فعله ، والحاصل صفة الوجوب والندب من الصفات الخارجة عن تقويم الماهية ، بل هما من المقارنات الاتفاقية ومثلهما القضائية والأدائية والقصرية والتمامية والزمانية والمكانية ونحو ذلك ، على انه كيف يتم وجوب نية الوجه وعدم استحقاق الثواب إلا بها كالامتثال مع أنه في كثير من المقامات لا يعرف الفعل انه واجب أو مندوب لاشتباه موضوع أو اشتباه حكم ، مع أن القول بالسقوط هنا مما لم يرتكبه ذو مسكة ، كالقول بتحقق الامتثال حينئذ ، وقصدهما على سبيل الترديد غير مفيد ، فلا ينبغي الإشكال حينئذ في عدم وجوب نية الوجوب والندب أو وجههما لا قيدا ولا غاية ، نعم نقول : بوجوب ذلك حيث يتوقف عليه التعيين ، لعدم حصول‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٩.

٨٥

الامتثال حينئذ إلا به ، بل لعل مراد من اشترط ذلك ذلك كما يقضي به بعض أدلتهم ، لكنك قد عرفت انه لا اشتراك في الوضوء يوجب ذلك ، لا يقال : ان جميع ما ذكرت أقصى ما يفيد الظن بعدم الوجوب لكنه ليس ظنا منشؤه آية أو رواية ، بل هو من أمور خارجة عن الأدلة الأربعة ، مع عدم القول بان كل ظن حصل للمجتهد حجة ، لأنا نقول : ـ بعد إمكان منع ذلك لرجوع بعض ما ذكرنا إلى الأدلة المعتبرة ـ انا نمنع عدم حجية كل ظن حصل للمجتهد بالنسبة إلى موضوع العبادة وإن منعناه في أصل الحكم ، لمكان كونها من الموضوعات التي يكتفى فيها بالظن ، فتأمل جيدا.

بقي شي‌ء وهو ان اللازم مما ذكرنا عدم وجوب نيتهما ، أما لو نوى كلا منهما في مقام الآخر جهلا أو غفلة لا تشريعا فربما ظهر من بعضهم بطلان الوضوء حينئذ ، واحتمل تنزيل كلام المعتبرين لاشتراط نية الوجه عليه ، وللنظر فيه مجال ، إذ قد يقال : انه بعد تحقق قصد الامتثال بالعبادة وتشخصها والفرض انها مطلوبة للشارع مرادة ، فنية انها واجبة وهي مستحبة أو بالعكس لا يؤثر في ذلك فسادا ، ومثل ذلك جميع الصفات الخارجية التي هي من المقارنات الاتفاقية بعد تشخيص أصل المكلف به كما هو واضح لمن تأمل ، نعم قد يقال : بحصول الاشكال فيما لو جهل جعل صفة الوجوب أو الاستحباب مشخصة لما زعم تعدده جهلا مثلا كما تقدمت الإشارة إليه سابقا ، والله أعلم.

ومن الكيفية ان ينوي القربة بلا خلاف أجده فيها ، بل في المدارك أنه موضع وفاق ، وكأن عدم ذكر البعض لها لعدم تعرضه لأصل النية لا يشعر بالخلاف ، بل إما لاكتفائهم باشتراط الإخلاص في العبادة المستلزم لها أو غير ذلك ، وكان خلاف المرتضى (ره) الآتي إن شاء الله في صحة العبادات الريائية وإن كان لا ثواب عليها ليس نزاعا في اشتراط التقرب ، لأنه على ما يظهر من نقل بعضهم له أن نزاعه في ضميمة الرياء ، والظاهر ان المراد من القربة العلة الغائية بمعنى أنه يقصد وقوع الفعل تحصيلا للقرب إلى‌

٨٦

الله تعالى الذي هو ضد البعد المتحقق بحصول الرفعة عنده استعارة من القرب المكاني ، لكن فيه من الاشكال ما لا يخفى ، لأن دعوى وجوب نية القرب بهذا المعنى مما لا يمكن إقامة الدليل عليها من كتاب أو سنة ، بل هي إلى البطلان أقرب منها إلى الصحة ، لما نقل عن المشهور بل في القواعد للشهيد نسبته إلى قطع الأصحاب ، بل نقل انه ادعى عليه الإجماع انه متى قصد بالعبادة تحصيل الثواب أو دفع العقاب كانت عبادته باطلة ، لمنافاته لحقيقة العبودية ، بل هي من قبيل المعاوضات التي لا تناسب مرتبة السيد سيما مثل هذا السيد ، ولا ريب أن القرب بالمعنى المتقدم نوع من الثواب ، فيجري فيه ما يجري فيه ، نعم اختار بعض متأخري المتأخرين في مثل تلك العبادة الصحة ، عملا بظواهر الآيات والروايات ، كقوله تعالى (١) ( يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً ) و ( يَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً ) (٢) وقد‌ روي عنهم عليهم‌السلام (٣) « ان من بلغه ثواب على عمل ففعله التماس ذلك الثواب أويته وإن لم يكن كما بلغه » وما ورد (٤) من تقسيم العباد إلى ثلاثة ، منهم عبادة العبيد ، وهي ان يعبد الله خوفا ، ومنهم عبادة الأجراء ، وهم من عبدة رجاء الثواب ، إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة ، والأقوى خلافه ، وجميع ما ذكر محمول على إرادة إيقاع الفعل بقصد الامتثال ، وموافقة الإرادة والطاعة ، وجعل ذلك وسيلة إلى تحصيل ذلك الثواب ، كما هي سيرة سائر العبيد مع ساداتهم ، انما الممنوع عندنا القصد بالفعل لتحصيل الثواب ، ومما يؤيده أنه إن أريد القربة بالمعنى الأول كان لا ينبغي الاجتزاء بعبادة قاصد الإطاعة والامتثال مقتصرا عليهما لفقد الشرط وهو مما لا يلتزم به فقيه ، أو يراد بوجوبها الوجوب المخير بينها وبين غيرها ، وهو خلاف الظاهر منهم.

__________________

(١) سورة السجدة ـ الآية ١٦.

(٢) سورة الأنبياء ـ الآية. ٩.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب مقدمة العبادات.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب مقدمة العبادات.

٨٧

إذا عرفت ذلك فالمتجه حينئذ تفسير القربة بما يظهر من بعضهم من موافقة الإرادة وقصد الطاعة والامتثال ، فإنه حينئذ يدل عليه جميع ما دل على وجوب الإخلاص كتابا وسنة ، كقوله تعالى (١) ( وَما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) مضافا إلى توقف تحقق قصد الطاعة والامتثال المأمور بهما في الكتاب والسنة عليها ، لا يقال : ان القول باشتراط القربة بالمعنى المتقدم قد يكون منشؤه الإجماع على وجوبها مع ظهورها في ذلك ، وبه تمتاز عن نية غيرها من قصد جلب الثواب أو دفع العقاب ، بل مما يرشد اليه ما نقل عن ابن طاوس في البشرى انه قال : « لم أعرف نقلا متواترا ولا آحادا يقتضي القصد إلى رفع الحدث أو استباحة الصلاة ، لكنا علمنا يقينا أنه لا بد من نية القربة ، ولو لا ذلك لكان هذا من باب‌ « اسكتوا عما سكت الله عنه » (٢) انتهى. فان قوله ولو لا ذلك الى آخره ظاهر في إرادة القربة بالمعنى الأول ، وإلا ففي المعنى الثاني لا يكون من باب‌ « اسكتوا عما سكت الله عنه » لأنا نقول أما دعوى الإجماع على اشتراط نية القربة بالمعنى المتقدم ان لم يكن ممنوعا فهو محل الشك ، وما ذكره من كلام ابن طاوس لا دلالة فيه على ذلك ، لأنه قد يكون المقصود منه المعنى الثاني ، ولو لا ما ذكرنا من الأدلة عليه من توقف الإطاعة والامتثال وأدلة الإخلاص التي أفادتنا اليقين بذلك لكان من باب‌ « اسكتوا عما سكت الله عنه » وهو كذلك ، واحتمال القول انه لا فرق معنوي بين المعنى الأول للقربة والثاني فيه مالا يخفى ، نعم قد يظهر من ابن زهرة في الغنية إيجاب معنيي القربة ، متمسكا للأول منهما بنحو قوله تعالى (٣) ( اسْجُدْ وَاقْتَرِبْ )

__________________

(١) سورة البينة ـ الآية ٤.

(٢) تفسير الصافي ـ سورة المائدة الآية ـ ١٠١ ـ والبحار الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب كتاب العلم ـ حديث ٥.

(٣) سورة العلق ـ الآية ١٩.

٨٨

وقوله تعالى (١) ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) فان المعنى افعلوا ذلك على رجاء الفلاح ، وقوله تعالى (٢) ( وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ ) وفيه ما لا يخفى ، بل الإجماع على خلافه ، إذ هو مؤد إلى فساد عبادة الأولياء الذين لا يخطر ببالهم ذلك ، فتأمل.

وهل يجب مع نية الوجوب أو الندب أو مع نية القربة نية رفع الحدث عينا ، أو مخيرا بينه وبين الاستباحة أو نية استباحة شي‌ء مما يشترط فيه الطهارة كذلك أي عينا أو تخييرا ، أو يجبان معا ، أو لا يجب شي‌ء منهما؟ أقوال الأظهر منها أنه لا يجب شي‌ء من ذلك ، للأصل وخلو الأدلة عن التعرض بشي‌ء منها كتابا وسنة مع عموم البلوى بالوضوء ، ولما تسمعه من ضعف أدلة الموجبين ، بل يظهر لك من ذلك ما يفيد المطلوب قوة ، ويحتج للأول وهو وجوب نية رفع الحدث كما يقضي به الاقتصار عليه في عمل يوم وليلة على ما نقل عنه بأنه انما شرع لذلك ، فان لم يقصد لم يقصد الوضوء على الوجه المأمور به الذي شرع له ، ولاشتراك الوضوء بينه وبين غير الرافع ، فوجب تميزه بذلك ، وبأنه ان لم ينو لم يقع ، لما دل (٣) على أن‌ « لكل امرئ ما نوى‌ وانما الأعمال بالنيات » ولبعض ما تقدم في نية الوجه.

وضعف الجميع واضح ، لان كون الوضوء مشروعا لذلك لا يقضي بوجوب نيته وقصده ، بل لو كان جاهلا بما شرع له لم يؤثر في وضوئه فسادا فلو فرض شخص لم يعرف تسبيب الأحداث لهذه الأفعال ومانعيتها للصلاة بدون فعل الوضوء لكن علم أن هذه الأفعال مطلوبة للشارع فجاء بها بعنوان الإطاعة إما على وجه الوجوب أو الندب كان وضوؤه صحيحا وارتفعت مانعيتها ، لما يظهر من الأدلة انها سبب رافع له ، ومن‌

__________________

(١) سورة الحج ـ الآية ٧٦.

(٢) سورة التوبة ـ الآية ـ ١٠٠.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب مقدمة العبادات ـ حديث ١٠.

٨٩

المعلوم أن السبب لشي‌ء غير موقوف تأثيره على العلم بسببيته ، إذ الأسباب الشرعية كالأسباب العقلية لا تتوقف على ذلك ، فمن ادعى ان قصد ذلك من تمام السببية شرعا كان عليه الدليل ، بل هو خلاف ظاهر الأدلة من الكتاب والسنة ، لاشتمالها على الوضوءات البيانية وغيرها من‌ قوله عليه‌السلام (١) : « لا ينقض الوضوء إلا حدث » و‌ « من توضأ وضوئي هذا » (٢) ونحو ذلك ، فتأمل.

وأما اشتراك الوضوء بينه وبين غير الرافع ففيه انه ليس اشتراكا موجبا لتعدد الفعل في وقت واحد حتى يوجب التمييز ، بل الرافعية وعدمها انما هي أوصاف لاحقة له في الخارج مستفادة من الشارع لا دخل لترتبها بالنية ، ضرورة انه بمنزلة أن يقول هذه الأفعال ان صادفت موضوعا ليس متلبسا إلا بالحدث الأصغر رفعته ، وإلا فلا ترفع ، فهو أي الرفع وعدمه حكم من الشارع خارجي قد يعلمه المكلف ، وقد يجهل به ، وفى الحالتين يؤثر الوضوء أثره ، بل يمكن ان يقال فيما لو فرض مكلف زعم نفسه جنبا مثلا فتوضأ مع ذلك وضوء الجنب ثم بان له انه ليس جنبا : بارتفاع حدثه وصحة وضوئه كما لو كان العكس يكون صوريا ، لما عرفت من أن تسبيب ذلك ليس دائرا مدار القصد ، وقصد التعيين ليس منحصرا في قصد رفع الحدث ، بل تكفي نية الاستباحة عنه ، لتلازمهما كما ستسمعه في كلام أهل القول بالتخيير.

وأما القول بأنه ان لم ينو لم يقع ففيه انه مصادرة ، بل الرواية ظاهرة في أن من قصد شيئا وقع له ، فمن قصد الوضوئية تقع له ، ومتى وقعت له ارتفع الحدث ، لعدم اجتماعهما في موضوع لم يكن متلبسا إلا بالحدث الأصغر الغير الدائم ، مع احتماله فيه في وجه أيضا ، ولمكان التلازم في الخارج بين رفع الحدث واستباحة المشروط بالطهارة خير بعضهم بينهما ، وهو المذهب الثاني ، وهو مختار الشيخ في المبسوط ، وتبعه عليه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١.

٩٠

بعض من تأخر عنه كالمصنف رحمه‌الله في المعتبر والعلامة في جملة من كتبه وغيرهم ، بل في السرائر إجماعنا منعقد على أنه لا تستباح الصلاة إلا بنية رفع الحدث أو نية استباحته بالطهارة ، لكنه صرح الشيخ وابن إدريس بعدم الاكتفاء بنية ما كانت الطهارة مؤثرة في كماله ، وحكم بعدم صحة الوضوء حينئذ ، واختار بعض من وافقه في الأول خلافه في الثاني ، لأنه لا فرق بين ما كانت الطهارة شرطا في صحته وبين ما كانت شرطا في كماله في لزومهما لقصد رفع الحدث ، واحتمال الغفلة عن ذلك في الثاني جار في الأول أيضا ، ولعله الأقوى بناء عليه ، نعم لا يخفى عليك ما فيه ، لما تقدم سابقا ، بل قد يقال : ان تلازمهما في الواقع لا يقضي به في قصد المكلف ، والمقصود الثاني ، فإنه قد يعرف المكلف اشتراط صحة الصلاة بهذه الأفعال ولا يعرف انها رافعة لحكم الحدث من المنع للصلاة ، إذ قد يجهل مانعيته ، فدعوى ان قصد الاستباحة يلزمه قصد الرفع ممنوعة ، بل قد يمنع التلازم في الواقع أيضا بحصول الاستباحة ولا رفع كوضوء المسلوس والمبطون والمستحاضة ونحوها ، فلا يكتفى بنيتها عنه ، والقول بأنه لا فرق معنى بين الاستباحة ورفع الحدث ، إذ الحدث عبارة عن الحالة المترتب عليها منع الصلاة ، فمتى حصلت الاستباحة ارتفعت فيه ان مرجعه إلى نزاع لفظي يأتي التنبيه عليه إن شاء الله تعالى ، بل قد يقال : بانفكاك الرافع عن المبيح بوضوء الحائض ، لرفع حدثها الأكبر مع الغسل ولا إباحة فيه ، وكذا القول بالاكتفاء ليس لمكان التلازم ، بل لظهور قوله تعالى (١) ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) في إرادة اغسلوا وجوهكم لها نحو قولك : إذا لقيت العدو فخذ سلاحك أي للقائه ، والأمر يقتضي الاجزاء ، إذ فيه انه حينئذ لا معنى للاكتفاء بنية رفع الحدث كما زعمتم ، وحمل الأمر على الوجوب التخييري مجاز بلا قرينة ، بل لا معنى للتعدي إلى غير الصلاة مما شرط صحته بالطهارة ، وأولى منه عدم التعدي لما شرط كماله بها ، ومما سمعت من الآية يظهر لك وجه من اقتصر على‌

__________________

(١) سورة المائدة ـ الآية ٨.

٩١

نية الاستباحة ، كما لعله يظهر من الشيخ في الخلاف والمنقول عن المرتضى والشيخ في الاقتصاد ، لاقتصارهما على ذكرها ، لكن فيه ـ مضافا إلى ما سمعت من أن الاستباحة والرفع أمران مترتبان على هذه الأفعال علم المكلف أو جهل فضلا عن النية وعدمها ، لكونها من الأوصاف الخارجية التي رتبها الشارع عليها ـ ان ما ذكر من الآية لا دلالة فيه على وجوب نية كونه للصلاة ، إذ كونه لها لا يفيد أزيد من توقف صحتها عليه ، وأنه ليس واجبا لنفسه ، وهو لا مدخلية له فيما نحن فيه ، وما ضربه من المثال بأخذ السلاح ليس بأوضح مما نحن فيه ، بل هما من واد واحد ، والقول بان السيد إذا قال : لعبده قم لاكرام زيد مثلا لا ريب في انه لا يعد ممتثلا إذا قام لا بهذا القصد ـ لظهور ان امتثال هذا التكليف لا يكون إلا بالقيام مقصودا به ذلك ، لانتفاء المقيد بانتفاء قيده ـ مسلم ، لكن نمنع أن ما نحن فيه منه ، لعدم ذكر القيد في العبادة ، فالأمر فيه إلى المفهوم عرفا ، وهو هنا انما يفيد كون علة الأمر بالوضوء الصلاة ، فليس معنى الآية ان غسل الوجه للصلاة واجب عليكم ليكون متعلقا بالغسل حتى يكون الجميع متعلق الأمر ، بل المعنى والله أعلم اني أطلب للصلاة غسل الوجه ، والفرق بينهما واضح.

ومما سمعت من عدم التلازم بين الاستباحة ورفع الحدث مفهوما ووجودا اختار بعضهم وجوب جمعهما في النية ، كما في التذكرة وعن الكافي والغنية والمهذب والإصباح ، وهو المذهب الرابع ، وقد عرفت ضعفه مما تقدم سابقا ، وكان الأقوى عدم وجوب شي‌ء منها كما اختاره المصنف ، وهو المنقول عن الشيخ في النهاية ، واختاره جماعة من المتأخرين وجميع مشايخنا المعاصرين ، وربما كان ظاهر من ترك التعرض لأصل النية أيضا كما نقل عن المتقدمين ، ولنعم ما قال ابن طاوس في البشرى على ما نقل عنه : « اني لم أعرف نقلا متواترا ولا آحادا يقتضي القصد إلى رفع الحدث أو استباحة الصلاة » إلى آخره. ولا تغفل عن كثير مما قدمناه في نية الوجه من السيرة وغيرها ، فإنها جارية هنا ، وأني للأعوام ومعرفة الفرق بين رفع الحدث والاستباحة أو عدمه ، وفى كشف‌

٩٢

اللثام « لعل من أوجب التعرض لهما أو لأحدهما أراد نفي ضد ذلك بمعنى أن الناوي لا يجوز له ان ينوي الوجوب أو الندب لنفسه ، فلا شبهة في بطلان الوضوء حينئذ ، أما إذا نواه مع الغفلة عن جميع ذلك فلا دليل على بطلانه » انتهى.

قلت إن أراد بالضد قصد المكلف لعدم رفع الحدث مع قصده الوضوء فللبطلان وجه ، لانه داخل في قسم التشريع ، أو لأن ما نواه غير ممكن الوقوع ، وإن أراد غير ذلك كما لعله الظاهر من كلامه وتفسيره ففيه نظر لما عرفت سابقا ، مع احتمال الصحة في الأول ، لأنه يكون غالطا في قصده عدم رفع الحدث ، نعم إذا انحل إلى عدم قصده الوضوء اتجه ذلك ، ولعله من جميع ما تقدم لك ومن ملاحظة أخبار التجديد (١) وأنه‌ « طهر على طهر » (٢) و « نور على نور » (٣) مما يفيد مساواته للأول يظهر لك أن من توضأ بنية التجديد ثم صادف الحدث في الواقع صح وضوؤه وارتفع حدثه ، وقصد التجديدية لا يمنع تسبيب هذه الأفعال في مسببها ، إذ وصف التجديدية وصف خارجي لاحق بعد وجود موضوعه الذي جعله الشارع فيه ، وهو المسبوق بوضوء ، وكذلك لا يبعد العكس بمعنى انه لو زعم أنه غير متوضئ ثم توضأ بنية أنه الوضوء الواجب مثلا ثم ظهر له انه كان متوضئ فإنه يحكم له بحصول ثواب التجديد وإن لم يقصده ، لثبوت وصفه في الواقع فتأمل جيدا. ومن العجيب ما في المعتبر من اختيار الاجتزاء بالوضوء التجديدي مع اشتراطه في السابق وجوب نية الرفع أو الاستباحة ، إذ هو لا ينطبق على ما هنا ، نعم يصح لمن لم يقل باشتراطهما هناك ان يقول بعدم الاجتزاء هنا ، لأن عدم اشتراط القصد غير قصد العدم ، وهو في الوضوء التجديدي ينحل إلى ذلك ، لكنك قد عرفت ان الأصح الاجتزاء فيه ، لما سمعت.

ولا يعتبر النية بمعنى القصد فضلا عن غيرها في طهارة الثياب ولا غير ذلك مما يقصد به رفع الخبث إجماعا وقولا واحدا بين أصحابنا ، بل بين غيرهم عدا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الوضوء.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٨.

٩٣

ما ينقل عن أبي سهل من الشافعية ، قيل وحكي عن ابن شريح من الافتقار إلى النية ، وهو كما ترى ، ولعله بما سمعت من الإجماع يخص أصالة الاحتياج إليها في كل أمر لو سلمت ، لكن قال في المدارك : « ان الفرق بين ما يحتاج إلى النية من الطهارة ونحوها وما لا يحتاج من إزالة النجاسات وما شابهها ملتبس جدا ، لخلو الأخبار من هذا البيان.

وما قيل : ان النية انما تجب في الأفعال دون التروك منقوض بالصوم والإحرام ، والجواب بان الترك فيهما كالفعل تحكم ، ولعل ذلك من أقوى الأدلة على سهولة الخطب في النية وان المعتبر فيها تخيل المنوي بأدنى توجه ، وهذا القدر أمر لا ينفك عنه أحد من العقلاء كما يشهد به الوجدان ، ومن هنا قال بعض الفضلاء : ( لو كلف الله الصلاة أو غيرها من العبادات بغير نية كان تكليف مالا يطاق ) وهو كلام متين لمن تدبره » انتهى.

قلت : قد يكون منشأ الإجماع هو كون إزالة النجاسة من قبيل التروك يراد بها رفع القبيح عن الوجود في الخارج فلا تتوقف على النية ، أو يقال : انا لا نقول في مثل المقام : بتحقق الامتثال حال عدم النية ، نعم نقول : بحصول الطهارة للثوب حال عدمها ، وهو غير قادح إذ لم يعلم من الأدلة اشتراط حصول الطهارة بصدق مسمى الامتثال ، بل الظاهر من الأدلة خلافه ، لكون المستفاد منها انها تحصل بحصول مسمى الغسل ، فيكون التحقيق حينئذ ان الأمر إما أن يتعلق بما لا يعرف ماهيته وحصول مسماه إلا من قبل الشرع كالوضوء والغسل ونحوهما ، أو يتعلق بما لا مدخلية للشرع فيه كالأمر بغسل الثياب والأواني ونحو ذلك ، فان كان الأول وقد رتب الشارع أحكاما شرعية على حصول المسمى فالظاهر الاحتياج إلى النية ، إذ بدونها لا يعلم حصول المسمى ، وإن كان الثاني وقد رتب الشارع كذلك فالظاهر عدم الاحتياج في حصول تلك الأحكام إلى النية ، لتحقق المسمى بدونها الذي علق عليه وجود الأحكام بدونها ، هذا كله حيث تعلق الآثار على مبدء الأوامر كأن يقول : اغسل ثوبك فان الغسل يزيل النجاسة ، أما لو وقع الأمر بالغسل مثلا ولم يذكر تعليق الآثار على المبدء‌

٩٤

ولم يعلم أن الآثار مترتبة على تحقق الامتثال أو على حصول المسمى فقد يتخيل أن الاستصحاب يقضي بالأول ، لكن الأقوى في النظر الثاني ، للفهم العرفي أن المدار على حصول المسمى ، بخلاف ما إذا كان متعلق الأمر مع هذا الحال نحو الوضوء ، فان الظاهر تعليق الأحكام على تحقق الامتثال وإن سلم تحقق مسمى الوضوء بدون ذلك ، وبذلك كله يندفع ما سمعته في المدارك مع ما في كلامه الأخير من العجب أي استشعاره من ذلك سهولة أمر النية ، إذ لا يخفى ان إزالة النجاسة لا يشترط فيها شي‌ء مما ذكره من السهل وغيره ، فلو وقع غفلة أو في حال النوم أو غير ذلك اجتزي به ، هذا. وإلى ما ذكرنا يرجع ما نقل عن الأمين الأسترابادي في رفع ما في المدارك وان أطنب فيه ، إذ حاصله الرجوع إلى أن ذلك يتبع نظر الفقيه في المقامات الخاصة ، لمكان النظر في كيفية الخطابات وغيرها مما يقتضيه مراعاة المقامات ، وإلا فالأصل الاحتياج إلى النية.

ولو ضم أي جمع إلى نية التقرب وقصد الطاعة والامتثال للأمر الرباني إرادة التبرد أو التسخن أو التنظيف أو غير ذلك من الضمائم مما هو حاصل في الفعل أو مطلقا وليس برياء ولا من الضمائم الراجحة كانت طهارته مجزية إن كان المقصد الأصلي إرادة التعبد وغيرها من التوابع ، لعدم منافاته الإخلاص حينئذ ، وقد يلحق به ما إذا كان كل من التقرب والتبرد باعثا تاما لإيقاع الفعل على إشكال فيه من جهة احتمال شمول ما دل (١) على عدم وقوع الفعل لله حيث يكون الفعل له ولغيره ، أما إذا كان المقصد التبرد عكس الأول أو كانا معا على سبيل الاشتراك في الباعثية بحيث يكون كل منهما جزء فالأقوى البطلان كما هو صريح بعضهم وقضية آخرين ، خلافا لظاهر المتن وكذا المبسوط والجامع والمعتبر والمنتهى والإرشاد وغيرها ، فحكموا بالصحة ، بل نسبه الشهيد في قواعده إلى أكثر الأصحاب ، وفي المدارك : أنه الأشهر ، محتجين عليه بأنه ضميمة زيادة غير منافية ، فكان كاعلام الامام مع قصد الإحرام ، ولحصولها‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب مقدمة العبادات.

٩٥

على كل حال ، بل قد يعسر عدم القصد إليها مع التنبه ، ولأنه إذا وجد المكلف ماءين حارا وباردا جاز له اختيار البارد في الهواء الحار والحار في البارد ، بل أفرط بعض متأخري المتأخرين في تأييده بأنه لا دليل هنا يدل على أزيد من اشتراط القربة في الجملة سواء استقلت أو لا ، والجميع كما ترى ، لمنع عدم المنافاة في الأول ، إذ المراد بالإخلاص انما هو قصد الفعل بعنوان الطاعة والامتثال خاصة لا غير ، وما ذكره من المثال فيه ـ مع احتمال كونه ليس مما نحن فيه باعتبار تعدد ما قصد به لكون الإحرام باللفظ والاعلام بالجهر أو لأنه من الضمائم الراجحة ولها حكم آخر تسمعه إن شاء الله ـ انه لا يصلح لأن يكون دليلا للمسألة وعدم اقتضاء الحصول كون الفعل له في الثاني ، وإلا لصح في الرياء ، ودعوى عسر عدم القصد إليها ممنوعة إذا أريد بالقصد الأصلي ، ولا يثمر إن أريد غيره ، ومثال الماءين ليس مما نحن فيه ، بل هو من المرجحات لأفراد الواجب المخير الخارجة عنه بعد كون الداعي إلى الفعل انما هو الله ، وذلك غير قادح من غير فرق بين كون المرجح مباحا أو مستحبا أو غيرهما ، ولا ينبغي أن يصغى لما سمعت من الإفراط المتقدم بعد قضاء الكتاب والسنة والإجماع باعتبار الإخلاص في العبادة ، بل قد يدعى توقف صدق الامتثال عليه ، ومن الممكن تنزيل إطلاق المصنف وغيره الصحة على الصورتين السابقتين ، كما أنه يمكن تنزيل إطلاق الفساد على الصورتين الأخيرتين فيرتفع الخلاف من البين.

وأما إذا كانت الضميمة رياء فلا ثواب عليها إجماعا ، وغير مجزية على المشهور ، بل لا أعلم فيه خلافا سوى ما عساه يظهر من المرتضى رحمه‌الله في الانتصار من القول بالاجزاء وإن كان لا ثواب عليها ، وربما مال اليه بعض متأخري المتأخرين ، وفي جامع المقاصد انه لو ضم الرياء بطل قولا واحدا ، ويحكى عن المرتضى رحمه‌الله خلاف ذلك ، وليس بشي‌ء ، قلت وبالأولى يعرف النزاع منه فيما تقدم.

٩٦

وكيف كان فلا ريب في ضعفه حيث يكون الضم على وجه ينافي الإخلاص ، ويدل على اشتراطه في الصحة ـ بعد الشهرة التي كادت تكون إجماعا بل هي كذلك ، لعدم قدح خلاف المرتضى فيه ، على أن عبارته في الانتصار غير صريحة في ذلك ـ الكتاب كقوله تعالى (١) ( وَما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) إذ الحصر قاض بأن فاقدة الإخلاص لا أمر بها ، فلا تكون صحيحة ، ولا فرق في ذلك بين أن تكون اللام للتعليل وبين جعلها بمعنى الباء ، بل هي على الأول أدل ، وكون الآية خطابا لأهل الكتاب غير قادح بعد قوله تعالى ( وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ) لكون المراد به المستمرة على نهج الصواب ، واحتمال أن يراد الإخلاص من عبادة الأوثان يدفعه ظهور كون المراد به أعم من ذلك ، بل في القاموس والصحاح أنه ترك الرياء ، ويدل عليه أيضا قوله تعالى (٢) ( فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) وقوله تعالى (٣) ( فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً ) وغير ذلك من الآيات المتضمنة للأمر بالعبادة حال الإخلاص الدالة على عدم الأمر بها في غير هذا الحال ان قلنا بحجية نحو هذا المفهوم ، وإلا كان الخصم محتاجا الى الدليل في صحة فاقدة الإخلاص ، والتمسك بإطلاقات الصلاة والوضوء ونحوهما موقوف على صدق الاسم بعد فقده ، وان سلم فالظاهر مما سمعت من الآيات اشتراط صحة العبادة بالإخلاص كقوله صل مستترا أو مستقبلا أو متوضئ ، وبه يقيد سائر المطلقات ، على انه وإن سلمنا صحة اسم الوضوء والصلاة على فاقدة الإخلاص لكنا نمنع إطلاق اسم العبادة عليه ، وحيث لا يكون عبادة لا يجتزى به ، لقوله تعالى ( وَما أُمِرُوا ) فتأمل. وقد يشعر بذلك ما رواه‌ أبو بصير عن الصادق عليه‌السلام (٤) قال : سألته « عن حد العبادة التي إذا‌

__________________

(١) سورة البينة ـ الآية ٤.

(٢) ما وجدناه في القرآن.

(٣) سورة الزمر ـ الآية ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب مقدمة العبادات ـ حديث ٢.

٩٧

فعلها فاعلها كان مؤديا قال عليه‌السلام : حسن النية بالطاعة » ويدل عليه أيضا السنة ، ( منها ) الأخبار (١) التي كادت تكون متواترة الدالة على انه متى كان العمل لله ولغيره كان لغيره وأنه وكله الله إليه ، وفي‌ خبر هشام بن سالم عن الصادق عليه‌السلام (٢) قال : « يقول الله عز وجل أنا خير شريك فمن عمل لي ولغيري فهو لمن عمله له غيري » و ( منها ) ما دل (٣) على كون المرائي مشركا ، وانه المراد بقوله تعالى (٤) ( وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) وقد تحقق في محله ظهور كون النهي فيها يقتضي الفساد وإن كان عن أمر خارج عنها لكنه فيها كالتكفير في الصلاة ، مع ان النهي هنا عن الأعمال على وجه الرياء كما يستفاد من النظر في رواياته ، وهذا لا ينافي القول بكون الرياء محرما في نفسه سواء كان في عبادة أو غيرها ، على انه في غاية الإشكال بالنسبة إلى غير العبادات ، بل لعل الأقوى عدمه ، للأصل السالم عن المعارض ، كما ان الأقوى الحرمة في العبادة لا مجرد الفساد كما يظهر من تتبع الأخبار ، ويلحق بها في ذلك الأفعال التي تقع عبادة وغيرها إذا أوقعها بعنوان العبادة مرائيا بها ، و ( منها ) ما دل على عدم قبول عمل المرائي كقول أبي جعفر عليه‌السلام (٥) في رواية أبي الجارود على ما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره : « ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لا يقبل الله عمل مراء » وقول الصادق عليه‌السلام (٦) في خبر السكوني : « قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ان الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجا به فإذا صعد بحسناته يقول الله عز وجل اجعلوها في سجين انه ليس‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ و ١٢ ـ من أبواب مقدمة العبادات.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب مقدمة العبادات ـ حديث ٧.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب مقدمة العبادات ـ حديث ١٣.

(٤) سورة الكهف ـ الآية. ١١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب مقدمة العبادات ـ حديث ١٣.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب مقدمة العبادات ـ حديث ٣.

٩٨

إياي أراد به » وقوله عليه‌السلام أيضا (١) في خبر عقبة : « إن ما كان لله فهو لله وما كان للناس فلا يصعد إلى الله » وقوله عليه‌السلام (٢) أيضا في خبر ابن أسباط : « قال الله تعالى أنا أغنى الأغنياء عن الشريك ، فمن أشرك معي غيري لم أقبله إلا ما كان خالصا لي » الى غير ذلك من الأخبار ، ودعوى أن القبول أعم من الصحة بقرينة قوله تعالى (٣) ( إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) ونحوه لا شاهد عليها ، مع مخالفتها الظاهر والمتبادر ، والآية محمولة على ضرب من المجاز حتى عنده ، لعدم اشتراطه التقوى في القبول.

وقد يستدل عليه أيضا بأخبار النية كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤) : « إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى فمن كان هجرته » الحديث.

فإنه وان قلنا بكون النية حقيقة في القصد لكن يراد منها ولو مجازا في مثل هذه الخطابات النية الخاصة ، وبأن عدم الإخلاص ينافي نية القربة الثابت اشتراطها بالإجماع المنقول والمحصل ، والمراد بها على ما تقدم فعل المكلف المأمور به بعنوان أمر الله به خاصة ، وما يقال : انه قد يظهر من المرتضى النزاع في أصل اشتراطها وإن قال بوجوبها إلا أنه تعبدي لا شرطي لذكره العبادة المقصود بها الرياء وهو ظاهر في غير ضميمة الرياء فلا يجتمع مع القربة يدفعه ـ مع بعده وعدم معروفية نزاعه في ذلك ـ انه غير قادح في الإجماع المدعى ، على أنه في غير الإجماع مما دل على اشتراطها غنية ، كل ذا فيما نافى الإخلاص من الرياء ، أما مالا ينافيه كما إذا أخذ الرياء ضميمة تابعة أو كان كل من القربة والرياء باعثا مستقلا ان قلنا به فيما سبق فلعل الظاهر الفساد أيضا كما هو قضية إطلاق الأصحاب ، خلافا لما يظهر من بعض محققي المتأخرين.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب مقدمة العبادات ـ حديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب مقدمة العبادات ـ حديث ١١ ولكن رواه علي بن سالم.

(٣) سورة المائدة ـ الآية ٣٠.

(٤) المستدرك ـ الباب ـ ٥ من أبواب مقدمة العبادات ـ حديث ٥.

٩٩

ويدل عليه ـ مضافا إلى ما ورد في عدة روايات (١) ان‌ كل رياء شرك ، وإياك والرياء فإنه الشرك بالله ، وما ورد من التحذير عنه وانه‌ أخفى من دبيب النملة السوداء في الليل المظلم‌ مما يدل على مبغوضية أصل طبيعة الرياء في الأعمال على أي حال وقع ـ خبر زرارة وحمران عن أبي جعفر عليه‌السلام (٢) قال : « لو أن عبدا عمل عملا يطلب به وجه الله والدار الآخرة وأدخل فيه رضا أحد من الناس كان مشركا » لشمول الإدخال ما نحن فيه فتأمل ، بل قد يستدل على الصورة الثانية بدخولها تحت ما دل (٣) على أن من عمل لله ولغير الله وقع لغير الله ، إذ هو أعم من الاشتراك بالعلية أو الاستقلال ، بل لعله في الثاني أظهر كما هو قضية العطف ، لكن ينبغي إدخال هذه الصورة حينئذ فيما نافى الإخلاص ، لمكان ظهور هذه الأدلة ان من عمل كذلك لم يكن مخلصا كما يشعر به خبر ابن أسباط المتقدم وغيره. ومنه ينقدح حينئذ قوة الإشكال السابق في صحة ضميمة غير الرياء إذا كانت كذلك كما أشرنا سابقا ، والظاهر أنه لا عبرة بما تجري على خاطر الإنسان من الخطرات التي هي غير مقصودة ولا عزم عليها كما يتفق كثيرا لأغلب الناس.

وربما ألحق بعض مشايخنا العجب المقارن للعمل بالرياء في الإفساد ، ولم أعرفه لأحد غيره ، بل قد يظهر من الأصحاب خلافه ، لمكان حصرهم المفسدات وذكرهم الرياء وترك العجب مع غلبة الذهن إلى الانتقال إليه عند ذكر الرياء ، نعم هو من الأمور القبيحة والأشياء المحرمة المقللة لثواب الأعمال ، لكن قد يؤيد الفساد ظواهر بعض الأخبار ( منها ) ما دل (٤) على كونه من المهلكات ، و ( منها ) النهي (٥)

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب مقدمة العبادات.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب مقدمة العبادات ـ حديث ١١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب مقدمة العبادات.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب مقدمة العبادات ـ حديث ١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب مقدمة العبادات ـ حديث ١.

١٠٠